هذي أغاني الجرح تتلوها الشفاه.. هذي صلاة.. فاكتب على هام الحياة قصص الأباة.
ولد الفدائي الفلسطيني باجس محمود أبو عطوان، الملقب بـ ” أبو شنار” في بلدة دورا- الخليل عام 1950، بعد أن فقد أهله أراضيهم التي احتلت عام 1948 حاله حال مجاميع اللاجئيين المشردين حتى اليوم، اضطرت عائلته إلى الانتقال إلى أراضيهم الوعرة في خربة الطبقة ( إحدى خرب دورا)، التي كانت معقلا لمقاومة الانتداب البريطاني.، تلقى باجس تعليمه الإعدادي في مدرسة دورا الثانوية، ولكن ظروف الحياة القاسية اضطرته إلى الانقطاع عن الدراسة والعمل مع والده في مقهى البلدة.
“من غسق الليل وفجر غدي ومروج السندس في بلدي ودم شعبي الملتهب لونت خيوطك يا علمي“
في 13 نوفمبر 1966 وقعت معركة السموع الشهيرة في قرية السموع / قضاء الخليل حيث تذرع كيان الإحتلال بحجة وجود قاعدة للعمل الفدائي في بلدة السموع في الضفة الغربية التابعة للأردن آنذاك، وأنها قامت بعدة عمليات عسكرية في عمق الأراضي المحتلة. الأمر الذي دعاها إلى مهاجمة هذه البلدة في لواء الخليل. إلا أن بعض الخبراء يرون أن هذه العملية كانت لاستدراج الجيش الأردني للحرب واختبار مدى فاعلية القيادة العسكرية العربية الموحدة وكانت المواجهة مع لواء حطين. بعد المعركة بعث الفتى باجس أبو عطوان رسالة الى الملك حسين، ربما كانت أغرب رسالة تصل للقصر الملكي؛ رسالة موجهة للملك الأردني الحسين بن طلال، وموقعة باسم “باجس أبو عطوان”. سأل الملكُ رئيس ديوانه: من هذ الذي يخاطب الملوك بهذه اللغة ؟!!، لا بد أنه شخص مهم .. وماذا يقصد بعبارته: “أدعوكم لتحريك قواتكم المسلحة على الفور، للثأر لشهداء السمّوع، والدفاع عن قرانا وخِـرَبنا” ؟!! جاء في تقرير رئيس المخابرات العامة: “شاب مجهول، عمره ستة عشر عاما، يسكن في بلدة فلسطينية اسمها “دورا” .. ترك المدرسة قبل سنة، يعمل مع والده في مقهى البلدة الوحيد “.. مـرَّ عام كامل، لم يتلقَّ باجس ردا من القصر.
صدمة كبيرة استيقظت عليها الامة العربية في الخامس من حزيران عام 1967 ، هزيمة جديدة ونكبة تضاف لسجل فلسطين ومأساتها.
وبينما كانت أخته هيفاء عائدة من مدرستها في آخر يوم دراسي، وفي طريقها نحو “خربة الطبقة”؛ حيث كان أهلها يستعدون لموسم الحصاد، كان رهط من الخِرب المجاورة يتراكضون من أمامها بشكل محموم، في عيونهم علامات خوف وقلق، وما أن عادت مع أهلها مساء للبيت، حتى علم الجميع بالخبر الفاجع: وقعَت النكسة.
وتنظموا يا أهلنا وتسلحوا.. وكافحوا وتصاعدوا.. شدوا الزناد.. هذي هي ثورتنا.. وهذا دربنا
كان “باجس”، قد سمع منذ سنتين عن مجموعات فلسطينية مسلحة تشن غارات على مواقع إسرائيلية، تطلق على نفسها “قوات العاصفة”. من هؤلاء الفدائيون ؟ كيف يصل إليهم ؟ هل يكتب لهم رسالة ؟، وإذا كتب لهم هل سيردون عليه ؟! كان يترقب سماع أي خبر عنهم، يتطلع لرؤيتهم، يتمنى قدومهم لجبال الخليل. لم ينتظر “باجس” طويلاً؛ فقد جاءت خلية فدائية وضربت هدفا قريبا من “خربة الطبقة”. سرعان ما عرف طريقه إليهم، والتحق هو ووالده في صفوف الثورة الفلسطينية وتحديدا قوات العاصفة (الجناح العسكري لمنظمة فتح).
وكان بيتهم في “خربة الطبقة” المشرفة على المنطقة التي تحيط بها الأودية والجبال الوعرة ملتقى للفدائيين الفلسطيين وخلايا الثورة للتخطيط للهجمات الفدائية والعمليات والتزود بالمؤن والسلاح، وعلى الفور جعل من المقهى الذي يعمل به هو ووالده في دورا مركزا للرصد وحلقة للوصل وتبادل الرسائل والمعلومات اللوجستية . وقد لاحظت المخابرات الصهيونية ذلك فجعلت البيت والمقهى تحت المراقبة.
بعد أشهر من تسديد الضربات الموجعة للإحتلال سجن أبو باجس وهدم بيته والمقهى (غرفة عمليات باجس وفدائيي المنطقة) وطلبت السلطات الإسرائيلية من باجس الإستسلام، إلا انه رفض تسليم نفسه والتجأ، مع مجموعته إلى الجبل. وهناك شارك باجس في عدة عمليات عسكرية وحاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي اعتقاله أو اغتياله عدة مرات.
هذي الطريق اتمهدت بدمنا.. يوم النصر يا شعب لا تنسانا
لجأ “باجس” للجبال، رافضا تسليم نفسه، كان الحاكم العسكري يعرف معنى اعتقال فتاة فلسطينية لأناس يعتبرون المرأة عنوان شرفهم؛ فاعتقل أختيه (عبلة وهيفاء ) بتهمة الانتماء للمنظمات الفدائية وسجنتا عبلة 9 أشهر وهيفاء 6 أشهر و في محاولة يائسة لليّ ذراعه، ولأشهرٍ عديدة، كلّما ذكّـرَهُ أحد بأختيه الأسيرتين، كان يجيب: “احنا في زمن الثورة، وكل شي اختلف”. ثم يغنّي بصوت مرتفع: طل سلاحي من جراحي .. منذ الآن، صار “باجس” “أبو شنار” .. وسيعيش “أبو شنار” في الجبال، متنقلا من وادي إلى آخر، مثل نحلة تحمل رحيق الثورة، وجعبتين رصاص، ونايٍ يؤنس وحشته في الليالي الطوال .. شكّلَ مجموعة ضاربة من أربعة عشر فدائيا، وعلى مدى سبعة أعوام، نفَّذ ما يزيد عن المائة وخمسون عملية .. كان يضرب في جوف الليل، مُسـخِّراً عتمته، متخفياً تحت جنحه، وفي أطراف النهار، متسللا ً بين زخات الرصاص، أو كامنا تحت الردم، صامدا صمود النخيل في سنين القحط .. يختفي فجأة في أوقات حرجة، ثم لا يلبث حتى يظهر بسرعة كما أنه البرق في بهيم الليل، محتفظا بابتسامته، ومن عينيه يشع بريق الأمل، الموت يحوم من حوله، وهو يؤجله سنة بعد سنة. كانت كل هجماته مركزة على دوريات الجيش، لم يقتل مدنيا واحدا، حتى معسكرات الجيش القريبة من المدنيين كان يتجنبها؛ فقد كان يخشى أن ينتقم الاحتلال من القرى والخِرَب الفقيرة.
والعين قوس القدح وسيوف مسحوبة.. راحو راحوا.. لبسوا العتم !بقامات مهيوبة.. ناديت بالله ارجعوا ماتلتفتو صوبي
سبع سنوات وهو يقارع الاحتلال، لم تحد بندقيته بوصة واحدة عن قبلتها .. صار أهزوجة شعبية .. وزغرودة على شفاه الصبايا .. وحكاية ترقى لمستوى الأسطورة .. أرّق المحتلين واوجعهم.
والمطلوب الأول على قوائم الاغتيال، ظل مخبأه سرا غامضا حيَّـرَ الجميع .. كلما نصبوا له كميناً أفلت منه، فقد كان يحفظ جبال الخليل بتلالها وقيعانها وحجارتها وكهوفها. وذات مرة وجد نفسه مطوقاً بفرقة من القوات الإسرائيلية، ولا سبيل أمامه للمناورة؛ فانسل بخفة الفهد في تجويف صخري ضيق، بالكاد أدخل جسمه فيه ثم أغلقه بحجر جيري كبير، بحثوا عنه حتى سخرت منهم حجارة الوادي، وارتدوا خائبين.انتقل “باجس” مع فدائييه إلى منطقة الجوف؛ هناك احتفظ بسر مقره الجديد حتى يوم شهادته؛ حين خانه صديق مقرب، وأعطاه صندوق ذخيرة ملغَّم.
كان باجس متلهف على تلقيم الكلاشن بمشط مذخر، لم يكن يعلم أن لحظات قليلة بقيت له على أرض أحلامه؛ فما أن فتح الصندوق حتى انفجر بوجهه، ارتمى “باجس” على كتف رفيقه “علي ربعي” وظل ينزف إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة، أما “علي” فقد نسي جراحه ودمه الذي ظل ينزف. سبع سنوات وهو يقارع الاحتلال، لم تحد بندقيته بوصة واحدة عن قبلتها .. صار أهزوجة شعبية .. وزغرودة على شفاه الصبايا .. وحكاية ترقى لمستوى الأسطورة .. كان أرقَ المحتلين وأوجعهم.
أخذت القوات الإسرائيلية جثة الشهيد للتشريح، وبعد 24 ساعة تمت إعادتها، وفي صباح يوم الخميس 19/6/1974 نقل الجثمان إلى دورا، ولفّ بالعلم الفلسطيني وسجي في مسجد دورا الكبير، وسارت الجموع بالجنازة إلى مقبرة النبي نوح عليه السلام حيث دفن الشهيد بجوار مدرسته التي تعلم فيها.
أضلعي امتدّتْ لهم جسرًا وطيدْ.. من كهوفِ الشرقِ.. من مستنقعِ الشرق.. إلى الشرقِ الجديدْ
من تقرير نشرته وكالة وفا الفلسطينية عن الشهيد باجس أبو عطوان: ” لم يكن يريد من الثورة أكثر من بندقية، بندقية ليست مجانية، بل سيدفع ثمنها من عمله الشاق في المقهى، من مشيه مسافة 5 كم يوميا من خربته “الطبقة” إلى بلدة دورا، جنوب الخليل.
)52 عملية مسلحة) ضد الاحتلال، نفذت في الجبل والشارع والقرية والخربة، في ضوء الشمس وعتمة الليل، لم يقدم فلاح واحد شهادة واحدة ضد باجس أبو عطوان، فهو لم يقتل بقرة، ولم تمتد يده إلى تينة، ولا إلى عنقود عنب من دالية.
كان يقول دائما لرفاق المجموعة: “لم نأتِ كجراد، والثورة تدفع مخصصاتنا، وما أكثر ما تتأخر، ولكننا لسنا موظفين في بنك، ولم يستأجرنا أحد لحمل البندقية”.
يتصل باجس في الحاكم العسكري: آلو، إنني أبو شنار أو باجس أبو عطوان، أريد أن أقول لك إن “أبو علي” راعي الغنم قد ولد له طفل هذا اليوم، وان فلاحا من دورا قدم لنا ثلاثة ديوك وسلة تين وصحارة عنب، وبدأنا نزرع القمح والتين والعنب في الجبل، ولدينا طاحونة، ونحن نأكل خبزا ساخنا، ولدينا بقرة، نحن نشرب الحليب. ثم يلقي باجس بالسماعة ويصرخ الحاكم العسكري آلو آلو.. ثم يُنسَف بيت أبو باجس.
وان هدموا بيتي .. يا بيتي في ظل حطامك أنا صامد..
بنت هيفاء وعبلة، شقيقتا الشهيد، البيت من جديد، ثم جاء الاسرائيليون ونسفوه ثانية، كانوا يرفضون أن يكون هناك سقف لعائلة باجس أبو عطوان، في المرة الأولى (1968) كان سبب نسفه تجنيد موسى أبو عطوان لابنه باجس وعلي ابو مليحة والتخطيط لعملياتهم قبل المطاردة، فيما كان النسف الثاني (1971) سببه باجس وعملياته.
وتبصق الاخت الكبرى في وجه الحاكم العسكري للخليل الذي كذب على والدها في السجن، وقال له إن باجس قتل، وفي ذلك الوقت كان باجس يدفع سبعة دنانير لأحد رعاة الأغنام من رأس غنم، قبض الراعي الدنانير ومضى وهو يحدث نفسه: البنادق في أيديهم ومع ذلك فهم يدفعون الثمن.
لقد دفعوا الثمن، وكانوا دائما يدفعون ثمن ما يأكلون. (مات البطل، عاش البطل.. لمعين بسيسو(...
في العام الذي استشهد فيه باجس (1974) الشاعر والكاتب معين بسيسو يتولى رواية باجس ويصدر: “باجس أبو عطوان.. مات البطل عاش البطل”، والتي صدرت عن دار الفارابي في بيروت بالطبعة الثانية سنة 2014.
وجاء في “مات البطل عاش البطل”: “الان بدأ الفلاحون يعلمونه ما لم يتعلمه في المدرسة، ما لم يتعلمه في الكتاب، وفوق اللوح الاسود. كان يسمعهم يتحدثون وهم يتأوهون عن أيام زمان، حينما كان الباعة في أسواق بئر السبع وغزة ويافا يصيحون وهم يرفعون عناقيد العنب الذهبية في ايديهم: يا عنب الخليل يا عنب.. كانت بئر السبع على مرمى عنقود من العنب، وكانت يافا على مرمى عنقودين، وكانت غزة على مرمى ثلاثة عناقيد، أما الآن.. أما الآن…
ويتابع بسيسو رواية البطل: لأول مرة بدأ باجس يحب الجغرافيا، فكان حينما يمضي الى بيته في خربة الطبقة، كان يفتح المصور الجغرافي على خارطة فلسطين ويضع اصبعه على يافا وبئر السبع وغزة، وعرف لأول مرة مأساة الفلاحين الجغرافية، انهم لا يستطيعون ان يقفزوا في الهواء لكي يصلوا الى تلك المدن، التي كانوا يصلون اليها بالباصات او التركات او حتى ظهور الحمير.. ان عنقود العنب ليس هو بساط الريح…
خلال أيام تدريبه في الجيش الاردني، كانوا يدربونه على اطلاق الرصاص ضد أكياس الرمل، كان العدو واضحا، ومع ذلك فقد حولوه الى عدو غامض، يمكن أن يكون كل شيء، كيس رمل وكيس ماء ايضا. ولم يكن باجس في حاجة الى من يدربه على استخدام البندقية، او ممارسة الكراهية للاحتلال، كان بحاجة الى شيء اسمه: البندقية.
من قلب الخيمة وليل المنفيين.. من ذل الوقفة على باب التموين.. فجرنا ثورتنا .. وعلى دربها مشينا.. وزمام قضيتنا.. هيّو في إيدينا
باجس يتصل بنشطاء من “قوات العاصفة” التابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، بعد أن سمع فلاحي دورا يتهامسون بأن هناك مجموعة قريبة قد أطلقت رصاصا وأصدرت بلاغا، وأعلنت ثورة.. طالبا الانضمام اليهم، رافضا توكيل محام للدفاع عن والده الذي حكم بالسجن لثماني سنوات، قائلا: سأترافع عنه بالرصاص، إنني أملك بعض المال، لقد بعت نصيبي في المقهى، وسأدفع ثمن بندقية، سأدفعه كاملا والان. سوف أوفر عليكم ذخيرة التدريب وفوق ذلك فأنا أعرف هذه الجبال كما أعرف وجهي، وأعرف عشرات الفلاحين، أعرفهم بالاسم وأعرف أولادهم وأعرف كيف يحفظ العنب ويؤكل طازجا في عز الشتاء.
عاصفة.. الله أكبر إعصفي.. دمريهم إنسفيهم فجري.. أشعليها ثورة مرة وانسفي..إنسفي الأرض بمدافع وازحفي.. عاصفة في كل دار
من طوابير اللاجئين وذل كرت المؤن.. صاروا صقوراً محلقين في سماء العاصفة … جاء قائده إلى الجبل، ووضع الكلاشينكوف في يده، وقال له: هذا هو العدو، ليس كيسا غامضا من الرمل وليس كيسا غامضا من الماء، فهو عدو يطلق الرصاص عليك فلا بد أن تطلق الرصاص عليه. وبدا باجس يطلق الرصاص وقد وجد عدوا يعرفه، دوريات تفتيش وعربات ملاحقة، جنود مطاردة ومفرزة اعدام، انه الدبابة والسجن والكيبوتس.
كان لباجس وتلامذة الخرب والقرى صديق يعمل راعي غنم، وكان يحلم براديو “ترانزستور” من أجل ان يسمع شيئا واحد: أخبار فيتنام. كان يحس أنهم يقاتلون مثله، هذا الراعي “أبو علي” هو الذي سيقود باجس لأول مرة إلى مقاتلي العاصفة، ليصبح ثائرا معهم في الجبال، وليقاتل باجس وأبو علي ببندقية وشبابة.
“معجزة الفلسطيني في قدمه، وأنا لا أكشف سرا للعدو، فالفلسطيني يذبح من قدمه، ومن أجل هذا فَهُم يعطون الفم الفلسطيني ألف كيلو متر في الهواء، لكي ينطلق فوق صوته، ومن أجل هذا فَهُم يعطون اليد الفلسطينية ألف كيلومتر من الورق لكي يكتب فوقها، أما أمام القدم الفلسطينية.. فهناك الأسلاك المكهربة والأسلاك الشائكة، وهناك حقول الألغام، وهناك مليون جرس إنذار يدق كلما لمست قدم فلسطينية شبرا من الأرض” (عاش البطل، مات البطل.. معين بسيسو)
في الأول من أيلول 1974 كتب ماجد أبو شرار: لقد وضعت بتصرف الكاتب جميع المعلومات والوثائق المتعلقة بتجربة العمل العصابي في جبال الخليل والجزء الأكبر منها بخط يد باجس أبو عطوان وجزء اخر بخط يد الشهيد علي ابو مليحة القائد السابق للمجموعة، فكانت هذه الرواية التي حال دون اكتمالها كما نريد اعتبارات أمنية قاهرة، لكن هذه الاعتبارات لم تفلح للحظة واحدة في تجريد الرواية من الصدق والحياة.
كلِّ ما عتّم الليلْ، نطْلَع من جوفِ العتمات.. بنخلِّي سوادُه نهارْ .. وكلِّ نجومُه كلاشيناتْ
كانت أشهر عملياته، قرب بيته سنة 1971، بعد أن حاصره الجنود وكمنوا له، فأوقع بينهم عشرات القتلى والجرحى وانسحب، ليُنسف البيت بعدها مباشرة، وكانت لهم حكاياته في التخلص من كمائن العدو، وفي احدى المرات طوى نفسه ودخل في حيز ضيق جدا بداخل صخر جيري حتى مر الجنود وخرج سالما، فأصبح “أبو شنار”، وتروي الحكايات أنه غطى نفسه بحجر بعد أن دخل في شق الصخر.
“باجس أبو عطوان المناضل الذي يرفض الحديث عن البندقية بديلا للبندقية نفسها”، ماجد أبو شرار.
بإيدي أشد من ليلي خيط شروقي..
استشهد ابو شنار .. ودمر المقهى وتقطعت خطوط اتصال خليته .. فختى لو أعادوا لك المقاهي القديمة.. من يعيد لك الرفاق، من يعيد زمن الخلاص الأول .. زمن النقاء والطُهر الثوري .. استشهد باجس وهو يستمع لصوت العاصفة ونشحن منها ويشحن الجماهير.. يصيح مع البروقي و يؤذن مع رصاص الثورة متوضئاَ بدمه، يصلي على خشبة بارودته ينادي في جماهير الارض المحتلة: قيدوا من دمي شعلة وهزوا البارود.. فسيطل سلاحي من جراحي، فخخُذ سلاحي يا رفيقي حذ سلاحي.. فهو أمانة في صدر من قد عاش .. واستمروا يا صحابي استمروا .. زاحفيني زاحفين فوق كل شبر من أرضنا لعرس النصر .. لا لتينوا في زحفكم .. فلتعش يا رفيقي بسلاحي، وازحف كالقضاء ، عاصفاً لا تلين لا يضركم من خانكم وخالفكم وتراجع عن عهد فلسطين والشهداء.. ليبقى القسم هو قسم الشعب .. باسمك باسمك يا فلسطين اعلناها للملايين..دين الثوار أمانة في اعناقكم .. فالدين حق لا لا يؤجل.. لتصدح حناجركم بنشيد الوطن.. نشيد الفدائي في كل صباح وأنتم تسيرون في طريق العزة كاسرين كل القيود وممزقين الخيام التي تكبلكم منذ سنين .. قاتلوا وأنتم واففين واعتمدوا القلب حيث فلسطين واطوا على شغاف قلوبكم مبادئكم.. فإما فلسطين وإما النار جيلاً بعد جيل!!.
استشهد باجس وزفته دورا وكل فلسطين ملفوفا بالعلم الفلسطيني وام الشهيد تزغرد وأخت الشهيد تتمرد واخوة الرشاش وأجيال الغضب المنتصبة كمارد ثوري في الأرض تعاهد الشهيد: “وزمام قضيتنا هيوا في إيدينا .. في إيدينا وفرشنا الدم وعدينا”، يوارى الثرى متسربلاً بجراحه.. والسماء ترعد والأرض تصرخ والجماهير تهتف : “أقوالنا أفعالنا ع كفوفنا أرواحنا.. وان متنا هي ولادنا بيكملوا مشوارنا” وابناء الخيام يسيرون في ركب الثورة، عاقدين العزم مجددين العهد على مواصلة الكفاح حتى العودة والنصر, والعاصفة يعلو هديرها: ولعوا النار بهالخيام وارموا كروتة التموين لا صلح ولا استسلام بسلاحنا نحرر فلسطين.
وأخيراً وليس اخراً .. أصل هنا الى واقعنا المخزي في زمن الضياع والتوهان وتعدد البوصلات.. زمن المتاجرة بالقضية ودماء الشهداء.. أقتبس هذا النص من مقالة للكاتب محمد رفيع يطالب فيها بضرورة الإعتذار لكل من سفح دمه مشحوناً بشعارات الثورة .. تلك الثورة الغائبة تماماً الأن عن تفاصيل الشعب الفلسطيني.. فقد كتب: ” في البدء قالوا لهم. لذلك الجيل. بهديرٍ ما بعده هدير: «وَلْعوا النار بهالخيام. وارموا كْروتة التموين. لا صلح ولا إستسلام. بِسْلاحنا نحرر فلسطين». والمخيمات تشهد. من؛ ضبيّة وجسر الباشا والنيرب، إلى البقعة والحسين والوحدات.. وقبل أن يهدرَ اللاجئون، باع «باجس أبو عطوان» أغنامه، واشترى «راديو ترانزستور». فوبّخه المذيع، وهمس له: «بيعو واشتري بحقّه شنتان».
وأكمل محمد رفيع واصفا الواقع بعد أن تقطعت أوصال الثورة وباتت تبخث عن التدجين على مرفأ بحر دماء الشهداء: ” وبعد البدء. وبعد أن صدّق اللاجئون، وتحوّلوا إلى جيوش. ظلّت الأرض المحتلة صامتةً. فغنّوا لها: «يا جماهير يا جماهير. يا جماهير الأرض المحتلة. ثورتنا انطلقت، قيدي من دمّك الشعلة». فأوقدت الأرضُ المحتلةُ شُعلتَها. وتمنّعت فلسطينُ التاريخيةُ. فجدّدوا لها القسم: «عبّينا المدفع عبينا.. يا فلسطين. وحياة تراب أراضينا راجعين راجعين». فامتدّ الحريق «من رفح للناقورة بتلاقينا». وصار الناس يحاربون «بالشبريه بالتقصيره بالمرتينا». و.. و«كرمالك يا ثورتنا نموت إحنا». وانطلق الغناء زماناً يتسلّل في عروق الناس؛ مِن «جُرّ المدفع فدائي. لا تستنى سيارة»، وحتى «جُرّ الدوشكا يا رفيقي. بدمّي بَفْحَرْ طريقي»، وصولاً إلى «وْدَمّ الشهداء يا رفيقي، والله ما يروح خسارة».
أما «راديو أبو عطوان»، فلم يتوقف طوال عقود عن النشيد إلى «الزاحفين غداً على بطاح يافا وقمة الكرمل.. »!
لم يزحف أحد. واللاجئون بذلوا بلا حدود. وفلسطين العربية صغرت إلى فلسطين الفلسطينية. ثم اختصرت في «ضفّة وقطاع». ومن ثم اختزلت إلى «قدس». ومنها إلى «مسجد أقصى».