يظهر الممثل خالد تاجا في أحد مشاهد مسلسل “الفصول الأربعة” وكأنه يختزل “فلسفة قبول الموت”: “الموت حق، كاس بدو يمر على كل هالناس، بس يعني أنا زعلان على حالي، وزعلان من حالي، يعني زعلان على حالي لإنو نحنا بالموت ما منكون عم نبكي عالميت، الميت راح لوجه ربّه، بس نحنا اللي منكون فقدنا شخص عزيز بيترك بحياتنا فراغ ما بيتعبى أبداً ومنحس بإنو نقصنا شي ، منبكي لإنو نقصنا شي ، زعلان من حالي لأنو دائما بعد الموت بكتشف إني ما اتطلعت منيح بعيون اللي ماتوا وبندم لإني ما قعدت معهن أكتر وما حكيت معهن أكتر وما شبعت منهن”.- انتهى الاقتباس.
كم يلخص هذا البوح الإنساني معاني الحياة العميقة وأهميتها، وكم سيكون الأمر مثيراً للأسى حين نقارنه بما ورد في تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بمناسبة يوم الطفل العالمي، عن هول الظلم والانتهاك الذي تعرض له أطفال سوريا، وعن فجيعة الأرقام الواردة في التقرير الذي أطلقت عليه الشبكة اسم” الأمل الغريق” بتعبير لا يخلو من المجاز القاسي عن حقيقة ما آلت إليه الأمور في سوريا. يذكر التقرير أن الأطراف المتصارعة قتلت نحو 20 ألف طفل من أطفال سوريا! 20 ألف طفل سوري لا يبالي بهم أحد في العالم وخاصة المنظمات الحقوقية لحقوق الطفل، إلا كونهم مصدر للإحصاء وكتابة عمود في جريدة. ويذكر التقرير عدد الأطفال الذين قتلهم النظام وأولئك الذين قتلتهم جبهة النصرة والقناصة. ورغم برودة الأرقام و “حياديتها” المنهجية، إلا أن هذا لن يغير شيء من الحقيقة المُخزية، وهي أن هؤلاء الأطفال قتلوا وهم يشكلون 7% من مجموع القتلى في سوريا، وأن عدداً مثلهم، 20 ألف، تحولوا إلى يتامى بسبب مقتل آبائهم.
وهكذا، ويعد أن نهدأ قليلاً، سوف يتحول الخبر إلى مجرد عمود محشور بين أعمدة عدة في جريدة وعنوان صغير “الأمل الغريق”، ويبدو أن هذا جلّ ما يمكن أن تقدمه منظمات حقوق الإنسان، بما فيها الشبكة السورية لحقوق الإنسان في يوم الطفل العالمي، حتى أننا لا نقرأ شجبا” ولا استنكاراً ولا تفجعاً، كما جرت العادة في مواضع مشابهة، على البراعم التي لم تتفتح للحياة بعد، ولم نقرأ أي اعتذار لأطفال سوريا! مجرد اعتذار! ولا نقرأ اعترافاً بالتقصير تجاههم وعدم حمايتهم، فلغة علم الإحصاء هي السائدة، ترى ما الدور الذي لعبته وتلعبه المنظمات الحقوقية؟ خاصة المنظمات الحقوقية لحماية الطفل؟ كيف ستزهر شجرة قطفت براعمها، بل سُحقت؟ أي مستقبل ينتظر سوريا، وحتى اللحظة 20 ألف طفل من أطفالها قُتلوا، ولم يحرك الضمير العالمي الغارق في السبات ساكناً.
بين موت وموت
لا أعتقد أن خالد تاجا سيكون له رأياً مغايراً لو كان الميت منتحراً مثلاً، فثقافة الشعوب “الطبيعية ما قبل الدينية” لا تفرق بين موت وموت، فالخسارة واحدة بصرف النظر عن فلسفة الأحياء للموت. ولا تكاد تخلو، على سبيل المثال، رواية يابانية من انتحار العديد من شخوصها، كما لو أن هناك ثقافة للانتحار عند اليابانيين، ولأن الأدب هو مرآة الحياة فقد عكست الروايات اليابانية تلك الظاهرة المميزة للمجتمع الياباني، أي الانتحار. أعترف أنني مسحورة بالأدب الياباني، وقد كتبت عن العديد من الروايات التي كتبها عظماء مثل “كاواباتا” و “ميشيما” و “موراكامي” وغيرهم، وقد أسرتني هذه الروايات، ليس بسحر أسلوبها وعمق أفكارها وجاذبيتها فحسب، بل، ايضاً، لأنها تطرح رؤية مختلفة وإبداعية للحياة وللوجود الإنساني بطريقة مغايرة لما تعودنا عليه وتعلمناه وسلّمنا به. ويقول، في هذا الصدد، “هاروكي موراكامي” على لسان أحد أبطال رائعته “الغابة النرويجية” :(حين نحيا حياتنا فإننا نغذي الموت، وهي الحقيقة الوحيدة التي يجب أن نتعلمها، فيجب أن ننظر للموت لا بوصفه نقيضاً للحياة، بل بوصفه جزءاً منها).
ولكن، إذا كان الموت هو نهاية كل حياة ( لكل أجل كتاب)، فلماذا خلقنا أصلاً؟. هل حياتنا و\ أو موتنا حق لنا نتصرف به كما نشاء وتشاء رغباتنا؟ وهل علينا قبول الموت كما هو مهما بالغنا في تفسيره أو تأويله باعتباره الظاهرة الوحيدة، ربما، التي لا تنفع مهما ثورة أو احتجاج أو انقلاب أو تمرد و دين أ فتوى!.
يعني هل موراكامي على حق، أم ذاك العراقي أو الشامي أو المصري القديم كان على حق حين بنى معبداً لآلهته حتى قبل أن يفكر أن يبني بيته؟ لقد فهم سكان الشرق القدماء أنهم خلقوا ليكونوا “عبيداً” للآلهة، فليس من المعقول أن نطلب من الإله التفكير في تأمين حاجاته اليومية طالما هناك بشر يقومون بذلك بدلاً منه، وليس على الإله أن يعمل و يكدح لتأمين متطلباته. يقول (فيكو): “إن الظواهر الاجتماعية الأولى في حياة البشر ثلاث: الدين، والزواج، ودفن الموتى”.. والبشر منذ جلجامش أو ربما قبله تساءلوا.. لمً يموت الرجال خلف أسوار المدن وحيدين؟ فالموتُ فكرة قاسية مستبدة تنسحق أمامها أي فكرة أخرى، حتى لو كانت معادلاً موضوعياً للخلود فالموت لا ينفك يتجلى لنا غامضاً، متلبساً، يغرينا ويجعلنا نبحث عميقاً فيه ولا يوجد شعب، قديماً أو حديثاً، لم يطور ثقافته الخاصة عن الموت. لقد واجه الإنسان الموت في كل مظاهر الحياة وفي محيطه وفهمه، ضمناً، على أنه ٌانون يسري على هذه المظاهر المختلفة في الحياة والكون، ليس هذا فحسب، بل نظر إلى الثقافة والحضارة بحد ذاتهما على أنهما خاضعتين لقانون الموت (بالمعنيين: الفعلي والمجازي)، ورغم ذلك استغرق في الحياة ساعياً قدر الإمكان للتقليل من شأن الموت لعله يكون قادر على عزله يوما ما، فتعظيم الموتى وتحنيطهم لدى المصريين القدماء وبناء الأهرامات والقبور العظمية ليس سوى “إنكار” مضمر للموت.
ألقى المصريون القدماء في النيل أجمل نسائهم امتنانا للنهر الذي يهب الحياة لمصر، فالموت هنا يقدم الحياة مشترطاً في الوقت ذاته أن تعطي الحياةُ الموتَ. ففي زاوية ما من العقل البشري تتجلى هذه الثقافة كمنظور يحدد تصوراتنا العالم ومعايير سلوكنا وسيكون من قبيل التفلسف اعتبار ان ثقافة الموت هي تعويض عن سلوك الحياة. غير أن هذه الخدعة لا تنطلِ على الياباني، فنحن، في واقع الأمر، لا نجد “الرب” – اقرأها الله إن شئت- في الأدب الياباني، ولا نجد ،كذلك، الوصايا العشرة ،ومع ذلك ثمة منظومة “أخلاقية” رفيعة نحكم هذا الأدب الياباني، وثمة توق وشغف في نفس الياباني للتماهي مع قوى غامضة وما ورائية وأبدية وفي ذات الوقت خيرّة غير خادعة لا تستغل “سذاجة البشر”. يعيش الياباني حالة من الصداقة مع الموت، لا يخشاه، ولا يعتبره مأساة أو هزيمة، ولأنه لا توجد وصية من نوع “لا تقتل” في الثقافة اليابانية، فإن الياباني لا يعتبر قتل النفس جريمة .إن وصية “لا تقتل” في الديانات السماوية التوحيدية صريحة ومُلزمة للإنسان المؤمن، فالمنتحر عند المسيحيين أو المسلمين هو قاتل ومرتكب لجريمة القتل التي حرمها الرب\ الله ولا يجوز أن يُصلى على جثمانه ( وهذا يقودنا للسؤال الافتتاحي عن موقف خالد ناجا -المشبع بالإيمان- كيف سيكون رأيه لو كان الميت منتحراً).
الانتحار عند اليابانيين لا يعتبر جريمة قتل، بل خيار حرٌ، فالياباني يؤمن أن له الحق في إنهاء حياته ساعة يريد، والانتحار عند الياباني ليس، دائماً، سببه إحباط أو يأس أو صدمة نفسية شديدة، بل غالباً ما يكون المنتحر في قمة نجاحاته، والعديد من الكتاب اليابانيين انتحروا بعد حصولهم على جوائز مهمة، وبعد أن حققوا نجاحات مدويّة ،كما حصل مع “كاواباتا” الذي انتحر بعد حصوله على جائزة نوبل للآداب، مع العلم أنه كان يدّرس مادة حب الحياه في مدارس وجامعات في اليابان.
ترى لماذا ينتحر مبدع ، مثل “كاواباتا”، وهو في قمة تألقه!.
أزعم أنني وجدت الجواب في إحدى العبارات التي قالها أحد أبطال رواياته: “لقد انتهيتُ ككائن بشري، وكل ما سأعيشه وأكونه ليس سوى مجرّد ذكرى متبقية لما تعوّدت أن أكونه”. إن “كاواباتا” يملك القدرة على الانفصال عن ذاته فينظر الى حياته كما لو أنها مشروع أنجزه وأكمله ومن حقه أن يضع له النهاية التي هي الموت، وأن كشخص محب للحياة، لا أبرر الانتحار ولا أدافع عنه، ولا أنفيه، باعتياره حقيقة وجودية، غير إني لاحظت أهميته كـ “ثيمة” مميزة في الأدب الياباني، فاعتمدن نظرتهن إلى لموت من خلال توظيفه في خدمة الحياة، كما لو أن الموت يزيد من ألق الحياة وجاذبيتها وشغف الإنسان بها، ثمة، هنا، حرية ذهنية وانفتاح وجداني عالٍ لدى الياباني، ولديه منظومة أخلاقية متكاملة -رغم عدم احتواء ثقافته على -وصايا عشرة وكتاب مقدس-.
ثقافة الانتحار عند اليابانيين هي نوع من الشجاعة الغريبة في تحدي خوف الإنسان الأزلي من الموت، وهي شجاعة قادرة على مواجهة الأسئلة الوجودية التي طالما عذّبت الإنسان: ما الهدف من وجودنا؟ وما معنى كل ما نحققه في الحياة طالما الموت هو محصلة كل شيء؟ أليس كل ما يقوم به الإنسان هو محاولة للهروب من حقيقة قاسية، ولا يمكن التصالح معها، وهي الموت؟
لكن الياباني يشعر أنه ينتصر على الموت حين يقرر هو بنفسه لحظة توقف الحياة كما لو أنه يريد الموت خادماً له هو الذي يأمره قائلا: “تعال الآن فأنا لست رهن إشارتك ،وكم أدهشني “موراكامي” حين قال على لسان أحد أبطاله: “ما يجعل منا أسوياء، هو أن نعرف أننا لسنا أسوياء”. كما لو أن هناك غريزة الموت المزروعة عميقاً في أعماق الإنسان كغريزة الحياة تماماً. كما لو أن هنالك نداء خافت وأصيل وعميق في أعماق الإنسان هو نداء الموت، الموت الذي هو الوجه الآخر للحياة وقد يكون مرآتها بل تعريفها. فالحياة هي عكس الموت أو اللاموت (ليس بالضرورة أن تعني الخلود كما تصوره الديانات الشرقية القديمة). وأظن أن عظمة الأدب الياباني تكمن في توسيع مداركنا في فهم الوجود البشري وفي تحريض مشاعر وأسئلة عن الموت والحياة والأخلاق والقيم والأهم ألا نحس بالهزيمة والقهر والانكسار، لأن خاتمة الحياة هي الموت .
ينظر الياباني إلى لموت والحياة كمواد أولية للوجود البشري كما لو أن نشيد الحياة والفرح لا يكتمل الا بجوقة الموت والحياة، ولعلّ “كاواباتا” أصيب بالدهشة عينها التي أصيب بها ساكن شرق المتوسط القديم. كيف يمكن لإنسان “يخدم” الآلهة أن يوجه الموت أو تكون نهايته الموت؟ بمعنى أن نصيبه من الموت هو ذاته نصيبه من الحياة؟ سوف ينظر البعض للأمر من زاوية أخرى. فالعمل البطولي في الدفاع عن الوطن يكون المون فيه أحد الاحتمالات أو المآلات النهائية له، وبعيداً عن التأويلات الدينية، سوف يكون هذا العمل، الموت دفاعاً عن الوطن أو عن أي فكرة أخرى، في حد ذاته ليس سهلاً، إذ ليس من العبث أن يعرض المرء حياته للخطر، الذي غالباً م يقود للموت\ التضحية\ الشهادة، فإذا كان منطق حب الحياة يقول إن من يعرض نفسه للموت عن طيب خاطر ووعي وإرادة إما معتوه أو مؤمن بقضية ما تدفعه إلى الموت في سبيلها، وهذا، على كل حال، موقف النشطاء ضد الاحتلال والاستبداد، وهو ما يمكن اختصاره بكلمة “نضال”.
تتحرك الحياة في إطار صيرورة صارمة.. لكن المدهش في الأمر، وربما من حسن حظنا أيضاً، أن هذه الصيرورات ليست بالضرورة منطقية، وإلا لما كان هناك معنى للحياة، ولما كان هناك اختلاف وتنوع.
هل من مبرر للخوف من الموت؟
واقعياً، ينتهي الخوف من الموت بحدوث الموت.. الأموات لا ينظرون خلفهم.. يمضون تاركين وراؤهم سراً غامضاً يجادل به الأحياء مخلفين ضجيجاً لا مبرر له.. ترى لمَ رحلوا وحيدين وتركونا؟ هل ماتوا طوعاً أم كرهاً.. هل مضوا بمحض إرادتهم نحو حتفهم باستكانة؟. سوف يقول البعض ليس بالضرورة أن تكون مجابهة ثقافة الموت بثقافة “الحياة”، إذ ليس هناك ثمة صراع بين الموت والحياه، بل هما خصيصتان للحياة، وتتعمق الفكرة لدى البعض الآخر بالقول أن الموت حالة استثنائية من الحياة.. فإن كان الأمر كذلك فالحياة هي القاعدة والموت هو الاستثناء.. وهكذا يكون الموت هو الاستثناء الذي يؤكد صحة القاعدة، أي الحياة، ولكن كيف سيتسنى لنا الاقتناع بذلك عندما ننظر إلى مظاهر الموت المتكاثرة من حولنا ألا يشكل الموت طغيانًا واستبداداً من جملة قضايا نعيشها؟ وهاجساً يحول دون التوصل الى اكتناه معناه. لقد بذل الانسان جهوداً جبارة لمعرفة (ما بعد الموت)، قامت أساطير الشعوب القديمة على ثنائية الموت والحياة، الخلود والفناء. ومع إدراك الإنسان أن الموت هو “خاتمة طبيعية” لدورة الحياة، إلا أنه كان على الدوام يرفض مثل هذه الحتمية متكأً على الدين مرة، وعلى الفلسفة مرة، وعلى تطوير أنماط ثقافية متعددة مرات أخرى، وتتغذى جميعها من غريزة حب البقاء والحياة.
“التطبيع” مع الموت
وبعد كل هذا، يبدو أن تقنين الموت يحتاج إلى استعمال عبارات إنسانية تُزور وتُموه قبولنا لهذا الموت المجاني، ويبدو أن عبارات مثل جمعيات حقوق الإنسان وحقوق الطفل، ومجلس الأمن الدولي، والدول العظمى ليست سوى أدوات “إجرامية” لتبرير التدخل في شؤون دول العالم الثالث لخلق أطراف متنازعة بهدف السيطرة على ثرواتها وإضعافها وتقسيمها، وزرع بذور الإرهاب فيها.. إننا فعلاً نعيش في عالم منهار أخلاقياً تماماً، كما لاحظ أمين معلوف في كتابه “اختلال العالم”: أن مشكلتنا في هذا العصر أخلاقية، وأن حل مشاكل الكرة الأرضية، التي تغلي بالعنف والإجرام، لن يكون اقتصادياً بل أخلاقياً، فعلاقة العالم الغني المُستبد (وسياسته بالعالم الثالث الفقير والمسلوبة ثرواته بطرق شتى منها الاختباء وراء عبارات طنانه كالوصاية ومجلس الأمن الدولي، وجمعيات حقوق الإنسان والطفل) تشبه علاقة أليعازر الفقير والقروح تغطي جسده بجاره الغني الذي لم يساعده. وتاريخ الاستعمار بح ذاته أكبر شاهد على هذا.
يريد لنا “الرجل الأبيض” أن “نطبع مع الموت” بينما هو وحده يحق له أن يبكي قتلاه ويعتبرهم “ضحايا الإرهاب” ويطالبنا أن نتضامن معه ونقف مئات الدقائق الصامتة حداداً على أرواحهم. أما قتلانا فلا بواكي لهم.. مجرد أرقام ، جداول إحصائية على صفحات الجرائد والتقارير الدولية، ومحفزات تمويل لمنظمات الإن جي أوز. وهذا امتداد لتطبيع آخر أشد وطأة ومهانة، قبول العدو، وأقصد هنا القبول بمعناه الوجودي، يعني علينا أن نقبل ونعترف، بطريقة ما، وجود عدونا مثلما نقبل بوجود الموت في حياتنا على سبيل المثال، وأذكر إني حضرت، منذ مدة، حفلاً مدرسياً لطلاب الصف الخامس والسادس في باريس بمناسبة عيد الميلاد إكراماً لابنة أختي (والدهما فرنسي) وكان احتفالاً رائعاً، ولكن ما جعل الدم يتجمد في عروقي حين أخذ الطلاب ،وهم من جنسيات مختلفة، يغنون أغنية بالفرنسية عن إسرائيل وفلسطين، تقول بعض كلماتها: “نحن أطفال فلسطين وأطفال إسرائيل لنضع السلاح جانباً ونصبح أصدقاء”. عبارة تبدو قمة في الإنسانية والرقة بل الشاعرية أيضاً، لكنني وجدت نفسي أسأل أختي هل تعلم طفلتاها وهل يعلم بقية الأطفال أن فلسطين أرض مُغتصبة ومُحتلة، وأن إسرائيل هي المغتصبة والمحتلة. فأجابتني قطعاً لا. فسألت مدرسة التاريخ إن كانوا يذكرون الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين ويقدمون التاريخ بنزاهة للطلاب فأجابت، أيضاً أن قطعاً لا ! وبأنهم يريدون أن ينشؤوا جيلاً قائماً على المحبة -اقرأها الحياة ن شئت- وتقبل الآخر والتعايش معه. وجدتني بكل خلية في جسدي أصرخ: والحقيقة؟. لا يوجد أي منطق في العالم يُبرر ضياع الحقيقة، ففلسطين أرض مغتصبة، وقد هُجّر معظم أهلها، ولا يزالون يطالبون بحق العودة، انتهى النقاش، للأسف، دون نتيجة، وختمت مُعلمة التاريخ القول بأن هذه هي إنسانية الغرب! يا للعبارة الطنانة التي تبدو قمة في الإنسانية! دون الالتفات لحقيقة وطبيعة إسرائيل. هكذا يُكتب ويُزور التاريخ! ويتم حشو عقول ووجدان الطلاب بمعلومات ناقصة ومزورة تحت شعار إنسانية الغرب. في المقابل ، أن تكون فلسطين قضية إنسانية، هذا لا يعني التغاضي عن المعنى الحقيقي “للحق” الفلسطيني ولايعني أيضا تماهي الجلاد مع الضحية تحت عنوان “منع الضغينة” فنطلق عبارات التعايش مع إسرائيل على عواهنها دون لحظة تفكير بحجج “إنسانية” أو غيرها فهذا ليس سوى “كيّ” لوعينا ومحو وتشويه لذاكرة أجيال وتزوير صريح للتاريخ وفهمنا له مهما اختلفت دوافعنا.
لم يترحم أحد على أرواح أطفال سوريا. ولم يشجبوا تجنيد الأطفال السوريين واستغلالهم بشتى الطرق من عمالة الأطفال إلى الاستغلال الجنسي، إلى عدم حصول الطفل على هوية حين يولد في المنفى، لأن هؤلاء الحكام هم خدم لأسيادهم الذين يحكمون الدول العظمى .
سوف يكون لمعاني “الموت النضالي” طعماً مختلفاً يكاد يتماهى، إيجابياً، مع معنى الحياة نفسها. وهذا لا يعني مجانية الموت أو استسهاله، مثلما نراه كل يوم ويصبح مادة خبرية تحقق ربحية عالية في السوق الإعلامي، سوف ينقلب السحر على الساحر بالتأكيد. وكما يُقال: كما تزرع تحصد. و”الأمل الغريق” : أطفال سوريا سوف يكبرون، بعد سنوات، ويصيروا شباباً مفعمين بالحياة، وكذلك بروح الانتقام المشروع، ووحدهم سوف يعرفون تماماً ممن سينتقمون. الأمل الغريق لن يبقى غريقاً، لأن الدم الذي يجري في عروق السوري، هو دم مشبع بالكرامة والنبل والوطنية. وإذا تمكن الكبار من النسيان بسبب العمر والجبن والخوف، فإن أطفال سوريا لن ينسوا من أذاهم ويتمهم وشردهم واستغلهم لأن ذاكرة الطفل كالوشم لا يمكن أن يزول . وطالما بقي بشر على الأرض، سوف يبقى سيزيف يدفع بصخرته نحو القمة.. وسوف يبقى طائر الفينيق ينتفض حياً من الرماد يذكرنا بالحياة.. لا الموت.