إدوارد سعيد
ترجمة: محمود الصباغ
عقدت مجلة “لوموند ديبلوماتيك Le Monde Diplomatique” الشهرية الفرنسية بالتعاون مع المجلة الفصلية “الدراسات الفلسطينية Revue d’études Palestiniennes” التي يصدرها معهد الدراسات الفلسطينية في باريس، مؤتمرًا حضرتُه وشاركتُ فيه. تبادل، في المؤتمر، المؤرخون الإسرائيليون المزعومون “الجدد” ونظرائهم الفلسطينيين الأفكار على الملأ، ولم يكن هذا المؤتمر حدثاً فريداً، بل كان هو الثالث أو الرابع. ولكن ما جعله جديداً هو أنه كان أول مؤتمر يتبادل فيهما الطرفان النقاش بينهما بشكل مطوّل.
كنتُ أنا وإلياس صنبر ونور مصالحة نمثل الجانب الفلسطيني، وكان بيني موريس وإيلان بابيه وإيتمار رابينوفيتش يمثلون الجانب الإسرائيلي ( وهذا الأخير، في الحقيقة ليس مؤرخاً جديداً، بل كان مستشار سابق لحزب العمل، وسفير لإسرائيل في الولايات المتحدة، وأستاذاً لمادة التاريخ في جامعة تل أبيب، وخبيراً في الشأن السوري، ولكن الذي يبدو أن وجهات نظره تتغير)، وكان من ضمن الجانب الإسرائيلي، أيضاً، زئيف شطيرنهيل ، المؤرخ الإسرائيلي المتخصص في دراسة الحركات الجماهيرية الأوروبية اليمينية، ويعل أستاذاً في الجامعة العبرية، وهو مؤلف كتاب حديث مهم للغاية عن أساطير المجتمع الإسرائيلي (أهمها -أنها دولة ليبرالية واشتراكية وديمقراطية- والتي قام شطيرنهيل بتفكيكها تماماً في تحليل تفصيلي دقيق لطابعها غير الليبرالي وشبه الفاشي والمعادي بشدة للاشتراكية كما يتضح من تاريخ حزب العمل بشكل عام، والهستدروت على وجه الخصوص) .
جذب المؤتمر، للأسف، جمهوراً صغيراً بشكل عام، نظراً لعدم الإعلان الجيد عنه، بيد أن ما يعوض ذلك جودة المواد المقدمة وطول زمن الجلسات التي استغرقت عدة ساعات، وكانت هذه وتلك بحد ذاتهما ممارسة قيمة للغاية، ورغم تفاوت بعض المساهمات، فقد تمثلت أحد انطباعاتي القوية في أن المشاركين الإسرائيليين -الذين لم يكونوا بأي حال من الأحوال على ذات الدرجة من التوجه السياسي- تحدثوا، غالباً، عن الحاجة إلى الهدوء التأملي والابتعاد النقدي، والحفاظ على مسافة بارزة من المادة قيد البحث باعتبار أن هذه الأمور على درجة من الأهمية لدراسة التاريخ، في حين كان الجانب الفلسطيني أكثر إلحاحاً وحدةً وحتى عاطفةً في إصراره على الحاجة إلى تاريخ جديد. والسبب -بالطبع- هو هيمنة إسرائيل، وبالتالي معظم الإسرائيليين، على ساحة الصراع: فهم يسيطرون على جميع الأراضي، ويملكون كل القوة العسكرية، وبالتالي يمتلكون المزيد من الوقت وترف الجلوس والسماح بانفتاح النقاش وانكشافه بهدوء.
فقط إيلان بابيه، (وهو مؤرخ اشتراكي ومناهض للصهيونية في جامعة حيفا)، كان منفتحاً على اعتناق وجهة النظر الفلسطينية، وكان قد قدّم -باعتقادي- إحدى أكثر المداخلات الإسرائيلية ذكاءً وبراعة. أما بالنسبة للآخرين فقد نظروا، وإن بدرجات متفاوتة، إلى الصهيونية على أنها ضرورة لليهود. وقد أصبت بالدهشة، بالأحرى بالمفاجأة؛ على سبيل المثال، عندما اعترف شطيرنهيل، خلال الجلسة الأخيرة، بظلم فادح ارتُكب بحق الفلسطينيين، وأن جوهر الصهيونية يتمثل في كونها حركة غزو واحتلال، لكن هذا لم يمنعه من المتابعة بأنها كانت حركة احتلالية “ضرورية”.
ومن أكثر الأشياء اللافتة للنظر بخصوص مجموعة المؤرخين الإسرائيليين، باستثناء بابيه من جديد، التناقض العميق، الذي يقترب من الفصام الذي يغذي أعمالهم. فعلى سبيل المثال؛ كتب بيني موريس باستخدام أرشيف الهاغاناه والحركة الصهيونية ، قبل عشر سنوات، أهم عملاً إسرائيلياً حول ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه كان هناك نزوح قسري للفلسطينيين نتيجة لسياسة “الترانسفير” المحددة التي تبناها بن غوريون ووافق عليها. وأظهر عمل موريس الدقيق في المناطق المختلفة كيف قام الصهاينة، بعد أن صدرت أوامر لقادة المناطق بطرد الفلسطينيين، بحرق القرى، والاستيلاء المنهجي على منازلهم وممتلكاتهم. غير أن هذا، ويا للغرابة، لم يمنعه أن يبدو في نهاية الكتاب بمظهر المتردد في استخلاص النتائج الحتمية من أدلته الخاصة. وبدلاً من القول صراحة بطرد الفلسطينيين، نراه يقول، في الواقع، إنهم طردوا جزئياً على يد القوات الصهيونية و” غادروا” جزئياً، وفي كلتا الحالتين نتيجة الحرب. يبدو الأمر كما لو أنه كان لا يزال صهيوني بما يكفي لتصديق النسخة الإيديولوجية – التي تقول إن الفلسطينيين غادروا -بمفردهم- دون أية عملية طرد إسرائيلية- بدلاً من قبول أدلته الخاصة تماماً، والتي تؤكد أن السياسة الصهيونية فرضت الهجرة الجماعية على الفلسطينيين.
وبالمثل، اعترف شطيرنهيل في كتابه أن الصهاينة لم يروا في العرب مشكلة أبداً؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا اعترفوا علانية بأن الخطة الصهيونية لإقامة دولة يهودية لم يكن من الممكن أن تتحقق دون التخلص من الفلسطينيين. لكنه ظل يصر خلال المؤتمر أن عملية الطرد تلك كانت ضرورية، على الرغم من أنها خطأً أخلاقياً.
ورغم هذه التناقضات، ثمة ما هو لافت للنظر في الأمر؛ فعندما كان يتم الضغط، عليهما، سواء من بابيه أو من الفلسطينيين، كانا، موريس وشطيرنهيل، يبديان بعض التردد في مواقفهما. وبالنسبة لي، أعتبر وجهات نظرهما المتغيرة عرض من أعراض تغيير أعمق يحدث داخل إسرائيل. بمعنى أنه لا يمكن حدوث تغيير مهم، في الخطوط الرئيسة للإيديولوجية الصهيونية، بصورة حقيقية في ظل هيمنة السياسة الرسمية، سواء أكان في السلطة حزب العمل أو الليكود، بل إن هذا التغيير ينبغي له الحدوث خارج هذا السياق الخاص، أي حيث يكون المثقفون أكثر حرية في التفكير والتأمل في الحقائق المقلقة لإسرائيل الحالية.
وتكمن المشكلة لمحاولات بعض المثقفين من كلا الجانبين للتأثير على سياسات نتنياهو على سبيل المثال، كما هو حال مجموعة كوبنهاغن، في أنها محاولات تدور بالقرب من الحكومات ذات النظرة الضيقة والقصيرة المدى للأمور. وإذا كانت السنوات الممتدة منذ العام 1993 أظهرت لنا شيئاً ما؛ فإنما تظهر أن النظرة الصهيونية الرسمية للصراع من الفلسطينيين (وهذا ينطبق على الصهاينة اليساريين مثل ميرتس أو يسار الوسط مثل شمعون بيريز)، بغض النظر عن مدى الرؤية التنويرية أو الليبرالية، مستعدة للعيش في حالة الشيزوفرينيا التي أشرت إليها أعلاه عند حديثي عن بني موريس. بمعنى… نعم ، نريد سلاماً مع الفلسطينيين، لكن لا، لم يكن هناك خطأ اقترفناه فيما كان ينبغي علين القيام به في العام 1948. وبقدر ما يتعلق الأمر بالسلام الحقيقي، فإن هذا التناقض الأساسي لا يمكن الدفاع عنه تماماً، لأنه يقبل فكرة أن الفلسطينيين موجودون في أرضهم هي فكرة ثانوية لليهود. علاوة على ذلك، فإن هذا يؤدي إلى قبول التناقض الأساسي بين الصهيونية والديمقراطية (كيف يمكن أن يكون هناك دولة يهودية ديمقراطية، وفيها -كما هو الحال الآن- مليون مواطن غير يهودي ليس لهم حقوق متساوية في الأرض أو العمل مقارنة باليهود؟).
إن مأثرة المؤرخين الجدد الكبرى تتمثل في أن أعمالهم تدفع التناقضات داخل الصهيونية، على الأقل، إلى حدود غير ظاهرة لمعظم الإسرائيليين، وحتى للعديد من العرب.
ومن المؤكد أن الأهمية السياسية الكبرى للمؤرخين الإسرائيليين الجدد، اليوم، تكمن في أنهم أكدوا ما تقوله أجيال من الفلسطينيين، مؤرخين أو غير ذلك، عما حدث لنا كشعب على يد إسرائيل. وبالطبع فعلوا، أي المؤرخون الجدد، ذلك كإسرائيليين يتحدثون إلى حد ما عن ضمير شعبهم ومجتمعهم. لكني أشعر هنا، ولو أردنا الحديث عن النقد الذاتي، بوجوب البدء، كعرب عموماً، وفلسطينيين على وجه الخصوص، أيضاً في استكشاف تاريخنا وأساطيرنا وأفكارنا الأبوية عن الأمة، وهو أمر لم نقم به حتى الآن لأسباب واضحة.
كان الجانب الفلسطيني، خلال ندوة باريس، بمن فيهم أنا، يتحدث بإحساس كبير بالإلحاح حول الحاضر الذي مازالت النكبة الفلسطينية تعيش فيه، حيث ما زلنا نرى تجريد الفلسطينيين من ملكياتهم، لا سيما الأرض، وإنكار حقوقنا يتخذ أشكالًا جديدة وأكثر قسوة. ومع ذلك، فمن واجبنا كمثقفين ومؤرخين النظر إلى تاريخنا وتاريخ قياداتنا ومؤسساتنا بعين نقدية جديدة.
هل هناك شيء حول تاريخنا وتاريخ قياداتنا ومؤسساتنا يمكن أن يفسر، ربما، الصعوبات التي نجد أنفسنا فيها كشعب؟. وماذا عن الصراع بين العائلات الكبيرة أو الحمايل، وحقيقة أن قادتنا لم يُنتخبوا، تقليدياً، بشكل ديمقراطي، والحقيقة، القريبة بذات القدر من الكارثة المدمرة، أننا على ما يبدو نعيد إنتاج الفساد وعدم الكفاءة في كل جيل جديد؟
هذه أمور جدية وخطيرة، بل وحاسمة، ولا يمكن تركها دون إجابة، أو تأجيلها إلى أجل غير مسمى تحت غطاء الدفاع الوطني والوحدة الوطنية. ربما تكون هناك بداية للوعي الذاتي النقدي في كتاب يزيد صايغ الجديد عن تاريخ الكفاح المسلح الفلسطيني، [ لعله يقصد كتاب ” الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949 – 1993 ” الصادر في العام 1997 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية- المترجم]، لكننا بحاجة إلى المزيد من الأعمال السياسية والنقدية الملموسة من هذا النوع، وهي الأعمال التي لا يمكن فهمها لجميع تعقيدات ومفارقات تاريخنا لتي لا نبتعد عنها كثيراً.
لم تترجم أعمال موريس أو بابيه أو شطيرنهيل إلى العربية على حد علمي. [ظهرت عدة ترجمات لمؤلفات بني موريس وإبلان بابيه بعد تاريخ هذه المقالة. فظهرت كتب إيلان بابيه التالية: “كتاب التطهير العرقي في فلسطين” عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2006. و”الفلسطينيون المنسيون : تاريخ فلسطينيي 1948″ عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2013. و” فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015. و” عشر خرافات عن إسرائيل: عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018. و”خارج الإطار ؛ القمع الأكاديمي والفكري في إسرائيل” ، عن دار قدمس للنشر والتوزيع 2018، وكتاب “أكبر سجن على الأرض” عن مؤسسة نوفل، 2020. كما ظهر كتاب بني موريس ” طرد الفلسطينيين وولادة مشكلة اللاجئين” عن دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، 1993. وكتاب “آخر الباشوات، غلوب باشا، فلسطين واليهود” عن الأهلية للنشر والتوزيع، 2003. ولم أعثر على أعمال زئيف شطيرنهيل في اللغة العربية- المترجم].
يجب معالجة هذا الغياب على الفور.
ولا تقل أهمية، كما أعتقد، عن حاجة المثقفين العرب للتفاعل المباشر مع هؤلاء المؤرخين من خلال دعوتهم للنقاش في الجامعات العربية والمراكز الثقافية والمنتديات العامة. وبالمثل، أعتقد أنه من واجبنا، كفلسطينيين، بل وحتى كمثقفين عرب، إشراك الجماهير الأكاديمية والفكرية الإسرائيلية من خلال إلقاء محاضرات في المراكز الإسرائيلية، بشكل علني وشجاع -وبلا هوادة-.
ماذا فعلت لنا سنوات رفض التعامل مع إسرائيل؟
لا شيء على الإطلاق، إلا إضعافنا وإضعاف تصورنا لخصمنا.
السياسة التي كانت قائمة منذ العام 1948 شارفت الآن على نهايتها، وسوف تدفن في إخفاقات عملية أوسلو لمحاولة الفصل بين اليهود الإسرائيليين والفلسطينيين. وكجزء من السياسة الجديدة التي تحدثت عنها في هذه المقالات، تظهر فرصة رائعة في التفاعل المستمر مع المؤرخين الإسرائيليين الجدد الذين يمثلون، رغم ذلك أقليتهم، ظاهرة ذات أهمية كبيرة. لقد كان لعملهم، على سبيل المثال، تأثير كبير على سلسلة أفلام تيكوما المكونة من 22 جزءً ، [ תְקוּמָה تيكوما.. أي البعث أو القيامة]، التي عُرضت على التلفزيون الإسرائيلي كتاريخ للدولة المنتجة لاحتفالات السنة الخمسين على وجودها.
هناك طلب كبير عليهم في المدارس الإسرائيلية كمحاضرين، وقد اجتذب عملهم انتباه المؤرخين وغيرهم في كل من أوروبا والولايات المتحدة. ويبدو من المستهجن، ناهيك عن التراجع، أن المكان الوحيد الذي لم يسمعوا فيه بالكامل هو العالم العربي، لكننا بحاجة إلى تخليص أنفسنا من تحيزاتنا العنصرية ومواقفنا الشبيهة بالنعام، وبذل الجهد لتغيير الوضع. لقد حان الوقت.
….