غسان كنفاني : القراءة وإساءة القراءة والذاكرة الخداعة

أفدت ، وأنا أكتب عن أدب غسان كنفاني ، من الدراسات السابقة التي أنجزت عنه . أقرأ الأعمال أولا – أي المتن ، ثم أقرأ الهامش – أي الدراسات ، ولم أكن لأسلم باستنتاجات الدارسين ، إذ كنت أتأكد من المتن . هكذا فعلت عندما كتبت عن البنية السردية في الرواية الفلسطينية . قرأت دراسة رأى صاحبها وهو يدرس ” ما تبقى لكم ” الآتي :

” يختفي الراوي كلية في رواية ” ما تبقى لكم ” . ولما عدت إلى الرواية وجدت أن السارد حاضر في صفحاتها الأولى . ( فيحاء عبد الهادي ، غسان كنفاني ، الروايات والقصص القصيرة )

وأردت مرة أن أتأكد من دقة أحكام ناقد أصدر كتابا عن غسان دون أن يفيد من الدراسات السابقة ، فعدت إلى المتن ، وهو ” رجال في الشمس ” ، للتأكد من استنتاجاته – أي الناقد . يورد الناقد الآتي :

” لم تحدد الرواية عبر السرد الزمن الذي حدثت فيه الأحداث بالضبط ، ولكن سياق السرد والأحداث والقرائن تشير إلى أن الأحداث حدثت بعد النكبة ، وربما يصح اعتبار سنة النشر الأولى 1963زمنا روائيا – أي زمن القص ( زمن وقوع الأحداث ) بلغة النقد الروائي ..” .

وإذا كانت النكبة حدثت في 1948فإن المتن يخبرنا أن سفر الفلسطينيين الثلاثة إلى الكويت كان بعد عشر سنوات تماما – أي في 1958، لا في سنة 1963. لقد اختلطت على الناقد مصطلحات الزمن فلم يميز تمييزا دقيقا بينها ؛ زمن الكتابة وزمن النشر وزمن السرد والزمن الروائي ، ولا أريد أن أكتب هنا عن الزمن النفسي وهو في الرواية مهم جدا .

الناقد نفسه لم يكن ملما إلماما كافيا بحياة غسان واللغات التي أتقنها وقرأ فيها . مثلا يذهب إلى أن غسان يناقش ” أثر الأدب المكتوب باللغة العبرية في الحركة الصهيونية ” وأنه – أي غسان – يعد ” من الرواد الذين اهتموا بالأدب العبري … ” ولم يكن غسان يقرأ بالعبرية ، بل بالإنجليزية .

في موطن ثالث يخلط بين مروان وأبيه ، فأبو مروان هو من كان يطمح أن يتحرك من بيت الطين الذي يشغله في المخيم ، لا ابنه مروان ” ويصورها غسان بقوله متحدثا عن مروان… ” . إن الكلام هو كلام مروان في رسالته إلى أمه حين يأتي على ذكر أبيه الذي ترك عائلته ليتزوج من امرأة تملك البيت . ( فراس عمر حج محمد ، استعادة غسان كنفاني )

في كتاب صدر مؤخرا في طبعتين يقول مؤلفه إنه يقدم قراءة مختلفة يتكرر الخطأ نفسه في أربعة مواقع ، فخلدون / دوف الجندي يصبح خالد الفدائي ، وخالد الفدائي يصبح الجندي الإسرائيلي . ( الدكتور محمد عبد القادر طرخان ، غسان كنفاني ، جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية 2015 / 2023)

وفي إحدى الدراسات ل ” عائد إلى حيفا ” يعود فارس اللبدة إلى بيته في حي العجمي في عكا ، ويعيد صورة أخيه بدر ” لأنه لم يحافظ على البيت وعكا ” ، علما بأن مدينة فارس التي يزورها هي يافا . ( يوسف حطيني ، كنعان ساردا روائيا)

وثمة باحث يكتب عن ” ما تبقى لكم ” ويشير إلى تأثرها ب ” الصخب والعنف ” لفوكنر ودائرة الطباشير القوقازية ” لبريخت ، والصحيح هو أن غسان أفاد من بريخت في ” عائد إلى حيفا ” .( عدنان عثمان الجواريش ، التجريب في الروايةالفلسطينية منذ الستينيات حتى 1995)

وفي كتاب عن الرواية الفلسطينية باللغة الإنجليزية نقل إلى العربية صار الأستاذ سليم في ” رجال في الشمس ” ” أبو سليم ” ، وصارت الرواية نفسها ” في صميمها رواية الطبقة العاملة وقصة العمالة المهاجرة التي يمكن الاستغناء عنها ولفظها . وليس في الرواية شيء من هذا ، فلا كتابة عن طبقة عاملة ولا هناك من يستغني عنها ويلفظها .( بشير أبو منة ، الرواية الفلسطينية من سنة 1948حتى الحاضر ، ترجمة مصعب حياتلي )

الجمعة 1/ 9 / 2023قرأت مقالة عن غسان في جريدة أردنية لأكاديمي يتناول فيها شخصية أبو الخيزران في ” رجال في الشمس ” وفيها يرد الآتي :

” فالرجل كما تصوره الرواية وكما دل عليه عنوانها فاقد الرجولة … وفي تاريخه أنه عمل قبل العام 1948مع الجيش البريطاني ولم يساعد المجاهدين الفلسطينيين على مقاومة العصابات الصهيونية .” .( دكتور محمد قواسمة ) .

وعدا أن عنوان الرواية لا يدل على أن أبو الخيزران فاقد الرجولة ، فنحن نعرف هذا من المتن ، فإن الرجل انضم إلى المجاهدين ولبى دعوتهم وقاد المصفحة وفي المعركة فقد رجولته .

لا أريد أن أبريء نفسي أيضا ، فمرة وأنا أكتب عن ” غسان ساخرا ” ذهبت إلى أنه كذلك في كتابه ” فارس .. فارس ” ولم تبد السخرية في رواياته ، ثم وأنا أعيد مؤخرا قراءة ” رجال في الشمس ” عثرت على مواطن قليلة ساخرة . كما أخطأت مرة حين ذهبت إلى أن المرحومة شادية أبو غزالة هي الشخصية النسوية في ” برقوق نيسان ” ثم عرفت أنها وداد قمري .

ترى ما الذي يجعلنا نقع في إساءة القراءة هذه ؟

يكتب ( بيرسي لوبوك ) في كتابه ” صنعة الرواية ” فصلا عنوانه ” قراءة الرواية ” يرى فيه ” أن بداية النقد هي القراءة السليمة ” فالذاكرة خداعة ، والاعتماد عليها وحدها في النقد لا يكفي ، وأننا حين نكتب عن رواية نكتب عما بقي عالقا منها في أذهاننا ، ولذا لا بد من أن تقرأ بتأمل ” إن الصفحة التي قرئت بتأمل هي التي تتوفر لها فرصة البقاء … ” .

ويرى التفكيكيون أن كل قراءة هي إساءة قراءة ، وأن القاريء قد يعود إلى قراءته في وقت لاحق فينقضها ، إذ من الممكن أنه في لحظة قراءته الأولى كان يقرأ ما في عقله أيضا ، وما في عقله قد يختلف من وقت إلى آخر .

هناك اجتهاد آخر هو أن كثيرا من الدارسين يعتمدون على قراءة دراسات سابقة عن النصوص ولا يعودون إلى النصوص للتأكد منها ، فقد يكون الدارس سها وهو ينقل نصا وقد يكون أخطأ في النقل أو أنه اجتهد ولم يحسن الاجتهاد .

هل اقتصر هذا على غسان كنفاني ونصوصه ؟

يبدو أنه من الملح التوقف أيضا أمام إميل حبيبي وروايته ” المتشائل ” فقد تكتمل الصورة ويتحقق الغرض من وراء كتابة هذه الكتابة .

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *