الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية(3)

ترجمة: محمود الصباغ

القسم الثالث: “سجل اختفاء” و “يد إلهية”  للمخرج إيليا سليمان

يتخذ إيليا سليمان في فيلمي “سجل اختفاء” و “يد إلهية” نهجاً أسلوبياً مختلفاً عن خليفي أو أبو أسعد. فتظهر أفلامه كأنها مجموعة من المشاهد التي تؤرخ بشكل أو بآخر للوقت الذي تمضيه الشخصية الرئيسية في الفيلمين (إيليا سليمان)، في القدس والناصرة والضفة الغربية، مع القليل من السرد، وتكون مهمة السرد الموجود، فعلاً، شرح وتبرير المشاهد الفنتازية المضمنة، وهي غالباً ما تكون عنيفة في فيلم “يد إلهية”، ونتيجة لذلك، فإن الخيوط السردية في هذا الفيلم أقوى من تلك الموجودة في “سجل اختفاء” الذي تظهر فيه خيوط السرد فضفاضة. ويتم تقديم العديد من المشاهد التي تنتج بدورها صورة ذهنية عن الحياة اليومية في فلسطين، لكن القصة الوحيدة التي ينقلها سليمان هي قصة تتمحور حول البطل (إيليا سليمان) وجهاز الاتصال اللاسلكي walkie-talkie والفتاة التي اسمها عدن، تلعب دورها عُلا طبري، التي تحاول العثور على سكن في القدس ثم تنتقم بطريقة فنتازية عبر جهاز الاتصال المسروق. يُستخدم هذا الشريط السردي لتحديد مواقع المشاهد الفنتازية وشرحها. كما يستخدم لتأكيد المعتقدات المجتمعية الأربعة لروحانا وبار- تال.

تم تصوير وإنتاج فيلم “سجل اختفاء”، في منتصف التسعينيات عندما كانت فكرة الفلسطينيين كضحايا لإسرائيل تتضاءل في الرأي العام الغربي، ويحتوي الفيلم على قدر ضئيل من العنف، ولأنه تم تصويره خلال سنوات السلام النسبي بعد اتفاقيات أوسلو، فهو يعزز بشكل ضعيف سردية المحاكاة الفلسطينية والمعتقدات المجتمعية الإيديولوجية. في حين يعمل العنف في فيلم “يد إلهية”(الذي أنتج خلال الانتفاضة الثانية عندما كان الفلسطينيون يعادلون معنى الإرهابيين بشكل عام) على تأكيد بعض المعتقدات المجتمعية الأساسية الأربعة ورفض بعضها الآخر، لكنه يقوم بذلك بطريقة مختلفة عما هو الحال في فيلم ميشيل خليفي، لأن العنف الذي يصوره سليمان في أفلامه يتضمن معنى الخصومة وروح الدعابة. وعندما سُئل، سليمان، عن أسباب استخدامه للعنف في ” يد إلهية”، أوضح قائلاً: أنا أفهم الحقائق من حولي. […] يمكنك القول أن “سجل اختفاء” يصور الهدوء الذي يسبق العاصفة […] ولكن في هذا الفيلم الأخير [يد إلهية] انهارت الأمور. هناك انهيار كامل في التواصل، والاحتلال أكثر وضوحاً […] إذا كان “سجل اختفاء” هو الصمت الذي يسبق العاصفة، فإن ” يد إلهية” هو بواكير أوليّة للانفجار البركاني، مرحلة ما قبل قذف الحمم البركانية، رغم أنه يمكنك أن ترى الشرر وجميع علامات التحذير التي تدفعك لأن تخلي المكان فوراً”(Suleiman,64-65). ورغم أن فيلم “يد إلهية” يحتوي على مشاهد تتضمن المزيد من العنف البصري/ فإن كلا فيلمه، على عكس “نشيد الحجر” و”الجنة الآن”، من نوع الكوميديا السوداء، والعنف الذي يصوره في “يد إلهية” غريب للغاية لدرجة أنه يعارض أو يستبعد- بدل أن يؤكد-، في الواقع، وجهة النظر القائلة بأن الفلسطينيين يمكن أن يشكلوا أي تهديد حقيقي لأمن إسرائيل، ويستخدم سليمان العنف في هذا الفيلم، ووجود، أو عدم وجود، خيوط سردية لتأكيد المعتقدات بأن الفلسطينيين هم الضحايا، وأن إسرائيل غير شرعية، وأن أهداف حركة المقاومة هي أهداف عادلة ولكنه يرفض القول بأن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يخطئوا.

أ) سجل اختفاء

بدا أن توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993، أو إعلان المبادئ، سوف يمثل علامة فارقة جديدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حيث اجتمع كلا  الحزبين الحاكمين، حزب العمل الإسرائيلي وحركة فتح التابعة لـ م ت ف، للتوقيع على خطة مرحلية للسلام. ومع ذلك، رفض المتطرفون الدينيون اليمينيون على جانبي النزاع الاتفاقات واستغلوا الفرصة لتنفيذ هجمات إرهابية عنيفة (Baxter and Akbarzadeh 145-6). بدأت هذه الهجمات وتدعيمها يؤثر سلباً على صورة الفلسطينيين في الغرب بدلاً من العمل على تبديل هذه النظرة. كما لم تساعد حقيقة دعم م ت ف للعراق ، في تلك الفترة، في حرب الخليج الأولى على تلميع السمعة الدولية الفلسطينية في الغرب، كما بدأت، في ذات الفترة تقريباً، حركة الجهاد الإسلامي وحماس وجماعات أخرى في شن هجمات انتحارية متواترة ومتصاعدة ضد الإسرائيليين، مما أعطى إسرائيل ذريعة لتطوير وتشديد نظام الحصار. وبينما كان هناك بعض المتطرفين اليهود يمارسون تكتيكات إرهابية مماثلة، كان العنف الرئيسي الذي مارسته إسرائيل ضد الفلسطينيين يتمثل في العنف الاقتصادي (Ajluni)، وهو ما يتطلب عدة تفسيرات. وعلى عكس التفجيرات الانتحارية الفلسطينية، لا يمكن تلخيص وتوضيح نظام الحصار الإسرائيلي والتأثيرات المدمرة على الاقتصاد الفلسطيني بسهولة من خلال الصور واللقطات الصوتية. نتيجة لذلك، بدأ الرأي العام في الغرب بالابتعاد عن تعريف  الفلسطينيين بوصفهم ضحايا. يتزامن هذا الحياد، أو السلبية الطفيفة، في الرأي العام الغربي مع الافتقار إلى العنف البصري وضعف الدعم للمعتقدات المجتمعية الأساسية الأربعة لروحانا وبار- تال في “سجل اختفاء”. وعلى عكس “نشيد الحجر” لميشيل خليفي، الذي يدعم أيضاً المعتقدات الأربعة، فإن فيلم إيليا سليمان يدعمها، لكن بطرق أقل قوة ووضوحاً عن فيلم خليفي. يتم تقديم النصف الأول من “سجل اختفاء”، “مذكرات القدس الشخصية” على شكل يوميات فيديو شخصية لإيليا سليمان، للشخصية الرئيسية. والجهاز الوحيد الذي يشير إلى مرور الوقت هو مقطع عرضي لشاشة كمبيوتر مكتوب عليها “اليوم التالي” باللغة العربية. ولا يحتوي هذا الجزء من الفيلم على خيط سردي يتجاوز الإشارة العرضية من شاشة الكمبيوتر اتي تشير إلى مرور الوقت والأيام. ومعظم المشاهد، التي يتضمنها سليمان، يمكن أن تحدث في أي وقت من اليوم وفي أي يوم من أيام الأسبوع، وبدلاً من العمل لإنتاج سلسلة متماسكة من الأحداث، تعمل الصور على إنتاج صورة متماسكة أكبر للحياة اليومية في فلسطين. إن مشاهد، مثل مشهد والده في العمل، ووالدته وهي تزور صديقة لها مع الأقارب، ومتجر الأرض المقدسة، وكذلك مشهد الصيادون، كلها مشاهد من  صميم النشاط اليومي ولا يوجد ما هو فنتازي فيها وهي لا تتلاءم معاً بطريقة ما لتنتج أي شيء يمكن أن يطلق عليه تقليدياً خط الحبكة. الشخصية الرئيسية (إيليا سليمان)، شخصية صامتة أيضاً في كلا الفيلمين. وتزعم رشا سلطي أن مفهوم “شاهد العيان”  كان يمثّل قوة دافعة للفنون الفلسطينية منذ الستينيات (Salti, 51). وتقارن إيليا سليمان بحنظلة [ناجي] العلي، الشخصية الكرتونية التي تظهر على هيئة طفل بملابس ممزقة، ويدير ظهره ،دائماً، للقارئ، وهو بالتالي بمثابة “شاهد” على أحداث مروعة، لكنعه، في المقابل، لا يعلق عليها قط، هدفه الوحيد أن يكون شاهداً على الأحداث. وتجادل رشا سلطي بأن البطل إيليا سليمان نسخة من حنظلة للكبار لكنه أكثر تعقيداً [من حنظلة] حيث تجبر المشاهد على أن يشهد ويتحدث عما يراه، لأنه، إيليا سليمان البطل، لا يستطيع فعل ذلك (Salti, 51-52).  لا يتضمن النصف الأول من الفيلم عنفاً حقيقياً، على الرغم من اقتراب المشاهد أمام المقهى، وهي مشاهد تتكرر مع مختلف المركبات والركاب، تتضمن وقوف سيارة أمام المقهى وخروج الركاب من السيارة وهم يتجادلون ويتشاجرون. ورغم صراخهم ودفعهم لبعضهم البعض يخضع هؤلاء الركاب ” رجلين في الواقع” للهجوم من قبل زبائن المقهى، فيعودوا إلى السيارة وتواصل السيارة مسيرها. يتم دائماً تجنب أي عنف حقيقي أو إراقة دماء، ولا تتطلب المشاجرات الصغيرة أي تفسير من السرد.

النصف الثاني من الفيلم، “يوميات القدس السياسية” هو قصة أخرى، بالمعنى الحرفي،. فلا يزال يتم تصوير الفلسطينيين في هذا النصف من الفيلم، كضحايا للسياسة الإسرائيلية. ولأن الفيلم يدور في القدس، التي لا تعتبرها إسرائيل أرضاً محتلة، فإن أكثر حالات  التأذي البادية تظهر في شكل تمييز ضد العرب الباحثين عن سكن في القدس. يذهب إيليا سليمان، في بداية هذا الجزء، إلى وكيل عقارات لمحاولة العثور على شقة، حيث سمع أن الوكيل يرفض مساعدة امرأة شابة، “عدن”، ويشجعها إما على البقاء مع عائلتها أو الزواج إذا أرادت العثور على سكن لائق. يرفض الوكيل العقاري حتى تكلف عناء محاولة مساعدتها في العثور على سكن. ويتبع هذا مشهد للفتاة وهي تجري مكالمات هاتفية مع أصحاب العقارات المحتملين في محاولة للعثور على مكان للعيش فيه في القدس الغربية. تبدأ كل مكالمة هاتفية بافتراض من أصحاب البيوت بأنها يهودية، نظراً لعدم امتلاكها لهجة عربية واضحة أو حتى انعدامها، ويحاولن مساعدتها إلى حين يدركون أنها عربية فيرفضون تأجيرها المكان. وهكذا حُرمت مراراً من السكن لمجرد أنها عربية. في حين أن حالة التمييز هذه ليست صورة قوية للفلسطينين – كضحية مثل صور معاناة الفلسطينيين في فيلم خليفي، إلا أن عدن لا تزال ضحية لظروف خارجة عن إرادتها. نتيجة لذلك، تعزز الصورة الاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم الضحايا الحقيقيون في هذا الصراع. حقيقة أن الفلسطينيين لا يزالون يُصوَّرون على أنهم ضحايا في “سجل اختفاء” يعمل على تأكيد المعتقدات المجتمعية الثلاثة الأخرى التي ذكرها روحانا وبار- تال: أن إسرائيل غير شرعية، وأن أهداف الفلسطينيين عادلة، وأن الفلسطينيين لا يمكنهم فعل الخطأ. تعمل العنصرية المؤسساتية في سوق الإسكان على نزع الشرعية عن إسرائيل، التي تدعي أنها ديمقراطية تعامل جميع مواطنيها على قدم المساواة. في حين أن كل أمة تقصر إلى حد ما عن مثل هذه المثل السامية، فإن هذه الممارسات التمييزية متأصلة في المجتمع الإسرائيلي لدرجة أن الوكيل العقاري، الذي يُفترض أنه مصدر موثوق للمعلومات في مجاله، يرفض حتى عناء البحث عن سكن للفتاة “عدن”، وهو يدرك عدم جدوى مثل هذا البحث عن امرأة عربية واحدة في القدس ولن يضيع وقته. إن قبول مثل هذا التمييز كحقيقة مستعصية،  من قبل متخصص في مجال الإسكان، يسلط الضوء على درجة تقصير إسرائيل في تحقيق المثل الأعلى حتى داخل حدودها، ناهيك عن الأراضي التي تحتلها. نتيجة لذلك، يتم تصوير إسرائيل على أنها غير شرعية إلى حد ما. ومع ذلك فإن تصوير هذا الاعتقاد المجتمعي، من جديد، ليس بذات قوة الصور التي ينتجها خليفي باستخدام العنف البصري.

يبدو أن هدف “عدن”، في العثور على شقة، هو هدف بريء وغير ضار ولا يتطلب سوى القليل من التبرير. تبحث الشابة ببساطة عن مكان تعيش فيه، وهو أمر شائع إلى حد ما في معظم أنحاء العالم. ومع ذلك، يصبح الحدث مشحوناً سياسياً في إسرائيل والضفة الغربية حيث أصبح من يقيم على أي أرض عقبة هائلة أمام السلام. يعثر إيليا سليمان، في النصف الثاني من الفيلم، على المكان الذي تعيش فيه عدن، وهو عبارة عن غرفة ملابس صغيرة في المسرح حيث تعمل وحيث يستقر جهاز اللاسلكي في النهاية، على الرغم من أنه من غير الواضح كيف حصلت عليه. ليس ثمة دوافع سياسية لدى “عدن”  للانتقال إلى الجانب الغربي من المدينة، لكن السياسة العنصرية [الإسرائيلية] في قطاع السكن  تحبط محاولات “عدن” في سعيها للعثور على منزل يأويها، فتبدوا أهدافها مبررة بسبب ذلك، بينما يتم نزع الشرعية عن سياسة العقارات الإسرائيلية.

يستمر السرد في المشهد الفنتازي حيث تأمر الفتاة الشرطة الإسرائيلية حول المدينة، ويبدو هذا المشهد غامض بعض الشيء حيث يبدأ تقريباً عندما تستحوذ الشابة على جهاز اللاسلكي walkie-talkie. لا يوضح سليمان من هو الفنتازي بالضبط. يمكن أن تكون الشخصية الرئيسية (إيليا سليمان)  هي الشخصية الفنتازية بدلاً من المرأة (عدن)، لأن المُشاهد لم يره يعطيها جهاز الاتصال اللاسلكي قط. من ناحية أخرى، تذهب المرأة للنوم وتستيقظ من جديد قبل أن تبدأ تمثيلية جهاز اللاسلكي، لذلك يمكن أن يكون الأمر مجرد حلمها وخيالها. هذا الغموض ما هو إلا مؤشر على أهمية الفنتازيا، وليس من يتخيل. ومع ذلك، فإن الخيال له معنى فقط فيما يتعلق بالسرد الفلسطيني وصراع المرأة في العثور على سكن. بدون هذين العنصرين الأساسيين، سيبدو المشهد الخيالي على أنه مجرد مزحة صبيانية. إنها تتصرف بسبب إحباطها لعدم معاملتها بإنصاف من خلال بدء الخدعة، لكنها تسيّس الفعل أيضاً، فها هي تدلي بملاحظات عبر الجهاز مثل “أوسلو لن تأتي” و “أوسلو لا تتصل حتى” مما يشير إلى خيبة أملها من اتفاقات أوسلو وعدم قدرة عملية السلام على تحقيق نتائج. يرفع هذا التسييس  من سويّة الخدعة إلى مستوى عمل مقاوم ضد إسرائيل، وكذلك ضد الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية. الذين شاركوا جميعاً في اتفاقيات أوسلو والتي لم ينتج عنها سوى استمرار الاحتلال وتدهور الظروف المعيشية أيضاً. يشير حاييم بريشيث إلى أن عدن تستمد قوتها من تجاوز الخطوط الحدودية -من خلال رفع صوت وموقف المحتل. وبينما يختفي إيليا سليمان في الصمت، فإنه يجد القوة في الاستيلاء على اللهجة الإسرائيلية والنشيد الوطني (Bresheeth 76, 80) وعليه أن يتبنى بعض أساليب العدو من أجل القيام بعمل (81-82 Bresheeth). وعلى الرغم من أنه عمل مقاوم غير عنيف في المقام الأول، إلا أن لايزال، مثل هذه الفنتازيا، يحمل تبريراً يقدمه سليمان قبل المشهد الخيالي من خلال نضال الشابة للعثور على سكن. لا يؤيد الفيلم الاعتقاد المجتمعي الأخير بأن الفلسطينيين لا يخطئون، غير أنه لا يتعارض معه أيضاً. الشخصيات الفلسطينية لا ترتكب أي جرائم ضد بعضها البعض أو ضد إسرائيل في “سجل اختفاء”. فكل ما تسببه المرأة، حتى في المشاهد الفنتازية، مجرد بعض الارتباك فقط – فلا أحد يتأذى ولا تحدث أية أضرار دائمة. وبالتالي، يدعم الفيلم، عموماً، القناعة الإيديولوجية، ولو فقط عن طريق عدم التعارض معها بأي شكل من الأشكال.

ب) يد إلهية

بينما يتجنب “سجل اختفاء” استخدام لقطات عنيفة بصرياً، يستخدم “يد إلهية”، الذي تم إنتاجه في العام 2002، العنف في لقطات الفيلم المختلفة. تم إنتاج “يد إلهية” خلال بعض أعنف سنوات الانتفاضة الثانية. وكما ذكرنا سابقاً، كان لهجمات 11 سبتمبر في نيويورك تأثير عميق على صور وسائل الإعلام والرأي العام الدولي لكل من وسائل الإعلام الأمريكية والدولية. فأي تفجير انتحاري، بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يعتبر عملاً إرهابياً شنيعاً، دون الحاجة إلى تقديم التفسيرات أو قبولها. ونظراً لأن الجماعات الفلسطينية استخدمت التفجيرات الانتحارية بشكل متكرر ضد إسرائيل قبل وأثناء الانتفاضة الثانية، فقد بات يُنظر إليهم كأعداء في الولايات المتحدة -“الحرب على الإرهاب”، دون عناء طرح أي نوع من الأسئلة أو التشكيك. ورغم أن الرأي الدولي الأوسع لم يكن بهذه القسوة، غير أن الصورة العامة لفلسطين قد تعرضت للتشويه، والتصقت صفة الإرهاب العنيف بالفلسطينيين . وتمكنت إسرائيل، بسبب هذا التحول في الرأي العام الغربي، من تبرير تشديد نظام الإغلاق والحصار في الضفة الغربية بذريعة الأمن القومي والحرب على الإرهاب (Baxter and Akbarzadeh 150). كما تمكنت إسرائيل، على عكس فلسطين، من خلق جو من التعاطف مع الولايات المتحدة، وبدرجة أقل مع أوروبا. وهذا ما سمح لوسائل الإعلام بخلق واقع مفرط يتعاطف مع مفهوم إسرائيل كضحية للإرهابيين الفلسطينيين. يتزامن هذا الرفض لمفهوم الفلسطينيين كضحية، ورفض سردية المحاكاة الفلسطينية، مع رفض  فيلم “يد إلهية” لأحد المعتقدات المجتمعية الأساسية لروحانا وبار- تال التي ترى بأن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يخطئوا.

يحتوي “يد إلهية”، الذي يتضمن المزيد من المشاهد الخيالية والمزيد من العنف، على خيوط سردية أقوى من تلك التي يظهرها النصف الثاني من “تاريخ الاختفاء”. فثمة في “يد إلهية” نوعان من الخيوط السردية السائدة التي تتضمن إيليا سليمان: مرض والده وموته وعلاقته بالمرأة. ويتم تصوير مرض والده على أنه نتيجة لاستيلاء الحكومة الإسرائيلية على متجره وممتلكاته. ويخصص إيليا سليمان، المخرج/ النصف ساعة الأولى من الفيلم لمتابعة الأنشطة الدنيوية لوالد إيليا سليمان وتدقيق أعماله وسيارته وممتلكاته الأخرى واستعادتها، وبعد ذلك يعاني من نوبة قلبية أو سكتة دماغية. وهي أمراض يمكن أن تتفاقم بسبب الإجهاد. يتكون الجزء المتبقي من هذا الخط الروائي من زيارات إيليا سليمان لوالده في المستشفى، ووفاة والده، والمشهد الأخير من الفيلم حيث يظهر جالساً مع والدته، يشاهد قدر الضغط البخاري. المحور السرد الآخر المهيمن يتعلق بعلاقة إيليا سليمان مع امرأة شابة، تؤدي دورها منال خضر، والتي التقى بها عند حاجز الرام بين رام الله والقدس. لا تستطيع الشابة عبور الحدود لزيارة إيليا سليمان في القدس، لذلك يجتمعان على جانب الحاجز قرب رام الله ويقضيان بعض الوقت معاً. يبتكر إيليا سليمان في نهاية المطاف خطة لتسللها عبر الحدود، ولكن بمجرد وصولها إلى منزله، تشعر بالاشمئزاز من جاره، المتعاون مع الشرطة الإسرائيلية، فتغادر المكان  ليواصل إيليا سليمان، بعد ذلك، الذهاب إلى الحاجز، لكنها لم تعد تقابله هناك.

في حين أن هناك الكثير مما يمكن له أن يحدث في فيلم “يد إلهية”، إلا أن هذين الخطين السرديين، المتشابكين مع صور أخرى وروايات مصغرة، يوفران الأساس لمشاهد الخيال العنيفة الثلاثة: الدبابة المتفجرة، والبرج المنهار، وميدان الرماية. هذه المشاهد الثلاثة مسيّسة للغاية ولكنها تعتمد على السرد لإضفاء الطابع الشخصي وتبرير العنف وتأكيد أو رفض المعتقدات المجتمعية. ويصادف أن يكون أول مشهد من هذه المشاهد هو أول مشهد يظهر فيه إيليا سليمان، وهو يتبع مباشرة المشهد الذي أصيب فيه والده بنوبة قلبية أو سكتة دماغية، ويفتتح  المشهد مع لقطة لإيليا سليمان وهو يقود سيارته يقود إلى المستشفى لزيارة والده. يجلس في السيارة ويأكل ما يبدو أنه ثمرة برقوق، وعندما ينتهي من الأكل يلق نواة ثمرة البرقوق من النافذة حيث تصيب دبابة ويندلع انفجار هائل بسبب ذلك. يظهر هذا المشهد في حوالي ثلث مسار الفيلم، وبعد أن أثبت ظلم الحكومة الإسرائيلية في الناصرة، حيث يعيش والده. رغم عدم وجود دماء أو أجزاء متناثرة من الأجساد البشرية، فإن الانفجار بحد ذاته هو عمل مقاوم عنيف. ومع ذلك، فإن هذا الخيال العنيف له ما يبرره في الفيلم  إذا علمنا احتمال وجود إيليا سليمان، في طريقه لزيارة والده الذي يحتضر بعد تعرضه للاضطهاد من قبل المسؤولين الحكوميين الإسرائيليين. يعمل المشهد، أيضاً، على التأكيد على عدم شرعية اسرائيل. ومن الواضح أن هذا المشهد لا يُقصد به أن يكون واقعياً، مع الأخذ في الاعتبار أن نواة ثمرة البرقوق لا تملك أي قوة تفجيرية  من تلقاء ذاتها. ويمكن تفسير النواة، والتي تسمى حجراً أيضاً، على أنها رمز لفلسطين نظراً لأن شجر البرقوق يزرع بكثرة في المنطقة، كما يعتبر الحجر رمزاً راسخاً لفلسطين في الأدب والشعر (Parmenter) . ويمكن رؤية صورة نواة البرقوق، التي تسببت في تدمير دبابة إسرائيلية شديدة التحصين، وقذف إيليا سليمان لها، كرمز للمقاتل الفلسطيني من أجل حريته (Salti, 48-49) كما يمكن أن يُنظر لها، سطحياً، على أنها رمز لفلسطين وهي تدمر إسرائيل. ومع ذلك، فإن عبثية الصورة والاستحالة المادية لرد فعل كهذا بين دبابة ونواة برقوق تدفع المشاهد إلى افتراض أن سليمان يسخر من فكرة أن فلسطين، يمكنها بالقوة العسكرية لنواة البرقوق، أن تشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، التي تمتلك القوة العسكرية مثل الدبابات المدرعة. إن المبالغة في التفاعل بين الدبابة ونواة البرقوق، تشكك في شرعية مزاعم إسرائيل الأمنية ضد فلسطين. إذا كانت حاجة إسرائيل إلى حماية نفسها من الفلسطينيين خاطئة، فإن وجود إسرائيل على الحدود وفي الضفة الغربية غير شرعي بذات الدرجة من الخطأ على حد سواء.

يحدث العمل العنيف الفنتازي الثاني بعد زيارة إيليا سليمان والده في المستشفى لأول مرة وينقل تركيز الفيلم إلى حاجز الرام وعلاقة إيليا بالمرأة التي هي امرأة عربية تعيش في الضفة الغربية، وباعتبارها كذلك، فهي لا تستطيع المرور بحرية إلى القدس، حيث يعيش إيليا. ولعل هذا المشهد يشكل جزء من حلم إيليا في التغلب على عقبة الحاجز. وفي هذا المشهد، تخرج المرأة من سيارتها وتمشي بجرأة عبر الحاجز دونما إبطاء، على الرغم من أن أوامر جنود الاحتلال لها بالتوقف وهم يشهرون أسلحتهم إليها. ينهار برج المراقبة أثناء عبورها الحاجز المغلق. تشير آنا بول إلى أن قوة بطلة سليمان لا تنبع من قدرتها على التكاثر أو من رمزيتها “للأرض المغتصبة والمنهوبة”، وهي مصادر القوة التقليدية للمرأة في الأفلام والأدب الفلسطيني، ولكن تأتي قوتها من “استعادتها الحازمة للأراضي” (Ball, 20)، لكنها لا تزال موضوع التخيلات الذكورية الحالمة الوطنية (Ball, 24). يظهر هذا المشهد الخيالي في الفيلم قبل أن يدرك المشاهد هوية المرأة وأهمية الحاجز. وتتطور، في المشاهد التالية، قصة العاشقين عند الحاجز، ويستطيع المشاهد أن يفهم سبب رغبة إيليا في تدميره ومروره عبره. ويبدو المشهد اعتباطياً إلى حد ما، بدون هذه الرواية المضافة، على الرغم من أنه لا يشير إلى أي شيء أقل من ذلك. يشير غيرتس وخليفي إلى أن أفلام  الحواجز Roadblock ، مثل فيلم “يد إلهية”، تسعى جاهدة للتغلب على التجزئة والتفكك، من أجل “سرقة الحدود” (“Roadblock” 325) ومن خلال هذا المشهد الخيالي تستطيع البطلة أن تفعل ذلك تماماً.. من خلال هذا المشهد ورواية العشاق، يوضح الفيلم أن أهداف الفلسطينيين للسيطرة على حدودهم والتنقل بحرية داخل أراضيهم هي أهداف عادلة. تصبح نقطة التفتيش هي العائق الأساسي لوجود علاقة طبيعية مع صديقته، وهو هدف معقول في أي جزء من العالم.

ولكن أعنف لقطة خيالية في الفيلم تأتي بعد مغادرة المرأة لإيليا وبعد أن أمضى أمسيتين في انتظارها عند الحاجز. ويرتبط المشهد أيضاً بإعلان على لوحة طرقية يتابعه إيليا أثناء قيادته للسيارة، ويتحدث الإعلان عن حقل رماية مع عبارة تقول “تعال واطلق النار، إن كنت مستعداً” ويظهر وجه مقاتل فلسطيني يرتدي كوفية، وتدور أحداث مخيلة إيليا في ميدان الرماية هذا ويفتتح المشهد مع عدة رجال إسرائيليين يطلقون النار على أهداف عليا رسوم لفلسطينيين. ويظهر الرجال وهم يطلقون النار على جميع الأهداف باستثناء هدف واحد، وبينما يصوبون على الهدف المتبقي، يخرج مقاتل فلسطيني من خلفه.

وبعد بعض الإثارة والاستفزاز، يشرع الرجال في إطلاق النار على المقاتل الفلسطيني، الذي يواصل، بدوره، القضاء عليهم، بالإضافة إلى طائرة مروحية، باستخدام الحجارة والقنابل اليدوية ونجوم النينجا ودرع على شكل فلسطين. وقرب نهاية المعركة، تنفتح الكوفية لتكشف أن المقاتل من أجل الحرية هذا ليس سوى المرأة حبيبة إيليا. وبعد أن تنتهي من قتل الرجال، تلتفت نحو الهدف المتبقي وتخطو خلفه لتنسحب من المشهد. ربما يكون هذا المشهد الخيالي هو الأكثر عنفاً والأكثر اعتماداً على الحبكة السردية لأهميتها. فبينما تحتوي المشاهد الخيالية الأخرى على أعمال عنيفة أو تخريبية، يتضمن هذا المشهد مقاتلاً من أجل الحرية يقتل إسرائيليين. لن يكون لهذا المشهد أي معنى مع باقي أجزاء الفيلم، بدون السياق السردي. يدرك المشاهد أن إيليا قد رأى لافتة ميدان الرماية وأغضبه. يدرك المشاهد أيضاً من خلال هذه النقطة، أن إيليا يرى صديقته في تخيلاته كرمز للمقاومة، وبالتالي فإن وجودها يمكن تفسيره ولا يكن اعتباره مفاجئاً بطريقة ما. تمنح الرموز السياسية المختلفة التي يشملها هذا المشهد أهمية سياسية خارج نطاق القصة، ولكن لا يمكن تبرير العنف والموقع إلا من خلال الخيط السردي. حقيقة أن الجنود الإسرائيليين يطلقون النار على المقاتل الفلسطيني  ببرود ويستخدمون صور الفلسطينيين كهدف لتدريباتهم، تؤكد أيضاً على الاعتقاد المجتمعي بأن الفلسطينيين هم ضحايا للعدوان الإسرائيلي غير المبرر.

بينما يؤكد فيلم سليمان على المعتقدات المجتمعية التي ترى بأن إسرائيل غير شرعية، والفلسطينيون هم الضحايا، وأهداف الفلسطينيين عادلة، فإنه يبدي شكوكاً يقاوم  في الاعتقاد بأن الفلسطينيين لا يمكن أن يرتكبوا أي خطأ، وبذلك يسلط الضوء على التوتر الذي ينشأ بين السكان الفلسطينيين.

تظهر العديد من المقاطع طوال الفيلم أن الفلسطينيين يفقدون أعصابهم بسبب الأشياء الصغيرة. فيقوم رجل بتمزيق لوحة ترخيص سيارة لأن صاحبها رفض تحريكها، وآخر يمزق كرة قدم لأن صبياً ركلها على سطح بيته، ويظهر المشهد الافتتاحي والد إيليا يستخدم كل أنواع البذاءات في وصف جيرانه وهو يقود سيارته إلى العمل.

تشير هذه الحالات، بالإضافة إلى المشهد الأخير من الفيلم، الذي يشاهد فيه إيليا ووالدته طنجرة البخار إلى وجود توتر عنيف يشتمل على سلوك الفلسطينيين ويتجلى من خلال عدم الاحترام، بل حتى استخدام بعض العنق تجاه جيرانهم الفلسطينيين. يجادل غيرتز وخليفي إل تحول الحياة اليومية في فيلم “يد إلهية”، “إلى روتين ثابت مليء بالكراهية والغضب والاحتكاك” (“Roadblock” 323) ويوضح سليمان أن الإحباط الذي يظهر في الفيلم هو نتيجة الركود والشلل الناجم عن كونك عربي تعيش في إسرائيل وما يتبعه من يأس (Suleiman 70) . في حين أن كل من المشاهد التي سبق ذكرها تحتوي على أفعال فردية، فإن تجاور المشاهد وتكرارها يوضح مدى انتشار هذه التوترات، وهذا الانتشار هو الذي يربط السلوك بالنزاع ككل. وهذه الحوادث ليست منعزلة بصورة خاصة، بعكس أحداث فيلم “نشيد الحجر”ـ بل هي نتيجة القيود المكانية والاقتصادية للاحتلال واليأس من العيش كعربي في إسرائيل. لكن هذا التوتر في فيلم سليمان، خلافا للعنف في فيلم أبو اسعد، ليس موجهاً الى اسرائيل. فقط المشاهد الخيالية تتضمن عنفاً موجهاً لإسرائيل. هذا الاعتراف بأن الفلسطينيين ليسوا دائماً لطيفين مع بعضهم البعض ولا يتفقون دائماً، هو خطوة صغيرة نحو القفزة الإيديولوجية التي يقوم بها فيلم “الجنة الآن” من خلال إظهار أن القتال الداخلي الفلسطيني لعب دوراً في ركود أي تحسن في الوضع، وأن الفلسطينيين يمكنهم أيضاً أن يكونوا المعتدين في الصراع.

على الرغم من أن أسلوب فيلم إيليا سليمان واضح في كل من “سجل اختفاء” و “يد إلهية”، بسبب المشاهد الخيالية العنيفة والموقف الإيديولوجي الأكثر دقة في “يد إلهية”، كان ينبغي أن تتضمن أفلام سليمان روايات أقوى. وتعتبر الخيوط السردية ضرورية لدمج المشاهد الخيالية في كلا الفيلمين ولإعطاء المشاهد الخيالية أهمية شخصية وسياسية. كما أن الخيوط السردية ضرورية، خاصة في فيلم “يد إلهية”، من أجل تبرير وتفسير عنف المشاهد الخيالية، والتي تبدو المشاهد بدونها اعتباطية وفي غير محلها. يرتبط حجم العنف في “يد إلهية” بوجود حركة مقاومة منظمة في فلسطين، بينما يرتبط التحول الإيديولوجي في الفيلم بالصورة السلبية للفلسطينيين من خلال الواقعية الفائقة التي تنتجها وسائل الإعلام ومن رفض الغرب لمفهوم الفلسطينيين بوصفهم ضحايا.

يظهر هذان الفيلمان، إلى جانب أفلام خليفي وأبو أسعد، علاقة شيقة بين الرأي العام الغربي والإيديولوجيا في الأفلام، وكذلك بين وجود العنف في الأفلام ووجود حركات مقاومة منظمة على الأرض.

خامساً: الخاتمة

وافق الرأي العام الغربي، في أي وقت من الأوقات، على الرواية الفلسطينية، عموماً، ونظر إلى الفلسطينيين على أنهم ضحايا للاحتلال الإسرائيلي،  أو رفض مثل هذه السردية واعتبر الفلسطينيين هم المعتدون في الصراع. ويبدو أن هذا عمليات القبول أو الرفض لوجهة نظر الفلسطينيين كضحايا، ،بناءً على تحليلي هذا، ذات علاقة قوية بكيفية عرض صانعي الأفلام الفلسطينيين ومعاملتهم للمعتقدات الفلسطينية الأساسية الأربعة التي تزعم دراسة روحانا وبار- تال أنها ضرورية في إطالة أمد الفيلم. والتي تدعم سردية المحاكاة الفلسطينية التي قبلت على مدى 17 عاماً، من عمر هذه الأفلام الأربعة، من قبل وسائل الإعلام، ونتيجة لذلك، قبل الرأي العام الغربي بها ، ولكن تم رفضها تدريجياً على مر السنين.

وعندما بدأ الرأي العام الغربي يرفض هذه السردية، بدأت المعتقدات الأساسية التي تدعم السرد تكون موضع تساؤل في هذه الأفلام الأربعة.

فضّل الرأي العام الغربي السردية الفلسطينية خلال الانتفاضة الأولى، عندما كانت الواقعية الفائقة في الغرب مشبعة بصور الفلسطينيين الذين يعانون على أيدي الجنود الإسرائيليين. أكد فيلم خليفي، الذي تم إنتاجه خلال هذه الفترة الزمنية، بقوة جميع المعتقدات المجتمعية الأربعة التي تعزز هذه السردية من خلال استخدام العنف التصويري في فيلمه. ومع أوائل التسعينيات، أشبع الإعلام من خلال الواقعية المفرطة بالصور والقصص التي أشارت إلى أن اتفاقيات أوسلو قد حلت أخيراً الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مما خلق جواً من الحياد النسبي فيما يتعلق بتأذي الفلسطينيين. ويؤكد فيلم إيليا سليمان “سجل اختفاء”، التي تم تصويره خلال أوائل التسعينيات، بشكل ضعيف المعتقدات المجتمعية والسردية الفلسطينية المحاكية. أما ف فيلمه اللاحق، “تدخل إلهي”، يؤكد فقط على ثلاثة من المعتقدات المجتمعية الأربعة، علماً أن الفيلم تم تصويره بعد هجوم 11 سبتمبر، وتأثر الراي العامي الغربي بذلك من خلال رفضه  نشاط أي مجموعة من الأشخاص تستخدم التفجيرات الانتحارية باستمرار. لقد تم الخلط بين الفلسطينيين ككل وبين الجماعات المتطرفة التي استخدمت أساليب إرهابية أضرت بسمعتهم الدولية. أما فيلم أبو أسعد فقد ظهر في زمن الانقسام الفلسطيني، ومع اكتساب المقاومة العنيفة الدعم الشعبي داخل المنطقة، وكان عرفات، الذي كان منذ فترة طويلة وجه السلطة الفلسطينية، يعاني من الإذلال السياسي. يتعارض، في الواقع، فيلم “الجنة الآن”، الذي تم تصويره خلال هذا الوقت المضطرب، مع نصف المعتقدات المجتمعية التي تدعم السردية الفلسطينية.

وثمة اتجاه تطوري آخر يظهر، خلال تحليلي هنا، وهو يعبر عن ارتباط ظاهري بين وجود العنف البصري في الأفلام ووجود حركة مقاومة منظمة في الضفة الغربية. ففي “نشيد الحجر”، الذي تم تصويره خلال الانتفاضة الأولى، وفي “يد إلهية”، الذي تم تصويره خلال الانتفاضة الثانية، هناك كميات أكبر من المشاهد البصرية العنيفة. بينما يحتوي كل من  “سجل اختفاء” و”الجنة الآن”، اللذان تم تصويرهما بعد انتهاء الانتفاضات أو انهيارها، على  القليل من العنف البصري نسبياً. لا يمكن رفض هذا الاتجاه بسهولة باعتباره مسألة تتعلق بأسلوب الفيلم الشخصي للمخرج، لأن كلا الفيلمين  “سجل اختفاء” و “يد إلهية” كانا من عمل مخرج واحد هو إيليا سليمان. ويبدو الارتباط القائم على هذا التحليل جديراً بالملاحظة ويستدعي مزيداً من التدقيق فيما يتعلق برغبة المخرجين متعددي الجنسيات في جذب الجماهير الغربية والشرقية، على الرغم من صعوبة رسم روابط سببية بين الرأي العام الغربي وبين قبول أو رفض المعتقدات المجتمعية الفلسطينية في الفيلم الفلسطيني أو بين وجود العنف البصري في الأفلام ووجود مقاومة منظمة على الأرض، بالنظر إلى الطبيعة العابرة للحدود الوطنية للفيلم الفلسطيني. في الأفلام والمخرجين،.

غير أن هذا التحليل تعتريه بعض المشاكل التي تجعل من استخلاص استنتاجات نهائية أمراً صعباً. فأولاً، وربما الأكثر وضوحاً، هذه الأفلام الأربعة هي عينة صغيرة من الأفلام الفلسطينية، وكان استخدامي لها بسبب توفرها أكثر من كونها عينة تمثيلية للأفلام الفلسطينية ككل. إن تأكيد ألكسندر على أن الأفلام الفلسطينية التي تم إنتاجها خلال الانتفاضة الأولى تميل إلى أن تكون أقل عنفاً (“Is There a Palestinian Cinema?” 156) تثير التساؤل حول مدى تمثيل “نشيد الحجر” كأول فيلم يعبر عن أحداث الانتفاضة الأولى. وعند محاولة تحديد موقع الأفلام التي تم إنتاجها خلال الانتفاضة الأولى، كان فيلم “نشيد الحجر” الفيلم الوحيد التي تمكنت من الوصول إليها من اجل استكمال هذه الدراسة لهذه الورقة، ونتيجة لذلك، قد لا يكون تمثيلاً مفيداً لأفلام أخرى تم إنتاجها في ذلك الوقت. تستشهد ألكسندر بفيلم رشيد مشهراوي، “حظر التجول”، عام 1993، كمثال جيد لأفلام الانتفاضة الأولى (Is There a Palestinian Cinema?)، لكنني لم أتمكن من الحصول على نسخة من الفيلم مع ترجمة باللغة الإنجليزية، ولم تكن لغتي العربية كافية بعد كي أشاهده بدون ترجمة. كما تستبعد هذه الدراسة أيضاً عدداً من المنتجين الفلسطينيين البارزين وغزيري الإنتاج، أبرزهم رشيد مشهراوي وعلي نصّار، وكلاهما ناقشهما غيرتز وخليفي باستفاضة في كتابهما كمخرجين مهمين. نتيجةً لذلك، تعد هذه الدراسة أولية ويجب فحص الاتجاهات التي اقترحتها في مجموعة أوسع من الأفلام. كان لاستخدام المعتقدات المجتمعية لروحانا وبار- تال كإطار لهذا التحليل أيضاً صفاته الإيجابية والسلبية، وقد منحتني دراستهم، كإطار لتحليلي، صورة عن معتقدات مجتمعية محددة ذات أهمية نفسية لفحصها، ولذلك فإن حصر نفسي في تلك المعتقدات المجتمعية الأربعة قد يكون مفرطاً في التبسيط. فأسباب استمرار الصراع تتجاوز هذه المعتقدات المجتمعية الأربعة. وعلى الرغم من صعوبة استخلاص استنتاجات نهائية دون مزيد من البحث والنظر في الأفلام الأخرى، والعلاقة المحتملة بين الفيلم والرأي العام الغربي والواقعية الفائقة للصراع الذي خلقته وسائل الإعلام يمكن أن تكون مهمة، فيما لو كان صحيحاً كل من تأكيدات غيرتز وخليفي أن السكان الفلسطينيين يستخدمون الفيلم تقليدياً كوسيلة لتأسيس هوية وطنية أكثر واقعية، وكذلك حجة تلمساني بأن “السينما الفلسطينية تشكل موقعاً للتفاوض وتداول القيم والسلوكيات التي تساهم في تأكيد الهويات الثقافية والوطنية الفلسطينية “(70 Telmissany). يُحرم الفلسطينيون من حق التعريف، ليس فقط تمثيلهم الإعلامي، (Alexander “Palestinian Films” 325) ولكن أيضاً قصتهم بشكل عام. يجادل بريشيث بأن “التجريد من الملكية الذي أحدثه الاحتلال هو أعمق وأكثر إيلاماً من مجرد خسارة الوطن والبلد”. الخسارة النهائية هي فقدان قصتك وهويتك وفقدان الحق في سرد ​​قصتك وتاريخك الخاص”(79 Bresheeth). عند مناقشة فيلم “حكاية الجواهر الثلاث”، يجادل ميشيل خليفي بأن تكوين الهوية للأطفال يتطلب كلاً من الواقع والخيال لبناء هوية موحدة كاملة (Khleifi and Alexander 31). يمكن تقديم حجة مماثلة عند مناقشة دور الفيلم في تشكيل الهوية الفلسطينية. لأن الحق في تعريف أنفسهم، ورواية قصتهم، قد حُرموا منه لفترة طويلة، ومن هنا يأتي دور الفيلم في “ملء الفراغات”، إذا جاز التعبير، والمساعدة في إنشاء هوية موحدة هو ، في الواقع ، مهمة على درجة عالية من الأهمية. ومع ذلك، نظراً للطبيعة العابرة للحدود الوطنية للإنتاج السينمائي الفلسطيني الحديث، من المهم أيضاً فهم الاهتمامات والتأثيرات المختلفة التي تؤثر على هذه الأفلام المهمة. إذا كان تفسير الإعلام للصراع يؤثر على الرأي العام الغربي وإذا أثر الرأي العام الغربي على الإيديولوجية المقدمة في الأفلام الفلسطينية وإذا تم استخدام هذه الإيديولوجية، كما يدعي غيرتز وخليفي، لتأسيس هوية وطنية فلسطينية متماسكة، فإن الفيلم الفلسطيني في بعض المستويات، يتم إزالته، بأبعاده كافة، من واقع الصراع وأي هوية وطنية ناتجة عن الأفلام يتم إزالتها بأضعاف هذا. ومع ذلك، هناك العديد من “الشروط” في هذه المقولة/ كما أن تشكل الهوية تعد عملية معقدة ومركبة بحد ذاتها .

ملاحظات

العنوان الأصلي: Palestinian Film: Hyperreality, Narrative, and Ideology

المؤلف:Sarah Frances Hudson

الناشر: University of Arkansas- 2011

هوامش القسم الثالث

Ajluni, Salem. “The Palestinian Economy and the Second Intifada.” Journal of Palestine Studies. 32.3 (2003): 64-73.

Alexander, Livia. “Palestinians in Film: Representing and Being Represented in the Cinematic Struggle for National Identity.” Visual Anthropology. 10(1998): 319-333.

—. “Is There a Palestinian Cinema? The National and Transnational in Palestinian Film Production.” Palestine, Israel, and the Politics of Popular Culture. ed. Rebecca L. Stein and Ted Swedenburg. Durham: Duke University Press, 2005. 150-172.

Ball, Anna. “Between a Postcolonial Nation and Fantasies of the Feminine: The Contested Visions of Palestinian Cinema.” Camera Obscura. 23.3(2008): 1-33.

Bresheeth, Haim. “A Symphony of Absence: Borders and Liminality in Elia Suleiman’s Chronicle of a Disappearance.” Framework. 43.3 (2002): 71-84.

Gertz, Nurith and George Khleifi. Palestinian Cinema: Landscape, Trauma and Memory. Bloomington: Indiana University Press, 2005.

–. “A Chronicle of Palestinian Cinema.” Film in the Middle East and North Africa: Creative Dissidence. Ed. Joseph Gugler. Austin: University of Texas Press, 2011. 187-197.

—. “Palestinian „Roadblock‟ Movies.” Geopolitics. 10(2005): 316-334.

Parmenter, Barbara. Giving Voice to Stones: Place and Identity in Palestinian Literature. Austin: University of Texas Press, 1994.

Rouhana, Nadim and Daniel Bar-Tal. “Psychological Dynamics of Intractable Ethnonational Conflicts.” American Psychologist 53.7 (1998): 761-770.

Salti, Rasha. “From Resistance and Bearing Witness to the Power of the Fantastical.” Third Text. 24.1(2010): 39-52.

Suleiman, Elia. “The Occupation and Life Through and Absurdist Lens: An Interview with Elia Suleiman.” Journal of Palestinian Studies. 33.2(2003): 63-73.

Telmissany, May. “Displacement and Memory Visual Narratives of al-Shatat in Michel Khleifi’s Films.” Comparative Studies of South Asia, Africa, and the Middle East. 30.1 (2010): 69-84.

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *