القسم الثالث : بيانات متكلّسة وإضاعة فرص
نشرت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تصريحات وبيانات لرجال دين وشخصيات سياسية محلية (أعني من حيفا) وقطرية (أعني من مواقع مختلفة من البلاد). وكذلك نشرت تعقيبات هؤلاء على تصريحات رسميين ومسؤولين سواء في الحكم المحلي أو القُطْري.
وسأُخصّص هذه الحلقة لمراجعة تصريحات وبيانات رجال دين مسيحيين وبيانات رؤساء الكنائس ذات الصلة بموقع الحدث، وتحليلها ونشر بعض التوصيات والتوجيهات المستقبلية. ولا بُدّ لي من الإشارة إلى أنّ كلّ كلمة أكتبها هنا هي بقلمي وعلى مسؤوليتي، ما عدا تلك المقتبسة والتي سأشير إلى مصدرها بين قوسين، إنْ لزم الأمر.
ما حصل من اقتحام واعتداء وتجاوز حدود في دير مار الياس الكرمل، ليس حدثًا عابرًا ولا لمرّة واحدة وانتهى الأمر. كان واضحًا منذ البداية أنّ الحدث له استمرارية ومتابعة ومعاودة من قِبل المُقتحمين من الجماعات الدينية اليهودية المتطرِّفة جدًّا. لكن، أصحاب الشأن، أيّ الرهبنة الكرملية في حيفا، لم تُدرك عُمق خطورة الحدث وسلبياته وتداعياته إلّا بعد تكرار الاقتحامات، وتدخُّل بعض المهتمِّين والغيورين على الدير من أهالي حيفا. أمّا السبب وراء ذلك، فهي مسألة العُزلة التي فرضها مدبرو الدير على حياتهم وموقعهم، وفض العلاقة بينهم وبين أهالي المدينة إلّا في ما يتعلق بالطقوس الدينية والاحتفالات المرتبطة بها(أعني عيد مار الياس في 20 تموز من كل عام). هنا، وفي هذه اللحظة المصيرية ونتيجة توجُّهات عدّة بدأ رهبان الدير يدركون المخاطر المُحدِقة بهم وبديرهم وممتلكاتهم، والتي لم يواجهوا مثلها في السابق حتى في العهد العثماني قبل أكثر من قرن من الزمان. تحرُّكهم الأوّل كان بتقديم شكوى الى الشرطة، وهذه خطوة عادية وروتينية ومعمول بها. إلّا أنّ الشرطة لم تتحرّك بما فيه الكفاية، من منطلق ادعائها أنّها لا تستطيع منع الزوار. لكن هؤلاء ليسوا زوارًا إنّما هؤلاء معتدين يطالبون بحقٍّ في المكان، ولا حقّ لهم فيه مُطلقًا.
لكن بعد انتشار تسجيلات مصورة عن حجم الاقتحامات وخصوصًا وصول حافلة فيها من المتطرّفين اليهود ومن مؤازريهم عصابة زعران نادي “لا فاميليا” المؤيد لفريق كرة القدم “بيتار القدس” العنصري، بدأت تحرُّكات مُكثّفة من رئاسة وطائفة الروم الكاثوليك في حيفا وقرى الجليل حيث انتشارهم فيها، بالرغم من أنّهم لا يملكون شبرًا في دير مار الياس الكرمل ولا في أراضيه وممتلكاته، إنّما المكان يعني لهم الكثير، وهم أيّ الروم الكاثوليك يُشكلون أكبر الطوائف المسيحية في الداخل الفلسطيني. وكانت هذه خطوة جيدة لنُصرة الدير في ظلّ الظروف الصعبة التي يمرُّ بها. وانضمت مجموعات متنوعة الانتماءات والتوجهات الدينية والسياسية (سنُخصص حلقة عن سلوك الجماعات المسيحية في الأزمة).
في أعقاب المشاركة المُكثَّفة للطوائف المسيحية ورجالات دينها، تمّ تسجيل تصريحات وبيانات نُشِرَت وعُمّمت عبر وسائل الإعلام والتواصل والمواقع الإخبارية. وهنا، لا بُدّ لي من كلمة بخصوص ما استمعت إليه (وقد استمعتُ إلى معظم ما قاله وصرّح به رجال دين من طوائف مسيحية مختلفة).
حيث أنّ الخطاب الديني والتوجه إلى الجمهور الواسع كان عند بعض الكهنة ضعيفًا، من حيث استخدام اللغة الخطابية، وضعيف في عرض الأفكار، وعدم القدرة على التعبير السليم الذي يؤدي الرسالة. أضف إلى ذلك عدم نضوج الخطاب في ربطه مع عمليات الاقتحامات المُتكرّرة والاعتداءات المستمرة على أماكن العبادة والممتلكات المسيحية في مواقع أخرى من الوطن، ومن أبرزها القدس. وكذلك عدم اللجوء إلى ربط ما جرى لدير مار الياس مع ما جرى ويجري من اقتحامات لباحات المسجد الأقصى المبارك. سمعت بعض الناس يقول بأنّ قضية دير مار الياس تختلف عن قضية المسجد الأقصى المبارك. لا شك لديّ أنّ هؤلاء يُعانون من قُصر نظر وضعف في قدرة رؤية واستشراف الواقع والمستقبل وتحليله وفقًا لما يحصل. هؤلاء لا يستطيعون الربط بين الحاصل والذي يحصل في مواقع أخرى بكون كل الاقتحامات تقع تحت مسمى “السيطرة اليهودية على المكان المقدس” واعتباره يهوديا في أساسه، والسعي إلى تطهيره وخلاصه من الغرباء.
وخير نموذج يمكنني تقديمه في هذا السياق، مثالاً وليس حصرًا، ما حصل لـ “مقام الخضر” في حيفا والمعروف أيضًا بـ “مغارة الأنبياء”. حيث كان في الماضي، وأعني قبل العام 1948 مسموح لليهود كالمسلمين والمسيحيين والدروز بدخول المقام وإقامة الصلوات وإيفاء النذورات. فإنّه بعد عام النكبة سيطرت وزارة الأديان الإسرائيلية على المقام، وبدأت بتحويله رويدًا رويدًا إلى مقام يهودي. وبالتالي تراجَعَ حضور ووصول المسلمين إليه. واقتصر على اليهود. وبالتالي تمّ تغيير اسم المقام إلى “مغارة الياهو”. وألغيت كل الشعارات والعلامات الإسلامية، واستبدلت بيهودية. (علينا الإشارة هنا إلى أنّه لم يصدر أيّ بيان رسمي يمنع المسلمين من الحضور إلى المقام، لكن في ظلّ السيطرة على المكان وتحويل مظاهره إلى يهودية، وتكثيف الحضور اليهودي المتدين، أدّى إلى تراجع وصول المسلمين إليه).
ونموذج آخر متورطة فيه بلدية حيفا، وهو مقام الشيخ عيسى في محطة الكرمل (حيّ العتيقة) حيث استولت عليه جماعات يهودية متطرّفة وجعلته أو حولته إلى قبر “الصديق رامبان”. وعلّقت يافطة عند مدخله كُتِبَ عليها نصّ صلاة تحت شعار بلدية حيفا. هاتان العمليتان تشاركت فيهما بلدية حيفا لأنّ القصد من ورائها “تهويد المكان”، وخلع كل مِسحة اسلامية ومسيحية عنهما أو عن أماكن أخرى. ولم تسلم كنائس كثيرة في الجليل من الطمس والهدم. اذهبوا إلى قرية البصّة الواقعة على الحدود مع لبنان. مستوطنو الكيبوتس او الموشاف المجاور يمنعون من الأهالي من دخول كنيسة الروم الأرثوذكس لأداء الصلوات فيها. يستدعون الشرطة ويعتبرونهم متجاوزي حدود. انظروا إلى كنائس البروة والدامون وسحماتا وسيرين وصفد وبيسان وغيرها… لقد اختفت عن سطح الأرض ولم تعد قائمة.
حصل تدارك من قبل بعض رجال دين مسيحيين عندما أدركوا أنّ الحدث متدحرج فقاموا بتطوير خطابهم الجماهيري والإعلامي مستخدمين كلمات مفتاحية تقود إلى توجيه صفوف المحتجين من المسيحيين والمؤازرين لهم من أبناء شعبهم الفلسطيني. وكان تعبير بعضهم في سياق تطور الحدث أكثر مشتبكا مع ما جرى وأكثر وضوحًا، وأقرب التصاقًا إلى القواعد الشعبية من رجال الدين الذين أشرنا إليهم سابقًا.
وفي نظرة إلى البيان المشترك الذي نشره مجلس الأساقفة الكاثوليك في الأراضي المقدسة (يمكن الاطلاع عليه في عدد من المواقع الإخبارية) نلحظ التعميم المستولي على هذا البيان. ونلحظ التوجه إلى السلطات المسؤولة للقيام بدورها، واعتبر هذا المجلس نفسه المسؤول القانوني الوحيد. هنا بالذات، وقع رؤساء الكنائس في كمين نصبوه لأنفسهم. حيث أنهم لم يتخلصوا من عقدة الانتماء الضيق إلى هذه الكنيسة أو تلك. وهنا أضاعوا فرصة ذهبية لمد يد التعاون مع الكنيستين الأرثوذكسية والبروتستانتية. كذلك نلاحظ عدم نضوج الخطاب في ربطه عمليات اقتحامات سابقة واعتداءات على أماكن مسيحية أخرى.
وما دمنا في مساحة إضاعة الفرص فإنّ من بينها ما يلي:
– إضاعة فرصة إقامة غرفة عمليات طوارئ يشترك فيها خبراء اختصاصيين في إدارة الأزمات، ومختصين في الإعلام وكيفية التخطيط له، من خارج دائرة رجال الدين.
– إضاعة فرصة إصدار بيان مشترك يوقّع عليه كافة رؤساء الطوائف المسيحية والإسلامية واليهودية المتزنة في المدينة.
– إضاعة فرصة رفع مستوى التضامن من زيارات تضامنية إلى تعاون مدروس بين مركبات المدينة ترقى إلى ما بعد الحدث.
– إضاعة فرصة احتضان الشباب ليس من باب الانتماء الطائفي الضيق، أو لمجموعات شبابية مشكوك في أمر حضورها أثناء الاحتجاجات، وتلك التي تمّ دسُّها لِبَثِّ أفكار وطروحات بضرورة التجنيد على أشكاله، صونا وحماية للمقدسات، على حدّ ادعائها.
– إضاعة فرصة تعميق فكرة العمل المشترك والتنسيق الجماعي المتكاثف بين مركبات المجتمع، من منطلق أن اعتداء اليوم على الكنيسة سيتلوه غدا اعتداء على مسجد ثم على خلوة.
مقابل هذه التصريحات والبيانات ذات الكلمات التقليدية التي تناسب بلد طائفي كلبنان، ظهرت تصريحات وبيانات صحافية لناشطين سياسيين ومجتمعيين في حيفا وغيرها نظروا إلى الحدث بكونه يُشكِّل خطرًا على الوجود العربي في المدينة. وأنّ هذه الاقتحامات لم تأتِ من فراغ أو أنّها عابرة وطارئة لمرّة واحدة، إنّما هي مستندة إلى تجربة سابقة مؤلمة مع مقدسات اسلامية ومسيحية تعرّضت لاقتحامات واعتداءات متكررة.
ما حصل وسيحصل في دير مار الياس الكرمل ليس بعيدًا عن مسلسل محاولات تهويد المكان المُقَدَّس الإسلامي والمسيحي بالاستناد إلى ذرائع وتلفيقات خاطئة مستقاة من نصوص توراتية تستند إليها جماعات يهودية متطرّفة وما حولها من جماعات داعمة في قطاعات إسرائيلية يمينية مُتَشَدِّدة دينيًا وسياسيًا. وكلّ ما حصل وسيحصل في ظلّ أجواء من التسيُّب الأمني المقصود لحكومة عنصرية ترتكز في أساسها على عناصر يمينية متطرفة وعنصرية وكارهة لكل ما هو غير يهودي في هذا الوطن، ستبقى قطعان المتطرفين اليهود تصول وتجول دون رادع أو وازع. وعدم تعاطي حكومة نتنياهو رسميا، ولا حتى طرح موضوع الاقتحامات الذي بلغ صداه العالم أجمع، على جدول جلسات الحكومة الأسبوعي، فيه دلالات قاطعة أنّ زُمرة المتطرفين المتّهمين بملفات جنائية وفساد هي التي تتحمّل مسؤولية ما جرى وسيجري، وهي تؤكد توفيرها غطاء لمثل هذه الاقتحامات والاعتداءات التي نفذّتها مجموعة دينية متطرفة من اليهود الحريديين.
ما يجري في دير مار الياس، وأُخمّن أنّه سيستمر غير منفصل بالمرّة عمّا يجري في مواقع أخرى لأماكن عبادة مسيحية وإسلامية. فالسياسة الممنهجة واحدة، وأساليب التطبيق متشابهة. وكلها تخدم المشروع التهويدي للمكان المقدس، بعد أن تمّت عملية تهجير وهدم قرابة 531 قرية ومدينة فلسطينية في العام 1948، وتطبيق السيطرة اليهودية على أراضيها بعد منع سكانها أصحاب البلاد الشرعيين من العودة إليها، حتى بحكم قرار أممي في ذلك (أعني قرار العودة رقم 194).
قد يقول قائل من الأوساط المسيحية: أننا لا نملك القوة ولا الطاقات لمواجهة هذه السياسات، ونحن نُدير ونُشرف على مؤسسات تعليمية واجتماعية وصحية قد تتأثر سلبًا من أيّ موقف لنا.
هنا، وفي هذه الجُزئية المهمة جدًّا تظهر القوة في الوحدة والالتحام مع صفوف الشعب الواحد الذي يُعاني من ظالم واحد، وقامع واحد، وسياسة تمزيقية – تفتيتية واحدة. أثبتت العقود السبعة ونيف الماضية أنّ سياسة حكومات اسرائيل المتعاقبة هي ذات بوصلة واحدة وهدف واحد، عنوانه: مكان يهودي أكثر من العربي.
********
القسم الرابع: التضامن … والابتزاز
حرّكت قضية الاقتحامات المتكرّرة لدير مار الياس – الكرمل حيفا فعاليات سياسية محلية وقُطرية. منها من تضامن، ومنها من حضر لالتقاط الصور التذكارية، ومنها لابتزاز سياسي صارخ وفاضح، ونحن على أبواب معركة الانتخابات للسلطات المحلية.
ففي باب التضامن كان المشهد مثيرًا ولافتًا، حيث تحرّكت الفعاليات الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية المحلية في حيفا ومن خارجها أيضًا، مُعَبِّرة بذلك عن رفضها لمثل هذه الاقتحامات، ومطالبتها بحقّ الحماية وتوفير الأمن والأمان. والمُلفِت أيضًا حضور هيئات وجمعيات ومؤسسات وشخصيات سياسية أو ذات صفة سياسية من رؤساء مجالس محلية عربية وأعضاء برلمان من كافة الأحزاب التمثيلية، ورجال دين مسلمين ودروز ويهود تقدميين وإصلاحيين معبرِّين بروح واحدة عن أهمية الحفاظ على المكان كموقع مقدّس للمسيحيين منذ مئات السنين، ورافضين أيّ تغيير على شكل ومضمون إقامة الطقوس والشعائر الدينية فيه على مدار السنة. إضافة إلى أهمية إتاحة الزيارة للسياح والزوار والضيوف وسط احترام قدسية المكان. من جانب آخر فإنّ التضامن العربي الفلسطيني كان واضحًا ولافتًا بحضور متكرِّر لشخصيات دينية وسياسية اسلامية ودرزية. هذا التضامن فيه الكثير من علامات التوافق والاتفاق والتعاضد المجتمعي، لأنّه نابعٌ من شعور بالهمّ الواحد والمشترك، وما تواجهه الكنائس في الوطن، كما الاعتداء والاقتحامات على أماكن العبادة الإسلامية كالمسجد الأقصى المبارك، وتعديات المستوطنين في الضفة الغربية والمتدينين اليهود المتطرّفين في أماكن مختلفة في الوطن.
وما ينقص هذا التضامن الإيجابي والذي حرّك موضوع الوحدة الوطنية مجددًا، أنه غير متكامل من حيث المتابعة. وأعني بذلك، أنّ حدثا بحجم الاعتداء على دير مار الياس الكرمل والاقتحامات المستمرة على باحاته كما باحات المسجد الأقصى المبارك جدير بتشكيل لجنة لمتابعة العمل وكيفية التعاطي مع تطورات الموضوع الخاص بهذا الدير فيما لو استمرّت الاقتحامات والتعديات. وباعتقادي أنّ زيارات التضامن ودعم ومساندة المرابطين من الشباب أمر جيد، ولكن السؤال: كيف سنستمر في مواجهة التعديات والتصدي للاقتحامات والمقتحمين؟
السبب في طرحي هذا الجانب، أنّ اليهود المتدينين المتطرفين يملكون الكثير من قدرات وطاقات الاستمرارية والمتابعة لتحقيق أهدافهم، فهم لا يتوقفون عن تكرار هدفهم إلى حين تحقيقه. وهدفنا كمجتمع فلسطيني التصدي لكل محاولاتهم هذه وإيقافها عند حدها. وكمجتمع يملك الخبرات الواسعة في مواجهة سياسيات القمع والتمييز العنصري والتضييق، يمكننا وضع خطة مدروسة مع الأطراف المعنية لبناء استراتيجية مواجهة ومتابعة.
أما عن زيارات التضامن الابتزازي فحدِّث ولا حرج. حيث وصل سياسيون من القوس السياسي المتعدد، وخصوصا من سياسيي مدينة حيفا، ومنهم مرشحون لرئاسة البلدية في الانتخابات المحلية المزمع عقدها في نهاية شهر تشرين الأول – أكتوبر القريب. هؤلاء ومن يدعمهم من طفيليي المجتمع العربي في حيفا ومنتفعيه، رافقوهم ليقولوا كلمة شجب واستنكار ويلتقطون صورًا لهم ويقومون لاحقا بنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لجمهورهم. تابعت ما نطق به مرشحون لرئاسة البلدية في حيفا وتبين أن استنكارهم عمومي ويفتقر الى شجب سلوك المقتحمين والمطالبة بمحاسبتهم من قبل سلطات القانون. أو الدعوة إلى مناقشة تفصيلية للموضوع في جلسات المجلس البلدي واتخاذ خطوات أكثر من مجرد نثر البيانات الرنانة. في حين ان رئيسة البلدية الحالية تولت مهمة مساندة الدير من موقعها الذي يفرض ذلك، أقصد توفير الحماية لمؤسسة دينية بارزة ومرموقة بحجم دير مار الياس الكرمل في موقع ستيلا ماريس. ولا انوي الترويج لأي مرشح لرئاسة بلدية حيفا، فالتعبير عن التضامن كان ظاهريا، ولم يرقَ الى مستوى اجتثاث الظاهرة المتكررة للمقتحمين وتعدياتهم واعتقاداتهم التي يروجون لها بأنّ في كنيسة الدير قبر للنبي اليشاع.
أما عن زيارة رئيس دولة إسرائيل الى الدير والتي تم تغطيتها بالاعلام المحلي كثيرًا وكثيفًا فهي لأغراض إعلامية ولتلميع وجه إسرائيل العنصري عالميًا، وخصوصًا في العالم المسيحي الغربي. لكن المنتبه إلى تصريح رئيس الدولة يدرك تمامًا أنّه لم يذكر اسم الفرقة أو الجماعة اليهودية المعتدية بالمرّة. وكأن المعتدين هم “أشباح”، أو “نكرة” و”غير معرّفين”. هذا الأسلوب التعميمي فيه شكل ضبابي كثيف، بأنه يستنكر ويشجب الاعتداء ويطالب ويدعو لحرية العبادة، لكن دون الإشارة إلى الطرف المعتدي. تابِعوا أقواله على صفحته على الفيسبوك. من جهة أخرى، كان رد البطريرك اللاتيني باتيسبلا ضعيفًا وركيكـًا لا يحمل في طياته أيّ قوة مطالبة مُلْزِمة لحماية المقدّسات. كانت هذه فرصة لهذا البطريرك ولأيّ مسؤول ديني ان يُقدِّم خطابًا فيه مطالب قوية بأهمية وضرورة حماية الدولة للمقدسات، وهذا أقل ما يمكن المطالبة به، وهو أضعف الإيمان. وكان أيضًا جدير به وبغيره توجيه أصابع الاتهام إلى الطرف المعتدي ومن يقف من ورائه، فالقضية ليست خلافات دينية في المعتقدات، إنّها قضية سياسية بامتياز. وعلى رؤساء الأديان والطوائف في الوطن التعامل معها من هذا المنطلق، ودون خوف أو مواربة وتهرّب من استعمال الكلمات والمفاهيم القاموسية التي تخصّ الحدث وما يتبعه.
لذا، أقدِّم توصية لأخذ أو تبنّي خطوات مدروسة في كيفية عرض القضية، والخطاب الذي يتمّ التداول به، بعيدًا عن الارتخاء والتكلّس، مع التشديد بصراحة وبوضوح إلى ما يريده أبناء الوطن من حقّ العيش بكرامة واحترام وسط احترام المقدّسات، لكونها تُشكِّل مكونًا رئيسًا في مشهدية الحضور والوجود والبقاء والاستمرارية. فالمقدّسات الإسلامية والمسيحية مستهدفة منذ عام 1948 من قبل الدولة وإن كان غير معلن عنه رسميًا، ومن قبل جماعات المتطرفين اليهودي وبينهم المستوطنين في القدس العربية والضفة الغربية المحتلة، وأيضًا من قبل هيئات بلدية، كما هو الحال في البصّة والبروة وطبريا وصفد وقيساريا ويافا والرملة وغيرها.