بين الإيديولوجيا والمصالح السياسية: الآثار في القس منذ العام 1967

نظمي الجعبة
جامعة بيرزيت
2013
مقدمة
تعتبر فلسطين واحدة من أكثر بلدان العالم تعرضا لعمليات البحث والتنقيب الأثري، فقد تعرضت إلى “هجمة بحث” منذ القرن التاسع عشر، وذلك كجزء لا يتجزأ من مشاريع الاستعمار الأوروبي، وبالتالي، فقد ارتبط “علم الآثار” ومنذ بدايته بمشاريع “إعادة استكشاف الأراضي المقدسة”، ونشئ بذلك “علم الآثار التوراتية”، الذي انضم إليه وبكثافة يهود أوروبا وأمريكيا. تطور علم الآثار التوراتية تدريجيا عبر النخب الاستشراقية، ليساهم في وضع فلسطين بشكل عام والقدس بشكل خاص في مركز المسألة الشرقية.
استخدم علم الآثار بشكل مكثف كمصدر للشرعية منذ بزوغ الأفكار الأولى للحركة الصهيونية، واندفع أصحاب هذا الاتجاه بقوة في تبني نتائج البحث الأثري التوراتي، بحيث لم يصعب أبدا الوصول إلى قواسم مشتركة، ما دام المنظور التوراتي هو السائد، وما دامت الأفكار المسيانية الإنجيلية تسيطر لفترة طويلة على غالبية من عمل في حق الآثار التوراتية.
وبالتأكيد احتلت القدس مصدر هذا الاهتمام، خاصة في مسألة البحث عن مصادر الشرعية لمشروع سياسي، وهذه الشرعية لم تكن في مواجهة سكان فلسطين من الفلسطينيين، بل أيضا لاستقطاب أفئدة “العالم المؤمن” بالحق التاريخي لـ”شعب الله المختار” من جهة، واستخدام الآثار كهوية ومرجعية لتوحيد يهود العالم حول فكرة “الدولة ذو الجذور التاريخية”. ولم يكن من الصعب إحياء الملك داود ومدينته للقيام بهذه الوظيفة.
ومنذ ستينات القرن العشرين بدأت الرواية التوراتية بالاهتزاز أمام النقد، كما بدأت “المكتشفات الأثرية التوراتية” تتعرض إلى تساؤلات جوهرية من حيث المنهج والنتائج. وبالتأكيد تلعب القدس أيضا مركزا مرموقا في هذا النقاش النقدي، ففي القدس تم ومن منطلقات البحث الأثري، التوصل إلى ضحالة التاريخ التوراتي، وإلى عدم تطابق نتائج البحث العلمي المعاصر في العلوم التاريخية المختلفة وتلك الروايات التوراتية التي طالما كانت مرجعا لكتابة تاريخ المدينة، فأصاب تاريخ القدس شرخا وجرحا لم يتم دمله حتى الآن.
قد تكون مسألة “الشرعية التاريخية” قد تراجعت بسبب نمو شرعيات أخرى مثل القوة المهيمنة ببعدها العسكري والاقتصادي، والاعتراف الدولي الجامح، والاعتراف العربي شبه الشامل، والاعتراف الفلسطيني الرسمي. وفي ظل هذه المعطيات تتراجع دور “الشرعية الأثرية”، لكن بالتأكيد لا تنتهي. وفي ظل هذه الظروف، خاصة تصدع الرواية التوراتية” يمكن فهم محاولات نتنياهو الأخيرة، لإعادة ربط اليهود بتاريخهم وذلك عبر تسجيل العشرات من المواقع في إسرائيل والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) على قائمة التراث اليهودي ووضع استثمارات ضخمة ليس في تأهيلها بل بزيارتها من طلاب المدراس والجنود والمتقاعدين والاتحادات المختلفة.
أما ووضع القدس يختلف كليا، فقد عمد إلى ربط الآثار بحركات الاستيطان وتسخير هذا العلم ليس في سبيل الشرعية فقط، بل في سبيل تعزيز الاستيطان وحركاته من جهة، ولفرض واقع سياسي مستقبلي يستثني قلب المدينة، حيث طور لذلك مصطلح “الحوض التاريخي” او “الحوض المقدس”، وفي هذا الحيز الجغرافي (حوالي 3 كم مربع) تجري أكثر وأكثف علميات الحفر الأثري، كما تجري أشد هجمة استيطانية.
1.
مراجعة تاريخية أولية
إن مراجعة تاريخ الحفريات وتاريخ العاملين في العلوم التاريخية المختلفة في مدينة القدس، يرتبط عمليا بفهم سياق التطور التاريخي الذي تبلور في المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر. ولهذا تشترط المعالجة لتاريخ المجموعات المختلفة، سواء أكانت الأجنبية أو المحلية، ولاحقا الإسرائيلية النظر للعوامل التاريخية التي بلورتها، لان هذا سيسهل فهم الموقع الفكري لهذه المجموعات، وتحليل أدوات البحث العلمي والنظريات التي استخدمتها في تفسير الماضي، وهي عملية معقدة تخرج عن إطار هذه المراجعة. ولهذا فمن الضروري أثناء مراجعة تاريخها، في مدينة القدس بالتحديد، من رؤية هذه الجذور التاريخية والعوامل المتغيرة التي ساهمت في بلورة مجموعات جديدة في المراحل التاريخية المختلفة. تبدأ المرحلة الأولى من هذا التطور الذي تجاوز القرن والنصف بالحملة المصرية على فلسطين (1831-1840) وتمد حتى فترة الاحتلال البريطاني للقدس عام 1917. وفيها استغلت المجموعات الغربية المختلفة سياسات انفتاح محمد علي وبعدها التنظيمات العثمانية لتضع فلسطين بوجه عام والقدس بوجه خاص في مركز اهتماماتها، التي ارتبطت بحركة التوسع الكولونيالية من قبل الدول الرأسمالية خارج حدودها القومية، وترافقت مع حركة استكشاف الشرق القديم، وعليه نجد أن إعادة استكشاف “الأراضي المقدسة” (فلسطين) كانت جزءا من هذه العملية المتداخلة، والتي قادت إلى وضع فلسطين في قلب المسألة الشرقية، وكانت من نتائجها المباشرة على القدس إنشاء أعداد كبيرة من المؤسسات الغربية في المدينة، وذلك بشكل متزاحم لاكتساب قطعة من كعكة توشك على التفكك.
وخلال هذه الفترة عملت هذه المجموعات على بناء إطار تاريخي لمدينة القدس مطابقا للرواية الواردة في العهد القديم، وبهذا بدأت عملية استكشاف مدينة القدس. كما شهدت تأسيس مدارس الآثار والدراسات الشرقية في القدس، منها: صندوق استكشاف فلسطين، ومدرسة الفرنسيسكان، والمدرسة الأمريكية للآثار، والمدرسة البريطانية والمدرسة الألمانية، والمدرسة الفرنسية. ولا يمكن انكار عظم المعلومات التي تم جمعها خلال هذه الفترة، فنحن مدينين لها بالكثير من معارفنا لأنها وثقت مكونات أساسية من المدينة قبل أن تغيرها الحداثة الجامحة والخارجة عن عقالها. لكن، وبالرغم من ذلك، فقد تم خلال هذه الفترة تدمير الكثير من مصادر معرفتنا، لأن الحفر لم يتم بمناهج علمية متطورة، كما أن نقل الآثار الى خارج فلسطين كان بوتيرة عالية، عدا عن أنها اسست لمنظور صعب الإفلات منه. ولكن من الهام ربط كل ذلك بالهدف الذي ساد بين غالبية من حفر في القدس. وبالتأكيد لا يمكن تعميم هذا الأمر على جميع من عمل في الحقل فهناك تفاوت لا بد من الالتفات إليه.
وجاءت المرحلة الثانية بالاحتلال البريطاني لفلسطين وامتدت حتى النكبة عام 1948، حيث عززت الحركة الصهيونية عبر برنامجها على الأرض ببناء مؤسساتها الفاعلة ذات الصلة بتكوين الدولة الصهيونية المستقبلية، حيث دأبت هذه الحركة على تطوير وربط هذا الوجود الحديث بالماضي التوراتي باستخدام العلوم التاريخية مثل الآثار والتاريخ والجغرافية، والتي بدأت تقاد بواسطة مؤسسات علمية منظمة. وكان من السهل على الحركة الصهيونية، وأدواتها “العلمية والأكاديمية” الربط بمنجزات حركة الاستشراق الغربية، حيث أنها كانت جزء لا يتجزأ منها، وبالتالي استكملت نفس المشوار باستخدام أدواتها. وأصبحت المجموعات الصهيونية العاملة في مجال العلوم التاريخية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة.
وجاءت المرحلة الثالثة بعد انهيار المجتمع الفلسطيني إثر نكبة عام 1948 وتأسيس دولة إسرائيل، حيث تمكنت المجموعات الصهيونية من رفع مستوى أدائها العلمي عبر جهازي الدولة والتعليم العالي، وتضاعفت الفرص المتاحة أمامها في مزولة النشاط الحقلي في مجال العلوم التاريخية مثل الآثار والجغرافيا التاريخية بفعل سيطرتها المباشرة علىثلثي مساحة فلسطين، مما عزز الميل نحو كتابة التاريخ بوجهة نظر توراتية بحتة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تأسيس الدولة الصهيونية كان يستدعي استحضار تأسيس مثال الدولة اليهودية القديمة في العصر الحديدي المبكر على أساس المماثلة التاريخية بين الدولتين المختلفين في السياق التاريخي. وبالتالي، جاءت كتابة تاريخ “الدولة اليهودية” ليس من منطلق عشق الماضي واستجلاء مضامينه واستكمال معارفنا حوله، بل من منطلق البحث عن النموذج وشرعية الوجود.
أما المرحلة الرابعة الممتدة منذ عام 1967 حتى الوقت الحاضر، والتي يمكن تقسيمها إلى مجموعة من المراحل الفرعية، فقد شهدت تحول في النخب الفكرية في أوروبا وأمريكيا أدى إلى إعادة فتح ملف حركة الاستشراق بشكل جدي بهدف تحليل عوامل تشكلها وتأثيرها على بناء الصورة القديمة والحديثة للشرق القديم على أساس نقدي وعلمي بعيدا عن إرهاصات الفهم الأيديولوجي المغلق. وبالتالي، وبشكل تدريجي، ثبت أن معالجة تاريخ مدينة القدس خاصة، وفلسطين عامة، يبدأ بالتراجع عن التهميش المقصود لتاريخ الآخرين (الفرس، الصليبيون مثلا) أو استئصاله، فقوة المدينة تنبع تاريخيا من التعددية الثقافية والدينية التي شكلت تاريخها في الماضي. وقد قاد هذا الأمر إلى بداية المعالجة النقدية للنص التاريخي الذي كان المحرك لكتابة التاريخ عبر إسقاط النص على كل المكتشفات القديمة. ونتيجة لذلك الجهد، تبلورت صورة تاريخية لمدينة القدس على أساس ارتباطها بتاريخ النظم السياسية التي حكمت بشكل مباشر او تلك التي كانت وكيلة لقوى عظمى، وليس على أساس تاريخها الاجتماعي والاقتصادي وتحديدا تاريخ المجموعات الإنسانية التي صنعت ماضي المدينة.
وهذا بالتحديد ما حصل بعد السيطرة الإسرائيلية المباشرة على باقي مدينة القدس اثر حرب 1967، حيث بدأت دائرة الآثار الإسرائيلية بالتعاون مع الجامعات الإسرائيلية بإطلاق سلسلة من مشاريع المسوحات والحفريات في المدينة، خاصة في البلدة القديمة منها، بهدف البحث عن بقايا التاريخ التوراتي. والمثال الأبرز على هذه المشاريع هو مشروع التنقيب في حي المغاربة، والذي استمر منذ العام 1967 حتى الآن، هذا عدا عن سلسلة التنقيبات في الأنفاق المائية تحت مسطح الحرم الشريف وفي المنطقة المحيطة به.
على أية حال فقد قامت إسرائيل بتركيز حملة واسعة من الحفريات الأثرية في كل منطقة القدس، طبعا عدا عن مئات المواقع المنتشرة في كافة أنحاء الضفة الغربية، وكان العامل المشترك بين كل هذه المواقع هي البحث عن فترات: “الهيكل الأول” و “الهيكل الثاني” وضمن المسطرة التاريخية، المقصود بالفترة التاريخية الواقعة بين 1000 قبل الميلاد وحتى 70 ميلادية.
ومن المفيد القول بأن كافة الأعمال الأثرية التي تمت بالقدس الشرقية بعد العام 1967، ما عدا تلك التي ارتبطت فعلا بأعمال الإنقاذ، تعتبر بموجب القانوني الدولي غير شرعية ومنافية للقوانين الدولية. وفي الحقيقة لم يعد من المفيد نقاش مكانة القدس الشرقية في القانون الدولي، فقد انتهى النقاش كليا بعد قرار محكمة لاهاي بخصوص الجدار والصادر بتاريخ 9/7/2004. والذي يقر بأن كل المناطق التي احتلتها القوات الاسرائيلية في حرب حزيران عام 1967 هي أراضي محتلة.

بالتأكيد لن تستطيع هذه المداخلة تغطية كل ما هو متعلق بموضوع متشعب مثل هذا، لكنها ستحاول في هذه المداخلة إلقاء الضوء على هذا العمل الهام والذي يقوم برسم المدينة القديمة والمنطقة المحيطة بها، ويحدد رواية (Narrative) ستشغلنا لعقود قادمة.

وقبل أن أدخل في صلب الموضوع لا بد من الإشارة إلى مؤلفين مهمين غطيا جزءا هاما من الموضوع، وهما نادية ابو الحاج ورافي غرينبرغ. قدمت أبو الحاج تحليلا أيديولوجيا منهجيا لهذه الممارسات، في حين قدم غرينبرغ نظرة هامة جدا ومن الداخل للعقد الأخير، مكملا بذلك ما بدأته أبو الحاج.
وحتى يتم فهم الإشكالية  التي نحن بصددها، من المهم القول أن علم الآثار والمكتشفات الأثرية لم يتم استخدامهما من الطرف الفلسطيني كأساس لإثبات الوجود او الحقوق، لكنها تستخدم بكثافة من قبل الجانب الإسرائيلي، خاصة العلماني المسيطر في السياسة والأكاديميا، وفي الحقيقة بدون هذا الاطار لا يمكن فهم الآثار في القدس بشكل خاص، ولا حتى في فلسطين ضمن الحدود الانتدابية بشكل عام.

2. الآثار في خدمة الاحتلال
بعد احتلال إسرائيل للقدس (الشرقية) في حزيران عام 1967، قامت الجرافات الإسرائيلية بتجريف حارة المغاربة بكل ما فيها من آثار تعود إلى عصور مختلفة، وقد تم ذلك بدون توثيق او تصوير او حفريات، وكان هذا عملا منافيا للأخلاق بكل أبعاده الإنسانية والتراثية والعلمية.
قاد العمل الأثري في القدس اثنين من أشهر الأثريين في إسرائيل وهما بنيامين مازار ونحمان أفيجاد، وكلاهما كان في عمر متقدم وعلى دراية واسعة بآثار القدس، حيث بدءا عملهما خلال فترة الانتداب البريطاني ولم ينقطعا عن القدس الشرقية إلا الفترة الواقعة بين 1948-1967.
انطلقت الحفريات الإسرائيلية في المنطقة المحيطة بالحرم الشريف، وانكب علماء الآثار الإسرائيليون على هذه “الغنيمة” بشراهة أفقدتهم توازنهم العلمي والأخلاقي، ولم يتوانوا عن استعمال الجرافات في الحفريات، واختلط السياسي بالعلمي. ويمكن النظر إلى يغال يادين السياسي والآثاري البارز كنموذج لهذا الخلط.ان نموذج يادين يدلل على مدى الاستثمار الإسرائيلي بحقل الآثار كمصدر للشرعية، حيث تحظى إسرائيل حتى اليوم بأعلى نسبة من المتخصصين بالآثار في العالم وذلك بالنسبة لعدد السكان. ويقدم موشيه ديان نموذجا آخر لرجال السياسية الأثرين في إسرائيل ومدى تأثيرهم على حقل الآثار و “علميته”. ان الخلط بين السياسة والآثار قد جعل المتخصصين في هذا الحقل أداة سياسية من الطراز الأول.
صحيح جدا بأن عدد الذين بدأوا يفلتون من هذه الكماشة في إسرائيل قد أصبح ملموسا، خاصة بعد إقلاع الكثيرين حول العالم عن التعامل مع التوراة كمصدر تاريخي يحمل في طياته الحقيقة المطلقة، كما أن عدم ثبات الكثير من الروايات التوراتية أمام النقد العلمي قد أضعف التوجه الرسمي في إسرائيل مما اقتضى التحول إلى مهام جديدة، كما سنأتي عليها لاحقا.
بدأت أعمال الحفر الواسعة عند الزاوية الجنوبية الغربية للحرم الشريف (أرض الخاتونية) ويبدو أن الأمر قد تم بالاتفاق مع المرجعيات الدينية للحفر أقرب ما يمكن من الجدار الغربي للحرم لاستكشاف آثارا الهيكل. إن تحديد هذا المكان كشف عن أغراض الحفر الأثري، أما وزارة الأديان الإسرائيلية فقد ركزت علمها على حفر النفق الذي يقع على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف، والذي تم ربطه بالنهاية بطريق الآلام، وكان افتتاحه (عام 1996) عبارة عن انتفاضة صغيرة قتل خلالها الكثيرون، حيث فهم من وراءه ليس اكتشاف التاريخ، بل أيضا تطوير آليات سيطرة جديدة في المدينة، وبهدف السيطرة على الإنسان وعلاقته بالمكان.
الآن، وبعد مرور أكثر من أربعة عقود على العمل الأثري الإسرائيلية المكثف في البلدة القديمة ومحيطها، يمكننا معرفة حقيقة المشروع الأثري في القدس بكل أبعاده، حيث يمكننا بكل تأكيد ربط الآثار بالسيطرة على الأرض والإنسان ودفع عملية تهويد المدينة، بل يمكننا رسم خريطة واضحة لما جرى وسيجري.
لقد تم السيطرة على كل المنطقة الواقعة خارج الحرم الشريف: الجدار الغربي كله، الجدار الجنوبي كله، وجزءا من الجدارين الشمالي والشرقي. استعملت في المراحل الأولى الجرافات لمسح المنطقة خاصة تلك التي تقع إلى الجنوب والجنوبي الغربي من الحرم الشريف. كان الهدف الأساس من وراء هذه الأعمال الوصول إلى الطبقة الرومانية المبكرة (الهيرودية)، لكن مشكلة التجريف هذه أنها قد اصطدمت بطبقة ضخمة تعود إلى الفترتين الأموية والبيزنطية، حيث انكشفت دار الامارة الأموية الضخمة (حي ملكي أموي)، علاوة على حي بيزنطي كامل.
أما العمل الضخم الآخر، الذي رسم العمل الأثري الإسرائيلي فقد كان في حارة اليهود الموسعة، حيث اتخذ القرار بإزالة غالبية مباني هذه المنطقة وتهيئتها لأعمال الحفر، ضاربين بعرض الحائط النسيج المعماري للبلدة القديمة، والذي نمى على مدار ألفي سنة. ان ما يسمى بترميم حارة اليهود، هو عمليا طمس كامل لكثير من مبانيها، خاصة تلك التي لا تعود في ملكيتها لملكيات يهودية، والتي تبلغ في حقيقة الأمر حوالي 87% من مجموع المباني. لقد كانت الجرافة هنا أيضا سيدة الموقف. لقد اتخذ القرار بالحفاظ على بقايا الكنس اليهودية وترميمها، والحفاظ على البقايا الأثرية تحت المباني أو في أماكن المكشوفة، وتم الاتفاق على اتخاذ القرار من قبل الآثاريين والمخططين المعماريين.
وفي الحقيقة فإن قرار الحماية هو قرار سياسي أيديولوجي بامتياز. على كل حال، لقد التهمت الجرافات الإسرائيلية عشرات المباني التاريخية في الحارة وامتداداتها، والتي يعود تاريخها من الفترة الصليبية، وقد تكون قبل ذلك، وحتى الفترة العثمانية. لقد ذهبت هذه المباني للأبد بدون توثيق او دراسة، وما وصلنا هو ما قرر “هؤلاء” أن يصلنا.
لقد رافق كل ذلك أعمال استيطان واسعة في المناطق القريبة من البلدة القديمة، وجاء البرنامج الواسع للاستيطان فاتحا لطريق لم يكن علماء الآثار الإسرائيليون قادرين على القيام بها بشكل واسع ودقيق. فحاجة الاستيطان والإسراع بإتمامه كأداة سياسية للسيطرة على الأرض وخلق وقائع لا يمكن إعادتها إلى الوراء، جعلت الآثاريين يقومون بأعمال حفر سريعة، ولم يولوا النشر أهمية، الا بشكل سريع ومختصر لأن الحفرة القادمة تنتظرهم. يمكننا بكل بساطة إثبات أن التأني كان سيد الموقف اذا تعلق الموقع بقبر يهودي او بالعصر الحديدي او بالفترة الرومانية المبكرة (الهيرودية)، أما غير ذلك فتم إزالته بسرعة، وهذا ما ينطبق أيضا على النشر، فان اكتشف نقشا عبريا، أفردت لها مقالات واسعة وتردد في ثنايا غالبية الكتب.
بالتأكيد شكل قانون القدس (الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل) والذي أقرته الكنيست الإسرائيلية عام 1980 بداية هامة لمرحلة جديدة، حيث انطلقت مرحلة جديدة من الاستيطان بمرافقة مرحلة جديدة من أعمال الحفر الأثري. وقد شكلت هذه المرحلة بداية أيضا لاستكمال الرواية الإسرائيلية لتاريخ القدس، واستمرت بوتيرة متصاعدة اذا لم تخدمها الحفريات الإسرائيلية فيمكن أن تخدمها حفريات الأنفاق المستمر حتى هذه اللحظة.
3.
محاور الحفريات الإسرائيلية
تركزت الحفريات الإسرائيلية في القدس على عدة محاور:
1.
الحرم الشريف والمنطقة المحيطة به
تركزت الحفريات الإسرائيلية في كل الجهات المحيطة بالحرم الشريف، وقد جرت فيها عشرات الحفريات، خاصة في الجهتين الجنوبية والغربية من الحرم الشريف، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي تحت المباني المنتشرة على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف، وحتى تحته في بعض الأحيان. وشملت هذه الحفريات طبعا الساحة الواسعة التي تم تشكيلها نتيجة تدمير حارة المغاربة في حزيران عام 1967. لم يكن هدف هذه الحفريات كتابة تاريخ القدس ولا الكشف عن الآثار المثيرة التي قد تظهر فيها، بل كان ومازال الهدف المعلن هو الكشف عن بقايا الهيكل الأول والثاني، وبالتالي لم يكن أي شئ يثير الحفار في هذه المنطقة ليس له علاقة بالهيكل، وكان التجريف في الفترات الأولى، خاصة منذ عام 1967 وحتى منتصف الثمانينات هو سيد الموقف الذي لا ينازع. ويذكر بأن أهم ما كشفت عنه حفريات هذه المنطقة، خاصة في المنطقة التي تقع بالقرب من الزاوية الجنوبية الغربية للحرم الشريف، هو دار الإمارة الأموية والتي تتشكل من خمسة أبنية ضخمة، واكتشاف هذه لها قصة يطول شرحها، بالإضافة إلى حي يعود إلى الفترة البيزنطية واكتشافات أخرى تعود إلى القدس الرومانية. أن أخطر الحفريات التي تتم في هذا المحور تقع على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف، والتي لا نعرف عنها شئ، حيث تم الحفاظ على سريتها، ويمكن الاستدلال عليها من خلال أصوات الحفر فقط.
2. “
حارة اليهود
كما هو معلوم، أقدمت إسرائيل على تحديد مساحة تصل الى حوالي 12% من مساحة البلدة القديمة، وأعلنتها حارة لليهود، وذلك بغض النظر عن الملكيات فيها، حيث تصل الملكيات الإسلامية في هذه المنطقة حوالي 87% من مجموع العقارات. وقد أقدمت بعدها على إجراء حفريات واسعة ضمن مشروع “إعادة بناء حارة اليهود”، مدمرة بذلك نسيجها التاريخي ومعيدة لبناء غالبية المباني من جديد بشكل لم تشهده بلدة قديمة في العالم من قبل. ورافق ذلك حفريات أثرية تهدف إلى ربط الحارة بالفترات التاريخية القديمة، خاصة فترة هيرودوس، وزينت الحارة بالكثير من المواقع الأثرية وأعطتها عمقا تاريخيا مثل الكشف عن جزء من الشارع الروماني المعمد (كاردو مكسيموس)، الكشف عن كنيسة ألمانية تعود إلى القرن الثاني عشر (صليبية)، الكشف عن سور يعتقد بأنه يعود إلى نهاية الفترة الإغريقي، واليوم هناك إعادة دراسة لتأريخه غير الأكيد. كما جرى التركيز على الكنس اليهودية التي تقع في الحارة، حيث جرى إعادة ترميم لها، ويذكر بأم غالبيتها تعود إلى القرن التاسع عشر، وأن أحدها له جذور تعود إلى الفترة المملوكية. وفي الآونة الأخيرة، جرى إعادة بناء لكنيس (كنيس الخراب) بقبة عالية جدا ضمن صراع على أفق المدينة القديمة.
ت. محور سلوان
تعتبر قرية سلوان الواقعة على بعد بضعة أمتار إلى جنوب وجنوب شرق البلدة القديمة محورا رئيسيا إضافيا للحفريات المكثفة، وقد تم تسمية هذا الجزء من المدينة بـ “مدينة داود” وهي عبارة عن التل الأقدم في المدينة والمسمى “تل الضهور”. ويذكر بأن الحفريات في الموقع قد بدأت عبر الإرساليات الغربية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تتوقف الحفريات حتى اليوم. لقد تم تحويل الموقع بعد العام 1967 إلى منتزه وطني يهودي من الطراز الأول، وبالرغم من ضحالة الاكتشافات وعدم وضوحها الا أنه قد جرى تضخيمها بشكل لا مثيل له، وسخرت كل تقنيات الصوت والضوء والصورة لرواية قصة لا يكن مشاهدتها على أرض الواقع في الحفريات. ومن المثير معرفته بأن هذا التل يقع فوق عين الماء الوحيدة في القدس، عين سلوان، التي تتصل بالكثير من القنوات التحت أرضية، مما فتح للخيال الجامح أبوابا لا نهاية لها. لقد أصبح الوضع في هذا الموقع مضحكا، فيتم الحديث عن قصر داود العظيم وحدائقه الغناء ومراكز إدارته للمملكة مترامية الأطراف، وما يتم مشاهدته على أرض الواقع ليس له أية علاقة بالموضوع، وأقصى ما يشاهد هو آثار قرية صغيرة، عدا عن بيوت فلسطينية تعود إلى نهاية العصر العثماني او حتى تعود إلى فترة الانتداب البريطاني وقد سيطر عليها المستوطنون اليهود.
على أية حال، لقد تحول موقع “مدينة داود” إلى مركز دعائي من الطراز الأول تديره جمعية استيطانية (إلعاد) هدفها الأول هو استيطان سلوان بشكل عام ووادي حلوة بشكل خاص. إن حالة هذا الموقع تدل على تماما على الهدف من وراء الحفريات الاسرائيلية في القدس، فهي حفريات سياسية استيطانية بامتياز، حتى لو لم يكن هدف الحفار (عالم الآثار) يتوافق وأهداف الاستيطان، الا أنه يتم تسخير حفريته لخدمة هذا الهدف.
3.
أماكن متفرقة في القدس
لم يتم التواني عن حفر أي قطعة أرض في منطقة القدس، وبسبب أعمال البنية التحتية التي نفذت في شرقي القدس، خاصة في سبيل بناء المستوطنات والشوارع الالتفافية وقطار الشوارع، فقد انكشفت المئات من المواقع والمعالم الأثرية في أماكن متفرقة من المدينة مما زاد من وتيرة النهم في الحفر، بحيث لم تتبقى أية بقعة في المدينة دون أن يتم حفرها.
4.
الحفريات الجارية الآن في القدس
في الحقيقة أن ما يسمى “الاستكشاف الأثري” الذي يدور الآن ما هو إلا جزء لا يتجزأ من حملة سياسية واسعة النطاق تجتاح منطقة القدس ضمن مخطط وضع مسبقا، ومن أعلى المستويات، وبشكل معلن، حيث تتركز النشاطات “الأثرية” في المنطقة التي تسمى “الحوض المقدس” او “الحوض التاريخي”، وهي المنطقة التي تضم البلدة القديمة ومحيطها، وتضم أيضا السفوح الغربية لجبل الزيتون، وسلوان، ووادي حلوة، وحي البستان، ووادي الربابة (هينوم)، وتمتد إلى الشيخ جراح شمالا. وقد طالبت إسرائيل مرارا بالسيطرة الكاملة والحصرية على هذه المنطقة ضمن مفاوضات الحل النهائي.
وتترافق حملة “الآثار” هذه مع حملة واسعة للاستيطان الصهيوني من جهة، وعملية الطرد السكاني للفلسطينيين من جهة ثانية. ويمكن إدراك ما يجري بالتحديد في هذه المنطقة عبر مراقبة حملات هدم المنازل المكثفة في سلوان، بشكل عام وفي حي البستان بشكل خاص، كما وتصاعدت وتيرة الاستيطان في وادي حلوة، جنبا الى جنب مع ازدياد عدد الحفريات وحجمها وموقعها في نفس المنطقة، وينطبق الأمر ذاته على منطقة الشيخ جراح، حيث يجري إخلاء حي كامل والتخطيط لزرع المستوطنين في نفس الموقع.
حفرية تلة باب المغاربة: جرت هذه الحفرية بخلفية إزالة التلة المتبقية من حارة المغاربة والتي تقود من ساحة البراق إلى الحرم الشريف. تهدف هذه الحفرية إلى إزالة معوقات الآثار أمام إدارة حائط المبكى لتمديه وتوسيع الساحة التي تقع أمام حائط البراق، وتأمين مدخل أفضل لقوات الأمن الإسرائيلية من ناحية لوجستية للوصول إلى الحرم الشريف بما فيها دخول المركبات العسكرية إليه. لقد أثارت هذه الحفريات حفيظة جهات كثيرة: فلسطينية وعربية وإسلامية. كما أثارت حفيظة العديد من الجهات ذات العلاقة بالتراث الثقافي، وأخذت أبعادا هامة جدا، حيث شكلت لجنة دولية برئاسة اليونسكو للتداول بالأمر. نتيجة لردة الفعل توقف العمل فيها بانتظار المصادقة على المخططات الضرورية. لا نعرف مصير الموقع بعد، لكن الجدل في إسرائيل لم يتوقف، وقد جرى التدخل المكثف بالموضوع من قبل وزراء وأعضاء كنيست وعلماء آثار إسرائيليين، وذهبت المواقف اتجاه هذه الحفريات اتجاهات شتى. لكن من المهم القول بأن سلطة الآثار في إسرائيل، كان من المفترض من ناحية موضوعية ان ترفض أية أعمال لتغيير المشهد هناك بسبب هشاشة الوضع ليس من ناحية سياسية فحسب، بل من ناحية أثرية، حيث أن هذه التلة شاهد تاريخي على طبقات أثرية مرت على المنطقة، كما أن هذه التلة مرتبطة عضويا بواحد من أهم المعالم الحضارية في القدس، أي الحرم الشريف. لكن سلطة الآثار، بدلا من ذلك، سارعت إلى تنفيذ المخطط الاستيطاني وبسرعة خيالية، وسخرت لذلك إمكانات هائلة. هناك عدة مخططات مطروحة للنقاش وذلك لمعالجة نتائج هذه الحفرية، ومن ضمنها بناء جسر معدني او زجاجي او إسمنتي، في حين يصر الجانب الفلسطيني والأردني على إعادة التلة إلى سابق عهدها، وعدم إزالة ما تبقى منها.
حفريات ساحة حائط البراق: تستمر الحفريات في الطرف الغربي لساحة البراق، وتثير هذه الحفريات الخوف من توسيع ساحة البراق فوق الأرض وتحت الأرض، وذلك على حساب باقي البلدة القديمة. لقد كشفت هذه الحفريات عن نتائج كانت متوقعة مسبقا، وهي الطريق الروماني القادم من باب العمود باتجاه طريق الواد (كاردو السفلي/الشرقي) والواضح المعالم في خارطة مادبا التي تعود إلى نهاية القرن السادس الميلادي. لقد تم الكشف عن قطعة من هذه الطريق، وفوقها تم اكتشاف مبان بيزنطية وأموية وصليبية وأيوبية ومملوكية، كما تم اكتشاف جزء من مباني حارة المغاربة المدمرة. ان سبب القيام بهذه الحفريات يعود إلى طلب تقدمت به إدارة حائط المبكي لإنشاء قاعة متعددة الأغراض ومراكز خدمات إضافية. لا ندري ما هو مصير المكتشفات الهامة في هذا الموقع. لكن من المفترض، كون البلدة القديمة تقع على لائحة التراث العالمي للمواقع التاريخية، ان يتم منع كافة أشكال البناء فيها، وهذا هو المطبق على السكان الفلسطينيين.
حفريات النفق الغربي: وهو النفق الذي يقع على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف. تستمر هنا الحفريات بلا توقف، وتتجه بالأغلب باتجاه الغرب، لكننا في حقيقة الأمر لا نعرف الكثير عن مسارات هذه الحفريات في الإنفاق، فلا يعلن الا عن تلك التي تتجه باتجاه الغرب، مبتعدة عن الحرم الشرف، اما الحفريات التي تتجه شرقا، باتجاه الحرم الشريف، فلا ندعي أننا نعرف عنها شيئا، وأخطر ما فيها أننا لا نعرف عنها. ويمكن الاستدلال أحيانا من مساراتها عبر متابعة الأصوات المنبعثة من تحت الأرض، لكن دون التأكد من الصورة الشاملة. وتشير المعطيات المختلفة التي تتوارد إلى المهتمين من قبل سكان البنايات التي تقع أعلى الأنفاق إلى اتجاه هذه الأنفاق باتجاهات مختلفة تحت البلدة القديمة، ولا نستطيع إعطاء المزيد من المعلومات حولها، لأنا نفتقد الى الوقائع الواضحة. لكن يمكن أن نشير أنه قد تم ربط أسفل كنيس أوهل يتسحاق (الوارد أدناه) بنفق يقود من الغرب الى الشرق ليلتقي بنفق الجدار الغربي.
حفريات كنيس أوهل يتسحاق: يبعد هذا الكنيس عن المسجد الأقصى حوالي خمسين مترا غربا، ويقع إلى الجنوب من حمام العين الواقع على طريق الواد. وقد تم تدشين الكنيس عام 2008. وأما أسفل الكنيس الذي يسمى “أوهل يتسحاق” فقد بدء بأعمال الحفر تحت مستوى المبنى، وقد وصلت الحفريات الآن الى مستوى يزيد على عشرين مترا، ولم تنته بعد. أما المنطقة التي تقع خلف الكنيس المذكور (حوش الزربا) فقد تم الحفر فيها الى أعماق تزيد على 12 مترا، وربطت بدورها بالنفق الغربي الذي يمتد على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف. وأما النوايا المعلنة عن هذه الحفريات فتقول لعمل متحف لطبقات القدس الأثرية. ان هذه الحفريات قد أدت إلى تشقق الكثير من المباني في المنطقة، كما أدت الى انهيار الطريق المؤدي إلى حوش الزربا، علما بأن المباني مسكونة بكثافة. ويذكر أن نتائج الحفريات التي وصلت إلى الطبقة الصخرية قد تمخضت عن اكتشاف طبقات أثرية تبدأ من الفترة الرومانية وتنتهي بالفترة العثمانية، كما تم اكتشاف قاعة ضخمة (27.8 x 10.3م) والقاعة على أغلب الظن كانت جزءا من خان تنكز (مملوكي)، الذي يقع الى الشمال من هذا الموقع، او قاعة لحمام مملوكي. وبالتالي جاءت نتائج الحفريات بدفعة إضافية لمشروع التنقيب الأثري هنا، حيث اكتسب المستوطنون موقعا إضافيا، عبارة عن قاعة واسعة متعددة الإمكانات والاستعمالات، وتم وصل كل هذا بالنفق الغربي، الممتد على الجدار الغربي للحرم الشريف، أي تم ربط الموقع بساحة البراق، بحيث تشكل وحدة متكاملة. يدعي المستوطنون ليس فقط ملكية المبنى بل ملكية كل ما يمكن ان يتم اكتشافه تحت الأرض. وبالرغم من أن المباني الواقعة فوق الأرض هي أملاك خاصة ووقف إسلامي، إلا أن المستوطنون وبدعم من سلطة الآثار الإسرائيلية وطبعا بلدية القدس يتصرفون كمالك حصري له.
حفريات بيت هتسلام: تقع هذه البؤرة الاستيطانية في المنطقة الشمالية الشرقية من طريق الواد، الى الشمال من النزل النمساوي. لا نعرف عن الحفريات الدائرة بها أي شئ، لكن من المعتقد بأن الحفريات تتم باتجاهين، الأول إلى الشمال باتجاه المغارة (مغارة سليمان/مغارة الكتان) الواقعة بالقرب من باب العمود، خارج الأسوار، وذلك لربط الموقعين ببعض، أما الاتجاه الآخر فباتجاه الجنوب، حيث سيتم ربط الموقع مع كنيس أوهل يتسحاق المذكور، وبالتالي بالنفق الغربي وساحة البراق. ويتضح من خلال هذا المشروع العمل الدؤوب لربط البؤر الاستيطانية من تحت الأرض والسيطرة على مزيد المساحات داخل البلدة القديمة.
حفريات برج اللقلق: عبارة عن أرض واسعة تقع في الزاوية الشمالية الشرقية للبلدة القديمة، تقوم على جزء من هذه الأرض جمعية برج اللقلق المجتمعية والتي تقدم خدمات ثقافية ورياضية وصحية لأحد أفقر أحياء البلدة القديمة. وليس بعيدا عن هذه الأرض توجد بؤرة استيطانية. تتعرض هذه الأرض منذ سنوات للضغط الاستيطاني، وبالمقابل الى مقاومة سكان الحي من الفلسطينيين. تقدمت الجمعيات الاستيطانية بطلب ترخيص بناء 36 وحدة سكنية بالإضافة الى كنيس تعلوه قبة ذهبية، وقد أحضرت سلطة الآثار الإسرائيلية الى الموقع لحفره قبل السماح للمستوطنين بالبناء. لم تعترض سلطة الآثار على مبدأ البناء في الموقع، والذي يقع مباشرة تحت السور التاريخي، وفي منطقة حيوية جدا وتشكل متنفسا للحي المكتظ جدا بالسكان، بل قامت بحفر الموقع، وكانت نتائج الحفريات تدل على استخدام مكثف للموقع في الفترتين الرومانية والمملوكية، ولا يمكن ربط الموقع بأية علاقة بالتاريخ اليهودي، مما أدى الى موافقة هذه السلطة على السماح بالبناء على الموقع. لم يتم تنفيذ المشروع بعد لإشكالات متعددة لها علاقة بملكية الأرض واحتجاج بعض الآثاريين الإسرائيليين على الفكرة، إلا أن الموضوع قد وضع على الرف لفترة معينة، ولا أستغرب ان فتح من جديد خلال الفترة القادمة، وخلال فترة الحكومة الحالية الداعمة للاستيطان بشكل كبير. مرة أخرى يتضح من هذا المثال ان الاستيطان والآثار والبلدية يجتمعون حول نفس الأجندة.
أنفاق حارة الشرف/اليهود: أعلن عن مخططات لشق المزيد من الأنفاق التي تربط المنطقة المذكورة بساحة البراق، لا نعرف تفاصيل هذه الأعمال بعد.
الحفريات خارج الأسوار بالقرب من البلدة القديمة (ما يسمى الحوض المقدس)
حفرية ما يسمى بموقف سيارات جفعاتي: تقع هذه الأرض على بعد خمسين مترا من السور الجنوبي للقدس، بالقرب من الحرم الشريف، وتبلغ مساحتها حوالي 10 دونمات. تجرى الحفريات في الموقع منذ عدة أعوام. كشفت الحفريات حتى الآن عن قبور إسلامية (أكثر من 100 من الجثث) ومباني أموية ضخمة، ومن المعتقد بأن هذه المنطقة كانت جزء من المجمع الإداري (دار الإمارة) الأموي، والذي بني في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلادي. كما تم اكتشاف مجمع سكني عباسي في الموقع مما يجعل أهمية الموقع على درجة عالية من الأهمية العلمية، حيث أن الفترة العباسية غير ممثلة بشكل جيد في المدينة. إن أبعاد هذه الحفريات لم يتم الكشف عنها بعد، ولكن ومن خلال ما يستشف مما يرشح من معلومات بأنه سيبنى في الموقع قاعة ضخمة للمستوطنين ومركز تسوق ومواقف للسيارات، كما من الممكن ربط الموقع عبر نفق بساحة البراق من الشمال، في حين يمكن ربطه بعين سلوان من الجنوب. وقد تم الانتهاء من هذا النفق، والآن يمكن زيارته. تقوم جمعية إلعاد الاستيطانية بتمويل الحفريات في هذا الموقع منذ العام 2007، وتكلف هذه الحفريات الملاين من الدولارات نظر لوصولها الى أعماق كبيرة. ويذكر بأن مركز معلومات “مدينة داود” والذي تديره نفس الحركة الاستيطانية يقع في الجهة المقابلة للحفرية، مما يؤكد ترابط هذه الحفرية مع المشروع الاستيطاني في سلوان.
حفريات أرض صيام: تقع على بعد حوالي 150 مترا الى الجنوب من السور الجنوبي للقدس في وادي حلوة، في منطقة تنشط فيها حركة الاستيطان، ويتم الحفر باتجاه الشمال عبر نفق روماني، كان يستخدم لإسالة مياه الأمطار الزائدة من البلدة القديمة باتجاه الجنوب (وادي حلوة ومن ثم الى وادي النار) ، لقد تم حفر بضع عشرات من الأمتار باتجاه الشمال حتى الآن، ولم تنتهي الحفريات بعد. ويذكر بأن الحفريات قد تمت بدون إذن سلطة الآثار، وحين تمت إثارة الموضوع من قبل بعض الصحفيين الإسرائيليين قامت سلطة الآثار بإصدار التراخيص الضرورية، دون ان توقف الحفرية ودون ان تقدم حركة إلعاد الى المحكمة كما جرت العادة مع الفلسطينيين. أما مسار الحفرية فيقع تحت بيوت سكان المنطقة وكذلك تحت الشارع العام. لقد اعتبرت إلعاد نفسها مالكة لما تحت الأرض وتتصرف كأنها حكومة. لا شئ يتم بالسر، فالحكومة والبلدية وسلطة الآثار كلها أذرع لنفس الكائن. لقد خسر سكان المنطقة القضية التي رفعوها ضد هذه الحفرية التي تجري تحت بيوتهم بدون إذنهم، مما يؤكد أيضا على ترابط الجهاز القضائي في إسرائيل مع هذا المشروع.
حفريات عين سلون: يجري الحفر في عين سلوان في ثلاثة مواقع: شمال العين، جنوب العين، وعند بركة سلوان. العمل مستمر وبتمويل من الجمعيات الاستيطانية بهدف ربط عين سلوان بنفق يمتد شمالا باتجاه الحفرية السابقة (أرض صيام) وباتجاه الحرم الشريف. ويمكن فهم النشاطات الأثرية في هذه المنطقة ضمن خطة استيطانية من جهة، وضمن مشروع خلق مدينة أثرية يهودية من جهة ثانية يتم عبرها إعادة تركيب تاريخ القدس بناء على الرواية الاستيطانية والتي تعتبر أكثر تطرفا وأحادية الجانب بالمقارنة حتى مع الرواية الرسمية. لقد أدت الحفريات في هذه المنطقة الى انهيارات في الطريق العام والى تشققات في بعض المنازل. لا تتوفر معلومات كافية حول الحفرية هنا للتوصل الى نتائج علمية حول المكتشفات.
حفريات تلة الضهور (مدينة داود): مازالت أعمال الحفر مستمرة في الموقع ولا جديد في ذلك، لكن أعمال التأهيل تتم على أيدي المستوطنين، الذين أنشأوا على طرف الموقع مبنى دعاويا يركب تاريخ القدس بشكل انتقائي مثير للجدل حتى بين علماء الآثار الإسرائيليين، ويملك الموقع عرضا بالصوت والصورة حول تاريخ التل وعلاقته باليهود. ويقوم المستوطنون بتسيير مرشدين سياحيين في الموقع يقدمون الصورة ضمن منهج واضح. وآخر الحفريات تتمركز حول العين (عين أم الدرج) حيث يتم الكشف عن أبراج دفاعية تعود الى العصر البرونزي الوسيط (الفترة الكنعانية).
خامسا: الأنفاق
ظاهرة الأنفاق ليست بجديدة في مدينة مثل القدس تحتوي على الكثير من الطبقات الأثرية وتراكم المباني بعضها فوق بعض، كما لعبت طبوغرافية المدينة دورا هاما في تشكيل الأنفاق. وهناك أنواع متعددة من الأنفاق:
1.
منها ما جاء نتيجة بناء جسر بين منطقتين مرتفعتين بينهما واد، وقد تراكمت فيه الأتربة على مر العصور ونسي أمره الى أن اكتشف في إحدى الحفريات التي تمت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
2.
والنوع الثاني من الأنفاق جاء نتيجة للتمديدات الصحية لإزالة مياه الأمطار او للمياه العادمة، او حتى لجر وتوزيع المياه العذبة، حيث ربطت المدينة على مر العصور بشبكات من هذه التمديدات، وقد نسي أمرها بعد التمديدات الحديثة وجرى إعادة اكتشافها قديما او حديثا.
3.
أنفاق جاءت نتيجة لرفع مستوى المباني، خاصة في المنطقة المحيطة بالحرم الشريف، ويمكن النظر الى النفق الذي فتح على امتداد الجدار الغربي للحرم الشريف ضمن هذه المجموعة.
4.
أنفاق يجري حفرها من جديد ولم يكن لها أصل تاريخي، مثل ذلك المخطط له لربط حارة اليهود بساحة البراق، او ذلك المخطط له لربط مغارة سليمان ببيت شارون.
وأشهر الأنفاق التي تم حفرها في القدس، هي:
النفق الغربي: يقع النفق على امتداد الحائط الغربي للحرم الشريف بدأ بأسفل المدرسة التنكزية، المجاورة لما هو مكشوف من الجدار الغربي للحرم من الجهة الجنوبية، ويستمر حتى الزاوية الشمالية الغربية للحرم عند باب الغوانمة ويتجاوزها باتجاه الشمال. يبلغ طول النفق (من عند الزاوية الشمالية لحائط المبكى) 330 مترا على امتداد الجدار الغربي، وبعدها يمتد حوالي 35 م الى شمال الحرم الشريف ثم ينحرف الى الشرق حوالي 16م ليفتح على طريق الآلام تحت المدرسة العمرية. سمي النفق إسرائيليا بنفق الحشمونيين، وذلك لوجود قناة ماء في الجزء الشمالي من النفق بطول حوالي 35م تبدأ أسفل مدرسة راهبات صهيون (حيث بركة تجميع للمياه) يعتقد بأنها قد بنيت خلال الفترة المذكورة. أما باقي أجزاء النفق فهي عبارة عن أساسات المباني المملوكية المبنية فوقها، بالإضافة الى أجزاء تعود الى الفترة الصليبية او الأيوبية، خاصة في البداية الجنوبية للنفق. ولم يجري اكتشاف شئ يعود الى فترات أخرى إلا بلاطتين تعودان الى فترة الملك هيرودوس، ولا نعرف ان كانتا جزء من طريق مبلط او أعيد استخدامهما في الموقع خلال فترات لاحقة.
ويذكر بأن أجزاء من النفق معروفة منذ القرن التاسع عشر، ويشكل هذا النفق أساسات الأبنية المملوكية التي تقع على امتداد الجدار الغربي للحرم، حيث قرر المماليك رفع مستوى الأبنية المتصلة بالحرم من الجهة الغربية الى مستوى ساحات الحرم، وحيث أن المنطقة الغربية للحرم تنحدر غربا لتشكل واد عميق (تسمى المنطقة حتى اليوم طريق الواد)، فكان لابد من رفع المباني على دعامات وتسويات، شكلت سلسلة من الغرف والممرات التحت أرضية، بعضها ملئ بالتراب والبقايا المعمارية على مر العصور، وبعضها الآخر جرى استعماله آبارا لتجميع مياه الأمطار للأبنية الواقعة أعلاه. وبعد عام 1967 بدأت أعمال الحفر (خاصة في المنطقة الشمالية من النفق حيث جرى حفر الصخر لتشكيل مخرج شمالي للنفق) والتنظيف، ليجري افتتاحه على يد نتنياهو بتاريخ 23/9/1996، مطلقا بذلك ما اصطلح على تسميته بانتفاضة النفق. كما من المفيد معرفة أن أجزاء من النفق لا تتسع عرضا أكثر من 60سم، مما يعني أن اتجاه الزيارة يجب ان يسير باتجاه واحد (حاليا من الجنوب الى الشمال)، وبالتالي في حال إغلاق المخرج الشمالي له (تحت المدرسة العمرية) سيشل النفق من ناحية سياحية.
كما يجب التذكير بأن النفق يتفرع تحت الأرض الى عدة أنفاق ثانوية، لا نعرفها جميعها بسبب عدم فتحها أمام الزوار، بعضها يتجه باتجاه الحرم الشريف (أي باتجاه الشرق)، وبالتالي فان الحديث عن “النفق” لا يكفي، وعليه علينا ان نأخذ تلك التفرعات بعين الاعتبار.
لقد أدت بداية الحفريات في النفق في مطلع السبعينات الى تشققات وانهيارات في عدد كبير من المباني المملوكية الواقعة أعلاه، علما بأن بداية الحفريات قد تمت على أيدي المستوطنين وإدارة الحائط الغربي دون إشراف أثري او هندسي. وهذه المسألة لم تنتهي حتى الآن في كثير من المواقع في البلدة القديمة.
نفق وادي حلوة: يقع النفق على امتداد طريق وادي حلوة، الرابط بين سلوان والبلدة القديمة. ويطلق على هذا النفق اسم “مطلع داود”، وعلى امتداد هذه الطريق انتشرت المستوطنات، وذلك بعد السيطرة على حوالي 15 مبنى. ويهدف المشروع الاستيطاني هنا الى تفريغ كل وادي حلوة من السكان، وربط عين سلوان بطريق تقود من باب المغاربة في سور القدس عند جدار الجامع الأقصى الجنوبي إلى عين سلوان ومنطقة البستان، وهذه الطريق مركز حركة مرور لسيارات ومشاه مكثفة، وكشف عن هذا النفق البلدة القديمة ضمن شريط استيطاني واحد. وبالتالي يلعب النفق هنا دورا حيويا في هذا المشروع. بدأ الحفر في النفق عام 2004 تحت خيمة محروسة وبشكل سري. انتهي عام 2013 من حفره وربط بمخرجين، الأول في موقف سيارات وادي حلوة (جفعاتي)، والثاني في الحديقة الأثرية. وعلى أغلب الظن فان هذا النفق كان مجرى للمياه العادمة من البلدة القديمة باتجاه وادي حلوة ومن ثم الى وادي النار، وقد شيد في الفترة الرومانية.
أما أخطر ما في الأنفاق هو عدم معرفتنا بالمخططات وحفظ العمل فيها قيد الكتمان وعدم السماح لأصحاب العقارات او محاميهم او حتى الصحفيين الاقتراب منها، ليس حفاظا على سلامة الجمهور كما هو الحال في الحفريات الخطرة، بل حفاظا على سرية المشروع. لقد ارتبطت كل الأنفاق في البلدة القديمة ومحيطها بالحركات الاستيطانية مما يدلل على ارتباطها بمشاريعه.
6.
الآثار والاستيطان
توطدت العلاقة في الآونة الأخيرة ما بين حركات المستوطنين وسلطة الآثار الإسرائيلية بشكل لم يسبق له مثيل، وبشكل واضح ومعلن، حيث تقوم الحركات الاستيطانية مثل “إلعاد” و”عطيرت كوهانيم” وإدارة “الحائط الغربي” بتمويل أعمال الحفر، التي يلحقها بالعادة أعمال الاستيطان. ومن الأمثلة الصارخة على العلاقة الوطيدة بين الشريكين هو تخويل سلطة الآثار الإسرائيلية للجمعية الاستيطانية “إلعاد” إدارة الحديقة الأثرية الواقعة في تلة الضهور او ما يسميه الإسرائيليون بـ”مدينة داود”، وملحقاتها في المنطقة المحيطة، بما فيها منطقة دار الإمارة الأموية (أرض الخاتونية)، إلى الجنوب والجنوب الغربي من الحرم الشريف.
وبالكاد نجد اليوم أية حفرية في منطقة ما يسمى بـ”الحوض المقدس” دون أن نكتشف التلاحم ما بين الاستيطان والآثار والعاملين في هذا الحقل من الإسرائيليين وعلى رأسهم سلطة الآثار الإسرائيلية.
وقد صرح العديد من المسؤولين في سلطة الآثار الإسرائيلية، خلال السنة الماضية والحالية، بأن جل نشاط سلطة الآثار سينتقل إلى القدس، بلوغا الى رقم قياسي في عمليات الحفر، والتي ستستمر بشكل متواز ومترافق لسنوات عديدة، كما أعلنوا بأن هذه الحفريات ستغير وجه وطابع المدينة، وأن علم الآثار في القدس هو علم مجند في خدمة الدولة وأهدافها السياسية. إن هذه التصريحات لم يسبق لها مثيل، حيث تم الادعاء لفترات طويلة أن علم الآثار في إسرائيل هو علم مستقل. في الماضي، كان نقدنا لـ”علم الآثار” يتمحور في دوره المكشوف المتمثل ببعده الأيديولوجي كمسوغ سياسي يبرر ويشرع لقيام دولة إسرائيل ويخلق “الشرعية التاريخية”، وبالتالي أيضا الثقافية والأخلاقية لها. كما لعب “علم الآثار” دورا مركزيا في المساهمة في تشكيل “هوية إسرائيلية”، وذلك جنبا إلى جنب مؤسسات الدولة الأخرى، لكن ازداد الآن دور الآثار بشكل لم يسبق له مثيل، وذلك بالرغم من سقوط الكثير من المقولات التي سيطرت على علم الآثار الإسرائيلي في مواقع أساسية مثل القدس ومسادا ومناطق أخرى، والتي شكلت لفترة طويلة عبر ما أنتجه علماء الآثار في إسرائيل من قصص وأساطير شكلت مرتكزات أساسية ثقافية للمجتمع الإسرائيلي، ودخلت ضمن الرواية الرسمية لتاريخ اليهود.
هناك شبه إجماع بين غالبية الجادين في علم الآثار من إسرائيليين وغربيين أن “مدينة داود العظيمة” التي كانت عاصمة لإمبراطورية داود الضخمة ما هي في حقيقة الأمر سوى قرية، وبالتالي لم يعد الربط بتاريخ اليهود شرطا لربط الموقع بمسوغات سياسية، بل انتقل إلى دور مكشوف في عملية الاستيطان، وحق اليهود الاستيطان في كل مكان في “عاصمة داود وسليمان” وفي المنطقة التي تم فيها صياغة التاريخ اليهودي.
ويذكر بأن سلطة الآثار الإسرائيلية تقوم بتسريع الإجراءات القانونية، بل تتغاضى عنها في كثير من الأحيان، اذا كان الأمر يتعلق بمنطقة مستهدفة من قبل الجمعيات الاستيطانية، كما حدث في وادي حلوة، حيث بدأت حركة إلعاد الاستيطانية بالحفر، وذلك تحت سمع سلطة الآثار الإسرائيلية وبصرها دون الحصول على التراخيص الضرورية، وبعد بدء الحفر بعدة أشهر، واحتجاج بعض الأثريين الإسرائيليين وكتابة التقارير الصحفية، وبعد أن “خجلت وأحرجت” سلطة الآثار الإسرائيلية، تم تقديم طلبات التراخيص، علما بأن الأرض التي يجري فيها الحفر هي ملكية فلسطينية خالصة، قررت بلدية القدس الغربية تحويلها الى موقف للسيارات، وهذا أعطى جمعية إلعاد “الحق” بالحفر بها وتحتها، مما يعني أن البلدية متوافقة تماما مع المخططات الاستيطانية، بل هي مشرعة لها وتقوم بإعداد المخططات التفصيلية لتنفيذها، مما يثبت ما ذهبنا اليه أعلاه من ترابط بين صاحب القرار في إسرائيل بمستوياته المختلفة، وما يدور على ساحة الاستيطان في القدس وخارجها، وأن المجموعات الاستيطانية، والتي تسمى أحيانا “المتطرفين” ما هي إلا ذراع غير رسمي لأصحاب القرار في إسرائيل، ومن ضمنها ذراع الآثار. وتقوم المؤسسات الحكومية الإسرائيلية الرسمية بتمويل الكثير من هذه النشاطات الاستيطانية التي تتسم بعدم توافقها حتى مع القانون الإسرائيلي.

وكما هو معروف، بناء على القانون الإسرائيلي، مثلها في ذلك مثل باقي دول العالم، يمنع البناء في أي موقع دون أن توافق سلطة الآثار الإسرائيلية على ذلك. ويقوم المبادر بالبناء بتمويل تكاليف الحفرية إذا اقتضت الضرورة ذلك. وبالعادة يمنع البناء على المواقع الحساسة التي يتم الإعلان عنها كمحمية أثرية بموجب القانون. إلا أن القانون يتوقف كليا عندما يدور الموضوع حول موقع استيطاني. فعلى سبيل المثال، تقدم مستوطنو إلعاد في وادي حلوة بطلب رخصة بناء على تلة أوفيل أي بالمفهوم الإسرائيلي فوق “مدينة داود” وعلى الموقع الأثري المحمي منذ فترة الانتداب البريطاني. سارعت دائرة الآثار الإسرائيلية وقامت بحفرية إنقاذية في الموقع، بعدها سمحت للمستوطنين البناء على الموقع. صحيح أن بلدية القدس لم تصدر ترخيصا بذلك لكنها لم تقم بهدم المبنى حتى الآن بالرغم من مرور ثمان سنوات على بناءه، وبالرغم من احتجاج مجموعة من الآثاريين الإسرائيليين هذا عدا عن احتجاج مؤسسات حقوقية.
لقد أصبحت الحركات الاستيطانية ممولا أساسيا لسلطة الآثار الإسرائيلية. وهناك من يعتقد بأن المبالغ التي يدفعها المستوطنون لسلطة الآثار تتجاوز العشرة ملايين شيكل سنويا (حوالي ثلاثة ملاين دولار)، مما يعطي هذه الحركة قوة في تقرير الكثير من سياسات سلطة الآثار، هذا عدا عن وجود مجموعة من الآثاريين الإسرائيليين الذي ينتمون أصلا إلى الحركة الاستيطانية من ناحية أيديولوجية. وعلى سبيل المثال، تقوم جمعية عطيرت كوهانيم بتمويل الحفريات شمال البلدة القديمة، وكذلك تحت كنيس “أوهل يتسحاق”، وتقوم جمعية “إلعاد” بتمويل الحفريات في حي سلوان بالإضافة إلى موقعين أخرى. كما يقوم ما يسمى “صندوق تراث الحائط الغربي” بتمويل الحفريات في ثلاثة مواقع أخرى قريبة من “حائط البراق”، منها ما هو في القسم الغربي للساحة وأخرى في تلة باب المغاربة.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

قضية دير مار الياس الكرمل: الديني والسياسي (1)

القسم الأول آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *