المخاض السوري… كعب آخيل وطني

علي العبد الله

تواجه سورية في مخاضها الجديد معادلة مركّبة شديدة التعقيد، تنذر بمخاطر جسيمة على الصعيدين المحلي والإقليمي. أطراف المعادلة هيئة تحرير الشام وحلفاؤها، فصائل سلفية التوجّه، قوى المعارضة، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وهيئة التفاوض بمنصّاتها المتعدّدة والمتعارضة، وبقايا التنسيقيات، ومنظمات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، اليسارية والقومية، بالإضافة إلى جهات قومية ومذهبية تستبطن تحقيق خلاص خاصِّ بها بتبنّي الاتحادية أو اللامركزية الموسّعة، وفصائل مسلحة تريد الاحتفاظ بتشكيلاتها وأسلحتها داخل وزارة الدفاع. وشعبٌ تعب من الحروب والظروف الحياتية القاسية والمدمرة. هذا بالإضافة إلى تنافس إقليمي ودولي على إدارة المخاض والتحكّم به ودفعه في مسارات لتحقيق أهداف دول كثيرة متعاونة في ملفات ومتنافسة ومتعارضة في أخرى، ما زاد في تعقيد الموقف جاعلاً تحقيق الانتقال السياسي والأمن والاستقرار أكثر صعوبة.

تنطوي المعادلة على تضارب في التوجّهات والخيارات والمصالح، حيث لهيئة تحرير الشام، وحلفائها، رؤاها وتصوراتها وأهدافها، لم تعلن عنها بشكل واضح وكامل، لكنها بدأت تمرّرها على دفعاتٍ عبر قرارات وزارية وتعيينات إدارية وعسكرية نفذت معظمها وكرّستها، مع أنها لم تحظ بشرعية وطنية، نفّذت على خلفية امتلاك الهيئة، وحلفائها، عناصر قوة لفرض أمر واقع يناسبها من دون الاعتداد بالشرعية الوطنية، وذلك لأنها تعتبره، الأمر الواقع، نتيجة منطقية لنجاحها في إسقاط النظام، من جهة، ولأن ميزان القوى يميل لصالحها، من جهة ثانية. في حين يطرح الطرف الثاني رؤى مختلفة إلى درجة التناقض، أساسها الديمقراطية، بما تستدعيه من تعدّدية سياسية وحرّيات عامة وخاصة واحترام حقوق الإنسان وتداول على السلطة عبر صناديق الاقتراع، والعلمانية، والمواطنة، مدخلاً لإنصاف مكونات المجتمع، مع شعور عارم بالغُبن على خلفية أنها تعرّضت لخسارة دورها ومكانتها، بسبب اختطاف الهيئة ثورة الحرية والكرامة، وهي ليست جزءاً أصيلاً منها، وتوظيفها ورقة تحقيق هدف الثورة بإسقاط النظام للتفرد بالحكم، حيث جاء إعلانها (الهيئة) نهاية الثورة، وكل ما أرتبط بها من أطر ومؤسّسات سياسية وإدارية، مباشراً وصريحاً، وتنفيذها جزءاً من رؤاها وتصوراتها وأهدافها، من دون التفاتٍ للرأي العام الوطني.

لقد حققت الهيئة، وحلفاؤها، هدف الشعب السوري، وجهات عربية وإقليمية ودولية عديدة، بإسقاطها النظام البائد بكل قواه ومرتكزاته وشبكة علاقاته وارتباطاته، خاصة مع إيران، لكنها ذهبت بعيداً في تجاهل السياق العام للحدث ومقدّماته، ثورة شعبية وقوى سياسية واجتماعية تحمّلت عبء مواجهة قاسية ودامية استمرّت سنوات دفعت فيها أثماناً باهظة، بشرياً ومادياً، عبر بسط سيطرتها على البلاد وملء الفراغ السياسي والإداري، برجالها ورجال حلفائها، وكأن ليس لما حصل قبل إسقاط النظام قيمة أو اعتبار. الطريف أن التعيينات، والتي ينفرد أحمد الشرع في تقريرها، تجري على قاعدة الولاء لا الكفاءة، من تعيين رئيس أركان مدني للجيش المزمع تشكيله ومنحه رتبة لواء، في العُرف العسكري لا يتولى رئاسة الأركان إلا جنرال ترقّى في العمل العسكري وكسب خبرات كبيرة وخضع لدورات أركان عديدة؛ لأن دوره قيادة الجيش والتخطيط له زمن الحرب والسلم. وتعيين رئيس لمحكمة النقض، التي توصف بمحكمة القانون، من خارج سلك القضاء، مدرّس للتربية الدينية، لا يمتلك مؤهلات النظر في قانونية المحاكمات التي ستُعرض عليه، وتعيين حامل شهادة ابتدائية رئيساً للقصر العدلي في حمص، وظيفة غير معروفة سابقاً كأنها ابتُدعت لإرضاء هذا الشخص، وتجاهل حساسية موضوع إشراك العائلة في السلطة عبر تعيين شقيق قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، ماهر، وزيراً للصحة، وتعيين صهره مديراً عاماً للجمارك، ما أثار التندر: خلصنا من بيت الأسد أجونا بيت الشرع. ناهيك عن تصرف وزارة الهيئة في البلد بوصفها سلطة كاملة الصلاحيات، تعدّل في برامج التعليم وتحدّد طبيعة النظام الاقتصادي، وتشكّل جيشاً سورياً جديداً، وتمنح رتباً عسكرية عليا لأجانب، تمهيداً لاحتلالهم موقعاً قيادياً في الجيش الجديد، وتفصل موظفين حكوميين من وظائفهم، مع أنها سلطة تصريف أعمال إلى حين تشكيل سلطة انتقالية.

وهذا بالإضافة إلى العمل على صياغة الفضاء السياسي بما يخدم تصوّر هيئة تحرير الشام لطبيعة النظام السياسي، حيث بدأت باختبار إمكانية تنظيم مؤتمر حوار وطني ذي طابع اجتماعي بدعوة شخصيات للمشاركة بوصفهم أفراداً أو ممثلين لطوائف أو عشائر، ما يعني إبعاد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني عن المشاركة، بحيث تكون هي القوة الوحيدة المنظّمة في المؤتمر، ما يتيح لها فرض تصوّراتها وخياراتها. وهو ما تضمّنته بعض تصريحات الشرع، خاصة حديثه عن عقد بين الدولة والطوائف، حتى بدا وكأنه يأخذ باليسرى ما يقدّمه باليمنى، ويؤكّد تقديرات وانطباعات سوريين كثر عن عمل الهيئة لتحقيق أهدافها الخاصة وتنفيذ رؤيتها وتصوّرها لسورية المستقبل وعدم ارتباطها بأهداف ثورة الحرية والكرامة.

ليس الوضع على الضفّة الأخرى، ضفة القوى السياسية والمدنية، أفضل حالاً، تتصرّف هذه القوى وكأنها ما زالت في مواجهة النظام البائد، تكرّر الطروحات نفسها وترفع الشعارات التي رفعتها منذ عقود، وكأنها غير مدركةٍ طبيعة ما حصل في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، أو لم تستوعب طبيعة التغيير الذي حصل وطبيعة السلطة الجديدة بعقيدتها ومشروعها السياسي، أو غير واعية باللحظة السياسية وميزان القوى غير المؤاتي وطبيعة الموقف العام، تكرّر خطابها المعادي للإسلام السياسي، تكرّر خطابها في هذا المجال، مع أنها ترى وتلمس أن الجهات الخارجية التي حاولت استرضاءها بالتناغم معها في معاداة الإسلام السياسي لم تتوقف عند هذه القضية في تعاطيها مع السلطة الجديدة ذات الخلفية السلفية، طالما رضيت هذه الأخيرة الالتزام بتحقيق مطالب معيّنة.

كان الخطاب المعادي للإسلام السياسي لدى أحزاب وقوى سياسية سطحياً ومصلحياً، باستثناء بعض الحالات العلمانية الفجّة والمنفصلة عن الواقع، فاللحظة السياسية تستدعي إعادة نظر في الموقف من الإسلام السياسي، والإقرار بحقّه في التنافس على السلطة، مثل كل التيارات الفكرية والسياسية، على أن يتم ذلك عبر صناديق الاقتراع، والعمل على تأسيس خطاب سياسي جديد، يلحظ هذا الحق ويبحث عن أسس ومرتكزات للتعايش والتعاون، عبر التخلّي عن مطالب غير واقعية وغير شعبية، كالعلمانية، إما باختيار صيغة مرنة من العلمانية، كما هو الحال في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أو تبنّي اقتراح محمد عابد الجابري (رحمه الله)، باستبدال العقلانية بالعلمانية، فالتعاطي مع الموقف الراهن بحاجةٍ إلى إدراك الموقف العام، حيث غالبية الشعب لا تشاركها موقفها من الإسلام السياسي، وأنها، غالبية الشعب، منهكة وتبحث عن استراحة قد تكون طويلة، ولن يسعدها أو يحرّك نوازعها للعمل من أجل التغيير أي خطاب، مهما كان محتواه، بل ستجد فيه تهديداً لمصالحها في الأمن والاستقرار، وسترضى بقليلٍ من المنافع والخدمات تقدّمها السلطة الجديدة، طالما جاءت مصحوبة بالأمن والاستقرار. لذا لن ترى في أي صدام مع السلطة الجديدة وجاهة أو منطقاً، حتى لو كانت كذلك، وستنظر إلى أي تحرّك في هذا الاتجاه بسلبية شديدة.

عكست المواقف المعلنة للطرفين تمسّك كلٍّ منهما برؤاه وتصوراته وأهدافه، ما يثير هواجس المجتمع ومخاوفه من ذهابهما نحو قطيعة ومفاصلة مأساوية تدمّر الإنجاز الأسطوري: إسقاط النظام، فالعمل السياسي في الساحة السورية يعتمد تقليدياً قاعدة “كل شيء أو لا شيء”. وهذا جعل “الهيئة” تنفّذ رؤاها وتصوراتها من دون انتظار مؤتمر الحوار الوطني ونتائجه وخياراته؛ وجعل القوى السياسية والمدنية تعترض وتكرّر مواقفها وطلباتها التقليدية؛ بعضها يأمل بفشل “الهيئة” حتى لو أضر ذلك بالوضع العام؛ والخيار المنطقي في هذه اللحظة هو تدوير الزوايا.

لا خيار سوى الذهاب إلى مساومات وحلول وسط توافق فيه كل الأطراف على تنازلات وتعديلات في مواقفها ومطالبها. وعليه، على السلطة الجديدة تبنّي سياسات بدلالة المصلحة العامة لا بدلالة مصلحة حزبية أو فئوية، وأن تكون أولويتها تحقيق الأمن والاستقرار في الداخل، وذلك عبر الانفتاح على السوريين، كل السوريين بأديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وانتماءاتهم الفكرية والسياسية والحزبية من دون تمييز. وهنا لا يكفي التسامح مع المكونات الدينية والمذهبية والقومية، فالتسامح ينطوي على رفض مضمر للمتسامح معه مع غضّ نظر عن طبيعته، فالقضية الرئيسية هي الاعتراف بحقوق أفرادها باعتبارهم مواطنين متساوين، يشاركون في تقرير مستقبل البلاد، والتأسيس لمناخ يفتح على استعادة الإحساس بالانتماء المشترك عبر التأكيد على العدالة والمساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات وإطلاق الحريات العامة والخاصة، حرّية الرأي والتعبير وتأسيس الأحزاب والنقابات والمنظمات والجمعيات، وعبر تشكل هيئة حكم انتقالية وصولاً إلى وضع دستور جديد وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية حرّة ونزيهة، خاصة وحكومة الإنقاذ في إدلب ليست مؤهلة لإدارة دولة بحجم سورية، فهيكلها صغير، أقلّ من سبعة آلاف موظف، والهيئة ليست حركة جماهيرية، بحيث يمكنها الاعتماد على حضورها في القطاعات المهنية وفي الطبقة الوسطى.

هناك عجز هائل في القوى والموارد البشرية. وقد تجلى ذلك في التعيينات التي جرت وممارسات الوزراء، فالانفتاح والتصرّف بدلالة الوطن وتحقيق العدل والمساواة بين المواطنين، وتنفيذ خطّة مدروسة للعدالة الانتقالية مدخل مضمون لاستعادة الوحدة الوطنية ولاكتساب الشرعية السياسية والاجتماعية وتوظيفها في الردّ على مطالب الخارج، كما علي هيئة تحرير الشام الإعلان عن التمسّك بالقانون الدولي والشرعية الدولية مدخلاً ومفتاحاً للتفاعل والتعاون مع جميع الدول، لكسب ثقتها ودفعها إلى المشاركة في تذليل العقبات والصعوبات أمام عملية الإقلاع الوطني وعملية إعادة الإعمار. وعلى الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني إعادة النظر في خطابها السياسي وتصوّراتها بحيث تلحظ طبيعة اللحظة السياسية ومقتضياتها، وأن تكون أولوياتها إنجاح المرحلة الانتقالية وتحقيق الأمن والاستقرار عبر الانخراط مع “الهيئة” في حوار سياسي عميق، مباشر وغير مباشر، وعبر الضغط السياسي والاجتماعي من أجل تصويب الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والعمل على إنجاز استحقاقات المرحلة الانتقالية عبر المشاركة بالسلطة بكل مستوياتها، ما يستدعي تثقيل دورها وتعزيز مطالبها، عبر بناء وإعادة بناء الأحزاب ومنظمّات المجتمع المدني، من نقابات عمّالية وفلاحية ومهنية وفنية وشبابية ونسائية، والتعاون والتنسيق في ما بينها. وهذا مع تجاوز الانقسام الديني والمذهبي والقومي في بنيتها، وذلك عبر فتح المجال أمام الجميع للانخراط في هذه المنظمّات ونشاطاتها الخاصة والعامة.

تلعب الإيجابية والتشاركية من كلا الطرفين دوراً مهماً في إنجاح الانتقال السياسي بسلاسة، لأنها تساعد على تهدئة الأجواء ولجم دعاة التشدّد واحتواء محاولات الاستئثار والتفرّد والخلافات الداخلية بين الفصائل والقوى السياسية والاجتماعية، ما يجنّب المرحلة الانتقالية وقوع صراعات جانبية بين الفصائل، بذريعة الإصلاح وتصحيح المسيرة وتوفير الأمن والاستقرار الذي فشلت السلطة الجديدة في توفيرهما، ويقطع الطريق على التدخّلات الخارجية ومشاريعها للتحكم بالمرحلة الانتقالية.

المصدر

https://www.alaraby.co.uk/opinion/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D9%83%D8%B9%D8%A8-%D8%A2%D8%AE%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

صادق العظم وفكرة العلوية السياسية.

  يطرح عليّ كثير من الأصدقاء المشتركين بيني وبين صادق العظم، الذين هم من أصول …