عانت المنظومة التعليميّة في قطاع غزة، نتيجة الحصار والحروب المتكرّرة، من تحدّيات صعبة خلال السنوات الماضية، غير أن العدوان الوحشي الأخير تسبّب في القضاء شبه التام على تلك المنظومة، وتعطيل المسيرة التعليميّة بشكل كامل لمئات الآلاف من الطلبة، ولعامين دراسيّين على التوالي، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ما يمكن اعتباره عملية إبادة تعليميّة ممنهجة ومتعمّدة، تهدف إلى تدمير نظام التعليم الفلسطيني في قطاع غزة.
تشير “الإبادة التعليميّة” إلى المحو المنهجي للعملية التعليميّة، عبر استهداف الطلبة والمعلّمين، وتدمير البنية التحتية التعليميّة، وحرمان أجيال من التعليم، والذي يُعتبر من حقوق الإنسان الأساسيّة. وفي غزة، يتم ممارسة هذا الشكل من الإبادة بشكل واضح وفجّ، عبر الاغتيال المتعمّد لعشرات الآلاف من الضحايا، بمن فيهم الأطفال والكوادر التعليميّة، وتدمير المدارس والجامعات، وفرض الحصار. يناقش هذا المقال، بعد استعراض موجز لحقائق ومعطيات حول الإبادة التعليميّة، انعكاسات هذا الشكل من الإبادة على الطلبة/ الأطفال الغزّيين، والإجراءات اللازمة لوقفها ومواجهتها، ومعالجة الآثار القاسية الناجمة عنها.
“ضياع جيل كامل“
يذكر تقرير للأمم المتحدة أن 87% من المباني المدرسيّة في غزة تم تدميرها جزئيًا أو كليًا، فيما تحوّل بعضها إلى قواعد عسكريّة إسرائيليّة. وتجاوز عدد الشهداء من الطلاب في غزة 11 ألفًا، فيما بلغ عدد المصابين أكثر من 17 ألف طالب، وذلك حتى أيلول/ سبتمبر الماضي. إضافة إلى استشهاد المئات من الكوادر التعليميّة، من المعلّمين والأكاديميّين والباحثين وذوي الخبرات وأصحاب الكفاءات. ويعاني أكثر من 625 ألف طفل في سنّ الدراسة من صدمات عميقة واضطرابات نفسيّة بسبب العدوان وحرمانهم من حقّهم في التعليم، ما اعتبره خبراء ومقرّرون مستقلّون من الأمم المتحدة بأنه جزء من عملية “الإبادة التعليميّة”. يضاف إلى ما سبق، تدمير أرشيف وسجلّات ووثائق وزارة التربية والتعليم والجامعات والمدارس.
وحتى لو تم وقف الحرب الإباديّة على غزة، إلا أن هناك تحدّيات ضخمة أمام عملية إعادة قطاع التعليم للعمل، وذلك بسبب التداعيات الاجتماعيّة والاقتصاديّة للعدوان، والآثار النفسيّة والتعليميّة التي يتركها على الطلاب، نتيجة تعطّل المسيرة التعليميّة، والحجم الهائل من الدمار؛ ويحذّر تقرير لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (أونروا) من أن “القصف الجوّي الإسرائيلي المستمر والاجتياح البرّي لغزة قد يؤدّي إلى تراجع التعليم لدى الأطفال والشباب لمدة تصل إلى 5 سنوات”.
كما حذّر خبراء أمميّون، وبعد حوالي ستة أشهر من بدء العدوان على غزة، من أن “الهجمات القاسية المستمرّة” على البنية التحتية التعليميّة في غزة لها تأثير مدمّر طويل الأمد على حقوق السكان الأساسيّة في التعلّم والتعبير عن أنفسهم بحرّية، “مما يحرم جيلًا آخر من الفلسطينيّين من مستقبلهم”. ويرون أنه مع تضرّر أو تدمير أكثر من 80% من المدارس في غزة، “قد يكون من المعقول التساؤل عما إذا كان هناك جهد متعمّد لتدمير نظام التعليم الفلسطيني بشكل شامل، وهو عمل يُعرف باسم الإبادة التعليميّة”.
أما المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيّين (أونروا)، فيليب لازاريني، فقد اعتبر أن تعذّر تعليم الأطفال الفلسطينيّين في قطاع غزة بسبب العدوان الإسرائيلي “قد يؤدي إلى ضياع جيل كامل”، قائلًا إن “غزة صارت مكانًا ما عادت فيه المدارس مدارس”، ويذكر أنه بعد بدء إسرائيل هجماتها، اضطرّت الأونروا إلى إغلاق مدارسها وتحويلها إلى مراكز إيواء النازحين، ويضيف: “باتت الفصول الدراسيّة التي كانت تستقبل الأطفال الآن إما مليئة بالأُسر النازحة أو دُمّرت”، وإن “المقاعد الدراسيّة استُبدلت بالأسرّة، وما عاد كثير من المدارس أماكن للتعلّم، بل بؤرة لليأس والجوع والمرض والموت”.
انعكاسات نفسيّة واجتماعيّة
ولحرمان الأطفال من حقّهم في التعليم آثار عميقة وسلبيّة على صحّتهم النفسيّة وقدراتهم العقليّة والتعليميّة. ومن أبرز الآثار النفسيّة والعاطفيّة التي يسبّبها التعرّض المستمر للقصف، وفقدان الأهل والأصدقاء، والنزوح المتواصل، وفقدان الشعور بالأمان: اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD)؛ حيث يعاني الأطفال الذين يشهدون أحداثًا عنيفة من ذكريات متكرّرة ومؤلمة، ما يؤثّر على تركيزهم وقدرتهم على التعلّم.
كما يعاني الأطفال في الحرب من القلق المزمن، إذ يتعرّضون إلى ضغوط نفسيّة مستمرّة بسبب مشاهد القصف والموت وفقدان المقرّبين، ودمار البيئة المحيطة: البيت والحيّ والمدرسة، إضافة إلى صعوبات في النوم والتركيز والذاكرة. كما أن فقدان الأمل والشعور باليأس، بسبب عدم القدرة على مواصلة التعليم، وقسوة الأوضاع التي يفرضها العدوان، ممكن أن يؤدّي إلى الاكتئاب، ما يسبّب بدوره انسحابًا اجتماعيًا وضعفًا في التفاعل مع البيئة المحيطة.
ولاستمرار العدوان انعكاسات سلبيّة على الحياة والعلاقات الاجتماعيّة لدى الأطفال، إذ يحرمهم الانقطاع عن الحياة المدرسيّة من بيئة اجتماعيّة تلعب دورًا هامًا في عملية تكوينهم النفسي والاجتماعي والمعرفي، ما يؤثّر بدوره على قدرتهم على بناء العلاقات الاجتماعيّة الصحيّة وتطوير مهارات التواصل مع أقرانهم ومجتمعهم.
قد يؤدي تعطّل المسيرة التعليميّة لوقت طويل إلى تأخّر في النمو المعرفي للأطفال، وإلى نقص التحفيز العقلي الذي يتيحه التعليم المنتظم؛ تمثّل المدرسة بيئة غنيّة بالتحفيز الفكري الذي يسهم في تطوير القدرات العقليّة مثل: التفكير النقدي، والتحليل، وحل المشكلات. يسبّب غياب هذا التحفيز تأخرًا في نمو المهارات العقليّة، وضعفًا في المهارات الأساسيّة مثل: القراءة، الكتابة، والحساب، ما يعيق قدرتهم على النجاح في المستقبل.
تأثيرات طويلة المدى
ومن آثار العدوان والحرمان من التعليم: ضعف التفكير الإبداعي، إذ يُحرم الأطفال من الأنشطة الإبداعيّة التي تعزّز التفكير الابتكاري والمرونة الذهنيّة. وعلى المدى الطويل، يمكن أن يؤدي الانقطاع عن التعليم لفترات طويلة إلى انخفاض في معدّلات الذكاء لدى الأطفال مقارنة بأقرانهم في بيئات مستقرّة. كما يواجه الأطفال الذين يفقدون أساسيّات التعليم (مثل القراءة، الكتابة، والحساب) صعوبة في التعلّم المستقبلي، أي في مواصلة التعليم العالي أو المهني، ما يقلّل من فرص نجاحهم في المستقبل، ويؤثّر على المجتمع بعامة، بازدياد معدّلات الأمّية والفقر والبطالة.
قد يتسبّب الانقطاع المطوّل عن التعليم إلى فقدان الأطفال الدافع أو الرغبة في العودة إلى المدرسة، ما يؤدّي إلى ارتفاع معدّلات التسرّب في المستقبل. ويؤدي كذلك إلى فجوات تعليميّة كبيرة، ما يجعل من الصعب على الأطفال مواكبة المناهج الدراسيّة لاحقًا.
لا شك في أن الأضرار النفسيّة والمعرفيّة المستمرّة للعدوان تضعف إمكانات الجيل الحالي والمستقبلي في التنمية والابتكار. ويُعد هذا الواقع المأساوي في غزة مثالًا صارخًا على إبادة تعليميّة تعيق عمليّة التنمية، وتتسبّب في تنشئة أجيال تفتقر إلى المهارات والقدرات اللازمة التي تؤهّلها للمشاركة الفعّالة في المجتمع والمساهمة في تطويره مستقبلًا. وبذلك تعزّز الإبادة التعليميّة، على المدى الطويل، دوائر الفقر والاعتماد على المساعدات الخارجيّة.
وقف الإبادة والإبادة التعليميّة
بطبيعة الحال، فإن إيقاف الإبادة التعليميّة في غزة منوط بإنهاء العدوان على غزة ورفع الحصار، وإيجاد حل عادل ودائم للقضيّة الفلسطينيّة، ويُعتبر هذا أمرًا هامًا جدًا لضمان استدامة أيّ جهود لإعادة بناء المنظومة التعليميّة، والتنشئة السليمة للأجيال الفلسطينيّة. ويتطلّب وقف الإبادة التعليميّة ممارسة ضغوط وإجراءات قانونيّة ودوليّة وإعلاميّة متضافرة ومتعدّدة الجوانب، مع التركيز على مساءلة إسرائيل على جرائمها، وتوفير الحماية للأطفال وحقّهم في التعليم.
تشمل الإجراءات القانونيّة رفع قضايا قانونيّة ضد إسرائيل في المحاكم الدوليّة، بسبب انتهاكاتها للقوانين الدوليّة فيما يتعلّق باستهداف المدارس وحرمان الأطفال من التعليم. إضافة إلى ضرورة الضغط على الدول المختلفة للتعاون في مساءلة المسؤولين الإسرائيليّين عن جرائم الحرب في غزة. من المهم أن يشمل هذا التعاون تقديم الدعم للضحايا وتوفير الحماية لهم.
كما لا بد من تفعيل الآليّات الدوليّة لحماية حقوق الإنسان في غزة وفلسطين بعامة، بما في ذلك منظّمة الأمم المتحدة والمفوّضية السامية لحقوق الإنسان، بحيث تشمل هذه الإجراءات إرسال بعثات للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان في غزة وإصدار تقارير حولها. كما لا بد من استمرار الضغط على الدول لفرض عقوبات على إسرائيل، بسبب جرائمها الإباديّة، بما في ذلك حظر بيع السلاح إليها.
الإجراءات الإعلاميّة والسياسيّة
من المهم أن تقوم وسائل الإعلام، وناشطو مواقع التواصل الاجتماعي، بتسليط الضوء على الإبادة التعليميّة في غزة، بنشر الحقائق حول الوضع التعليمي وآثار العدوان والحصار على الأطفال. ومن الضروري تعزيز هذه المعطيات بالتقارير والصور والفيديوهات التي تُظهر واقع المعاناة. من المهم أيضًا مواجهة الهسبراة الإسرائيليّة/ السرديّة الصهيونيّة، باستراتيجيّات إعلاميّة فعّالة، عبر تقديم رواية تدحضها، موثّقة ومقنعة.
كما لا بد من الاستمرار في حشد الدعم العالمي لوقف الإبادة والإبادة التعليميّة في غزة، وتعزيز التضامن الدولي مع القضيّة الفلسطينيّة. يتضمن ذلك تنظيم حملات ضغط مدنيّة، تشمل التواصل مع صنّاع القرار في الدول والمنظّمات الدوليّة، لإدانة استهداف المدارس في غزة والتحريض على وقف العدوان والحصار، وتوفير الحماية للمواطنين، وتوفير بيئة تعليميّة آمنة للأطفال.
إعادة إعمار المكان والذات
حتى مع ضرورة الإيقاف الفوري للعدوان كشرط أساسي، إلا إن استئناف العمليّة التعليميّة تواجه تحدّيات صعبة وكثيرة، فليست المسألة في إعادة الإعمار فحسب، وإنما في معالجة الآثار الكارثيّة التي تخلّفها الإبادة التعليميّة. ومع ذلك، هناك اتجاهات يجب العمل عليها تركّز على معالجة الأضرار وإعادة بناء المنظومة التعليميّة وتعزيز مقاومتها، وعلى رأسها إعادة إعمار البنية التحتيّة، إذ لا بد من توفير الدعم الكافي لإعادة بناء المدارس والجامعات بمواصفات عالية، مع مراعاة معايير السلامة والأمان.
على الصعيد الإنساني، من الضروري توفير الدعم النفسي للطلاب والمعلّمين للتعامل مع الصدمات والاضطرابات النفسيّة الناتجة عن العدوان، ضمن برامج تشمل العلاج الفردي والجماعي، وورش عمل للتعامل مع الصدمات النفسيّة. إضافة إلى ضرورة تنظيم برامج تدريب للمعلّمين تؤهّلهم للتعامل مع الأطفال الذين يعانون من الصدمات النفسيّة وصعوبات التعلّم أو التركيز، بحيث تضمن تلك التدريبات امتلاكهم أساليب التدريس الملائمة لهؤلاء الأطفال. ومن المهم أيضًا توفير الفرص التعليميّة لجميع الأطفال في غزة بما يتلاءم مع ظروفهم، بمن في ذلك الأطفال الذين يعانون من الإعاقة (في غزة أعلى نسبة أطفال مبتوري الأطراف في العالم).
حلول مؤقّتة
وفيما لو تم إيقاف العدوان ورفع الحصار، فإن عمليّة إعادة إعمار البنية التحتيّة التعليميّة قد تستغرق زمنًا طويلًا، لذا يبقى من الضروري العمل على استئناف تعليم الطلبة، مع التركيز على محاولة التكيّف مع الظروف الصعبة والتخفيف من آثار الانقطاع التعليمي، وهو ما تقوم به بعض المبادرات في غزة حاليًا، رغم قسوة واقع الحرب والحصار يبقى التعليم عن بعد واحدًا من أبرز الحلول المؤقّتة، والتي تتم عبر المنصّات التعليميّة الإلكترونيّة، ما يتطلّب توفير الوصول إلى الإنترنت عالي السرعة للطلاب والمعلّمين، والتدريب على استخدام هذه المنصّات. وفي ظل الانقطاع المستمر للإنترنت والكهرباء، يبدو التعليم الإلكتروني خيارًا صعبًا، ولكنه مع ذلك غير مستحيل؛ على سبيل المثال، أعلنت جامعة غزة مؤخرًا، عن فتح باب التطوّع للكفاءات العلميّة من داخل وخارج فلسطين للتدريس بنظام التعليم الإلكتروني، وقد لقيت المبادرة استجابة واسعة من قبل أكاديميّين فلسطينيّين وعرب.
يمكن أيضًا استخدام البث التلفزيوني والإذاعي لتقديم الدروس عن بُعد، خاصة في المناطق التي لا يتوفر فيها الوصول إلى الإنترنت، بحيث يكون هذا البث مصمّمًا بما يتناسب مع جميع الفئات العمريّة. كما يمكن تزويد الطلاب بالمواد التعليميّة الرقميّة، مثل الكتب الإلكترونيّة والفيديوهات التعليميّة.
ومن البدائل الممكنة، التعليم في مواقع مؤقّتة، حيث يمكن استخدام مراكز الإيواء والخيام كمواقع مؤقّتة للتعليم حتى يتم إعادة إعمار المدارس. وهناك بالفعل مبادرات كهذه في غزة، حيث قام بعض المعلّمين بإنشاء مدارس مؤقّتة في الملاجئ والمخيّمات. إلا أنه من الضروري توفير الدعم لتجهيز هذه المواقع بالمعدّات والمستلزمات التعليميّة اللازمة. كما لا بد من تقديم الدعم للعائلات للقيام بتعليم أبنائهم في البيوت، خاصة للأطفال الصغار، وتزويدهم بالمواد التعليميّة والدعم المهني اللازم.
أخيرًا، لا تتسبّب الإبادة في غزة بمجرّد أزمة تعليميّة، بل هناك كارثة إنسانيّة تهدّد مستقبل أجيال بأكملها. ويتطلّب التعامل مع هذه المأساة جهودًا فوريّة ومتكاملة تشمل إعادة البناء المادّي، وتقديم الدعم النفسي، وتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. ورغم كل التحدّيات، تبقى الإرادة الفلسطينيّة للتعليم والنهوض قويّة، وهو ما تثبته غزة بمبادراتها التعليميّة وتمسّكها بالحياة في ظل العدوان والجوع والحصار. يفرض هذا الواقع المأساوي ضرورة دعم الشعب الفلسطيني في استعادة حقّه في التعليم، والاستقلال، والحياة الكريمة، عبر التحرّر من سطوة الاستعمار الإبادي.