الكتابة عن القدس ونابلس: عارف الحسيني وسحر خليفة وغيرهما

في الكتابة عن «طوفان الأقصى» توقفت أمام الكتابة من داخل غزة والكتابة من خارجها. شغلني الموضوع وشغل كتاب غزة الذين لم يرق لقسم منهم ما نكتبه، فما نكتبه هو كتابة من يده في الماء لا في النار؛ كتابة المسترخي على كنبه لا الجالس في خيمة، كتابة الشبعان الريان لا كتابة الجائع العطشان، فمهما حاولنا أن نعبر عن أحوالهم وأن نصفها، فإن تعبيرنا لا يعبر عما يعانون منه.
في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب كان عاطف أبو سيف يكتب من مخيم جباليا ومن رفح، وكنت أكتب من نابلس، ويستطيع أي ناقد لما كتبه كلانا أن يرى الفرق في الأسلوب ودقة الوصف وتتبع التفاصيل، فبينما كان يكتب عن هدم البيوت وموت سكانها وجوعهم وفقدان الأصحاب ورثائهم، كنت أكتب كتابة تتكئ على ما أقرؤه وما أسمعه وما تحفل به الذاكرة من أحداث مر بها الفلسطيني وكتب عنها.
هكذا حفلت نصوصي بنصوص أدبية فلسطينية أنجزها أدباؤنا منذ قصيدة عوض «ظنيت إلنا ملوك» مروراً بأشعار إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي وسميرة عزام فغسان كنفاني وإميل حبيبي وغيرهم، وهذا كله لن تجد منه شيئاً فيما كتبه عاطف.
في ٢٦/ ١٢/ ٢٠٢٤ كتب محمود شقير مراجعة نقدية لرواية المقدسي عارف الحسيني، فعقبت عليها مركزاً على أن ما كتبه عارف عن القدس من حيث تصوير البلدة القديمة وعاداتها وتقاليدها لن تقرأ شبيهاً له في كتابات كل من كتب عنها، حتى في كتابات روائيي القدس مثل محمود شقير وجميل السلحوت وإبراهيم جوهر وعزام توفيق أبو السعود وعيسى القواسمي وآخرين، وقد أخذ الكاتب شقير برأيي فيما يخصه هو والسلحوت وجوهر، فالثلاثة من القدس ولكنهم ليسوا من البلدة القديمة. إنهم من ريفها. ولا أعرف لماذا احترز فيما يخص أبو السعود والقواسمي. أيعود إلى أن نصوصهما لم تحضر في ذهنه حضور نصوص الاثنين اللذين ذكرهما؟
والصحيح أنني عدت إلى ثلاثية أبو السعود ثانية «حمام العين وصبري وسوق العطارين» لأتأكد من دقة حكمي، وهو حكم أصدرت مثله مفصلاً حين كتبت عن القدس في رواية الداخل وفي رواية الخارج، وأقصد بالأخيرة روايات علي بدر «مصابيح أورشليم» وواسيني الأعرج «سوناتا لأشباح القدس» وحسن حميد «مدينة الله»، فالثلاثة كتبوا عن القدس قبل أن تطأها أقدامهم، ثم زارها الأولان بعد أن صدرت رواية كل منهما.
لقد لاحظت أن الكتابة في ثلاثية أبو السعود في جزأين منها تركز على بلاد الإنجليز «صبري» وعلى الريف الفلسطيني «حمام العين» في زمن لم يكن الكاتب شاهداً عليه – أي قبل العام ١٩٤٨ العام الذي ولد فيه – ويركز الجزء الثالث «سوق العطارين» على أجواء البلدة القديمة ويصف عادات سكانها وتقاليدهم وأعراسهم، ومع ذلك فثمة في ثلاثية عارف وصف أدق وتوقف أمام جزئيات مقدسية لم تبلغها «سوق العطارين» مثل المفردات اللغوية المقدسية واللهجة المدينية المقدسية وأمثال المقدسيين، ثم إن عارف يكتب عن العقود الأربعة الأخيرة – أي عن فترة هو شاهد عليها.
ما لاحظته على رواية القدس لاحظته أيضاً في الروايات التي كتبها أبناء نابلس عنها، مثل سحر خليفة، والروايات التي كتبها عنها من لم يزرها أو لم يقم في حواريها القديمة، مثل رشاد أبو شاور وإلياس خوري.
يمكن أن تقرأ، على سبيل المثال، روايات سحر «عباد الشمس» و»باب الساحة» و»ربيع حار» وأن تقرأ معها رواية رشاد «شبابيك زينب» ورواية إلياس «رجل يشبهني» لتلاحظ الفارق الواضح في وصف العادات والتقاليد النابلسية، عدا دقة وصف المكان والنماذج البشرية المختارة.
في «عباد الشمس» وصف لأجواء الحمامات العامة الداخلية وما تفعله النسوة فيها وما يغنينه بعد الاستحمام.
مثل هذا لن تقرأ مثيله في روايات من يكتب عن المدينة من غير أبنائها، ومثله بعض العبارات النابلسية الصرف، ولا أظن أنها حضرت في روايات سحر لولا تشربها لها وامتلاؤها بعوالمها.
وأنا أكتب عن رواية إلياس المذكورة توقفت أمام ما كتبه عن المكان النابلسي وأمام ما كتبه عن الكنافة وأمام لهجة أهل نابلس، وكان لي ملاحظات عديدة، وعلى الرغم من أن هناك وسيطاً نابلسياً كان بين الكاتب والكتابة عن نابلس إلا أنه لم يتشرب روح المكان ولغته وعاداته بل والإلمام به مثل سحر.
كتبت عما كتبه عن الكنافة وقارنته بما أعرف فلاحظت اختلافاً. كأنما كتب عن الكنافة في بيروت لا في نابلس، ولاحظت أن النكتة المشهورة الشائعة في نابلس لم ترد على لسان أي من شخصياته «إلكن إلكن. كولوهن قبل ما يبردوا». وحين دققت في لهجة شخصياته النابلسية لاحظت أنها تنطق أحياناً اللهجة اللبنانية، فلم يستطع إلياس أن ينسى نفسه ولهجته وهو يكتب عن مدينة فلسطينية.
هناك روائي فلسطيني هو جمال أبو غيدا كتب في روايته «خابية الحنين» عن شخصية نابلسية تمثلها تمثلاً جيداً، علما أنه لم يعش في نابلس، وعندما سألته أنى تم له ذلك، أجابني بأنه عرف هذه الشخصية في عمان حيث أقام وأنه أصغى إليها جيداً (للمهتمين ينظر موقع رمان ١/ ٦/ ٢٠١٨).

المصدر:

https://al-ayyam.ps/ar/Article/409122/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3-%D9%88%D9%86%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%B3-%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%B3%D8%AD%D8%B1-%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%BA%D9%8A%D8%B1%D9%87%D9%85%D8%A7?fbclid=IwY2xjawHXqtFleHRuA2FlbQIxMQABHe2-sipyC8asMnY4HLOhz3hQiRCUCs8qMhqC-V1um78ymKa1Ivf_R6j7Ng_aem_VQYGpVJo-TGVmqgJs37zZg

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …