التنوير الحقيقي الذي تحتاجه شعوب المنطقة ونخبها المتعلّمة يرتبط مباشرة بضرورات مراكمة وإنضاج وعي وثقافة سياسية حول طبيعة النزاعات والحروب في دول المنطقة وعليها، الناتجة في الجوهر عن طبيعة العلاقات التنافسية بين أصحاب مشاريع السيطرة والنهب الإقليمي، وعن مواجهتها العنيفة لصيرورات التغيير الديمقراطي؛ سواء على صعيد العلاقات البينية لسلطات الأنظمة الكولونيالية، الاستبدادية والاستيطانية، أو على صعيد علاقاتها مع الحكومات الرأسمالية الإمبريالية التي تقود واشنطن مشروع سيطرتها الإقليمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يؤكّد موضوعية الاستنتاج ما كشفته أحداث الصراعات المتتالية من انفصال الوعي السياسي النخبوي والشعبي عن وقائع الصراع، وحقائقه الرئيسية، كما برز بشكل خاص في وعي طبيعة صراعات العقد الماضي ، المرتبطة خاصة بهزيمة صيرورات التغيير الديمقراطي وسعي حكومات اليمين الصهيوني المتطرّف لتقويض شروط تسوية سياسية، تضع الفلسطينيين على طريق بناء مؤسسات دولة وطنية على جزء من أرض فلسطين التاريخية- الحد الأقصى الممكن في ظل موازين قوى الصراع القائمة !
في تقديري كمتابع يومي لأحداث الصراعات وما يواكبها من صناعة وعي سياسي، الخطوة الأولى على طريق “الألف ميل” هي الاعتراف بحقيقة أنّ العوامل الرئيسية التي تساهم في صناعة الوعي السياسي النخبوي والرأي العام الشعبي المسيطرين، المنفصلين عن وقائع الصراع، والتي تتكامل مع “وعي الإيديولوجيا “المثالي وتعزز أوهام ثقافته السياسية ، ترتبط مباشرة بأفكار الدعايات الأمريكية(التي تروّج لأكاذيب انحياز الولايات المتّحدة، بصفتها دولة ديمقراطية عظمى، المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان، لأهداف قضايا شعوب المنطقة العادلة في التحرر والدمقرطة ،في مواجهة “أهداف وأدوات المشروع الإيراني، وسلطات أنظمته “المارقة”، وأذرعه الإرهابية”!)؛ والإيرانية،( التي تبرر أهداف وأدوات مشروع سيطرتها الإقليمية بلغة دعاية مماثلة، ترتبط بانحياز قيادة “الثورة الإسلامية الخمينيّة” لقضايا الشعوب “الإسلامية “في التحرر من أدوات مشروع السيطرة الاستعمارية التي تتجسد وفقا لنظريتها بمشروعها لمقاومة آليات السيطرة الصهيونية على فلسطين والأراضي العربية المحتلة في لبنان وسوريا، والتحالف الاستراتيجي بين سياسات السيطرة الإقليمية الأمريكية والكيان الصهيوني والعملاء “العرب)، ولا ترتبط أسبابه العملية المفشّلة لآليات بناء وعي سياسي مطابق حتى عند تيارات الإسلام السياسي بوعي ثقافة التراث الديني الغير موضوعية – عقلانية !
وفقا لدعايات الطرفين، الصراع سياسي وثقافي وأخلاقي وتاريخي، وبالتالي، وجودي ولاينتهي إلّا بانتصار أحد قطبي الصراع المتناحرين، وهزيمة الآخر الشاملة !!
مما لاشك فيه أن المستفيد الرئيسي من أكاذيب منظومة الدعايات الأمريكية والإيرانية هي سلطات الدولتين، الإمبريالية الأمريكية، والكولونيالية، الإيرانية، وأذرعهما المحليين،
لأنّها تعمل على تضليل وخداع الرأي العام الشعبي والنخبوي (محليّا وإقليميّا وداخليا، على صعيد الشعبين الإيراني والأمريكي، وهي بعض وسائل تحقيق أهداف المشاريع وأجنداتها السياسية) ليس فقط حول طبيعة الأهداف الرئيسية السياسية لكلا المشروعين، “استعمار شعوب المنطقة، واستحمارها”، بل ولمواقع وحيثيات تقاطع الأهداف والوسائل الاستراتيجية، رغم ما ينتج عنها في السياق من تناقضات في مواقع وحيثيات الأهداف والوسائل التكتيكية، ولانّها تبرر للإيرانيين استخدام ” أذرع الإسلام السياسي” و مواجهة استحقاقات التغيير الديمقراطي، طالما ترى أنّ المعركة الأساسية هي في مواجهة ” الصهيونية ” الأمريكية “(1)!. ضمن هذا السياق العام، تعمل دعايات القطبين، الكولونيالي والإمبريالي، على إخفاء ما ينتج في السياق من تقاطع مصالح أو تناقضها مع أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية الرئيسية الأخرى – “الإسرائيلي” والسعودي والتركي !!
أحاول في هذا المقال توضيح وجهة نظري، وتأكيد موضوعية الاستنتاجات التي أصل إليها، من خلال توضيح حقيقة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية الإيرانية التي كشفتها أحداث الحروب والصراعات المتواصلة منذ صبيحة السابع من أكتوبر الماضي، عندما “فاجأت” قيادة حماس الجميع بهجوم “طوفان الأقصى”، وما نتج عنه من عواقب غير مسبوقة في العلاقات بين قيادة حماس و “إسرائيل”.
في ضرورات توضيح عوامل السياق، من المهم الإشارة الى حصول هجوم طوفان الأقصى في تناقض مع سياق ومسارات مشروع التطبيع الإقليمي والتسويات السياسة الأمريكية، والتي تتقدّم إجراءات تحقيقها بخطى متسارعة منذ نهاية ٢٠١٩ على خارطة طريق تهدئة بؤر الصراع بين القوى الإقليمية، وبناء مشروع سيطرة تشاركية مختلف نوعيا، يرتكز على علاقات طبيعية بين أصحاب مشاريع السيطرة الإقليمية الرئيسية التي تصارعت على تقاسم الحصص ومناطق النفوذ – الإيراني والسعودي والتركي والإسرائيلي – طيلة عقود .
مما لاشكّ فيه أنّ عوامل سياق مشروع التطبيع الإقليمي الأمريكي هي القادرة على تفسير طبيعة أهداف وسياسات الولايات المتّحدة في مواجهة عواقب الموجة الجديدة المفاجأة من الصراع، بدءا بهجوم طوفان الأقصى، واستمرارا مع الحرب الإسرائيلية العدوانية الانتقامية اللاحقة، وهنا نحاول كشف طبيعة التناقض بين أفكار الدعايات الأمريكية والإيرانية المُعلنة، وحقيقة الوقائع، وما يظهره في النتيجة من آثار تضليل على الوعي السياسي النخبوي والشعبي!
1- في دعايات الولايات المتّحدة والنظام الايراني وحماس، كان الهدف الرئيسي للولايات المتّحدة من تدخّلها الفوري والمباشر، وما قدّمته من أشكال دعم سياسية وعسكرية واقتصادية و لوجستية لحكومة الحرب اليمينية الصهيونية التي يقودها مجرم الحرب نتنياهو هو الوقوف إلى جانب “إسرائيل” في مواجهة النظام الإيراني، في حال سعى النظام الإيراني للمشاركة في الحرب، “نصرة لحماس ودفاعا عن حزب الله، ووفقا لنظرية وحدة ساحات المقاومة!”، وبالتالي كانت وفقا لدعايات محور المقاومة حرب مصيرية، تتطلّب توحيد الساحات لهزيمة الحرب العدوانية الإسرائيلية، المدعومة بجميع الوسائل من قبل الولايات المتّحدة. هكذا، وفقا للدعايات، باتت المنطقة في أعقاب هجوم طوفان الأقصى، تواجه مسارات وعواقب حرب إقليمية شاملة، سوف تغيّر وجه المنطقة، وتخلق علاقات جديدة، غير مسبوقة، وتؤدّي وفقا لأبواق المقاومة، إلى إنزال هزيمة شاملة بتحالف الولايات المتّحدة وإسرائيل، والعملاء العرب، و….تحرير فلسطين !!
2- في وقائع المصالح والسياسات الأمريكية الإيرانية، المرتبطة مباشرة بعوامل سياق “مشروع التطبيع الإقليمي” و حقائق السيطرة الإقليمية التشاركية في لبنان وسوريا والعراق، لم يكن الهدف الرئيسي من تدخّل الولايات المتّحدة في الصراع، وما استخدمته من سياسات العصا والجزرة تجاه “إسرائيل” والنظام الإيراني سوى منع حصول حرب إقليمية شاملة، خشية أن تدمّر نتائجها ما تحقق من إنجازات وخطوات مشروع التطبيع الإقليمي، سواء على صعيد مسار إعادة النظام السوري الإيراني إلى ” الحضن العربي ” أو مسار التطبيع الإسرائيلية السعودي !
إذا أخذنا بعين الاعتبار حقيقة أن حكومة الحرب كانت الطرف الذي له مصلحة في توسيع نطاق الحرب، وجرّ النظام الإيراني إلى حرب كبرى، ندرك الجهة التي تركّزت عليها الضغوط الأمريكية ل”منع انتشار النزاع إقليميّا “.
3- في ضوء نفس عوامل السياق، المرتبطة بتقاطع المصالح والسياسات الأمريكية الإيرانية تجاه أهداف وإجراءات مشروع التطبيع الإقليمي التي تُعيد النظام الإيراني السوري إلى “الحضن الإقليمي”، المتطبّع مع إسرائيل، تتكشّف دوافع وأسباب سعي الولايات المتّحدة لمنع حكومة الحرب من تدمير شروط التسوية السياسية الفلسطينية الإسرائيلية، التي ترى واشنطن إن أهمّ عناصر تحقيقها على الصعيد الفلسطيني هو حكومة وحدة وطنية فلسطينية بين “حماس وعباس”. ضمن هذا السياق، كان من الطبيعي أن يأتي في أولويات سياسات واشنطن في مواجهة مجريات وعواقب الحرب الإسرائيلية العدوانية على قطاع غزة ، ورفح والضفة العربية، ليس فقط منع توريط إيران في حرب شاملة ،غير متكافئة استراتيجيا مع ” إسرائيل “وشركائها العرب ، بل ومنع التدمير الكلّي والشامل لمرتكزات حماس السياسية والعسكرية، و “إسقاط ” مؤسسات سلطة أوسلو، عبر سياسات وخطط الوصول إلى تهدئة مؤقتة، تعمل على تحويلها إلى دائمة، وعبر أوراق الضغط و “المساعدات الإنسانية”!
بناء على هذه القراءة، يبدو جليّا طبيعة العامل الرئيسي الأمريكي في نجاح جهود عدم وقوع هزيمة سياسية وعسكرية شاملة بحماس، وعدم حصول غزو عسكري إسرائيلي شامل للجنوب اللبناني، حتى الآن !!
فلا غرابة، والحال هكذا، في أنّ تتقاطع وسائل دعاية المقاومة مع أبواق دعايات واشنطن في الترويج لفكرة أنّ “حماس تنتصر” ( مقال في ” الفورين أفيرز “!) بفعل قوّة المقاومة الذاتية ، المعادية للولايات المتّحدة، رغم حقيقة واقع موازين قوى الحرب، التي لن تُعطي ل”جيش “حماس ، في مواجهة “جيش الاحتلال الإسرائيلي”، فرصة واقعية للنجاة- إذا صحّت دعايات المقاومة والولايات المتّحدة بدعم واشنطن لحكومة الحرب في مواجهة العدو الإيراني المشترك، وأذرعه الإرهابية !!
علاوة على ذلك، التنوير الحقيقي هو الذي يكشف حقيقة أهداف سياسات السلطة القائمة لتشديد أدوات السيطرة وإفقار الشعب توافقا مع شروط ” المؤسسات الاقتصادية الإمبريالية” ، وتحشيد رأي سياسي عام ضاغط ، يحافظ على مصالح الطبقات الأكثر فقرا ، وليس نقد المقدس الشعبي ،وما ينتج عنه من خلق معارك هامشية ، تبعد الأنظار عن طبيعة سياسات الحكومات ، وتتيح لها تطبيقها في غفلة من الرأي العام ، الذي تنشغل نخبه بمعاركها الدونكشوتية حول ” عقلانية ” ثقافة التراث الديني!!
في الختام، ما سبق يبيّن طبيعة التضليل الذي تخلقه الدعايات، وما ينتج عنه في ثقافة ووعي الشعوب ونخبها، التي ما تزال غالبيتها الساحقة تقرأ الصراع في ضوء أفكار وأكاذيب الدعايات، وبالتالي طبيعة التنوير الواقعي ، المناضل ، الذي نحتاجه، ويكشف طبيعة أهداف ” الثقافة الإلحادية ” التي تصنّعها وتروجها أبواق ” تكوين ” تحت دعاية ” التنوير “و أهمية بناء عقلية ” عقلانية ” حول ثقافة التراث الديني !
- كما أكّدت تصريحات قيادات المقاومة على لسان السيد حسن نصر الله ، وفي مذكرات الراحل وزير الخارجية الإيراني، عبد الله اللهيان حول طبيعة الدور الإيراني في الصراع على سوريا، وممارسات ميلشياتها في سوريا بعد ربيع 2011، بررت القيادة الإيرانية رفض حراك الشعب السوري الإصلاحي الديمقراطي، واستخدام جميع وسائل إجهاض مسارات صيرورته ” ثورة ديمقراطية ” بذريعة أنّ الأمريكان يركبون موجات التغيير من أجل تقويض سلطات المقاومة “!