فلسطين بين المحو والانبعاث: قراءة في رمزية الصمود

لطالما كانت فلسطين مرآة الإنسان في مواجهته مع تحديات الوجود وأشكال انتهاكه، ومسرحًا يُختبر فيه الإنسان بمقاييس لا تعد ولا تحصى بين صورة المأساة والفداء. هي أرض لا تنفك تعكس معركة الوجود عبر صراع دائم بين المحو والتجذر، والإخضاع والتمرد، وبين الإبادة والانبعاث. في كل ركن من فلسطين، تُخاض معركة الإنسان مع قوى الاستعمار، التي تسعى إلى طمس الهوية وتزييف الحاضر والتاريخ، لتتجسد فلسطين في هذا الصراع كرمزية للحق والإرادة.
كل حجر في هذه الأرض يحكي قصة كفاح، وكل شجرة يزرعها الفلسطيني تشهد على إرادته الحية. وكأن الأرض ذاتها تتنفس مقاومة، لتكون شاهدة على أن الإنسان، في هذه البقعة من العالم، يظل قادرًا على الرفض، وعلى الحياة، وعلى كتابة تاريخ جديد، بمداد الصبر والدم، رغم كل محاولات الاقتلاع والإلغاء.
فلسطين كذلك هي المجال الحي الذي يختبر فيه التاريخ مفاهيم النصر والهزيمة، بعيدًا عن التعريفات التقليدية المقيدة بموازين القوى الظاهرة. هنا، على أرض تحمل عبء التاريخ وترزح تحت وطأة الاستعمار، لا يمكن للمعايير السطحية أن تنجح في قراءة مراحل مسيرتها النضالية منذ نكبتها عام 1948. وغزة اليوم، ليست مجرد جغرافيا ممزقة، أو شاهدًا على الدمار، بل حكاية الإنسان حين يتحدى ذاته والآخر النقيض، ليكتب بالتضحيات تاريخًا/ عهدًا جديدًا.
وطالما مثلت غزة القلب النابض لمعركة الوجود الفلسطينية، ومختبرًا حيًا للمواجهة. ومع وقف العدوان ودخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، أطل سؤال الانتصار والهزيمة من جديد. لكنه، في السياق الفلسطيني، لا يحضر كسؤال بسيط، بل كانعكاس لصراع وجودي أعمق، يتجاوز حدود الجغرافيا وزمن المعركة.
لفلسطين معاييرها

في الحالة الفلسطينية، حيث تتشابك السياسة بالتاريخ، والواقع بالمجاز، تتخذ مفاهيم الانتصار والهزيمة، برأيي، بُعدًا فريدًا لا يطابق المقاييس التقليدية للصراعات. هنا، لا يمكن اختزال المواجهة في مكاسب ميدانية أو خسائر عسكرية؛ بل يتطلب فهم التاريخ والواقع، قراءة أعمق لمعاني المقاومة والبقاء تحت منظومة استعمارية إحلالية، تسعى إلى محو الشعب الفلسطيني، لا السيطرة عليه فقط.
لا يهدف الاستعمار الصهيوني، بطبيعته الاقتلاعية الاستيطانية، إلى السيطرة العسكرية فحسب، بل إلى استئصال الشعب الفلسطيني من أرضه ووعيه وتاريخه. في هذا السياق، يصنع مفهوما النصر والهزيمة، وعلى الطريقة الفلسطينية، معاييرهما الخاصة. البقاء الفلسطيني على الأرض، والإصرار على الحفاظ على الهوية الوطنية، والتمسك بالرواية التاريخية، بل أسلوب الحياة ذاته، هي جميعها أشكال مقاومة وانتصار معًا، تتحدى المنطق الكلاسيكي للصراعات.
يرى الهزيمة والانكسار من استند إلى جزئية واحدة في الصورة الفلسطينية الكاملة، أي إلى المأساة؛ مقتلة أبادت عائلات بأكملها، بيوت ومشافٍ وجامعات ومدارس ودور عبادة دُمرت، وجرح مفتوح في قلب غزة، بل في الذات الجمعية الفلسطينية، بل في الإنسانية كلها. يتخذ أصحاب هذا المنظور – عمومًا – موقفًا رافضًا للسابع من أكتوبر، ومن المقاومة المسلحة بعامة، باعتبارها تمثل ذريعة للاحتلال لتنفيذ مخططاته في الإبادة والتهجير. وهم، في المقابل، يصرون على عدم رؤية الجزئية الأخرى الأساسية في المسيرة الفلسطينية برمتها، وليس في غزة فقط، أو منذ السابع من أكتوبر فقط، وهي صورة: الفداء، والصمود، والبطولة.
إن الهزيمة على الحقيقة، وعلى الرغم من هذا الجرح العميق الذي اسمه غزة، هي محاولة تقويض المعنى الأعمق لتضحيات الشعب الفلسطيني. هي محو الأثر الذي يتركه الشهيد، وطمس ذاكرة البيت المدمر، ونسيان الأرض المقتلع أصحابها، ومنع كل حلم بالحرية والانعتاق من التجسد على الأرض. الشهداء، والجرحى والأسرى، والبيوت المدمرة، ليست مجرد أرقام في تقارير الحرب، بل هي جزء من الذاكرة الحية، ومن تاريخ المقاومة، التي شكلتها بالأصل، وخلقت دافعًا لها، سيرة الألم والمأساة.
يُمعن الاستعمار في تمزيق الجسد الفلسطيني قصفًا وقتلًا، وتعذيبًا في السجون، ممارسًا عبر ذلك حربًا نفسية قاسية وممنهجة، الغاية منها تصوير المأساة التي يعيشها الفلسطينيون على أنها الهزيمة ونهاية آمالهم ووجودهم، وأن مسبباتها تمردهم، وفي الحقيقة، فإن الاستعمار هو الجذر الأساسي لكل المآسي. الواقع والتاريخ في فلسطين يشهدان، أن سياسات الإبادة والإرهاب والتدمير، لا يمكن أن تُسكت صوت أصحاب الأرض، بل تزيدهم قوة وصلابة. الهزيمة هي انكسار الروح الفلسطينية أمام وحشية المشروع الإحلالي. وفي المقابل، فإن كل فعل يثبت عبره الفلسطيني وجوده المادي والمعنوي، وكل مقاومة تحمي ذاكرة الأرض من النسيان، هي انتصار يتجاوز حدود المعركة.
غزة، التي عانت ويلات العدوان، وستستمر معاناتها خلال معركة ترميم الذات والمكان، لم تُكسر، ولم يكن الفقد الكبير، على قسوته، والدمار، على بشاعته، نهاية ويأسًا، بل مقدمة لإعادة بناء معادلة الصمود والتجذر. في هذا الصراع، يتحول الفلسطيني إلى رمز لا يشير إلى شعب مضطهد فحسب، بل لإنسان يرفض أن يُمحى رغم جبروت القوة التي تقف في مواجهته على النقيض الوجودي.

جدوى مستمرة

اتفاق وقف إطلاق النار ليس مجرد محطة لالتقاط الأنفاس، بل هو دليل على أن الفلسطيني، رغم جراحه، قادر على فرض حضوره في الوعي الإنساني الجمعي، وفي المشهد الدولي أيضًا. بداية، أظهر الاتفاق، وعملية السابع من أكتوبر من قبل، قدرة المقاومة على إعادة صياغة قواعد الاشتباك مع الاحتلال. لقد بات واضحًا أن الاحتلال، رغم تفوقه العسكري، لا يستطيع أن يفرض هيمنته بدون مقاومة تُربكه وتكسر معادلاته.
ليست هذه المكاسب مجرد انتصارات لحظية، بل لبنات تُضاف إلى صرح النضال الفلسطيني الممتد. ورغم أن الاحتلال قد حشد الحلفاء وكل أدواته العسكرية في هذه الجولة من معركته الإبادية القديمة/ الحديثة، ورغم الرهان الداخلي والخارجي على قدرة هذه القوة التدميرية على ترويض غزة ومحو مقاومتها، جاءت النتائج عكسية لتطلعاته. فالمقاومة، التي وُصفت مرارًا بأنها غير قادرة على مواجهة جيش مدجج بالتكنولوجيا الحديثة، تسانده قوى عظمى، أثبتت مرة أخرى قدرتها على إعادة صياغة المعادلات، ليس فقط على الصعيد العسكري، بل على الصعيد السياسي والإعلامي، وفي مجال الحرب النفسية أيضًا.
كسر صورة الردع

لقد فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة من العدوان الأخير. ولم تتمكن من إنهاء المقاومة أو تفكيك بنيتها التحتية. وعلى العكس، أظهرت المقاومة قدرة استثنائية على الصمود والتكيف مع الظروف، متجاوزة كل التوقعات بانهيارها السريع. لتفاجئ العالم، وفور دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بخروج عناصرها بالزي العسكري، في مواكب احتفالية بين الناس الذين هتفوا لها.
لقد استطاعت المقاومة، بمساندة حلفائها، أن تُربك الاحتلال عبر عملياتها النوعية وقدرتها على ضرب العمق الإسرائيلي، لتُثبت أن أمن الاحتلال بات مكشوفًا، وأن يد المقاومة قادرة على الوصول إلى ما كان يُعتقد أنه مناطق منيعة. هذه الضربات لم تكن مجرد إنجاز عسكري؛ بل كانت رسالة بأن غزة، رغم الحصار والدمار، ما زالت قادرة على فرض إرادتها.
والأهم من ذلك، أن هذا الصمود شكل إحراجًا كبيرًا، بل هزيمة، للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، التي حاولت على مدار عقود أن تُظهر نفسها كقوة لا تُقهر. اليوم، وبعد الفشل الذريع في تحقيق أهدافها أمام غزة المحاصرة، أصبحت صورة الاحتلال كقوة ردع مركزية في المنطقة موضع تساؤل، ليس فقط أمام الفلسطينيين، بل أمام الإسرائيليين أنفسهم أيضًا، وعلى مستوى العالم كذلك.
لعل أحد أهم إنجازات هذه الجولة الدامية كان كسر صورة الردع الإسرائيلي، تلك الصورة التي طالما اعتمد عليها الاحتلال لترسيخ هيبته وهيمنته في المنطقة. أثبتت المقاومة، عبر ضرباتها النوعية وعمقها الجغرافي، أن الاحتلال ليس “قوة لا تُقهر”، بل كيان قابل للضغط والانكشاف. هذا التحول في الصورة ليس مجرد إنجاز عسكري، بل هو تغيير مهم في معادلة الصراع. الاحتلال، الذي طالما شيد استراتيجياته على الإذعان عبر التخويف والإرهاب، وجد نفسه في مواجهة مقاومة تعرف كيف تردعه، ليس فقط بالسلاح، بل بمعادلات نفسية وسياسية جديدة.
هذا النجاح لم يكن عشوائيًا أو لحظيًا، بل هو نتيجة تراكم خبرات المقاومة، وقدرتها على استثمار اللحظات الصعبة لتحويلها إلى نقاط قوة. إن غزة، التي ترسخت صورتها كبقعة جغرافية معزولة ومحاصرة، أعادت تعريف مفهوم القوة، مؤكدة أن الصمود أمام آلة الإبادة هو بذاته انتصار يتجاوز الحسابات العسكرية الضيقة.
الأسرى: رمزية الحرية

لا يُعد تحرير الأسرى مجرد إنجاز تفاوضي؛ بل هو انتصار رمزي يعيد التأكيد على مركزية الحرية في الوعي الفلسطيني. هنا، يعود الأسرى كجزء من معادلة صاغها الفلسطيني بدمائه وصموده. وفي السياق الفلسطيني، لا يمكن النظر إلى تحرير الأسرى باعتباره مجرد حدث تفاوضي أو مكسب سياسي.
تتجاوز صورة الأسرى، في الوعي الجمعي الفلسطيني، كونها لأفراد محتجزين خلف القضبان؛ بل هم رموز للحرية التي يحاول الاحتلال انتزاعها، وأيقونات للنضال المستمر. وليس تحريرهم مجرد استعادة لحريتهم الشخصية، بل انتصار شامل على مشروع الاحتلال الذي يسعى إلى كسر الروح الفلسطينية عبر الاعتقال والإذلال.
الأسير الفلسطيني ليس مجرد شخص مقيد في زنزانة، بل هو رمز مكثف لمعنى الصمود والتمسك بمطلب التحرر. القيود في يديه، والتعذيب، والمرض والنحول، وسنوات الأمل والانتظار، وكل أشكال المعاناة في الزنازين، هي معركة أخرى داخل الجدران تتقاطع مع معركة شعبه في الخارج، وتعزز فشل الاحتلال في كسر الإرادة الفلسطينية. لذا فإن تحرير الأسرى، لا يعني فقط إنهاء معاناتهم الشخصية، بل هو إعلان أن الاحتلال بكل أدواته القمعية لا يستطيع أن يهزم روح المقاومة.
لقد استطاعت المقاومة الفلسطينية عبر تحرير الأسرى تحقيق إنجاز جوهري من شأنه أن يحمل دلالات تتجاوز اللحظة. فهو أولًا: رسالة بأن المقاومة قادرة على فرض شروطها حتى في أكثر الظروف قسوة وتعقيدًا. الاحتلال، الذي يدعي القوة المطلقة، اضطر إلى الرضوخ لمعادلة أفرزتها المقاومة، معترفًا ضمنيًا بعدم قدرته على فرض سيطرته الكاملة. وثانيًا: يمثل تحرير الأسرى انتصارًا للوعي الفلسطيني الجمعي، الذي يرى في كل أسير جزءًا من مشروع أكبر للتحرر. إن هذا الإنجاز يعيد إحياء الأمل، ليس فقط في صفوف الأسرى وأُسرهم، بل في قلوب كل الفلسطينيين الذين يرون فيه تجسيدًا لمعنى الانتصار على القهر الاستعماري.
تكمن الرمزية الأعمق لتحرير الأسرى في كونه انعكاسًا للصراع الدائم بين الحرية والقيد. فالاحتلال، الذي يعتمد على السجون كأداة لترهيب الفلسطينيين وإخماد نضالهم، يجد نفسه مرة بعد أخرى مجبرًا على الإفراج عن الأسرى تحت ضغط المقاومة. هذا الإفراج هو هزيمة واضحة لفكرة السجن كأداة ردع، وتحويل لزنزانة الأسير من رمز للعقاب إلى رمز للمقاومة والانتصار.
يعيد تحرير الأسرى صياغة العلاقة بين الفلسطيني وأرضه؛ فالأسرى المحررون لا يخرجون أفرادًا عاديين، بل يعودون كحملة لراية النضال، وكأدلة حية على أن الاحتلال، مهما بلغ جبروته، لا يستطيع أن ينتصر على شعب يتشبث بحريته. في كل مرة يتم تحرير أسير، يُعاد التأكيد على حقيقة مركزية الحرية في المعركة الفلسطينية، وعلى كونها حقًا لا يمكن انتزاعه.
ما بعد العدوان

تفرض التضحيات التي قدمها الفلسطينيون خلال العدوان، والإنجازات الرمزية والميدانية والإعلامية التي تحققت، ضرورة الالتفاف حول اللحظة الراهنة لبناء استراتيجية طويلة المدى تحول الصمود إلى مشروع تحرري شامل.
بداية، لا بُدّ أن تكون إعادة الإعمار في غزة أبعد من عملية ترميم للبيوت والبنى التحتية. وكما بدأ الفلسطينيون بالفعل بإزالة الدمار وترميم ما يمكن ترميمه بأيديهم، عبر نهج يحول الإعمار إلى فعل رمزي مقاوِم، فهكذا يجب أن تكون عملية إعادة الإعمار؛ لا مجرد عملية تنموية أو إدارية مؤسسية فحسب، بل ينبغي أن تكون فعلًا رمزيًا مقاومًا، يهدف إلى إعادة بناء المجتمع الفلسطيني، وتجديد الروح الوطنية التي تتحدى الدمار. كل بيت يُعاد بناؤه هو فعل مقاومة، وكل مدرسة تُفتتح هي رسالة بأن الحياة أقوى من الموت.
على الصعيد الوطني العام، وفي ظل التحديات الوجودية التي يواجهها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وفي ظل العدوان المستمر على الضفة الغربية، والتهديد بضمها وبترحيل الفلسطينيين، والتوسع الاستيطاني فيها، والسعي المستمر إلى تهويد القدس، تُطرح مسألة الوحدة الوطنية، في هذه المرحلة المصيرية، لا كخيار سياسي، بل كشرط وجودي لاستمرار القضية الفلسطينية حية في مواجهة الاحتلال.
ولا يعني تحقيق الوحدة الفلسطينية محاولة ردم الفجوات بين الأطراف المختلفة فحسب، بل معالجة الجذر الحقيقي لما يبدو انقسامًا، وهو في الواقع صراع بين نهجين متباينين.
المطلوب اليوم ليس مجرد مصالحة، بل صياغة رؤية وطنية تعيد توحيد الفلسطينيين حول مشروع تحرري حقيقي، يُبنى على نهج الصمود والمقاومة بمختلف أشكالها، بعيدًا عن أي التزامات تقيّد الإرادة الوطنية. والوحدة الوطنية لا تعني المساواة بين النهجين، بل الانحياز لخيار الشعب، الذي التف عبر عقود نضاله حول المقاومة، بمختلف مجالاتها، المسلحة والشعبية والإعلامية وغيرها، معتبرًا إياها الطريق الأمثل لاسترداد الحقوق.
إن المرحلة الراهنة، بكل ما حملته من تضحيات، تفرض مسؤولية تاريخية لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني على أسس تتجاوز الانقسامات المؤسسية والأيديولوجية، وتضع تحرير الأرض والإنسان في صلب أولوياتها. فهذا ليس خلافًا على أدوات أو سياسات، بل على مستقبل القضية الفلسطينية نفسها، ومستقبل جيل يرفض أن تكون خياراته محصورة بين استمرار الاحتلال أو الخضوع لهيمنته.

عن مليحة مسلماني

شاهد أيضاً

مرحلة ما بعد طوفان الأقصى

مرحلة ما بعد طوفان الأقصى إعداد أ.د.  وليد عبد الحي مقدمة: تُميِّز أبحاث مراكز الدراسات …