تخيل تخيل المتخيل: كيف يتخيل العربي تخيل الإسرائيلي للعربي ؟ ف

في العام 2001 شاركت في الجامعة الأردنية بورقة عن صورة الأتراك في النثر العربي القصصي في بلاد الشام.
في الورقة كتبت تحت عناوين هي:
– تخيل العربي لذاته
– تخيل العربي للأتراك
– تخيل تخيل المتخيل – أي التركي – للعربي
– تخيل تخيل المتخيل لذاته – أي تخيل التركي المتخيل للتركي .
ووفق على الورقة وعندما ذهبت إلى الجامعة الأردنية زرت الدكتور سامي الخصاونة – وكان درسني في مرحلة البكالوريوس بين 1972 و 1976 – وعرفته بنفسي وبأنني مشارك في المؤتمر الذي دعا إليه ، ولما سألني عن عنوان ورقتي أجبته ، فابتسم ، وكانت السكرتيرة في مكتبه ، وقال لي :
– هو أنت ؟ اجلس وفهمني ما تقصده بعباراتك ” تخيل تخيل المتخيل لآخره ولذاته ” .
وضحك وضحكت السكرتيرة .
وأنا أقرأ في رواية عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي ” قلت إنها رواية تصلح لأن أكتب عنها تحت العناوين السابقة المذكورة ، ويمكن الابتعاد عن التجريد .
كيف يتصور الفلسطيني اليهودي ؟
– ما الصورة التي يقدمها الفلسطيني لذاته ؟
– كيف يتصور الفلسطيني تصور اليهودي للفلسطيني ؟
– كيف يتصور الفلسطيني تصور اليهودي لذاته – أي تصور الذات لذاتها – أي اليهودي لليهودي ؟
أنفقت عقودا وأنا أكتب عن صورة اليهود في الأدب العربي والفلسطيني ، وصورة العربي في الأدب الصهيوني .
هل يمكن أن استخلص ما سبق كله في رواية ” تفصيل ثانوي ” ؟
تقدم عدنية شبلي صورة للفتاة البدوية وصورة للمرأة الفلسطينية الحضرية التي تقيم في رام الله ، وتقدم أيضا تصور الضابط الإسرائيلي وجنوده للعرب من خلال الفتاة البدوية وصحراء النقب وعلاقة العرب بالأرض .
وتقدم أيضا صورة لليهود ممثلين في الضابط والجنود ومدير المتحف والمرأة العجوز وأيضا صورة لبيوتهم مقابل خيم البدو وحياتهم في الصحراء .
كما تبرز تصور اليهود المتصورين لأنفسهم ، وتأتي على حياتها قي رام الله فتقدم صورة لحياة الفلسطيني .
كل ما قرأته في ” تفصيل ثانوي ” عن مرايا الذات والآخر هو ما قرأته من قبل في الرواية العربية والرواية العبرية التي ترجمت إلى العربية وفي الدراسات التي كتبت عن الأدبين العبري والصهيوني . إن الصورة في ” تفصيل ثانوي ” هي خلاصات ما سبق ، ولن يعثر المرء على تصور جديد .
منذ ستة وسبعين عاما ونحن والحركة الصهيونية نتحارب ولا جديد ، وعلى رأي أبو مازن ” ك . س أخت الصين ” وعلى رأي ناجي العلي ” فلتسقط جارة كندا ” .
*****

تنتهي رواية عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي ” ببحث ساردتها عن مكان جريمة اغتصاب الضابط والجنود للفتاة البدوية ثم قتلهم لها ، تنتهي بمأزق يتمثل برؤية الجنود الإسرائيليين لها وارتيابهم في سيارتها ، ما يدفع جندي ليصرخ باتجاهها آمرا إياها بالتوقف مكانها ، فيما يرفع آخرون أسلحتهم نحوها . لا بد أنهم انتبهوا إلى السيارة الصغيرة البيضاء التي دخلت المنطقة العسكرية ” ولا محالة أثارت شكوكهم … “

تحاول الساردة أن تهدأ ، وتلجأ إلى علبة العلكة التي اشترتها على الحاجز :

” أمد يدي ، نحو جيبي لأتناول من داخله علبة العلكة .

فجأة ، يغمرني ما يشبه الحريق الحاد في يدي ثم صدري ، يليه أصوات إطلاق نار بعيدة .”

هل قتلت الساردة التي ولدت بعد ٢٥ عاما من مقتل الفتاة البدوية المغتصبة ؟

هل حالتنا حالة سيزيفية ؟ وهل نحن منذورون للموت ؟

لا بد من العودة إلى قصة الدكتور الجامعي الغزي ناصر أبو النور الذي ارتقى في الحرب والتذكير بها ، وكان والده استشهد أيضا في حرب 1956 . ( أنظر ما كتبته في 21 / 2 / 2024 تحت الرقم ( 138 ) ” عائلات بأكملها تباد ” ) .

حول السرد في رواية عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي ” :

*****

ماذا لو تتبعت تصور اليهودي في الرواية لنفسه وللفتاة البدوية التي يغتصبها وجنوده ولأرض فلسطين / صحراء النقب ( 2017 ) وقارنتها بالصورة التي أبرزها إميل حبيبي في روايته ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ” ( 1974 ) ، بخاصة في الرسالة التي عنوانها ” حديث شطط في الطريق إلى سجن شطة ” ؟

وماذا لو تتبعت الكتابة عن المكان في الروايتين ، ما كان وما صار إليه ؟

طبعا هناك فارق كبير في الأسلوب الكتابي بين الروايتين .

يروى الفصل الأول بضمير الغائب – أي الهو ، إذ نصغي إلى سارد غير محدد الملامح يروي عن الضابط الإسرائيلي وجنوده ، ولكن السرد أحيانا يغدو بالضمير الأول وذلك حين يترك السارد الضابط يتكلم مخاطبا جنوده ، كما في الصفحتين 40 و 41 مثالا . السارد هنا يغدو معروفا . تضع الكاتبة – الأصح السارد غير محدد الملامح – كلام الضابط بين علامتي تنصيص .

هنا يقدم الضابط تصوره للذات الصهيونية وتصوره للعرب والبدو والفتاة البدوية والأرض / الصحراء . هذا التصور بالتأكيد هو ما نقرؤه في الأدبيات الصهيونية التي درسها غسان كنفاني في كتابه ” في الأدب الصهيوني ” ، وغير غسان أيضا .

اليهودي الغربي المهتم بالنظافة مقابل الفتاة البدوية ذات الرائحة النتنة التي يجب أن تغتسل وتعقم ويعقم شعرها قبل أن يغتصبها ، ومع ذلك تبقى رائحتها كريهة ؛ رائحة شعر رأسها .

الأرض جدباء جرداء لإهمال العرب لها آلاف السنين ، والآن جاء اليهود ليعمروها ويجعلوها أرضا خضراء مزدهرة مخصبة .

القسم الثاني من الرواية ترويه بضمير المتكلم الشابة الفلسطينية الباحثة المقيمة في رام الله والمولودة في العام 1974 – تاريخ ولادة عدنية شبلي – وتهتم بمظهرها ونظافتها وأناقتها وهي متعلمة ليست عالة على رجل متحررة تعتمد في حياتها على نفسها . إن صورتها صورة نقيض للصورة التي برزت في القسم الأول للفتاة البدوية .

هل كان كلام الضابط الإسرائيلي الذي وضعته الكاتبة بين علامات تنصيص مقتبسا من مصادر إسرائيلية ؟ من كتب . من روايات . من صحف . من جدل يومي مع الإسرائيليين ؟

توفيق فياض ترجم رواية ( يزهار سميلانسكي ) ” خربة خزعة ” التي أتت على قرية فلسطينية فقيرة معدمة بائسة لا يبدو أهلها نظيفين . يبدون رثثي الملابس أشكالهم مخيفة لشدة عوزهم وسوء وضعهم الصحي . هل كانت رواية ” خربة خزعة ” من قراءات عدنية شبلي ؟ هل شاهدت الفيلم ؟ هل رأت ما فعله الجنود بالريفي الفلسطيني الفقير ؟

عن تصور الضابط اليهودي الصهيوني للعرب في رواية عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي ” :

” وإذا كان العرب ، وفقا لقانون العاطفة القومية العقيم خاصتهم ، يرفضون فكرة عيشنا في هذه المنطقة واستمروا في مقاومتنا ، مفضلين أن تبقى جرداء ، علينا عندها أن نتصرف كجيش ، فلا حق لأحد فيها أكثر منا ، بعد أن أهملوها وتركوها مهجورة قرونا طويلة ، يستأثر بها البدو وقطعانهم ، بل من واجبنا أن نمنعهم من التواجد هنا وطردهم نهائيا ، فالبدو عامة يقلعون ولا يزرعون ، ومواشيهم تبتلع كل ما يمتد أمامها من خضرة ، جاعلين المساحات الخضراء القليلة تتناقص يوما بعد يوم ، بينما نحن سنقوم بكل ما في وسعنا من أجل أن نمنح الفرصة لهذه المساحات الشاسعة أن تزهر وتصبح أهلا للعيش ، عوضا عن تركها على ما هي عليه الآن ، مجدبة غير مأهولة بالسكان …

” وهنا بالتحديد سيتم اختبار قوة إبداعنا وريادتنا ، حتى نتمكن من تحويل النقب إلى منطقة مزدهرة ومتحضرة … ” ( صفحة 40 41 من الرواية ) .

في الفقرة السابقة يظهر لنا :

– تصور عدنية شبلي لليهودي الصهيوني . ( تخيل الآخر )

– تصور اليهودي الصهيوني للعرب ( تخيل المتخيل لآخره )

– تصور اليهودي الصهيوني لليهود. ( تخيل المتخيل لذاته ) .

– ما لا يظهر هو تخيل الذات لذاتها القومية كما في رواية ناصر الدين النشاشيبي ” حبات البرتقال ” مثالا ، وإن روت الساردة عن نفسها نموذجا للفلسطيني الواعي الذي يدافع عن حقه ، كما في القسم الثاني من الرواية .

وإن عدنا إلى الأدبيات الصهيونية فإننا نقرأ الفقرة السابقة فيها . ( رواية ثيودور هرتسل ” أرض قديمة جديدة ” على سبيل المثال )

وإن عدنا إلى الأدبيات الفلسطينية نقرأ الفقرة السابقة فيها أيضا ( غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” وإميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ” )

ما سبق هو ما جعلني أقول إن الرواية في أفكارها وموضوعها لم تأت بجديد مختلف .

لقد كتبت دراسة لمؤتمر جامعة قفصة الدولي في تونس عن الخطاب الأدبي الصهيوني في رواية هرتسل ونقض الخطاب الأدبي الفلسطيني له في روايتي كنفاني وحبيبي . ( نشرت الدراسة في كتاب المؤتمر الذي نشر بثلاث لغات وهي مدرجة على موقع جامعة النجاح الوطنية staff، كما ظهرت في كتابي ” أوراق مقارنة في الأدب الفلسطيني ” الصادر في العام 2014 عن معهد القاسمي في باقة الغربية ) .

هل أتجنى على الروائية ؟

أين تكمن الجدة إذن في ” تفصيل ثانوي “؟

طبعا في الأسلوب وفي السرد وفي التركيز على عنصر الوصف والوقوف أمام التفاصيل الثانوية .

عدنية شبلي وأكرم هنية والخبر اللافت الذي يحث قارئه على البحث والتقصي :

عندما قرأت نوفيلا عدنية شبلي ” تفصيل ثانوي ” تذكرت قصة أكرم هنية ” شهادات واقعية حول موت المواطنة ” منى. ل ” ” .

لست متأكدا إن كانت قصة هنية من قراءات شبلي ، ولذلك فإن من يؤكد الرأي أو ينفيه هو الكاتبة نفسها ، ولنا بعد ذلك أن نكون حسني النية ونأخذ برأيها .

لماذا تذكرت قصة هنية ؟

كلتا القصتين سبب كتابتهما هو قراءة خبر في جريدة يدفع الساردين / الكاتبين إلى تقصي الأحداث للوصول إلى الحقيقة . هذا لا ينفي بالتأكيد أن هناك أعمالا أخرى أسبق من عمل هنية نفسه .

سارد قصة هنية / كاتبها يقرأ خبرا ، وهو رئيس تحرير جريدة ، عن انتحار مواطنة ، فيبدأ رحلة تقص لمعرفة الحقيقة ، وهكذا تنجز القصة .

وساردة الجزء الثاني من رواية شبلي هي باحثة تعمل في مركز أبحاث . تقرأ ذات نهار مقالا لصحفي إسرائيلي عن حادثة اغتصاب فتاة بدوية فلسطينية في الفترة بين 9 و 13 آب 1949 ، فتبدأ رحلة تقص وتسافر إلى مكان الحدث علها تتعرف إليه من خلال تفصيل ثانوي غالبا ما يقود إلى معرفة الحقيقة كاملة أو التفاصيل الرئيسة .

في قصة هنية هناك فتاة تنتحر أو تموت موتا غامضا ، وفي قصة شبلي هناك فتاة تغتصب ثم تقتل .

هل ذهبت بعيدا وحملت نوفيلا شبلي ما لم يخطر ، ربما ، ببالها ؟

من كان منكم / منكن يعرف الكاتبة فأرجو أن يوجه إليها السؤال الوارد سابقا ، ونحن نجتهد !!

About د.عادل الاسطه

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *