أجلسُ، الآن، في مطعم بيتزا بسيط في “يوكموك” Jokkmokk ، وهي بلدة سويدية تقع شمال الدائرة القطبية الشمالية مباشرة؛ وأتحدث مع أندِش سونّا: Anders Sunna ، الفنان من شعب الـ “سامي” Sámi حيث يقع مشغله الصغير على بعد مبنيين من هنا. وشعب السامي هم السكان الأصليون في مناطق أقصى شمال شبه الجزيرة الإسكندنافية، ويمتد وجودهم أيضاً إلى الأجزاء الشمالية الغربية من روسيا.
نحن الآن في منتصف شباط؛ والجو بارد. ورغم تأخر طعامنا، لكنه تأتينا أخيراً بكل ترحاب في هذه الظروف القاسية.
سألتُ “سونّا”، الذي يبدو هادئاً وتعلو وجهه علامات الارتياح: “هل تتذكر أبرد شتاء مرّ عليك هنا”؛ فيجيب: “نعم، كان ذلك في التسعينيات عندما وصلت درجة الحرارة إلى نحو 48 درجة مئوية تحت الصفر”، فيعترض سائق الحافلة الذي كان يأكل معنا ويقول: ” لا، بل كانت، في الواقع، ناقص 51″. فيستذكر “سونّا” ويقول ” آه نعم، أجل لقد كانت ناقص 51 فعلاً.. ما زلت أذكر أن مقياس الحرارة الذي أملكه لم يصل إلى هذا الحد من قبل أو من بعد “.
من الصعب، بل يبدو من المستحيل معرفة ما إذا كان يقول الحقيقة أم كان هذا مجرد مزاح، نظراً لغياب أي نغمة درامية في صوته. فعدت لأسأله؛ ما شعوركَ وأنت تتجول في البلدة والحرارة تصل إلى 50 درجة تحت الصفر، فيجيب هذه المرة بصراحة بادية: ” لن تستطيع حتى أن ترمش، أضمن لك ذلك، أول ما يؤثر البرد؛ يؤثر على العينين من الصعب أن ترمش”. تدعك إجابة “أندِش سونّا” في حيرة من صعوبة تجاوز تفسير بعض الظلال المجازية في إجابته.
هو واحد من ثلاثة فنانين ينتمون لشعب السامي الإسكندنافي؛ يعملون لإبقاء أنظارنا وتركيزنا يتجهان نحو جزء من عالمهم، . ويعمل “سونّا” رفقة الفنانة “ماريت آن سارا”Máret Ánne Sara من الجزء النرويجي من أرض شعب السامي؛ والفنانة “باولينا فيودوروف” Pauliina Feodoroffمن الجزء الفنلندي، حيث يُشار إلى أراضيهم الآن بالمصطلح الكولونيالي “لابلاند” Lapland . اختير هؤلاء الفنانون الثلاثة لعرض أعمالهم في الجناح النوردي Nordic Pavilion في بينالي فينيسيا. وتولي أعمالهم باهتمام بالغ التهديدات التي تواجه شعبهم. وتمتاز أعمالهم بالقوة، والوضوح، والمباشرة وهي ذات طابع سياسي حاد؛ ولا شك أن البعض ممن يتوقع رؤية سحر وسذاجة فولكلورية في مثل هذه الأعمال سوف يصاب بالذهول من حدة لسعتها الناقدة ومن الجدل الذي يلفها ويطغى على معظمها.
وتصف كاتيا غارسيا أنطون Katya García-Antón ، قيّمة ومديرة مكتب الفن المعاصر بالنرويج، الفنانين الثلاثة بأنهم “قادة جيلهم”، الذين “يسعون جاهدين للدفاع عن أسلوب حياة شعب السامي ونظرته إلى العالم والترويج له”. وليس بجديد القول إن شعب السامي على خلاف مع حكومات البلدان التي تقع فيها أراضيهم، ويمكن القول إنهم على خلاف أيضاً مع معنى الحداثة ذاتها”. وللعلم؛ يبلغ تعداد الشعب السامي (الذين كانوا يعيشون في السابق حياة البدو الرحل) ما بين 50000 و 100000 (لا توجد بين أيدينا سجلات رسمية عن الرقم الحقيقي)، يكسبون عيشهم، عبر تاريخهم، من صيد الأسماك والطرائد وجمع النباتات، كما اعتمد العديد منهم على تربية حيوان الرنة.
وحتى القرن التاسع عشر، تعرض شعب السامي للتجاهل، إلى حد كبير، من طرف الاسكندنافيين الذين استقروا في جنوب شبه الجزيرة، عندما فرضت عليهم سياسات الاندماج والاستيعاب القسري، والتي تسببت بحدوث صدامات دينية وثقافية، وظهرت في الآونة الأخيرة صراعات أخرى مستجدة ذات طبيعة اقتصادية. وتركز معتقدات السامي الشاملة على ضرورة احترام الموارد الطبيعية في المنطقة والعيش في وئام معها. لكن هذه الأمور تعرضت للهجوم في السنوات الأخيرة بسبب التطور السريع لمشاريع التعدين وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية. وقد وُصِفت هذه المبادرات على أنها نوع من “الكولونيالية الخضراء”، ذات النتائج المدمرة، ولكن للأسف لا يذكر منها سوى القليل المتعلق بالتغير المناخي.
يحتفظ الشعب السامي بتاريخ حافل من المقاومة النشطة ضد جميع أنواع “الاستيطان” التي أدت إلى تدمير طرق عيشهم، وآخر مثال على ذلك كان “حملة أولتا” Áltá Action ، وهي حركة احتجاجية ضد بناء محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية في أقصى شمال النرويج. بيد أن تلك الحملة فشلت، رغم استمرار نشاطها من السبعينيات حتى ثمانينيات القرن الماضي، في ثني الحكومة النرويجية عن تنفيذ مشاريعها. لكن نشاطها دفع الحكومة إلى إصدار قانون جديد في العام 1987 يحمي لغة وثقافة شعب السامي، وتأسيس برلمان سامي بعد ذلك بعامين.
وهنا تكمن المفارقة حيث يتم إيلاء اهتمام في الوقت الحالي، أكثر من أي وقت مضى، لقضية شعب السامي، فبتنا نرى لجان الحقيقة والمصالحة تتعامل مع الخطوات التنفيذية أو المخطط لها في البلدان الثلاثة لما يعرف بـ “الاستعمار النوردي- الإسكندنافي Nordic colonialism“، ومن المقرر أن تفتتح الملكة سونيا، ملكة النرويج، الجناح النوردي في بينالي البندقية، وتأتي هذه الإجراءات في الوقت الحالي لأن ما يتعرض له شعب السامي بات يمثل تهديداً وجودياً حقيقياً
يعرض عليّ “سونّا” داخل مشغله لوحة يضع عليها لمساتها الأخيرة، سيعرضها في بينالي البندقية. وتظهر اللوحة مواجهة بين رعاة الرنة من شعب السامي والسلطات السويدية. ويقول “سونّا” إن عائلته تعتبر، من وجهة نظر الحكومة السويدية، “خارجة على القانون” لدفاعها ضد سياسات الإخلاء ومنع ممارسات الرعي الموروثة. لقد دار الصراع في قاعات المحاكم وكذلك في الغابات. ويشرح كيف تعرضت عائلته “لتهديدات جسدية”: ” تعرض عمي للتهديد في الغابة، وتوقفت أمامه سيارة ومصابيحها الأمامية مضاءة وتقدم نحوه رجل يحمل بيده سكيناً”. فأقول له يبدو هذا مثلما نقرأ عن الغرب المتوحش Wild West، فيجيبني على الفور” أجل إنه الغرب المتوحش”.. “إنها حرب. أي نعم لم يُقتل أحد حتى الآن، لكنها حرب، في نهاية المطاف “.
سوف تكون لوحته جزءً من الجناح النوردي وتجمع بين صور هزلية للمشرعين الساخرين مع رسم خطي مروّع للجمجمة – أعتقده مزيج من جورج جروس وجان ميشيل باسكيا- ، بما يردد صدى قاعات المحاكم التي حوكمت فيها عائلة “سونّا” والتي فشلت -رغم محاولتها- في الدفاع عن حقوقها. وسوف يترافق مع المعرض تشغيل مقتطفات صوتية من المحاكمات كخلفية للوحات المعروضة ؛ وسوف يغلب على تلك المقاطع أيضاً أصوات “مثل صوت الريح.. تقريباً”، على حد قول “سونّا”، والذي يعتقد أن الاعتداء على حقوق الرعي لشعب السامي هو محاولة ضمنية، بحكم الأمر الواقع، للقضاء البطيء والتدريجي، لكنه زاحف، على أسلوب حياتهم : “يريدون منا صنع سيارات فولفو خارج مدينة يوتيبوري Göteborg “.
ويخطر لي سؤاله عما إذا كان يشعر، بعد كل هذه السنوات من النضال، باليأس والرغبة في الاستسلام. فيجيب بحدة: ” كلا! مستحيل. لن نتخلى عن حقوقنا قط. نشأنا وكبرنا مع هذا الصراع. لا نعرف شيئاً آخراً غيره “.
تقع قرية “كاوتوكينو” Kautokeino النرويجية على بعد حوالي 450 كيلومتراً شمال “يوكموك”، وتعتبر مركزاً ثقافياً لشعب السامي، ويقع فيها أيضاً مشغل الفنانة “ماريت آن سارا Máret Ánne Sara” والتي تُعد من بين أكثر الفنانين شهرة بين جميع فناني شعب السامي، ويرجع الفضل في ذلك إلى حد كبير إلى عملها الرائع “Pile o’Sápmi” (2016-2020) الذي لفت الأنظار في معرض كاسيل في ألمانيا في العام 2017. وهو عبارة عن 400 جمجمة لحيوانات الرنة معلقة جميعها تحتوي على ثقب في وسطها بمساحة حجم رصاصة، ويمثل العمل رداً آخراً على معاملة الرعاة من طرف السلطات الحكومية وتسجيل إضافي لمعركة مديدة أخرى للدفاع عن حقوق شعب السامي. وقد حاولت سارة بعملها الفني هذا جذب الانتباه إلى محنة شقيقها الأصغر، “يوفست أونتي” Jovsset Ánte ، الذي تعرض للإفلاس عندما أُجبر على إعدام نصف قطيعه لتحرير الأرض من أجل مبادرات اقتصادية “خضراء”. وكانت المحكمة النرويجية العليا نظرت في قضيته في العام 2017 ـ وبعد جلستي استماع لصالحه، أصدرت قرارها ضده ليخسر الدعوى. فما كان من “سارا”، بعد صدور الحكم، إلا القيام بوضع عملها “Pile o’Sápmi” في الهواء الطلق خارج البرلمان النرويجي في أوسلو كنوع من الاحتجاج. وتقول “سارا” إن الهزيمة الأخيرة في المحكمة تركت الأسرة “محطمة” للغاية. وهي تعتبر قرار المحكمة “مرسوماً سياسياً ليس إلا؛ وأكثر منه حكماً قضائياً”
كـأنهم يقولون لنا ” الحكومة تعرف ما هو الجيد لك أكثر منك ، ونحن نفعل ذلك لمصلحتك الخاصة”.. لكننا أمضينا خمس سنوات في هذه القضية، واستثمرنا الكثير من أنفسنا فيها، مالياً وعاطفياً وروحياً “. لكن أثر “Pile o’Sápmi” لم يمر مرور الكرام، فقد اشترى المتحف الوطني الجديد في النرويج العمل، حيث سيتم عرضه بشكل بارز في بهو المدخل عند افتتاحه. تضمنت شروط سارة الخاصة لبيع عملها كتابة نص من تعليقها يرفق معه، بالإضافة إلى احتفاظ شعب السامي بملكية العمل ما لم يكن معروضاً.
سوف تكون مشاركة سارة في بينالي البندقية بمثابة خاتمة للأحداث التي ألهمتها إنتاج “Pile o’Sápmi“. لكنها لا ترغب الآن الكشف عن الكثير بخصوص هذا الموضوع. لكن وجود حفنة من جثث عجول الرنة في مشغلها لا يشير إلى أن الأمر ستكون له هناك نهاية سعيدة واضحة.
يدرك كلاً من “سونّا” و”سارا” أهمية ظهور عملهما في البينالي كفعل ونشاط سياسي فضلاً عن كونه أسلوباً لمواجهة التهديدات التي تواجهها ثقافة شعب السامي، ويعلق “سونّا” بهذا الخصوص: “من الصعب الحديث عن هذه الأمور بطريقة سياسية. سيكون الفن موقعه في الخلف، سوف يتراجع في هذه الحالة إلى الوراء”، يشرح ذلك؛ وهو يشير بيده التي تلتوي لترسم خطاً متعرجاً؛ ثم يردف “بهذه الطريقة فقط تستطيع إخراج هذه المشاعر التي بداخلك.”، وترى “سارا”، الصحفية والكاتبة السابقة، وجود إمكانات أكبر أيضاً على صعيد القوة التواصلية لفنها أكثر من الأشكال الأخرى. وكانت قد صرحت، الشهر الماضي، خلال حفل إطلاق الجناح النوردي في معهد لندن للفنون المعاصرة London’s Institute of Contemporary Arts، بعدم شعورها “بالسعادة مباشرةً” كرد فعل أولي عندما طُلب منها عرض عملها في البندقية.. وتابعت تقول: “نعم! .. لماذا علينا الصراخ بصوتٍ عالٍ، لماذا ينبغي لنا تمزيق أرواحنا بسبب العرض؟ كان علي إجراء محادثة عميقة مع نفسي.. محادثة أحسها، أشعر بها “. لكنها تستدرك وتقول أيضاً إن القيم التقليدية لشعب السامي، التي تضع قضايا الإنسان واهتماماته على قدم المساواة مع قضايا واهتمامات الحيوانات والطبيعة، التي تتعرض الآن للتهديد أكثر من أي وقت مضى، يمكنها مساعدة العالم بأسره… أتلقى الكثير من الأسئلة من المتاحف، التي يعير القيمون عليها بخيبة أمل كبيرة بسبب الوضع شديد الصعوبة الذي بات عليه العالم… وكأننا نقول هذه الاستراتيجيات تعلن عن فشلها، وما علينا سوى السعي لمعرفة ما هو أعمق كنز يمكننا تقديمه في هذه الأزمة ولها .
هكذا هي رسالة سارة الواضحة لجمهورها في بينالي البندقية، وهي رسالة تفي، على كل حال بأهم متطلبات الفن: الأمل في تفكر هذا العالم بطريقة جديدة ، ولا نحيد نظرنا عنه بعيداً.
الصورة: أحد أعمال أندِش سونّا