ماهر الشريف
لن أركّز، في هذه الورقة، التي تندرج في حقل تاريخ الأفكار، على مشاريع التطهير العرقي الصهيونية وسيرورات تطبيقها، إذ إن هذا الموضوع تناوله باستفاضة كلٌ من وليد الخالدي، ونور الدين مصالحة، وإيلان بابه، وإنما سأركّز على عدد من الأفكار الرئيسية التي وقفت في خلفية هذه المشاريع وسوّغتها، وسأتوقف عند أربع منها، وهي:
أولاً- إن فلسطين أرض مقفرة، لم يفعل العرب شيئاً من أجل استصلاحها وتطويرها، وبالتالي فإن من يملك الحق في امتلاكها هو مَن يعمل على ذلك، وهو الشعب اليهودي المتقدم حضارياً، لأنه يشكّل جزءاً لا يتجزأ من الغرب وحضارته.
ثانياً- إن اليهود يملكون حقوقاً تاريخية في فلسطين، وهي حقوق لا تتقادم مع الزمن، بينما لا يملك العرب الفلسطينيون مثل هذه الحقوق.
ثالثاً- إن العرب الفلسطينيين يملكون دولاً عربية كثيرة يمكنهم الانتقال إليها، بينما لا يملك اليهود وطناً خاصاً بهم سوى فلسطين.
رابعاً- إن التهجير الطوعي للعرب الفلسطينيين لن يكون ممكناً، وبالتالي لن يتحقق سوى عن طريق القوة التي يمكن أن تتخذ شكل الإرهاب.
وسأحاول فيما يتبع أن أسلّط الضوء على كل فكرة من هذه الأفكار الرئيسية الأربع.
اليهود المتقدمون حضارياً وحدهم القادرون بعملهم على تطوير فلسطين
كان أهارون دافيد غوردون (1856-1922)، المنظّر الرئيسي للنزعة القومية اليهودية خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، هو أول من طرح مبدأ الحق في الأرض من خلال العمل، إذ أكد، في سنة 1909، أن الأرض “تعود إلى الشعب الذي يتحمل المعاناة الأكبر من أجلها”، وهي تُكتسب بـ “عرق الجبين”، من جهة، وبالوعي بامتلاك “الحق” في ملكيتها، من جهة ثانية. وفي سنة 1915، كتب دافيد بن – غوريون (1886-1973)، عندما كان في الولايات المتحدة الأميركية، مقالاً بعنوان: “نحو المستقبل”، ورد فيه “أن أرض إسرائيل صحراء تغطيها الأنقاض، والأعداد القليلة من العرب الذين يعيشون فيها لن يكونوا قادرين على إحيائها ورفع أنقاضها”، وهي تنتظر “شعباً متطوراً ومتحمساً، وغنياً بالقوى المادية والروحية، ومسلحاً بالعلم والتقنيات الحديثين، كي يتجذر في هذه الأرض، ويستخدم الثروات الطبيعية، وخصائص الأرض، ومباركة المناخ، بحيث يروي الصحراء، ويجعل الهضاب المقفرة مزهرة، ويغني الأرض المنهكة، ويزرع الرمال، ويحوّل الأنقاض إلى جنان.” ولم يقتصر الأمر على عجز العرب الفلسطينيين عن استصلاح الأرض وتطويرها، بل إنهم لم يبدعوا أي شيء يذكر في فلسطين كي يطالبوا بحقوق لهم فيها، كما أكد أبراهام مناحيم أوسيشكين (1863-1941)، الرئيس الأول للصندوق القومي اليهودي، في معرض رفضه مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل في تموز/يوليو 1937، إذ كتب: “ليس هناك أي شعب أبدع في هذا البلد، منذ طرد اليهود، ثقافة بقيت حية؛ فهذا البلد شهد مرور شعوب عديدة تعاقبت عليه: يونان، ورومان، وبيزنطيون، وأكراد، ومماليك، وصليبيون مسيحيون، ومغول، وعرب وأتراك، لكن الثقافة العظيمة الوحيدة التي نشأت فيه هي ثقافة اليهود؛ من الصحيح أن العرب أبدعوا ثقافة عظيمة في دمشق، وبغداد، وفي إسبانيا، والعراق، لكن ليس في فلسطين، وصرحهم الوحيد فيها هو مسجد عمر، لكنه ليس سوى مكان مقدس ثانوي بعد مسجدي مكة والمدينة، وأكثر من ذلك، فإن صفة المكان المقدس التي يتحلى بها تعود إلى أنه بُني في موقع هيكل سليمان؛ وينتج من هذا كله، أنه ليس هناك مقارنة ممكنة بين الحقوق الإنسانية والتاريخية والثقافية لليهود في فلسطين، وبين حقوق العرب فيها.”
ويعود تفوق اليهود الحضاري إلى ارتباطهم بالغرب، كما أكد زئيف جابوتنسكي (1880-1940)، الذي وقف بحزم ضد تيار فكري صهيوني أكد ارتباط اليهود ثقافياً بالشرق، وكان ضمن المعبرين عنه الفيلسوف مارتن بوبر. فبعد أن استند رائد التيار التصحيحي في الحركة الصهيونية إلى مقولة لماكس نوردو، أقرب معاوني تيودور هرتسل، مفادها أن اليهود يعودون إلى فلسطين “كي يقوموا بتوسيع حدود أوروبا حتى تصل إلى نهر الفرات”، وبعد أن عرض بالتفصيل ما يميّز الغرب عن الشرق على الصعيد الحضاري، خلص إلى أن اليهود “ليس لديهم أي شيء مشترك” مع الشرق، بل هم ينتمون إلى الغرب، وأن هذا الانتماء يجد تعبيره، كما كتب، “في واقع أن أوروبا، من وجهة نظر معنوية، هي لنا كما هي لهم، أي للإنكليز والإيطاليين والألمان والفرنسيين”، ذلك بأن “آلاف اليهود قدموا مساهمتهم، في جميع البلدان، في العلم، والفلسفة، والفنون، والتقنيات، والسياسة والثورة؛ وعليه، فإن ابتعادنا عن ʾالغربʿ لنتبنى ما يميّز ʾالشرقʿ سيعني أن ننكر أنفسنا.”
الحقوق التاريخية في فلسطين لليهود وحدهم
وجد أهارون دافيد غوردون، مع الوقت، أن حجة الحق في ملكية أرض فلسطين عن طريق العمل لاستصلاحها وتطويرها ليست كافية وحدها، فراح يطرح، منذ أواسط سنة 1918، حجة أُخرى هي الحق التاريخي لليهود فيها، إذ كتب: “نمتلك حقاً تاريخياً في هذه الأرض، وهو حقنا ما دام لم تكتسبه قوة حيوية وخلاّقة بصورة حصرية، إن أرضنا، التي كانت ʾبلد اللبن والعسلʿ، أو على الأقل بلد الزراعة الراقية، أصبحت مقفرة وفقيرة أكثر من أي بلد متحضر، وباتت خالية تقريباً؛ وهذا الوضع هو بمثابة تأكيد لحقنا في هذا البلد.” من الصحيح أن غوردون وافق على أن “العرب يمتلكون حقاً تاريخياً في هذه الأرض”، لكنه سارع إلى أن يضيف: “لكن حقنا، هو من دون أدنى شك، أسمى من حقهم”، وخصوصاً أنهم “لم يمتلكوا مطلقاً السلطة السياسية فيها.” ومع مرور السنوات، بات الحق التاريخي هو الحق الغالب في تصوّر غوردون، الذي كتب: “نمتلك مع أرض إسرائيل عقداً لا يمكن لأحد ولا لأي أمر أن يلغيه، فهو عقد أبدي: وأتحدث هنا عن التوراة.. إن إبداعات كهذه، كإبداع العهد القديم، تضفي حقاً ثابتاً للشعب الذي أبدعها على الأرض التي أبدعها فيها، وخصوصاً إذا لم يبدع الشعب الذي جاء بعده شيئاً مشابهاً او لم يبدع شيئاً على الإطلاق.”
أمّا برل كاتزنلسون (1887-1944)، الذي احتل مكانة خاصة في حياة الحركة العمالية الصهيونية وتاريخها، فقد سعى إلى تبيان أن الحقوق المعنوية والتاريخية للحركة الصهيونية في أرض إسرائيل يجب أن تتفوق على أي حقوق أُخرى، وعلى قاعدة هذه الحقوق “يجب أن يسند الصهيونيون مشروعية احتلالهم للأرض أو تسويغ ترحيل السكان العرب لأغراض التوطن الزراعي عندما يتطلب الأمر ذلك”؛ فالسكان العرب لم يكن لهم، في نظر الزعيم الاشتراكي الصهيوني، أي حق جماعي في ملكية الأرض، وطرد عربي من الأرض لإفساح المجال أمام توطن زراعي يهودي هو أمر مشروع ما دام يتم التعويض عن الحقوق الفردية، التي لا تنطوي على حقوق قومية.
يمكن للعرب الرحيل إلى أراضي العرب الشاسعة وبلدانهم
رأى الأديب الصهيوني البريطاني يسرائيل زانغويل (1864-1926)، الذي كان مقرّباً من تيودور هرتسل، أن رحيل السكان العرب عن فلسطين هو الشرط المسبق لتحقيق الصهيونية، وكتب متسائلاً: “أليست جزيرة العرب ومساحتها مليون ميل مربع كلها لهم؟ ليس ثمة ما يدعو العرب إلى التمسك بهذه الحفنة من الكيلومترات في فلسطين؛ فمن عاداتهم وأمثالهم المأثورة ʾطي الخيمʿ وʾالتسللʿ، فلندعهم الآن يعطون المثل على ذلك.” وبعد صدور تصريح بلفور، اقترح زانغويل، إغراء العرب الفلسطينيين بالرحيل عبر تقديم تعويضات لهم في حال موافقتهم على التوطن في البلدان المجاورة، معتبراً أنه لا يمكن السماح لهؤلاء الناس “المتخلّفين” ثقافياً واقتصادياً بعرقلة عملية “إعادة البناء الثمينة” التي يقوم بها الصهيونيون. بينما أكد دافيد بن – غوريون، في لقاء جمعه بأعضاء جمعية “بريت شالوم”، في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1929، أن “أرض إسرائيل لا تعني بالنسبة إلى الشعب اليهودي ما تعنيه بالنسبة إلى الشعب العربي”، ذلك بأن الأمة العربية “تمتلك عدداً كبيراً من البلدان الواسعة جداً، والتي تعادل مساحتها في آسيا فقط ثلث مساحة أوروبا، في حين أن بلدنا لا يشكّل سوى جزء صغير من إقليم كبير جداً يقطنه العرب، والكثافة السكانية فيه ضئيلة جداً كما أن قسماً صغيراً فقط من الشعب العربي، يصل تعداده ربما إلى 7 أو 8 في المئة من مجمل العرب في البلدان الآسيوية وحدها، يقطن في أرض إسرائيل، لكن الأمر مختلف فيما يتعلق بالشعب اليهودي”، وتابع قائلاً “فهذا البلد، بالنسبة إلى الأمة اليهودية بأسرها، بكل أجيالها وفي كل المنافي، هو البلد الوحيد الذي ظل مصيرها ومستقبلها التاريخي مرتبطاً به.”
التهجير الطوعي غير ممكن ولا بدّ من اللجوء إلى القوة
منذ ولادة الصهيونية السياسية، طُرحت فكرة تهجير العرب الفلسطينيين، وكان التصوّر أن تجري عملية التهجير بصورة طوعية، إذ لاحظ تيودور هرتسل (1860-1904)، في يومياته في 12 حزيران/ يونيو 1895، أنه يتوجب نزع ملكية العرب بطريقة صحيحة، وكتب: “سنحاول تهجير السكان الأكثر فقراً إلى الجانب الآخر من الحدود من خلال توفير وظائف لهم في البلدان التي تستقبلهم، لكن مع رفض تشغيلهم في بلدنا، على أن تجري عملية نزع ملكية هؤلاء السكان الفقراء وإعادة توطينهم من دون عنف وبحذر.” وفي أيار/ مايو 1911، اقترح رئيس المكتب الفلسطيني للمنظمة الصهيونية آرثر روبين (1876-1943)، في رسالة وجهها إلى اللجنة التنفيذية للمنظمة الصهيونية، تهجيراً محدوداً للعرب الفلسطينيين نحو سورية، بحيث يقوم الصهيونيون بشراء مساحات من الأراضي في حلب وحمص في شمال سورية لتوطين الفلاحين العرب الذين حُرموا من أراضيهم في فلسطين. بينما دعا حاييم وايزمن (1874-1952)، في آذار/ مارس 1930، إلى الاستيلاء على أراضي شرق الأردن لتوطين عرب فلسطينيين فيها، كما اقترح تأسيس “شركة تنمية” بهدف تملك الأراضي القادرة على استيعاب عرب فلسطين المرحّلين إلى شرق الأردن. ورأى أبراهام حاييم أوسيشكين، في مقال نشره في صحيفة “دوار هيوم” في 28 نيسان/ أبريل 1930، أن التهجير هو الرؤية الواقعية الوحيدة على المدى البعيد، ذلك “لأن لنا مثالاً أعلى وأعظم وأنبل من الحفاظ على بضع مئات الآلاف من الفلاحين على أراضيهم.” وبعد أن تضمن تقرير لجنة بيل البريطانية، في تموز/ يوليو 1937، مقترح التهجير، تعززت هذه الفكرة لدى الزعماء الصهيونيين. ففي المؤتمر الصهيوني العشرين، الذي افتتح في زيوريخ في آب/ أغسطس 1937، وافق أغلبية المندوبين على خطة بيل، وقال آرثر روبين: “علينا أولاً أن نهيئ أرضاً للاستقبال في أحد البلدان العربية، أرضاً تناسب الفلاحين؛ وعندها فقط يمكننا أن نحاول نقلهم إليها، طوعاً قدر الإمكان؛ وإذا لم يكن هناك من وسيلة أُخرى، سنكون مرغمين على القيام بنزع ملكيتهم، وإلاّ سيتوجب علينا أن نمنح الأقلية العربية المهمة في الدولة اليهودية حقوقاً متساوية.” وفي الخطاب الذي قدمه دافيد بن – غوريون، في المؤتمر، في 7 آب/ أغسطس 1937، تم تناول مسألة التهجير، لكن محاضر المؤتمر الرسمية غيّبت مقطعاً ورد في الأرشيفات الصهيونية، وجاء فيه: “يجب أن نحلل بعناية مسألة التهجير، ويجب أن نتساءل عمّا إذا كان ذلك ممكناً، وضرورياً، وأخلاقياً، ومفيداً… ففي أجزاء كثيرة من البلد، لن يكون الييشوف قادراً على الحياة من دون تهجير الفلاحين العرب؛ إن لجنة بيل فحصت بعناية هذه المسألة وسيكون من المهم جداً أن يُقترح هذا المشروع من جانب اللجنة وليس من جانبنا…إن تهجير السكان العرب هو الذي سيسمح بتنفيذ برنامج مكثف لتوطين اليهود، ومن المفرح أن الشعب العربي يمتلك أراض واسعة غير مأهولة.”
لقد اعتبر الزعماء الصهيونيون أن تهجير السكان العرب برضاهم، أو بالقوة إذا اضطر الأمر، يجب أن يكون أحد المبادئ الأساسية للصهيونية، وكتب برل كاتزنلسون: “إننا نؤيد تهجيراً يقبله المعنيون، وتسوية بين الشعبين، لكن بما أن مثل هذه التسوية لن تكون ممكنة، فطريقة التهجير الوحيدة ستكون اللجوء إلى القوة.” وقد تعززت فكرة التهجير القسري هذه بعد تأسيس منظمة “الإرغون”، في ربيع سنة 1931، بقيادة أفراهام تهومي، ثم انخراطها في حملة قمعية واسعة ضد الفلسطينيين، قبل أن تنكر شرعية وجود البريطانيين في فلسطين، وتقوم بتحركات ضدهم بعد صدور “الكتاب الأبيض” في سنة 1939، وتعلن الثورة عليهم في شباط/ فبراير 1944 حين صارت تحت قيادة مناحم بيغن.
كان قد التحق بمنظمة “الإرغون”، في سنواتها الأولى، تجمع مثقفين صغير لكنه نشيط حمل اسم استفزازي هو “تحالف قطّاع الطرق”، وتمتع بنفوذ أيديولوجي واضح، وبات معبّراً عن اليمين القومي الأشد بأساً، وقف على رأسه ثلاثي مكوّن من يهوشوا يفين، وأوري تسفي غرينبرغ، وأبا أهيمير (1897-1962). وبالنسبة إلى هذا الأخير، واسمه الحقيقي شاؤول جيزينوفيتش، كان العنف، بصفته قوة حيوية، هو طريق الخلاص، الذي يحطم القيود التي تقيّد الأمة اليهودية. وهو إذ يحمل الموت إلى معسكر العدو، يؤكد إرادة الأمة في العيش، التي تنطوي على وعي بالحاجة إلى التضحية. فإرادة العيش، تتطلب القدرة على تقبل الموت والقدرة على تقبل إماتة الآخرين. ومع أن أبا أهيمير كان أول من أشار بوضوح إلى بريطانيا بصفتها العدو المطلق للشعب اليهودي، غير الوفي لتصريح بلفور، إلاّ إنه بقي شديد الإعجاب بالحضارة الأوروبية وديناميتها التاريخية؛ فالغرب هو نموذج القوة، والإمبريالية هي التظاهرة الملموسة لحيوية أوروبا، وتفوقها على جميع المجتمعات الأُخرى، بدءاً من الشرق المتخلّف والبربري. وهذه النظرة الاستشراقية، جعلته يتبنى صورة نمطية للعربي، بصفته كائناً ماكراً لا يفهم سوى لغة القوة. وهو قدّر أن الصهيونية التي تنتمي بصورة كلية إلى الحضارة الغربية، على الرغم من كونها التعبير عن ثقافة متميّزة، يجب أن تكون القوة السياسية التي تسيطر من دون تحفظ على عرب فلسطين. وفي مقال له بعنوان: “إرهاب”، نُشر في سنة 1942، أكد أبا أهيمير أنه “لا يمكن للأخلاق والتقاليد اليهودية إدانة الإرهاب كوسيلة من وسائل المعركة، ذلك بأن أمر التوراة، الشريعة الأكثر أخلاقية بين الشرائع، هو: ʾاقضوا عليهم، اقضوا عليهم حتى النهايةʿ؛ ونحن نشعر بأننا متحررون من التردد إزاء عدو، يعرف كل العالم انحطاطه الأخلاقي.”
خاتمة
سوّغ زعماء الحركة الصهيونية فكرة الترحيل أخلاقياً بالزعم أن الفلسطينيين “لم يكونوا شعباً ذا حقوق وطنية في فلسطين”، بل مجرد “عرب” يمكنهم أن يقطنوا في أي بقعة من الأرض العربية الواسعة. ولهذا الغرض، فهم قاموا بالحطّ من قيمة الحركة الوطنية العربية، من جهة، ونفي صفة الحركة الكولونيالية عن الصهيونية، من جهة ثانية. فقد رأى برل كاتزنلسون في الحركة الصهيونية “حركة استيطانية وليست حركة استعمارية، لأنها لم تسعَ مطلقاً إلى إقامة علاقة سيد/عبد أو علاقات استغلال للسكان المحليين”، بينما لم تكن الحركة الوطنية العربية، في نظره، معادية للإمبريالية، بل كانت حركة تفتقد جذوراً اجتماعية عميقة، وتلهمها معاداة الأجانب وتجد أصلها في رغبة البورجوازية والأنتلجنسيا المحليّتين في الحلول محل الأجانب الذين يحتكرون المناصب الرئيسية في الإدارة، وفي الاقتصاد الوطني، وفي المجتمع بصورة عامة. أمّا الجمهور الواسع من السكان العرب فهو لا يهتم فعلاً بالسياسة، وإنما شغله الشاغل هو تحسين مستوى معيشته، وبسبب تأخره وجهله، فهو عاجز عن تكوين رأي بنفسه، ويشكل بالتالي فريسة سهلة لرجال السياسة الطموحين. وقد رفض كاتزنلسون وصف صدامات “هبّة البراق” في سنة 1929 بـ “الثورة”، أو بالانتفاضة؛ فالعرب ارتكبوا بوغروماً، كما كتب، كالذي ارتكبوه ضد اليهود في صفد والخليل في سنة 1838، وخاطب أعضاء البوعالي تسيون الألمان بقوله: “كنا سنكون من أوائل من يشعرون بالسعادة لو كانت الحركة العربية حركة تحررية، ذلك بأننا كنا في هذه الحالة قد وجدنا بسهولة الطريق إلى قلبها”، وتابع: “إن حركة ترفض التنازل عن قطعة أرض صغيرة في حدود 26,000 كيلومتر مربع في حين أنها تمتلك أرضاً تمتد على مساحة أربعة ملايين و500,000 كيلومتر مربع، فقط في الشرق الأوسط، إن حركة كهذه هل يمكن أن تكون حركة تحررية، حركة مناهضة للإمبريالية؟”
هذه هي بعض الأفكار الرئيسية التي سوّغت مشاريع تهجير الفلسطينيين من وطنهم في الماضي، وهي أفكار ظلت قابعة في خلفية مشاريع التطهير العرقي الصهيوني التي نحن شهوداً عليها في الحاضر.