محمد الأسعد
قبل أيام قليلة، بين الخامس والثامن من كانون الثاني/ يناير الجاري، أقامت مجموعة من الأنثروبولوجيين الفلسطينيين في مدينة أريحا ورشة عمل هدفها تأسيس رابطة أكاديمية جامعة للمختصّين في هذا الفرع العلمي، من داخل فلسطين المحتلّة ومن شتى بلدان اللجوء. الغاية هي “معرفة فلسطين والفلسطينيين أنثروبولوجياً” كما يقول القائمون على هذه المبادرة، وفي سياق ذلك تجاوز الحدود والعقبات التي فرضها الاستعمار الصهيوني على الأرض، أي العمل ضمن فلسطين بحدودها الجغرافية التاريخية.
يأتي هذا التجمّع على خطى تجمّع آخر لمجموعة من الأنثروبولوجيين الفلسطينيين في حيفا المحتلة خلال عام 2015 أطلق هذه الفكرة، ثم عقد في “جامعة بير زيت” منتدى في أيار/ مايو 2016 للغرض ذاته، وتوّجت هذه المبادرات بورشة أريحا الأخيرة.
شارك في هذا الحدث عدد من الأكاديميين الفلسطينيين من داخل فلسطين، ومن خارجها؛ من أستراليا وأميركا وهولندا ولبنان والأردن، قدّموا أفكاراً ومقترحات سيصار على أساسها وضع خطة عمل واستراتيجيات للرابطة التي ستتخذ لها اسم “رابطة العلوم الإنسانية” بعد أن تبيّن أنه لا يمكن تجاهل علوم أخرى مثل علم الآثار والاجتماع، والاقتصار على الصيغة “الأنثروبولوجية” كما طرحتها الأكاديميات الأوروبية؛ تلك الصيغة التي خصصت علم “الاجتماع” لدراسة المجتمعات الأوروبية على أساس أنها وحدها من لديها “مجتمعات”، بينما وضعت “الأنثروبولوجيا” كعلم خاص لدراسة “الآخر” غير الأوروبي الذي يفتقر، كما يرى الأوروبيون، إلى “مجتمع”، إلا أن لديه “ثقافة” بمعنى أن لديه أعرافاً وتقاليد وخرافات وأنساق سلوك.. إلخ، ترفعه في أحيان نادرة فوق مستوى التجمّعات البهيمية!
واللافت أن هذه الورشة الفلسطينية دعت للمشاركة عدداً من علماء الاجتماع والآثار والمؤرّخين ومن عواصم مختلفة خلال أنشطتها في الأيام الماضية، بمعنى أنها تخطت المفهوم الغربي، وتطمح كما يبدو إلى تشكيل رابطة جامعة، إضافة إلى أنها تخطت، وهذا أمر مهم، الجغرافية/ السياسية التي فرضها الاستعمار الصهيوني والمتعاونون معه، عرباً كانوا أو فلسطينيين، على أرض فلسطين، فتحوّلت في الأدبيات الشائعة إلى “أراضي 48″ و”ضفة غربية” و”غزة”، واعتمدت مبدأ جمع الدوائر الفلسطينية، بما فيها دائرة اللجوء، تحت اسم “فلسطين التاريخية”، ففتحت عضويتها للأكاديميين الفلسطينيين من الدوائر الثلاث؛ فلسطين المحتلة في عام 1948، وفلسطين المحتلة في عام 1967، وفلسطين اللجوء.
إلاّ أن هناك أمراً آخر غير إيجابي يلفت النظر، وهو استخدام المشرفين على تأسيس هذه الرابطة الأسماء التوراتية الملصقة على المدن والجغرافية الفلسطينية بلا تحفّظ، فأطلقوا منذ البداية على مكان انعقاد ورشتهم اسم “جيريكو” (برنامج اللقاء باللغة الإنكليزية) بدل استخدام الاسم الواقعي والصحيح، أي أريحا، فهل يجهلون أن هذه التسمية فرضها المستعمرون الصهاينة على أريحا كما فرضوا هم وحماتهم الغربيون، تسمية “أورشاليم” على القدس، و”حبرون” على الخليل، و”إسرائيل” على فلسطين.. وبقية التسميات المصطنعة التي لم تعرفها الأرض الفلسطينية؟
إن أي علم من العلوم، الإنسانية أو البحتة، لا يمكن أن يستقيم مساراً ونتائج إن لم يتخلّص من إنشاءات المخيلة التي تفرضها هذه الجماعة أو تلك على الوقائع والظواهر لأسباب خاصة بمصالحها، فهل سيظلّ الباحث الفلسطيني، أكاديمياً كان أو هاوياً، أسير التسميات الاستعمارية المفروضة على مدنه وسهوله وجباله ووديانه وأنهاره؟ وهل سيظلّ جاهلاً بمسارات تصفية الاستعمار، وخاصة في مجال العلوم ومناهجها؟
نذكّر فقط بأن الكاتب الكيني نغوجي واثيونغو أصدر في عام 1986، كتاب “تصفية استعمار العقل”، وجاءت بعده النيوزيلندية ليندا تيهوواي سمث بكتاب “تصفية استعمار المناهج” (1999)، وأطلقت الفلسطينية نادية أبو الحاج كتاب “وقائع على الأرض” (2001) كشفت فيه عن الكيفية التي يصوغ فيها الصهاينة الجغرافية الفلسطينية حسب أهوائهم، ودرست كذلك الفلسطينية أناهيد الحردان موضوع “تصفية استعمار مناهج البحث في الشأن الفلسطيني” (2013). وكلّ هذه الأبحاث، وهناك الكثير منها لكتّاب من أميركا الجنوبية والهند، اشتقّت مساراً جديداً لنقد مناهج الغرب في تناول “الآخر”، في تسميته وتأطير مشكلاته وتصنيف مكانته في سلم الكائنات، وما زالت تتقدّم بخجل وتهيب في مجال الثقافة العربية، وخاصة الفلسطينية منها.
السؤال الآن هو: ألم يحن الوقت للباحث الفلسطيني والأكاديمي، أو المثقف بعامة، أن يلتفت إلى هذه المساحة التي يغيب عنها؟ نعني مساحة التسمية فيعمل على تصفية استعمار التسمية الآخذ منذ زمن أوسلو في التغوّل والسيطرة على الواقع الفلسطيني والمخيلة الفلسطينية على حد سواء؟ أليست هذه من مهمات الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع والمؤرخ وعالم الآثار؟
المصدر: