صديقي الشنفرى كان سبباً من أسباب قراءتي المبكرة لما أنتجه الناقد الفلسطيني الراحل يوسف اليوسف.. تلك قصة قديمة تعود إلى عام 1977، عندما كنت في الصف الثاني الإعدادي في إعدادية الكرمل بمخيّم اليرموك.
ما أزال أذكر ذلك الفتى أخضر العينين الذي صادفته في أثناء دراستي تلك السنة، كان اسمه مروان اليوسف؛ وإذ قامت بيننا صداقة طفولية، أو شبه طفولية زرته في بيته، وهناك في غرفة الضيوف رأيت مكتبة، لم أكن قد رأيت مثلها في حياتي، ولم أكن آنذاك على علاقة وثيقة بالكتب المرفقة في الخزائن، فسألت مروان:
ـ لمن هذه الكتب؟
ـ لأبي.
في ظهيرة ذلك اليوم من عام 1977 رأيت يوسف اليوسف، لأول مرة في حياتي، دخل بقامته المديدة ووجهه المتجهم، وألقى في وجهي ابتسامة سريعة، ثم أنّب ابنه على تقصيره، وقال لنا: نحن ـ الفلسطينيين ـ ليس لنا إلا العلم، فتبرع مروان: “يوسف أشطر طالب في الصف”، فسألني: ماذا تقرأ غير كتبك المدرسية؟ أشرت إلى “تاريخ الأدب العربي” لحنا فاخوري، فأردف: ومن تعرف من الشعراء، قلت له: عنترة، فازورَّ عنّي قائلاً: كل الناس يعرفون عنترة، قلت له مرتبكاً: والشنفرى أيضاً. وإذ ذكرت اسم الشنفرى تلبسته حالة من الفرح الذي لم أعرف له سبباً، ثم حدثني دقيقتين، وأعطاني من رفوف المكتبة كتاباً، بعد أن وعدتُه بقراءته..
عُدت في ذلك اليوم فرحاً إلى البيت، فقد كانت تلك المرة الأولى التي أتلقى فيها هدية، كتاباً من المؤلف نفسه، ولم أكن قد رأيت مؤلفاً قبل ذلك، ولعلّي كنت أظنّ أن المؤلف كائن نوراني لا يدبّ على الأرض، ولا يظهر بين الناس إلا في أيام التجلّي.
هكذا بدأت علاقتي مع يوسف اليوسف، مع كتابه “مقالات في الشعر الجاهلي”، وكنت قبل أن أقرأ كتابه قد مررت مروراً سريعاً على بعض ما كتبه شوقي ضيف وحنا الفاخوري في هذا المجال. وإذ أسرعت إلى ما قاله عن الشنفرى رأيت شيئاً عجباً: إن ما يقوله يختلف اختلافاً بيناً عما قاله الرجلان. لقد عدّ وجود الحيوان في لامية الشنفرى تجلّياً من تجليات المعادل الموضوعي، وهذا ما لم أفهمه حينذاك، فعدت إلى أبيات الشنفرى:
ولي دونكم أهلـون: سيدٌ عَمَلّس…. وأرقطُ زهلولٌ، وعرفاء جيألُ
هم الرهطُ لا مستودعُ السرّ شائعٌ….. لديهم ولا الجاني بما جرّ يُخذلُ
عندئذ شعرت بلذة مختلفة، شعرت كأنني أقرأ الأبيات لأول مرة، أحسست أنّ قراءة يوسف اليوسف قد أضافت شيئاً لإحساسي بالنص، شيئاً يمكن أن اسميه (لّذة النص)، وعليه سأفهم هذا المصطلح البارتي فيما بعد مستنداً إلى تلك القراءة المبكّرة.
رافقتني هذه الحالة من ثمّ إلى الجامعة، وكانت كتب الناقد يوسف اليوسف رفيقاً دائماً، وكنت أحرص دائماً على إعادة قراءة النصوص الشعرية بعد قراءة نقد اليوسف، سعياً للشعور بتلك اللذة. وأشير هنا بشكل خاص إلى (مقالات في الشعر الجاهلي) و(بحوث في المعلقات) و(الغزل العذري)؛ إذ وجدت فيهما نقداً يتجاوز ما كنت قد ألِفته من قراءات موضوعية للنصوص الجاهلية، أو قراءات تدّعي أنها قراءات فنية، مكتفية باستخراج الجمل الإنشائية والخبرية، وتحليل الصور الجمالية بطريقة تقليدية، دون التغلغل في عمق النص، وكشف دلالاته الخبيئة.
لقد قدّم اليوسف للنظرية النقدية التي تناولت الشعر الجاهلي خدمات جُلّى، فأدخل إلى قراءة النص الأبعاد النفسية التي تعنى بكشف الدوافع (الجوّانية) المحفّزة لإنتاج الشعر، مستفيداً من التراث النقدي العربي والغربي لإنتاج نقد عربي جديد يرسّخ ما دعاه د. نعيم اليافي، فيما بعد، بالمنهج التكاملي، دون أن يتخلّى عن التحليل الاجتماعي والاقتصادي والبيئي للنص الجاهلي، رابطاً إياه بما عاناه الشاعر الجاهلي من تهدّم حضاري وقمع جنسي وطبيعة قاسية لا ترحم.
نضيف إلى ذلك أنّ عناية الناقد بفكرة اغتراب الشاعر عن مجتمعه الجاهلي، لأسباب مختلفة (النابغة، عنترة، الشنفرى)، وهو ما سيتجلّى لاحقاً بفكرة اغتراب الشاعر ـ أي شاعر ـ عن مجتمعه، لأنّ ظاهرة الإبداع وفقاً لرؤية اليوسف تتجلّى بفكرة جوهرية هي اختلاف المبدع عن الآخرين، وتفرّده، ومن ثم اغترابه الذي يقوده إلى فكرة نبيلة يحملها، وتمنح أدبه جدارة الأدبية.
ولا نريد ها هنا أن نختلف مع الناقد يوسف اليوسف، في أثناء الحديث عن رحيله الفاجع، حول ماهية الشعر، وجوهره، والبحث عن القيم المتسامية التي تمنح النص جوهر خلوده، و”الغريزة المثالية” التي تنتجه، بل نريد أن نسجّل أن اهتمام اليوسف بالفلسفة المثالية قاده إلى نوع من القراءة المتعمّقة التي ستظهر في كتبه الأخرى، وهي تبحث عن الشخصيات التي حققت ذاتها بطريقة مثالية، بدءاً من تناوله شعراءَ الغزل العذري، مروراً بتجربتي ابن الفارض والنفري، وصولاً إلى غسان كنفاني، إذ يسعى أولئك، كلّ بطريقته، إلى تحقيق الذات عبر الإخلاص للفكرة التي يؤمن بها، والسعي إلى تحقيقها في كتابته وفي حياته.
لقد كان الناقد يرى في الأدب، وفي الشعر بشكل خاص، علاقة خاصة بين النفس والأشياء، فهو يقول في حوار أجراه معه كل من عبد المنعم قدورة وسعيد البرغوثي في العدد 30 من مجلة نزوى، قبل سنوات: “إن الشعر شعور، وعلى الأشياء أن تستحيل إلى مشاعر كي تصير صالحة للولوج في بنية القصيدة الحية الفاتنة. ولست أؤكد على شيء بقدر ما أؤكد على أهمية التجربة الانسانية، أقصد بالضبط ممارسة الإنسان للحياة وعلاقته بها. إن الشعر، بل الفن بعامة، إنما يخزن أو يستضيف العلاقة التي بين النفس والأشياء، فالنفس بغير الأشياء ليست سوى خواء، والأشياء بغير النفس ليست سوى حياد، أو حتى بلا معنى. ولهذا يجوز القول بأن الكون لم يكتمل إلا يوم جاء الإنسان، أو الوعي، إلى الوجود”.
يقودني هذا الكلام إلى مغامرة كنتُ قد قمت بها عام 1988، أي في بداية أحداث الانتفاضة الأولى، إذ (غامرتُ) بعرضِ مقطوعة شعرية عليه، كنتُ قد كتبتها حول الانتفاضة، (وعرض قصيدة على الأستاذ يوسف اليوسف مغامرة كبيرة، فهو الذي لا يعجبه العجب، ولم ينجُ من نقده أكبر الشعراء وأعظمهم). أذكر أن عنوان القصيدة كان “ما تبقى من الجرح”، فكتب لي تحتها ملاحظة مختصرة: “تنقصُها ملعقةٌ من ماء القلب”.
جلست يومذاك مع الأستاذ أحمد السرساوي، وهو من أصدقاء الأستاذ يوسف المقرّبين، وضحكنا كثيراً على “ماء القلب” هذه. غير أنني اكتشفت فيما بعد أن هاتين الكلمتين تلخصان نظرته للشعر، وللأدب عموماً، فهو يرى أن السامي المتسامي جوهر الأدب الخالد في الشرق والغرب، وأنّ التعبير عن الأشياء دون القدرة على نقل إحساس المبدع إلى القارئ يفقد الأدب، في نظر الناقد، جوهره النبيل.
* * * * *
وعلى الرغم مما يبدو من ثقافة نقدية رفيعة في كل عبارة ينحتها الناقد يوسف اليوسف، فإنه يبقى مصرّاً أن وعيه النقدي لم يتشكّل من هيغل وفرويد والآمدي والجرجاني، بل من النكبة الفلسطينية ذاتها، لأن النكبة جعلته يؤمن أن الضمير هو الخير الأعظم في الإنسان، وأنّ جوهر الأدب، بوصفه نشاطاً إنسانياً، هو التعبير عمّا أسماه الروح النبيل.
من هذا الروح النبيل الذي يراه اليوسف ضرورة تجعل من الإنسان جديراً بصفته الإنسانية ينطلق ليقدّم للمكتبة العربية عدّة كتب، تحيل على فلسطين ماضياً وحاضراً فيؤلّف عن حطين وغسان كنفاني وسميرة عزام وغير ذلك من الكتب التي يدافع بها عن الثقافة الإنسانية، والشخصية الحضارية للشعب العربي الفلسطيني الذي يراه شعباً شهيداً، وفقاً لمقابلة أجراها معه أسامة العبد، ونشرها المحلق الثقافي لصحيفة الثورة الدمشقية في 7/1/2006: ” إننا شعب شهيد ضحى به العالم على مذبح يهوه، ولصالح كائنات ذات أنياب زرقاء”.
في جزء من تلك المقابلة يقدّم اليوسف تعريفاً بكتابه (تلك الأيام) الذي يؤكّد فيه أن طرد الفلسطينيين تم بفعل مسلسل من المجازر الشنيعة؛ لذلك يرى من واجبه، بوصفه مثقفاً كونياً يسعى إلى إعلاء قيمة الوجدان، ألا يسمح للعدو بإزالة تفاصيل الحضارة الفلسطينية، وأن يبرز في ذلك الكتاب تقاليد الزواج والعرس والعيد والدبكة والغناء واللباس، وغير ذلك مما يمنح الإنسان الفلسطيني حصانة حضارية لا تمكّن أعداءه من اقتلاعه.
إنّ من يقرأ “تلك الأيام” يدرك مدى اهتمام اليوسف بالتفاصيل، تلك التفاصيل القابعة في ذاكرة الطفل الفلسطيني الذي خرج من فلسطين، وهو ابن عشر سنوات، وحمل معه الزمان والمكان إلى المنفى، وحاول أن يرسم في منفاه ظلاً لذلك الوطن، تَجَسّدَ في حديقة منزله في مخيم اليرموك، تلك الحديقة التي كان يشرب فيها قهوته الصباحية، وينتمي إليها كمن ينتمي إلى ذاكرة وطن.
أتذكّر تلك الحديقة مثل ظلّ باهت، وقد كتبت إلى صديقي عصام سعيدان (وهو صديق المثنى أحد أولاد الناقد الكبير) أسأله أن يثبت لي تفاصيلها في ذاكرتي، فأشار إلى أن اليوسف الذي كان يشرب قهوته الصباحية ويدخن ويقرأ في تلك الحديقة الأثيرة إلى نفسه.
كأنّ رحيله القسري من فلسطين، وكأن هجرته من لبنان إلى مخيم اليرموك لم تكفيا لكسر قلبه… لذلك جاءت هجرته الثالثة، من مخيم اليرموك بعد أن دخله المسلحون، وصار جزءاً من لعبة الأمم في سورية، لينتقل إلى مخيم نهر البارد، ثمّ إلى عالم أخير ينتظر فيه عدلاً كان يبحث عنه طوال حياته..
وإذا كان “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله” كما يقول المتنبي، فما هو شأن يوسف اليوسف، وهو ذو العقل الذي كان يعاني جحيم النفي والقهر والخيبة؟؟