الشعر والحياة متلازمان منذ اكتشاف الكتابات فوق جدران الكهوف، هما الاستمرار والطاقة المستدامة، ليس عبثا شغف الإنسان بالنبش في التاريخ وتتبع الآثار والحفريات وبذل الجهود في ترجمة ما اكتشف من لغات كتبت فيها أشواق الشعراء وهواجسهم وتساؤلاتهم وكما لو أنهم سلسلة واحدة متعاقبة تنقش على جدران الزمن ماهية الشعر وكل الطاقات التي يحتوي عليها، واحداً معاصراً من هؤلاء الشاعر السوري ‘‘نوري الجراح‘‘ كتب قصيدته / الملحمة ‘‘الأفعوان الحجري، مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا‘‘ ستكون السردية السورية القيمة المضافة إلى تلك السرديات الكبرى العابرة للزمان والمكان .
أجزم – ابتداء – بأن القصيدة تجريب غير مسبوق، في حدود معلوماتي في الأقل، في الشعر العربي ، ولاشك عندي بأنها مغامرة شجاعة في اقتحام هذا العالم المغرق في القدم بحمولته التاريخية والأسطورية والفلسفية والاجتماعية، نمط الحروب ، أسماء الآلهة المترحلة من شرق لغرب لشمال، كل هذا – وأكثر بالتأكيد سآتي على تفصيله أثناء هذه الدراسة- حملته قصة حب ليست قيس وليلى ولا روميو وجولييت وأشباههما، لأقل إنها قصة حب فدائية – إذا جاز التعبير – لأنها أيضا قصة تحرير وحرية، ملتقطة من براثن بلاد متباعدة ، شعوب وقوميات، حكام أباطرة وجيوش نظامية ومرتزقة ومحاربين ونخاسين، وآلهة مختلفة فيما بينها ومختلف عليها ، من بين هذا وأكثر تنبثق قصة الحب بين الصبية ذات الضفائر الحمر ريجينا المسترقة من قبل الرومان، والفارس ‘‘برعتا / براتيس‘‘ التدمري القادم من سوريا فارسا بالجيش الروماني إلى أرض بريطانية ، ليلتقي بقدره عند سور القلعة المتلوي ‘‘كأفعوان حجري‘‘ يلتقي ‘‘ريجينا‘‘ الصبية المستعبدة ، وتكون انعطافة حياته الكبرى: يبزغ الألق الإنساني.. الضوء العابر من ‘‘الضباب‘‘ والـ ‘‘اليم‘‘ و‘‘السور الحجري الأفعواني‘‘ ، ويملأ الحب القلبين والجسدين والأرض والسماء وما بينهما، ويحرر ‘‘برعتا‘‘ السوري ‘‘ريجينا‘‘ السلتية من عبوديتها . يزودنا الشاعر بصفحتين فيما يبدو أنهما تعريف بالقصة الشعرية يسميهما ‘‘ما قبل القصيدة ‘‘ تختزلان تفاصيل ضرورية للتعريف بثيمة القصيدة ، والدافع لكتابتها، ومصدر إلهامه سأنقل بعض الأسطر منها : ( تنبئنا تلك الكلمات السورية المعدودة بأن برعتا التدمري حرر المرأة من العبودية، وسماها ريجينا برت حري ‘‘ريجينا المحررة‘‘ لتغدو ملكة قلبه ومحرِرَته من العبودية، بعد زمن لم يطل فقيدته الكاسرة قلبه في الثلاثين، لم ينس ‘ بطل هذه القصيدة، أن يضيف إلى ذلك الشاهد الحجري في سطر ذي حروف تدمرية متصلة هويته السورية . سطر تدمري يتيم في حجر روماني أشعل مخيلتي، وله أدين، وتدين هذه القصيدة‘‘ .
العنوان / العتبة
يسير العنوان هكذا :
نوري الجراح
سيرنادا شرقية
الأفعوان الحجري
مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا
نعثر في هذا التشكيل للعنوان المؤلف من أربع فقرات تبدأ باسم الشاعر ‘‘المؤلف‘‘ ، منفصلة شكلا متعالقة مضمونا، على مفاتيح قراءتنا للقصيدة، فسيرينادا نوع من الموسيقى يصاحب أغنية تغنى في الليالي تحت شرفة المحبوب لبث حبه و / أو لتكريمه كما جاء في ترجمة الكلمة، كما درج عليه المحبون في القرون الوسطى في روما وجوارها، ‘‘شرقية‘‘ لأن بطلها قادم من الشرق من ‘‘تدمر السورية‘‘، وقد استبق هذا العنوان الفرعي العنوان الرئيس ‘‘الأفعوان الحجري‘‘ وهو السور الروماني ‘‘المتلوي كأفعوان حجري‘‘ الذي عاينه الشاعر في الجزيرة البريطانية وقدم صورا له ولكل ما شاهده في المنطقة من آثار الموقعة الرومانية / البريطانية وصولا إلى ضريح الحبيبة والحجر اليتيم المنقوش فوقه إسم ‘‘برعتا التدمري‘‘ عقب كل فصل من فصول القصيدة ، ثم العنوان الفرعي الثاني مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا‘‘ ، وهنا يحدد نوع الغناء في القصيدة ‘‘الرثاء‘‘ ، إذن قصيدتنا / الملحمة ‘‘سيرينادا‘‘ أغنية شرقية مرثاة كتبت تكريما للمحبوبة ‘‘ريجينا‘‘ الصبية التي ماتت في الثلاثين وكسرت قلب فارسها المحرر / الشاعر هذه المرة، الذي حررها مرة ثانية من أسر الموت الطويل ، وبعثها أيقونة سورية عابرة للزمان وللمكان ، خيط من موسيقى حزينة نسمعها الآن ، آن قراءتنا للقصيدة، كما لو أننا نسمع حزن ‘‘برعتا‘‘ عبر نقش اسمه التدمري / السوري إلى جانب إسم حبيبته ‘‘ريجينا السلتية‘‘ . أعترف بأن مغامرة الدخول في عوالم القصيدة ومحاولة التقاط ذاك الخيط الطويل الطويل المنسوج من حزن ورقة ، وآلام إنسانية، وأيضا من هجاء مقذع للحروب ومن يشعلها، وتوق مثل الجمر للحرية والتحرر، فضلا عن التساؤلات الوجودية عن الإله الذي يُسأل ولا يجيب، عن جدوى الحياة ذاتها وهي تعيش رحلة آلام طويلة ، عن الموت وهو أقسى آلام الفقد، على سبيل المثال لا الحصر، أجازف بالقول إن القصيدة لا تمنح نفسها بيسر للتحليل من خلال أسلوب تأليفها وموضوعها و لغتها ، لكنها مغامرة تستحق المجازفة في خوض غمارها وأرجو أن أضيف سطرا إلى كل ما كتب فيها ، وعنها ، ولها .
بدايتي ستكون بالحديث عن الإهداء الذي كتب بصيغة ‘‘لأجل‘‘ وجاء مباشرة قبل القصيدة، عميق الدلالة في ارتباطه بأحد مقاصد الشاعر من قصيدته نقرأ : (إلى س.ر ما تزال خطوتك تسمع في الغرفة الأخرى)، القصيدة إذن كتبت لأجل من رحلت ، ومهما أوغلت في الابتعاد في الزمان، مازالت تتمشى في دهاليز الذاكرة وتسمع خطوتها في الغرفة المجاورة ، وكما لو أنه الخيط نفسه يصل حكاية الفارس التدمري ‘‘برعتا‘‘ وهو يخط على الضريح إسم حبيبته ‘‘ريجينا‘‘ بلحظة الشاعر المنفي قسرا عن وطنه والفاقد لحبيبته، ويأتي عنوان القصيدة ‘‘الأفعوان الحجري متوسطا بين الاسمين ، وفي هذا تماهيا لاشك فيه بين الشاعر والفارس التدمري، إذ هما مشتركان في أصعب ثلاثة أمور : الوطن ‘‘سوريا ‘‘والمنفى القسري ‘‘الجزر البريطانية‘‘ والتوق الجارح القابض على الجمر إلى الحرية والتحرر والتحرير: الشاعر من الاستبداد وحكم الطغاة اللذين تسببا في منفاه ثم أغرقا سوريته / وطنه بحرب ظالمة ، والفارس الذي ربما جند إجباريا في جيش ‘‘روما‘‘ التي كانت سوريا إقليما في إمبراطوريتها، ويبدو أن الفقد أيضا قاسما مشتركا رابعا، هل أقول أن الشاعر حين اكتشف قصة الفارس وزار المكان وشاهد بالعين إسم الفارس منقوشا بالآرامية إلى جانب ضريح الحبيبة التي منحها لقب ‘‘الملكة‘‘ بعد أن حررها ، عثر على قصيدته / الملحمة ؟ فيكون برعتا التدمري قد حرر ريجينا السلتية من العبودية وحرر قصيدة الشاعر التي كانت ثاوية طي القرون ؟ نعثر على تساؤلاتنا هذه وغيرها في فصل نثري سماه الشاعر ‘‘ما قبل القصيدة‘‘ ، وفيه تعريف بالفارس الجندي في جيش روما، ولمحبوبته السلتية التي حررها من ‘‘النظام العبودي لروما ، منه أقتبس السطر الأخير : (سطر تدمري يتيم في حجر روماني أشعل مخيلتي، وله أدين، وتدين هذه القصيدة) ، لكن عليّ أن أسارع بالقول أن الشاعر لم ينخرط في تجربته التواصلية هذه عن وعي وعمد، بل إن ما فعله هو شيء جميل بحد ذاته، عمل شعري عظيم ونبيل، وأنه عمل معبر – بصورة غامضة – عن عواطفه ونفسه وتجاربه ، التي تصادف أن كان لها أثرا مماثلا في غابر الزمان، وهو إذ وجد في تلك القصة المكتشفة عن الفارس السوري التدمري ومحبوبته العبدة التي حررها بعدا تواصليا مؤكدا، وجد ما سمّاه ‘‘الإلهام‘‘ فكتب قصيدته . ونجد – بعد انتهاء القصيدة فصلا شعريا بعنوان ‘‘ما بعد القصيدة‘‘ وفيه يفصل ما جاء في القصيدة مجملا ، أو ما وجد أنه يحتاج إلى المزيد من الكتابة الشعرية فيه، وأخيرا ثبتا طويلا في أسماء الأماكن والبحار والأنهار والملوك والأباطرة والآلهة التي ورد ذكرها في القصيدة والتعريف بها .
تفتتح القصيدة بمقطع يحدد مكان القصة ‘‘عند السور المتلوي كأفعوان حجري‘‘ ، وهو يومئ لنا بأن وجود الفارس فيه لم يكن إلا مصادفة مدروسة من القدر ليكون ذاك اللقاء ، بادئا بغناء خافت متماوج بين التساؤل وتقرير الحال ووصف الواقع ، وصف المكان والمحاربين الذين أتوا من أماكن متعددة مختلفة من بينها بلاد مابين النهرين وسوريا ويذكر الفتاة المجلوبة مع ‘‘نخّاس صقلي صحبة ‘‘فتية مردة‘‘ التي سمع صوتها يردد اسمه ، ونترك في حيرة من أمرنا: هل سمعها تردد اسمه وهو في الديار فجاء مع المراكب وصار مع جيش قيصر ؟ أم سمعها وهو في جيش قيصر القريب تردد اسمه وفي الحالتين تبع النداء ؟
لولا أنك ِهنا ،
لولا أنني ترجلت عن هذا السور المتلوي كأفعوان حجري
ورددت السيف إلى صاحب السيف،
هل كان يمكن لي أن أقف في نهار
لينادى عليّ من أحد ،
لولا أنكِ هنا
لولا أن صوتك ردد إسمي في هذا الصقع من الأرض .
الأمواج حملت مركبي جهة الغرب وصرت في جيش قيصر
فإذا تابعنا القراءة للمقاطع التي تليه وهي مقاطع تراجيدية بلغتها الوصفية والخيال الباذخ، وشكل ‘‘الكتلة‘‘ النثري الذي كتبت به حيث السطور الشعرية المقطعة – التي كتب بها المقطع الأول – لا تتسع للدفقة الشعورية والأحاسيس المتشابكة المتضادة المتصارعة، في وصف الجيوش التي جاءت من جهات الدنيا والتحقت بجيش قيصر في ‘‘ذاك الصقع من الأرض‘‘، فمن لغة رقيقة شفيفة مرتبطة بالأنثى الحبيبة ، إلى لغة وصفية صلبة صلدة قاسية تصف جنودا ‘‘يموجون فوق عربات تحمل الدروع والحراب والرايات‘‘ غارقة في خضرة غابة قاتمة، وضباب بلاد غريبة أمام فرسان ‘‘موشومين‘‘ قادمين من صحراء شرقية، فلنتابع هذا المشهد :
أطوف بحصاني السّرتي ، الهواء البارد يلفح عرفه الأسيل
الهواء المبلل بدماء الموشومين المتدافعين يصفع وجهي
وهؤلاء التدمريون الشجعان يوترون الأقواس في الحصون والأبراج،
ويموجون على عربات تحمل الدروع والحراب والرايات .
في الاستعراضات ، يظهرون بحواجبهم السوداء العريضة، وسحناتهم التي لوحتها شمس بعيدة، في النهارات والليالي يجوزون أميالا بعد أميال في عماء الخضرة تحت سماوات مدلهمّة، وطائفة على الرؤوس، ليتربصوا بمن هبت عليهم الغابات وأرسلتهم الطبيعة ليترجموا أهواءها جولات ِ دامية ) .
يحيلنا هذا المقطع إلى لغة الحلم، نحن أمام حالم يقص حلمه لأقرب المقربين إليه، حريصا على ذكر أدق التفاصيل ، بل إننا نشعر- بعد الفواصل – أنها استطرادات لقول أمر ما غفل عنه، إلى هذا الحد تبدو اللغة ‘‘حلمية‘‘ ، تنضح من اللاوعي ، وهي أقرب إلى حدوس واستبصارات منها إلى العقل الواعي، حركية ديناميكية ترسم مشاهد سينمائية وتقترب من ‘‘الروي‘‘ كي لا ينقطع حبل الحكاية، بحيث نقرأها بنَفَس واحد ، فأما الخيال فهو ذاك الذي يحفز بصوره المتلاحقة ومشاهده المتحركة بشخوصها أمامنا، طاقاتنا الذهنية وانفعالاتنا ويمنحنا الدهشة واللذة وأيضا بفضل تقنية توظيفه في أسلوب السرد بحسب تيار الوعي، خيال ذكي جميل تمثله – من بين أشياء أخرى – الاستعارة المبتكرة والمجاز الجاري بخفاء ، وموسيقى المعنى التي لا نملّ من تقصيها في عروق النص، ومرات في اقتراح لمسألة لم تكن في حيز وعينا، يحبك كل هذا صياغة قوية بجسدها الفصيح المكتمل . كل ما أتيت على ذكره – وهو القليل – كان مخبوء طيّ ركام من التعود على أنماط من التأليف، لكنّ هذه القصيدة منحتنا تجربة جمالية مختلفة وجديدة ، تثير الدهشة وتحرر المتكلس ليس من العواطف والمشاعر والأحاسيس، لكن أيضا في تحفيزنا إلى قراءة التاريخ والشعر معا برؤية مختلفة، وتكتسب صور الشاعر قيمة كبرى ثانية في تلاوينها الموسيقية للأصوات ‘‘الحروف‘‘ وتنويعاتها في ‘‘التراكيب‘‘ ،فيتفاعل الحس الموسيقي الشعري مع الصورة البصرية ، وبهذا تجتمع حوافز عديدة لتحرير انفعالاتنا، كما في هذا المقطع :
في العاصفة‘ وقد جزنا بحر الروم ، صلّيت لك يا عشيرة ، وأنت ربة هذه الأمواج
لك صلّيت ،
وللبعل أعطيت أمنيتي .
ولما رأيت اليابسة ، رأيتك تغسلين قدمك قرب النهر ،
رأيت الضوء يتقطّر،
من كاحلك ،
ورجوت إيل في عليائه ، أن يبارك عيني التي رأت .
تجتمع أنواع الموسيقى في هذا المقطع : الصاخبة مع العاصفة، الخافتة مع الصلاة لتنتهي بما يشبه الترنيمة في الخاتمة، لتشكل هارموني بديع مع إيقاع السطور الشعرية التي عاد إليها في حالة البوح الفاتن لعشقه والمؤثرات العاطفية بالإضافة إلى الأحاسيس الناجمة عن تأثير الصورة وكسر توقعنا حيال معناها إذ تبلغ الذروة في هذه القفلة فائقة الجمال :
ورجوت إيل في عليائه ، أن يبارك عيني التي رأت .
تتداخل ثيمتان وتتناوبان مقاطع القصيدة دون أن يلحظ بينهما انقطاع وكأن التاريخ البشري ليس سوى هاتين الثيمتين تتخللهما استراحات المتحاربين وتوطين اللاجئين في منافيهم وأضرحتهم : الحب ، والحرب ، وفي ثناياهما تتشابك موضوعات وتساؤلات عن الحياة هناك في الوطن ‘‘ تدمر / سوريا ويحضر اسمها أكثر من مرة، وأسماء آلهتها، ونباتاتها ومناخها الصحراوي، ويحضر ال ‘‘هنا‘‘ في الجزيرة البريطانية عند السور ‘‘المتلوي كأفعوان حجري‘‘ قرب الغابة الغارقة في عتمة قاتمة :
كيف لي ، أنا برعتا بوجهي الملوّح بشمس تدمر ، أن أمدّدك في شغاف الصمت في غيبوبة السرير ، كيف أستعيدك من غابة الذئب، أنا الطائف بالكتان الدمشقي ، وبالأقطان، على بلدات هاربة من صخب المشاة ، وجلبة السيوف، وضجيج أساطيل النهر
كيف أستردك من صمت الغابة وتيه النهر
كيف لي
كيف لي
يليه هذا المقطع الذي يبسط مشهد الحرب :
(كيف ارتقيت السور وميزني قائد المائة الإيبيري ،
بمسوحي التي باركها البعل ؟
صرت صاحب القوس والرامي الذي اصطاد بالسهم كبد الغابة
نفّرت بسهامي دم السلتي اليافع ،كما يفعل سهم الصائد بدم الطريدة .
وها إنني في الليالي الهوجاء، عندما يضرم الحراس نيرانهم ، الريح تسخر مني وتسمعني أنين المحارب الذي أقبل على السهم ، وتترجم لأذني المتجمدتين كلماته الأخيرة . )
هذه الدفقات العفوية للمشاعر التي تشبه الأمواج القوية تلف القصيدة / الملحمة بأكملها ، وقوة الخيال المسبوك في الصياغة واشتباك كل ذلك في روح المعاني وظلالها، تلفنا أيضا، نحن القراء ، وتحرر فعالياتنا الضمنية النائمة في سهو العاديّات .
ولكي لا تكون المحبوبة ريجينا غير مرئية إلا من خلال فارسها المحرر، فهي أيضا لها ما تقول ، لها مساحة البوح بلسانها .. هي المحبوبة المحررة التي نادت فارسها قبل أن تلقاه وكان النداء قويا ليصل المسافات الشاسعة حيث سمعه ‘‘برعتا / باراتيس‘‘ وهو في موطنه – بحسب ما أحب أن أفسر الحدث – ريجينا بعد تحريرها باحت بما عندها ، وعبّرت عما بها بلغة الأنثى ذات الحياة القصيرة القاسية ومشاهداتها المحدودة ، لغة الأنثى الخام :
(صوتكَ الذي أقلق نوم الآلهة أنهضني من رقدتي …،
صوتكَ يكسر العتمة
وينزل ،
ليطلب يدي من رخام الموت .
أسمعتَني صوتكَ
لأسمع ،
وأعطيتني يدك ،
لأنهض ..
فلأنهض إذن، وأمشي معك جهة النهرِ ،
وطوال نهارٍ أرى الهضاب تتعالى، والشمسَ تهيم على الماء
أنا لست أميرة من الشرق ، ولم أتنزه يوما صحبة فتى في حدائق روما ،
لكنني اضطجعت في جوارك ،
تحت غيوم ضاحكة
لأستلّ من يدك التي قطفت لي التوت الشوكة َ التي جرحت يدي) .
نعرف في السطور الأخيرة من المونولوج أن ريجينا ماتت :
صوتك يسبق خطوتك على أرض نومي
وراحتك السمراء تملأ قميصي ..
فلأنم إذن ،
في دعة ،
ولأكن زهرة الغيبوبة في غابة النوم .
( صوتكَ يسبق خطوتك على أرض نومي
وراحتك السمراء تملأ قميصي ..
فلأنم إذن ،
في دعة ،
ولأكن زهرة الغيبوبة في غابة النوم)
برعتا المفجوع بموت حبيبته / زوجته غير المصدق ، التائه في الأسئلة، الغاضب من الآلهة يختتم مرثاته في هذه الأبيات التي تغلق قوس البداية ‘‘ لولا أنك هنا‘‘:
آلهتي عمياء ، ولا ترى ، وهذا الربيع حطام خطوات على أرض تتفلق ..
الضباب يهجم، الضباب يهيم على المنحدرات، الضباب يأكل حطب الشتاء والدرب المتربة وراء البيت، الضباب يهوي بفأسه ويقصم ظهري ، عيناي حيوانان طريدان ، وجسدي حفرة مظلمة في شتاء مظلم ..
سهام
ملأ
الحفرة
لولا أنك هنا يا ريجينا ؟
لولا أنني هبّة اللات لروح الغابة ، وأنت مرح الضوء بعد طيش الغزالة ..
هل كان يمكن أن أفتكّ يدك من مخلب النسر ،
وأعطي راحتي لقدمك المجنحة ،
وحصاني الخفيف لقدمك الجامحة ،
لولا أنني التدمريّ الذي أبدل الكتان بالسيف ،
وقدم لبعل قلبه ليكون الأضحية
ما بعد القصيدة :
أتوقف عند الفصل ‘‘ما بعد القصيدة‘‘ وهو ‘‘أصوات وأنشودات‘‘ كما جاء بالعنوان الفرعي له، تفصّل ما جاء مجملا في إشارات سريعة وإيحاءات وتلميحات في القصيدة الأم ‘‘مرثاة برعتا‘‘، كما نوهت سابقا وبالتالي هو فصل مرتبط عضويا بها ، مثلا في تفصيل وشرح عن ‘‘الموشومون‘‘ الذين ورد ذكرهم في مقطع مبكر من القصيدة – وهي الشاهد الثاني الذي أوردته في القراءة – نجد قصيدة ‘‘ولادة المحارب‘‘ نعرف منها أن ‘‘الموشومون‘‘ هم السلتيون الذين خرجوا من الغابة لمحاربة الرومان للدفاع عن أنفسهم ونمط عيشهم وهويتهم وكان هذا كافيا لانضمام ‘‘برعتا‘‘ لهم ، ربما لأن التدمريين سبق وفعلوها بقيادة الحاكمة العظيمة ‘‘زنوبيا‘‘ حين حاربت روما للأسباب نفسها، نتابع المشهد في ‘‘ولادة المحارب‘‘ وفيها نعرف من أين أتت صفة ‘‘الموشومون‘‘ ومن أين خرج المحاربون :
سنجمع لك الأزهار من كل سهل وهضبة ‘
وعندما تجف ، ويلهو بها الهواء
سوف نسحقها في الأجران
إلى أن ينزل متسلق الجبل في حجر اللازورد
ليفعم بالألوان وجهك وكتفيك وكاحلك ،
وربلة الساق ،
سننشد لأودن ، ليصير ما يحب لك أودن أن تصير .
إذ ذاك يخفق جناحان بالصبي الذي كنت ، ويتوارى طائر في غابة الخيزران .
المحارب يخرج من الغابة .
القصيدة الثانية هي ‘‘أصابع جوليا دومنا المفقودة ‘‘ ، فيها نجد قصة ‘‘مقتلة الأخوين‘‘ حين ينقض الجندي الذي أرسله ‘‘كركلا ‘‘ على أخيه ليقتله ، تقف بينهما الامبراطورة الرومانية السورية الحمصية ‘‘جوليا دومنا‘‘ وهي أمهما للحؤول بينهما فيقطع السيف أصابعها الثلاث، أجد في هذه القصيدة أكثر من دافع لتكون متممة لما جاء من أخبار التدمريين في القصيدة الأم من جانب أول، ولروايات التاريخ حيث كركلا الإمبراطور السوري الحمصي لروما إبن جوليا دومنا العظيم الذي وظف أكبر المشرعين ‘‘بابيان‘‘ الروماني ليشرع مرسوما لمساواة جميع الشعوب الخاضعة للإمبراطورية الرومانية بالحقوق مع شعب روما – وهذا من أهم وأعظم إنجازاته المدنية – لكنه أيضا الرجل الذي قتل أخاه من أجل العرش وقطع أصابع أمه الثلاث حين تصدت للذود عن ابنها ، وليس هذا بتفصيل ثانوي، بل إحدى سلاسل النفس الإنسانية حين تهزمها نوازع التسلط والتشبث بالعروش ولو كان الثمن قتل الأخ وربما الإجهاز على الأم، هذا هو المشهد :
كم مرة سيغمد كركلا سيفه في أحشاء الجندي الذي بتر أصابع الإمبراطورة
‘‘كان المقصود قتل الشقيق
وليس تشويه يد الأم ‘‘
هكذا كتب المؤرخ في صحائف ذلك اليوم .
أما هي سيدة روما المتحدرة من سلالة سورية نبيلة ،
فلن تلتفت لتنظر أصابعها التي بترت وطاشت على الرخام ،
ولا الدم الذي طاش ولطخ الأرائك
جسدها الذي استشعر نصل الشقيق على نحر الشقيق
تخدّر ، فجأة
سأكتفي بهذا القدر من هذا الفصل الذي أجد فيه أن سوريا- آنذاك – كان لها دورا حضاريا في الإمبراطورية الرومانية، وأيضا كان لها ‘‘أما‘‘ حاولت الذود عن ابنها ومنع جريمة سيقترفها الأخ في حق أخيه، لم تفلح، لكن كان لها شرف المحاولة ، وأن ‘‘ما كان‘‘ هو ‘‘ما سوف يكون‘‘
بعد قرون متطاولة ، ولكن سوريا ستكون يتيمة الوالدين، وما من أحد سيمد يده ولو من أجل وقف نزيفها .
تبقى قضيتان هامتان أود الإشارة إليهما : الأولى الانتقالات الزمانية / المكانية في جدلية كاملة السبك والصوغ في معمار القصيدة ، منذ ‘‘برعتا باراتيس التدمري الفارس المحرر‘‘‘‘ وحتى اللحظة هنا / والآن ، لحظة السوري الشاعر نوري الجراح وهو يحرر قصيدته ويحرر الاثنين ريجينا وفارسها من موت تراجيدي طويل، وطوال الحقب تلك التي يوصلها إلينا في قصيدة / ملحمة لينقل لنا مأساة السوري الذي كان منذورا للحرية يطلبها كأسمى وأثمن ما في الوجود وهي عروسه ‘‘وتاج رأسه‘‘ كما عبّر أحد المتظاهرين في بدايات الثورة السورية السلمية – وهو برعتا معاصر – عن امرأته حين طالبه الأمن أن يسلمها لهم ويفوز بإطلاق سراحه ، فرفض، وللقارئ أن يربطها بالاستعارة الكبرى : المرأة / الوطن / الحرية ، القضية الثانية التي تكتسي أهمية كبيرة هي علاقة الأخلاق بالفن ، صحيح أن التجربة الجمالية تجربة قائمة بذاتها وبالإمكان دراستها بمعزل عن أي عامل خارجي سوى شروطها، لكن من الصحيح أيضا أن الفن عامة – والشعر بخاصة – كلما كان بوسعه أن يكون منحازا للإنسان، وللمضطهدين ، وكلما وسّع مساحة التعاطف الإنساني وامتلك العاطفة والإحساس بالعدالة للبشر أجمعين، كلما عزز العواطف والأحاسيس ذاتها في الناس والعالم، وصل لأجمل وأكمل مكانة. الشعر يضفي معنى على العالم ويجعله مختلفا ويجعل الحياة أقل بؤسا ويفتح أفقا لإمكانية خلق السعادة ، وأزعم أن الشاعر السوري نوري الجراح منح لسوريا وللسوريين سرديتهم لحياتهم المسروقة ، ومنح العالم أيضا فرصة توسيع الرؤية والنظر بتبصر لهذه الجغرافيا التي خرج منها فارسا تدمريا حرر فتاة سلتية من نظام الامبراطورية الرومانية العبودي .
أخيرا هذه قراءة لم تحط بكل ما يمكن أن يقال ويستنبط من عناصر جمالية تطال البنية والمعمار والخيال والموسيقى والموضوعات والأشكال التي كتبت بها، هي قراءة أولية أرجو أن تكون التقطت بعضا من تلك العناصر وأضافت سطرا جديدا مختلفا .