منذ الثمانينات وتحديداً منتصف الثمانينات ، ورغم أن الدولار كان بخمسين ليرة سورية فقط ، لكن الرواتب كانت هزيلة جداً لا تؤمن أدنى متطلبات العيش الكريم للسوري ، ولم تكن هناك دراسة منطقية لقيمة الراتب فمثلاً طبيب اختصاصي قضى عشر سنوات من عمره في دراسة الطب والاختصاص كان يُوظف في مشفى حكومي براتب يُعادل راتب مدرس في الصف الخاص ( أي مُدرس أو مُدرسة درسوا سنه فقط بعد البكالوريا وصاروا مدرسين للمرحلة الإبتدائية ) . كل الموظفين في كل قطاعات الدولة يذكرون حين كانوا يقبضون رواتبهم من المُحاسب يتحلقون حوله لاهثين لقبض الراتب ، أن هذا الراتب لم يكن نفس الرقم ( المبلغ ) أبداً . دوماً هناك حذف مئتي ليرة أو أكثر من راتب كل موظف إما بحجة مساعدات إنسانية ، كل الموظفين في المشفى الوطني في اللاذقية ( أطباء وممرضات وأذنه ) كان يُخصم من راتب كل منهم مئتي ليرة سورية مساعدات للسودان !!! ولم يكن أحد يُصدق أن تلك المساعدات تذهب للسودان والأكثرية تقول : نحن نحتاج لمساعدة فكيف علينا مساعدة السودان . الراتب الهزيل كان نتيجة لسياسة الاستيعاب التي أقرها حافظ الأسد ، أي بدل أن يُوظف ما يحتاجه قسم الجراحة في مشفى حكومي ثمانية أطباء اختصاصيين وتكون رواتبهم كافية لعيش كريم وتليق بالسنوات الطويلة التي قضوها في دراسة الطب والاختصاص كان يتم تعيين خمسة عشرة طبيباً أو أكثر ( الأمر نفسه في مجال التمريض وكل المجالات ) ونتيجة سياسة الاستيعاب يصبح الراتب مسخاً ، ولا عمل لهذا الزائد من الأطباء والممرضات ، فكان معظم الأطباء ما أن يخربشوا توقيعهم على دفتر الدوام ( غالباً ما كان أحدهم يوقع عن زملائه ) يسرع إلى عيادته الخاصة ليفحص مرضى ويؤمن مالاً يكفي أسرته ويؤمن لها عيشاً كريماً . وكان مشهداً مُهيناً حين ترى طبيباً في عيادة في مشفى للدولة يدس بطاقته أي عنوان عيادته في يد المريض ويقول له راجعني في عيادتي . هذا الفساد والتصرف اللاأخلاقي سببه الراتب الهزيل وسياسة الاستيعاب . أو تجد ثلة من الأطباء في مقصف المشفى يقضون ساعات الدوام في شرب الشاي والقهوة والتدخين ، خاصة حين تقرر مديرية الصحة من حين لآخر التشديد على الدوام الرسمي للأطباء ، حتى أن مدير الأطباء وقف مختبئاً في مكتبه المشفى الوطني وبيده دفتراً وقلماً ليُسجل اسم كل طبيب يراه يهرب . الممرضات الفائضات كثيراً عن متطلبات العمل الطبي في المشفى الوطني ومعظم المشافي وخاصة في المستوصفات خارج مدينة اللاذقية كن ينحشرن في غرفة يحكن الصوف أو يقطعن الفاصولياء والبامية وبعضهن يغرقن في النوم ، وكن يتفقن أن يتم التواطؤ بينهن وتغيب عدة أيام عن الدوام بعض الممرضات وتغطي عنهن ممرضات زميلات وهكذا يتناوبن الدوام .
لا شك أن هناك عطب أو خلل في الضمير لهؤلاء الأطباء والممرضات الذين يهربون من الدوام الكامل ويغيبن لأيام وثمة زملاء يوقعون عنهم على دفتر الدوام ( أهم شيء التوقيع ) ، وحين عُوقب البعض على هذا التسيب تجرأ أحد الأطباء وصرخ في وجه المُفتش : الدوام بقدر الراتب أعطوا الأطباء راتباً محترماً يكفي ليعيل أسرته ومصروف أولاده وأنا مستعد لإغلاق عيادتي الخاصة التي أخذت أربعة قروض متتالية لأجلها . وإذا كانت البطالة أم الرذائل فإن راتب الاحتقار الهزيل المُهين أساس وهن الضمير ، فالراتب يُشعر الموظف بقيمته ، فحين يقبض طبيب أو مدرس راتباً تافهاً يشعر أن كرامته مُهانه . ويضطر أن يلجأ لأساليب أخرى تبدو غير قانونية ولا أخلاقية وانتهازية ( طبيب يطلب من المرضى مراجعته في عيادته الخاصة أو مدرس أو مدرسة يطلبون من الطلاب أن يأخذون دروساً خصوصية ) فإن قاعدة هذا الفساد اللاأخلاقي والمهني هو شح الراتب أو راتب الاحتقار . ورغم رداءة الوضع العام في الثمانينات والتسعينات في سوريا حيث كان أكثر من مليون ونصف المليون عامل سوري يعملون في لبنان في كل المجالات ( نجار ، معلم صحية ، معلم إسمنت، عمال في مطاعم ومقاهي الخ ) كان العمال السوريون يحصلون على مبالغ كبيرة في لبنان مقارنه بعملهم في سوريا وكانوا يحضرون معهم السجائر وعلب المناديل الورقية والمُعلبات والألبسة من لبنان ، كانت ألف ليرة سورية تعادل ( 33 ألف ليرة لبنانية ) . وبعد 2011 بدأ الانهيار تدريجياً ثم أصبح متسارعاً ككرة الثلج في كل دول الربيع العربي ، خاصة سوريا ولبنان ، صار المئة دولار تعادل مليون و 300 ألف ليرة سورية ،وأعلى راتب ( 120 إلى 140ألف ليرة سورية ) وصارت نسبة الفقر حوالي تسعين بالمئة من الشعب السوري . وإذا كان وصف الراتب قبل 2011 بالهزيل أو راتب الاحتقار فإنه أصبح الآن لا يساوي شيئاً على الإطلاق ، ووضعه يُذكر بأزمة كبيرة ترضت لها فنزويلا حيث انهارت العملة تماماً فصار الناس يُلقون بالأوراق النقدية في الشوارع فيقوم عمال النظافة بكنسها ورميها في القمامة ، الوضع السوري وصل إلى هذا الحد، ولا يمر أسبوع إلا ونرى هياجاً مجنوناً لدى الناس بسبب ذل العيش والفقر والغلاء الفاحش ، وما حصل منذ أيام من احتجاجات في منطقة ركن الدين في دمشق مُروع ، غضب ونار وصراخ وهستيريا ، في جبلة أيضاً جن جنون الكثير من الشبان والأهالي وعبروا عن غضبهم وعدم قدرتهم على التحمل . الجوع كافر ويدفع إلى الجنون ومع ذلك تبدو الدولة في وادي آخر إذ تحكي بالانتصارات خاصة بعد قمة الجامعة العربية فيما الدولار يُحلق عالياً والناس نفد صبرها وشارفت على الجنون . أن تكتب سيدة وقورة ما يلي : سعر زجاجة الكولا الصغيرة ( أي كأس كولا وطنية ) عشرين ألف ليرة يُمكنك أخي السوري إذا غصت اللقمة في حلقك إدفشها بعصا المسح . عبارة تُشبه الصفعة ، عبارة تعبر عن أن المعاناة في سوريا وصلت حد الهستيريا . وفي علم نفس المجتمعات هناك هستيريا جماعية . مؤخراً الكثير من الموظفين استقالوا وأزهقت أرواحهم بمعاملة الاستقالة فعلى الموظف أن يُحضر براءة ذمة من كل مؤسسات الدولة لتُقبل استقالته ، أحد الأصدقاء كتب طلبوا مني براءة ذمة من مؤسسة المياه .
أخيراً ومن باب الأمانة وقول الحقيقة أحب أن أحكي ما حصل معي وأنا أقيم في باريس منذ أكثر من ثلاث سنوات وكنت قد قدمت استقالة مبكرة من عملي كطبيبة عيون في المشفى الوطني في اللاذقية ، اقترح علي أحد الأصدقاء في اللاذقية أن أجري توكيلاً رسمياً له ليقبض لي رواتبي المتراكمة منذ أكثر من ثلاث سنوات في أحد المصارف ، وثمة مكتب في شارع فخم وأنيق في باريس لسوريا ، هو مكتب يُسهل معاملات السوريين المغتربين وما يحتاجون إليه وفعلاً راجعت المكتب وقرعت الجرس مراراً فتح لي الباب موظف الاستقبال الذي قال لي بدل صباح الخير : أعطني موبايلك لو سمحت ، رفضت ، فألح بأن علي احترام القوانين فألححت أنني لن أعطيه الموبايل ، ثم توجهت إلى النافذة الأولى حيث أقف أمام موظف يفصلنا زجاج فيه فتحة وقدمت له صورة عن هويتي وصورة عن هوية صديقي الذي سأوكله بقبض راتبي ، الغريب أن هذا الموظف كان يتركني منتظرة ويدخل إلى الداخل ويبقى حوالي ربع ساعة ثم يعود ، كنت أتعجب لم يدخل إلى الداخل ومن يوجد في الداخل ؟ وما علاقتي ؟ ولماذا كرر دخوله واختفاؤه في الداخل عدة مرات تاركاً إياي منتظرة عاجزة عن مقاومة غضب وإحساس بالإهانة ، تذكرت ساعات الانتظار الطويلة في فروع الأمن في اللاذقية . أخيراً أعطاني الموظف إياه ورقة الوكالة لصديقي وطلب مني أن أدفع مئة يورو . صُعقت وقلت : لماذا هذا المبلغ فرد بجواب لم أفهم منه شيئاً ودفعت رغماً عني مئة يورو أي رواتبي عن أكثر من سنة كاملة . وخرجت من المبنى أغب الهواء وأتخيل المساكين السوريين الذين عليهم أن يدفعوا مئة دولار إذا أرادوا العودة إلى سوريا ، مئة دولار عن كل فرد من الأسرة . كأننا نحتاج إلى فيزا لندخل وطننا .