استهلال
شروق إغباريّة (1977)، تقيم في بلدة كفر قرع في المثلث الشمالي، قضاء حيفا. تملك غاليري الفن التشكيلي “مندلا” وتحمل شهادة بكالوريوس في علم السلوك، وماجستير في العلاج بالفنون البصريّة، مؤسسة مركز “مندلا” للفنون والعلاج بالفنون. وتنشط الفنانة شروق إغباريّة في العمل المجتمعي، وهي صاحبة مبادرات للعديد من الأنشطة الاجتماعية والفنيّة، منها: إدارة وتنظيم العديد من المعارض في صالة العرض “طلعة عارة” لمدة ثلاث سنوات، كما أنها عضو ومنسقة في هيئة الفنون لـ “طلعة عارة”. وتمثّل أعمال لفناة شروق إغباريّة مسيرة ينعكس من خلالها البحث عن الذات\ الآخر، والتي تتمثّل في تأثير المكان الذي يعبّر عن الفضاء الثالث لدى كل فنان. وتظهر قدراتها من خلال تنوّع المواضيع والأساليب في لوحاتها، بين الرسومات التجريدية، نقية اللون، وبين التجريدية المكثفة والمركبة. ذلك التنوّع يمكننا وضعه في خانة البحث عن البناء الذاتي، الذي يقع في صلب مشروع الفنانة شروق إغباريّة الفني
شاركت الفنانة في معارض عديدة في البلاد وخارجها، آخرها معرض “حارسة نارنا الدائمة” 1019 في متحف ياسر عرفات في رام الله.
…….
حين يتمعن الناظر في الملامح الهادئة للفنانة شروق صبيحات – اغبارية يشعر بهدوء ينبعث من داخلها. لكن ذلك الهدوء يخفي وراءه حركة تشابه انتقال الفراشة بين أزهار الحقل. شيء من طفولتها، حيث كانت تجري بفرحٍ وانطلاق على التلال المحيطة بقريتها “سالم” ما زال حاضراً داخلها. تقع القرية في منطقة المثلث، وهي محاطة بطبيعة خضراء وقريبة من البحر مما يُشعر الطفلة بأن الأفق بعيدٌ جداً، بأن لا حدود، ويُخفي عن عقلها الصغير الحقيقة. فتلك القرية تقع قريباً جداً من الحدود التي تفصل بين شقي وطنٍ واحد، كل شقٍ بتعقيداته. هو هذا الوطن الذي سوف يأخذ جماله وحزنه حيزاً كبيراً ومميزاً من لوحاتها فيما بعد. ولربما كان التناقض بين اتساع الأفق وضيق الحدود مؤشراً للعوامل التي سوف تتحكم بحياتها في مستقبلٍ بات يقترب، تحجزها تارةً وجيزة إلى أن تجد المنفذ الذي سوف يمكنها من إزالة الحواجز، واحداً تلو الآخر.
تتعامل شروق مع الرسم على أنه جزءٌ منها يخرج بواسطة المواد، نوعٌ من العلاج لنفس الفنان ولغيرها، بالمفهوم المجازي والحقيقي. كما وتُعطي للطبيعة التي أحاطت بها في سنوات الطفولة دوراً كبيراً في وضع الأسس التي سوف تُبنى عليها قدراتها الفنية فيما بعد. ومع ذلك فإن علاقتها بالطبيعة قد توقفت لبرهة زمنية طويلة عندما انتقلت الفتاة التي كانت ما زالت في طور الخروج من عالم الطفولة، بشكلٍ مفاجئ وسريع، إلى عالم البالغين والحياة الزوجية في قرية “مُصمُص”. عالمٌ جديد، سرعان ما تدخل به أيضاً إلى حياة الأمومة، ربة منزل وفردٌ داخل عائلة واسعة ومتداخلة.
وبالرغم من الهدوء الذي كانت وما زالت تسبغه على مُحيطها، إلا أن سرب الفراشات الذي كان يتحرك داخلها باحثاً عن زهرات الروح بات يحاول اختراق الدائرة التي كانت تُحيط بها وتحدد طموحها ومجرى يومها، فبدأت بمساءلة الذات. وكان أول ما وصلت إليه هو توقٌ للخروج من موقف المتفرج والمُتلقي لمكان المتداخل والفعال، وكان ذلك كافياً لكي يمنحها رغبة بالانطلاق. وبقرارٍ سريع آخر قفزت لتتخطى جميع الحواجز وتبدأ مرحلة جديدة من حياتها، تباشر بها دراستها الجامعية في موضوع العلوم السلوكية، وتنهي دراستها مع ولادة رابع أولادها.
في هذه المرحلة تكون الدائرة قد اتسعت حولها وفي ذات الوقت كثرت مسؤولياتها، ومع ذلك فقد أصبح في وسعها أن تسرق بعض الوقت من ساعات نهارها الممتلئ لكي تخرج في نزهات في الطبيعة التي تحبها، وينمو داخلها حبها للخيول. فهي مصدر إلهامٍ لها، تتمايل روحها مع حركاتها المتناسقة، الجامحة حيناً والمنسابة أحياناً. تسمع من خلال قفزها صهيلاً – هو هتافها، وتقرأ في اتساع عيونها كلاماً- هو حديثها. تُخزّن كل ذلك في ذاكرتها دون أن تدرك السبب، ولكن الجواب الذي كان حين ذاك ما زال مختبئاً في عالم الغيب سوف يظهر بعد حين داخل لوحاتٍ، من أجمل ما رسمت يداها.
بعد إنهاء اللقب الأول كان واضحاً لديها أن الدراسة قد فتحت أمامها باباً واسعاً، ولذلك قررت أن تكمل دراستها للقب الثاني في موضوع العلاج بالفن. وفي الحقيقة، لقد أخفى ذلك الباب خلفه ما كانت تبحث عنه دون أن تدرك ما هو، فلقد كشفتها دراستها للقب الثاني على عالم الفنون والرسم تحديداً. وتعتبر شروق تلك المرحلة مفصلية في مسارها العلمي والعملي, فلقد اكتشفت لدى نفسها توق شديد لمواصلة الرسم، وراودتها مشاعر تتراوح بين البسط والرغبة الشديدة على تأكيد القدرات، والاستغراب من انجذابها لما هو غير تقليدي. ووجدت في الرسم المكان الذي تجد به ذاتها على حقيقتها، دون قيود، تدخله باختيارها وتسرح به، عالمٌ عميق تجد نفسها به منطلقة دون حدود، العالم الذي تريده.
واصلت شروق الدراسة والتدريب وتعلمت التقنيات المختلفة بشكل فردي أو بالمشاركة بدورات خاصة، وباتت تشارك في المعارض الفنية وتزور معارض الفنانين. ومنذ البداية اختارت تقنية الرسم بالزيت على القماش لجميع أعمالها، واختارت ان تكون اللوحات على مساحة كبيرة نسبياً.
لوحاتها الأولى كانت واقعية تتسم بالفرح والانطلاق. فهي كثيرة الألوان، مواضيعها هي الطبيعة المبهجة. ومع ذلك يمكن لمن يُمعن بالنظر أن يلاحظ فيها الحضور الطاغي للآفاق وللذي يجعلك تنساب مع طبيعةٍ هادئة او تصخب روحك مع نهرٍ هائج، أو تسرح بفكرك مع ماضٍ تراه من خلال بقايا بيتٍ قديم. تأثرت شروق أيضاً بأسلوب فان جوخ الذي يربط بين الواقعية والانطباعية، فتخرج أعماله بانسيابية مبهرة. ولقد ظهر تأثرها بأسلوبه هذا في لوحة “النهر”، التي تُظهر منظر واقعي بأسلوب انطباعي توحي للناظر أن الخريف حاضر داخلها، بألوانه وبالرياح التي تُحرك فروع الشجر. فاذا قارننا هذه اللوحة مع موضوعات مشابهة في لوحات فان جوخ يمكننا ملاحظة التشابه في الانسيابية والانحناءات، وفي تجسيد السرو وفي الخطوط العامة للتلال.
أنتجت شروق العديد من اللوحات في تلك الفترة، وشعرت بالاكتفاء الشديد من عملها، ولكن ذلك لم يمنعها من المضي نحو مرحلة جديدة، تجمع بين الواقعي والتجريدي، في مجموعة جديدة من اللوحات.
يعتمد الفن التّجريديّ على بساطة الأشكال والألوان، وأدوات الإيماء في إحداث أثره, كنوعٍ من أنواع الفنون التي تمتلك طابعاً معنويّاً، ومُنظمّاً، ونقيّاً، مبتعداً عن الوصف الدّقيق لواقعيّة الأشياء أو طبيعتها. وتقوم فكرة الفن التجريدي الأساسية على القيام باختزال الأفكار وتشكيلها بالألوان دون توضيح للخطوط داخلها.
لشروق مجموعة لوحات عن الخيول المعروفة بكونها حيوانات نبيلة، ملكت خيال البشر منذ فجر التاريخ، وكانت احدى مواضيع الرسومات التي غطت حيطان كهوف الانسان القديم. ظهرت الخيل في العديد من الأعمال الفنية الرائعة، من الفترة اليونانية وحتى العصر الحديث. وفي عصر النهضة اشتهرت لوحات لليوناردو دي فينشي، تظهر الخيول بشكل حي وواقعي، كما وظهرت الخيول في أعمال لبابلو بيكاسو وسلفادور دالي وغيرهم من فناني العصر الحديث.
ترمز الخيول للجمال والقوة والعنفوان، وهي في انطلاقها في الحقول تُجسد الحرية التي كانت تستمتع بها الفنانة في رحلاتها بين التلال، وهي في انطلاقها ترمز للشجاعة وقوة الإرادة اللواتي تحلت بهن شروق عندما اختارت مسارات حياتها، وأصرت ان تشق طريقها متحدية جميع الصعاب. وقد عملت شروق على إنشاء اللوحات التي تجمع بين الفن التجريدي والواقعي، مستعملة طبقات من الألوان التي تغطي بعضها البعض بشفافية، مما يخلق ألوانًا فريدة من نوعها تمتزج بإنسياب مع شكل الحصان، بحيث تجسد لحظة من انطلاقته او استكانته.
في لوحة “أناي” المثيرة، تُظهر شروق نفسها على شكل فرس، وتدمج حبها للخيول مع انساجمها داخل أعمالها الفنية. ولا يمكننا التغاضي عن الوضعية التي تقف بها الفرس والتي لايمكن وصفها بالعادية. تبدو الفرس وكأنها تدير ظهرها للناظر وتختار بنفسها وجهتها والتفاتاتها، فتعبر بذلك وبشكل واضح عن رغبة الفنانة الاختيار لحياتها ولعملها ما تريد.
استمرت الفنانة بالعمل على اللوحات التي تجمع بين التجريدي والواقعي فأظهرت مناظر طبيعية من داخل خلفية ضبابية توحي بالغموض وتُحفز على التعمق باللوحة من اجل انتشال الأفكار المتوارية داخلها. يمكننا ملاحظة ذلك مثلاً في لوحة “زهرة برية”، والتي تظهر بها زهرة الصبار على خلفية تعكس ألوان الطبيعة، كالأزرق السماوي وألوان السماء، وخضرة النباتات والماء. وإذا تعاملنا مع زهرة الصبار كرمز للوجود الفلسطيني، يمكننا ملاحظة ثبات النبتة على خلفية توحي بالحركة والتغيير. لقد أظهرت الفنانة هنا واقعاً نعيشه جميعاً، مُتمسكين بالحقوق والثوابت رغم التغييرات المحيطة، بأسلوب تجريدي بسيط.
عندما قررت شروق التقدم أكثر نحو الفن التجريدي كانت قد أنهت اللقب الثاني في موضوع العلاج بالفن. في تلك الأثناء كانت قد جمعت الكثير من الأفكار، وانفتحت آفاقها على العالم المحيط بها والقضايا التي تهم مجتمعها. ووجدت الفنانة فرصة مُواتية لكي تستعمل فنها لكي تعرض القضية التي تهمها، قضية الوطن على شكل لوحات كبيرة بمساحتها وعميقة بمؤشراتها، للمدن والحارات الفلسطينية. وهنا حققت الفنانة قدرتها على استعمال الخيال لرسم واقع بأشكال مبسطة جداً، وإعادة صياغة ذلك الواقع برؤية فنية جديدة، يتجلى فيها حس الفنان باللون والحركة والذاكرة.
باشرت الفنانة عملها على هذه المجموعة من اللوحات بتركيبات جديدة حيث تظهر المباني متراصة فوق بعضها البعض، بتكرار متناسق, بحيث تعبئ اللوحة, تاركة مساحة كافية للفضاء. كما وانتقلت من الألوان الزاهية نحو استعمال مجموعتيّ الألوان الدافئة والباردة, بطريقة مميزة تضفي على اللوحة مزيج من الوضوح والغموض لمعالمها، فهي غنية بالتفاصيل من جهة وحاوية على مقاطع تجريدية من جهة أخرى. لقد أظهرت شروق في لوحاتها هذه الحزن وضبابية الواقع الفلسطيني، بشكل مبسط يختزل داخله كل شيء، وبأسلوب يجمع الواقعية مع التجريدية في العمل الفني. ولا يمكن للمشاهد إلا أن يرى في أعمالها رمزية تشظي الوطن وتجزئته, بواسطة جدران حقيقية ووهمية شطرته, وباعدت بين أبناءه. كما وتأخذ الألوان دورها المفصلي في تركيبة اللوحات, فتتناقض الألوان الدافئة مع ألوان الطبيعة الخضراء بين البيوت وزرقة السماء وتمنحها الكثير من الحيوية.
واصلت شروق الرسم بالأسلوب التجريدي, حيث كانت تمُر بمرحلة جديدة, لا بد فيها من ولادة لرمز خاص. وسرعان ما خرج ذلك من داخلها, وكأنه خيط رفيع يوصل حاضرها بطفولتها, متجسداً ب “زهرة السوسن”.
لقد عاشت هذه الزهرة في مخيلتها واستوطنت حنايا الذاكرة مع تلك المساحات الحرة من مرتع الطفولة. فالسوسن, بألوانه الزاهية, متواجد بأكثر من أربعين نوعا في بلاد الشام, ويُعرف منذ القدم لجمال شكله وعطره واستعمالاته الطبية. وقد ظهرت زهرة السوسن في العديد من الرسومات والأعمال الفنية, كان بينها مجموعة لوحات ل”فان جوخ”.
اختارت شروق أن تكون لوحاتها في هذه المجموعة أزواج, تكمل كل منهما اللوحة الأخرى. عندما يتأملها المشاهد يأخذه التجريدي نحو الواقعي, وقد يرى سماءً أو أرضٍ محروثة, وقد يرى الأفق فوق صفحة البحر, أو شباكاً يطل على شجيرة زهر. يشعر بالهدوء من خلال النظر لمستطيل معين فيهزه من الأعماق مستطيلً آخر, وكأن الفنانة تأخذنا في رحلة زمنية, بمختلف فتراتها, الوادعة والصاخبة. ولا يهم أين تبدأ رحلتك من على سطح اللوحة فإنك عيونك سوف تتوقف برهة أمام العنصر المختلف, المميز, الطاغي بحضوره, زهرة السوسن.
لم تتوخ الفنانة الدقة في رسم معالمها, ولم تضعها في مركز اللوحة كما هو متوقع, بل جعلت حضورها متواضعاً, وخفياً بعض الشيء, وكأنها تُحفّز المشاهد أن يواصل البحث إلى أن يجدها, وكأنها تأخذه معها في رحلتها الممتدة منذ الطفولة وحتى لحظة حضور السوسن.