حين يتحول الشعب السوري إلى بهاليل

تكاد تكون كلمة (عادي) هي القاسم المشترك الأعظم للسوريين في الداخل ، كلمة عادي تعني في حقيقتها (الجحيم) لكن معظم السوريين في الداخل يخافون من تسمية الأشياء  بأسمائها (الدولار اسمه الشو إسمو) ، لذا فإن السوري في الداخل وصل إلى قاع اليأس والذل ولم يعد يجد ضوءاً في نهاية النفق، إذ تقبل مُرغماً وخائفاً أن نمط حياته وسنوات عمره ستكون كما هي أي إنقطاع كهرباء شبه دائم (قطع كهرباء خمس ساعات بعدها تأتي الكهرباء ساعة وغالباً ما يحدث قطع أثناء هذه الساعة). والأكثر ذلاً ومرارة أن السوري لا يجرؤ على التعبير عن مشاعره وغضبه المكبوت منذ سنوات، سقف الحرية في كتابته أن يكتب البعض مثلاً: تعودنا على العيش دون كهرباء أو يكتبون: أصبح البراد نملية (خزانه من أيام الأجداد لحفظ الطعام) أو يشكون أن هذه الساعة اليتيمة التي تتوفر فيها الكهرباء بالكاد تكفي لشحن هواتفهم الخليوية، وأن أولادهم درسوا على ضوء الشموع (لأن اللدات المخرشة للشبكية أيضاً ما عادت تنير المكان بسبب عدم قدرتها على الشحن من كهرباء مقطوعة طوال الوقت) قمة الجرأة التي لاحظتها في كتابات السوريين في الداخل عبارة (نستاهل) كلمة وحيدة فقط بدون شرح لماذا (نستاهل) طبعاً يقصدون أن السكوت لسنوات على عيش الذل والقهر وانعدام الكرامة والخوف سيوصلهم إلى الجحيم الذي يستحقونه بسبب صمتهم. أن يصل معظم السوريين إلى مرحلة الشماتة بأنفسهم والاعتراف أنهم يستأهلون حياة الذل بسبب صمتهم حالة مؤلمة ولا إنسانية، إنها تعني أنهم قبلوا أن يدفنوا كرامتهم في وحل الذل والفساد والاستبداد. أو أن الخوف الأقرب لحالة الذعر جعلهم خائفون على حياة من تبقى من أولادهم الأحياء بعد أن مات أولادهم في حرب فُرضت عليهم .

منذ سنوات ألاحظ كم يشوه الخوف الذي يصل حد الذعر الإنسان السوري، أنا نفسي كنت أتنفس خوفاً في سوريا، وينتابني ما أسميه (تناذر الذعر) كلما تم استدعائي إلى أحد الأجهزة الأمنية أعيش حالة من رهاب الذعر، ويختلط ليلي بنهاري ويتسرع قلبي وتتشنج عضلاتي الخ، لكن كنت أمتلك دوماً إعادة ترميم روحي والعودة إلى الكتابة بشجاعة الصدق، لأنني طبيبة العيون التي ترى لتفضح وليس لفحص العيون فقط .

لم يمضي على تركي اللاذقية سنة وأنا في باريس أتابع يومياً تفاصيل التفاصيل في الداخل السوري يروعني الذل الذي صار نمط حياة للسوري ، الذل على مدى عقود أنسى الناس إحساسهم بكرامتهم ، صار هدفهم البقاء فقط على قيد الحياة والابتعاد كلياً عن المواضيع التي يمكن أن تتسبب لهم بالأذى ( الذي هو تحديداً الاستدعاء لأجهزة أمن الدولة أو المنع من السفر أو الاعتقال ) أعرف شلة من الأزواج يلتقون كل مدة في سهرات أو في مقاهي وكنت –بسبب الضجر – أرافقهم كنت أتعمد أن أثير موضوع سجناء الرأي مثلاً أمامهم أستجمع كل أفكاري لأحفزهم أن ينطقوا كلمة أو يعطوا رأياً بسجناء الرأي وأستشهد أمامهم بأسماء زملاء اعتقلوا سنوات وأقول لهم : أنتم تعرفونهم يعني ألا تتعاطفون معهم ؟ جوابهم الصمت ، أستمر بعناد وأذكر روايات لسجناء رأي أستفزهم : طيب ما قرأتم هذه الروايات ؟ جوابهم الصمت ثم يُشعرونني أن وجودي ثقيلاً وغير مرغوب بكلامي فأصمت ، هؤلاء الجامعيين لا رأي لهم ، كل أحاديثهم عن مواضيع غير ذات قيمة ، عن فساد المسؤولين وعن فضائح أخلاقية لناس ، وعن الأكل وعن مشاريع لرحلات أو حفلات .

الفساد في سوريا في أوجه إحدى الصديقات وهي مدرسة جامعية عالية الضمير كانت تراقب فحص البكالوريا في قاعة إحدى المدارس في اللاذقية ، صرفها المدير إلى بيتها ومنعها من المراقبة لأنها لم تسمح بالغش أثناء الامتحان . صديق آخر طبيب من حلب الشهباء، ولاجئ في دولة أوروبية منذ ثماني سنوات، عرف أنه فصل من نقابة الأطباء بحجة أنه لم يدفع الرسوم السنوية المترتبة عليه كل عام، ورغم أنه أوكل قريبه أن يدفع له الرسوم النقابية لنقابة الأطباء لكن موظف في نقابة الأطباء رفض استلام المبلغ من الوكيل رغم أن الأخير أبرز له الوكالة وقال الموظف: عليه أن يحضر شخصياً لدفع الرسوم النقابية، كيف يمكن لنازح ولاجئ في مدينة أوروبية أن يعود إلى حلب لدفع الرسوم النقابية؟. ثمة أصرار على فصله من النقابة كما لو أنه أجرم حين اضطر أن يغلق عيادته التي تدمرت بالكامل وينجو بحياته وحياة أسرته ويتحمل الغربة!

صديقة غالية ومبدعة وكاتبة موهوبة لا تنشر في صفحتها على الفيس بوك إلا كتاباتها، وتكتب عن روايات إبداعية أعجبت بها وهي تنشر إبداعها في مواقع عديدة وتعمل مدرسة في إحدى مدارس اللاذقية، أرسلت المديرة في طلبها فاعتقدت أن الأمر يتعلق بالطلاب أو بقضية ما، لكن المديرة عاتبتها عتاباً مُبطناً بالتهديد بأنها لم تكتب كلمة واحدة ابتهاجاً بالعرس الشعبي للانتخابات الرئاسية في سوريا، وعليها أن تثبت أنها مواطنة صالحة ومطيعة وبأنها يجب أن تعلن فرحها وتشارك في العرس الانتخابي في سوريا عبر كتابتها على الأقل في صفحتها على الفيس .

صديقة أخرى جامعية ومثقفة تظل بحالة تشنج من الخوف، أحكي معها أسألها شو الأخبار في اللاذقية ؟ ترد عم أعمل مربى الورد تظل ساعة تحكي بمربى الورد، أحاول جاهدة إحراجها بالحديث عن أحوال الناس تقول لي: ما بدي وجع رأس، أتصل بصديقة أخرى أريد أن أسمع منها وجع الناس وأحوالهم أن تحكي لي تفاصيل، تُغرقني بحديث عن مغص في بطنها وتتأوه وهي تحكي معي أن المغص شديد وغير محتمل، يطيش صوابي من تحويل اتصالي بها (باريس – اللاذقية) إلى مغص في البطن. أحاديث الناس غارقة في التفاهة وميتة، الكلمات ميته لأنها تنبع من روح مسخها الخوف وشوهها، الخوف يميت ويشل الإحساس بالكرامة لدى الإنسان، ربما لا يشعر كيف مُسخت إنسانيته وكيف لم تعد وظيفة دماغه التفكير الحر، لأن كلمة حرية تُخيف مثل كلمة ثورة، يتحول دماغ الخائف إلى عجينة خوف، عصيدة جافة لا تفرز فكراً حراً. إحداهن كتبت على صفحتها على الفيس: ادبكوا ونخوا ، كلكون رح تدبكوا وتنخوا، بعد يومين حذفت ما كتبته واعتذرت (بالتأكيد تعرضت لتهديد من الأجهزة الأمنية) . لا زلت أذكر يوم كنت موظفة في المشفى الوطني في أواخر الثمانينات كان علينا أن نشارك بمسيرات مؤيدة للرئيس حافظ الأسد في مناسبات مثل 8 آذار وغيرها، وكانت تُلغى كل العمليات ونخرج نحن الأطباء والممرضات كالقطيع في مسيرة التأييد، وطبعاً كان هناك أطباء مُخبرين يكتبون اسم من يهرب من المسيرة، وفي إحدى المرات خطر ببال أحد المسؤولين فكرة عبقرية أن يحمل كل طبيب وطبيبة وردة من ورق ملون مصبوغ، وكان منظرنا يحمل كل منا وردة مُهين، ولسوء الحظ بدأ المطر بالهطول بغزارة، وتلوثت ملابسنا بالصباغ من الوردة التي نحملها –لا نعرف لماذا– وفوجئنا في اليوم التالي بأوامر أن علينا أن نعيد المسيرة المؤيدة لأن التلفزيون لم يتمكن بسبب غزارة الأمطار من التصوير، وكنت أراقب طوال وقت المسيرة بعض الممرضات يرقصن ويدبكن فرحاً لكن استوقفني آذن في المشفى الوطني لباسه رث وأسنانه منخورة وبنية وسقط معظمها، كان يدبك مثل كاراكوز ولا يتوقف عن الدبك ثانية ليلتقط أنفاسه، بدا كأنه مُصاب بمس، وأظنه فعلاً مصاباً بمس، وحين عدت إلى البيت وأنا مثل كرة النار من الغضب وجدت أمي تتابع المسيرة على التلفزيون، طاش صوابي ولم أدخل البيت، ورحت أركض أكثر من ساعة قرب شاطئ البحر كي لا أنفجر .

لم يتغير ذل السوريين وخوفهم، رغم ثورة الحق والكرامة عام 2011 التي أجهضت للأسف، ونزوح أكثر من ثلث الشعب السوري خارج سوريا، أصبح من تبقى من الشعب السوري في الداخل لا يهمه إلا أن يبقى وأولاده أحياء يأكلون وينامون في ظلمة المكان وظلمة أرواحهم، أحد الرجال في اللاذقية عامل في التبغ فقد ابن شهيد وابن أخيه شهيد ومع ذلك هو يشارك في العرس الشعبي والانتصارات ويدبك وينخ، في اتصال معه سألته: كيف استطعت أن تدبك وتنخ وابنك شهيد ؟!! قال: حفاظاً على حياة ما تبقى من أولادي. حين تتحول الحياة إلى مجرد بقاء وتراكم سنوات ذل فمن المُعيب أن نسمي هذه حياة، الخوف يشل قدرة العقل على التفكير الحر ويسحق إحساس الإنسان بكرامته، أذكر في روايات لكتاب صينيين انتقدوا ماوتسي تونغ أنه كان مُصراً على (رقصات الولاء الإلزامية) مهما علت مرتبة الشخص، لأن الرقص والدبك والنخ ورقصات الولاء الإلزامية تحول أصحابها إلى بهاليل، وفي المدارس ومؤسسات الدولة وحتى في المشافي كان الكل يدبك ويرقص رقصات الولاء الإلزامية حتى مرضى القلب كانوا يشاركون في الدبكة، كذلك النساء حديثي الولادة!! لا أنسى أي ألم مُهين أحسسته لما رأيت أحد أهم أساتذتي الذي كان أحد أشهر الأطباء في دمشق وحاصلاً على البورد الأمريكي في الطب المخبري والتشريح المرضي وكان ثرياً جداً وراقياً وكانت هوايته ركوب الخيل، كان يدرسنا مادة التشريح المرضي للعين يوم كنت في سنوات الاختصاص في مشفى المواساة (دراسات عليا) كان يدخل الصف كأمير رجل أنيق بارع في الكلام وعشقنا مادة التشريح المرضي، رغم أنها جافة، بسببه كم كان راقياً وكرامته عالية، ولا أعرف لماذا قبل أن يكون وزيراً للصحة في سوريا وحين رأيته كيف يدبك ويكاد يسقط مراراً أحسست بالخزي والذعر وتساءلت: ما الذي يدفعه ليشارك في رقصات الولاء الإلزامية !!!!

صديقة أخرى ثرية –طبعاً هي حريصة على مصالحها – ومتدينة كما تقدم نفسها تقيم كل شهر رحلات ترفيهية إلى دمشق مع شلة من النساء الُمتدينات والثريات وينزلن في فندق الفور سيزنز، يقضين عدة أيام في دمشق وينشرن صورهن في الفندق الفخم (الفورسيزنز) وطبعاً كل منهن تدفع الملايين، انعدام إحساسهن بوجع 80 بالمئة من الشعب السوري الجائع مقرف، احترموا جوع الناس ولا تنشروا صوركن الباذخة،  لصق صورهن على الفيس بوك ثمة امرأة تكتب أنها موظفة راتبها 45 ألف ليرة سورية وزوجها موظف يقبض نفس الراتب وهي تقصد اللحام كل اسبوع لتشتري لحمة ب 2000 ليرة سورية فيعطيها اللحام قطعة لحم بحجم ما تتسع ملعقة طعام، وابنها الصغير ابن السنوات الست يحب اللحم ويبكي أين اللحمة؟ تقول له أمه: ذابت في الطبخ، فيجن جنونه ويقول اللحمة لا تذوب، هذه المرأة كتبت نصاً أدبياً في الواقع وهي تصف مشاعرها وهي تقصد اللحام كل أسبوع لتشتري لحمة بألفين ليرة، حتى أن اللحام صار يسميها: تعالي يا أم الألفي ليرة (صار سعر كيلو اللحم في سوريا 40 ألف ليرة) أن تجد كتابة تلك المرأة أمام نساء فاحشات الثراء يتبجحن بالثراء والرحلات وينشرن عشرات الصور على الفيس بوك تحس أنه يجب أن تقوم ثورة. لكن الناس خلال أكثر من عشر سنوات تمرمرت روحها من الذل والقهر واللهاث وراء لقمة العيش ولم يعد يعنيهم سوى ألا يموت ما تبقى من الأولاد !! فليدبكن ويرقصن ابتهاجا بالعرس الشعبي كالبهاليل، لأن الخوف يمسخ كرامة الإنسان ويجعله كراكوزاً وبهلولاً وأكثر ما يعبر عن حالة الشعب السوري وغيره من الشعوب العربية كتابي عالم الإجتماع (مصطفى حجازي: سيكولوجية الإنسان المقهور وسيكولوجية الإنسان المهدور) وحياة السوري تماماً تائهة بين القهر والهدر الوجودي لدرجة صار البعض يكتب: عايشين من قلة الموت أو نحسد من ماتوا ارتاحوا أو نحن أموات .

أخيراً أحب أن أنهي بمنشور صدر عن اتحاد الكتاب العرب (الذين تبنوا شعار الأمل والعمل ). يقول  المنشور: بمناسبة حلول ذكرى رحيل القائدين الخالدين الإمام الخميني (قدس سره) والرئيس حافظ الأسد (رحمه الله) فإن المركز الثقافي لسفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في اللاذقية وفرع اتحاد الكتاب العرب في اللاذقية يتشرفان بدعوتكم لحضور ندوة فكرية حول تعزيز ثقافة المقاومة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قدس سره) وفي ظل القائد الخالد حافظ الأسد (رحمه الله) وعنوان الندوة ( المقاومة في الفكر والثقافة والهوية )..

لم يعد مثل هذا الخبر يثير فينا أي ردة فعل.. بالعكس، هو خبر (عادي)، مثله مثل الكثير من الأخبار (العادية) التي تمر علينا. و خلف كلمة ( عادي تختبئ جرائم كثيرة ).

هذا هو الـ (عادي) في سوريا، أي هذا هو الجحيم .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *