تداعيات حرب 2023 / 2024: غزة ورائحة الموت

أثار الأستاذ سامي أبو سالم المقيم في غزة السؤال الآتي:
هل للموت رائحة؟
وكتب مقالاً أحال في صفحته إليه (نشره في موقع جامعة النجاح الوطنية في 6/ 4 /2024).
وأتى فيه على القتلى والجرحى والمشافي وما رآه وشعر به وتسلل إلى أنفه من روائح، ووضح ما كان يعتقده عن رائحة الموت “أنها مجرد تعبير أدبي مجازي”، و”إذا ولا بد فالرائحة تتلخص في روائح الجثث المتحللة في الشوارع من بقايا الكوارث والحروب” ويرى أن الأمر مختلف في واقع غزة، ففيها “تشتم اللحم البشري المتفحم ورائحة البارود مع غبار الخرسان، ولكن لا تستطيع أن تفرق بين لحم الأطفال ولحم العجائز ولا لحم طبيب أو مهندسة أو ربة بيت، فكلهم سواء، سيما إذا تناثرت بقع الدم على جدران مجاورة. هذه الرائحة التي التصقت بالذاكرة ينفرد بها الموتى فقط“.
ويكتب عن روائح للموت؛ رائحة جثث مع بقايا أغصان زيتون محترقة. رائحة دم وطحين. رائحة الأرض المعهودة ورائحة السماد العضوي. أي – كما فهمت – تكون رائحة الموتى من رائحة المكان الذي ارتقوا قربه، أو الشيء الذي كانوا يحملونه.
ولم يتوقف الكاتب أمام دم أصحاب شعار “إنه لجهاد: نصر أو استشهاد” ويعدون، من وجهة نظر إسلامية، شهداء ارتقوا، وقسم من أهل غزة قالوا عن موتاهم – كما سمعت في أشرطة بثها مقربون لهم – إن رائحتهم رائحة مسك، وغالباً ما أصغي، في مناسبات، إلى بعض مواطنين من نابلس يتحدثون عن شهداء فتحت قبورهم، ليدفن فيها أقاربهم معهم أو ليدفن فيها شهداء جدد (ما يعرف بالفستقيات)، أن أجسادهم كما هي لم تبل (ى).
دال “رائحة” أثار في ذهني مجموعة من التداعيات فيما يخص استخدامه، وأعتقد أن نصوصاً أدبية فلسطينية وعربية وعالمية لم تخلُ منه، بعضها ارتبط بالأشجار والنبات وبعضها بالتراب والحجر والأرض والبحر والخبز، وآخر بالإنسان نفسه في أحواله المختلفة.
وعبارة “من ريحة البلاد” عبارة منتشرة انتشاراً واسعاً على لسان فلسطينيي الشتات.
كان كاتب القصة القصيرة حنا إبراهيم ابن البعنة في الجليل أول من استخدم التعبير عنواناً لمجموعته “ريحة الوطن” (1979)، وبعده كتب إلياس خوري “رائحة الصابون” وفاروق وادي “رائحة المانجا” والحبيب السالمي “روائح ماري كلير”… إلخ.. إلخ.
في “ذاكرة للنسيان” عن حرب بيروت 1982 كتب محمود درويش عن رائحة الهال التي يمكن أن تدل إلى مدخل بناية “اقطعيها واتبعي رائحة الهال إلى مدخل البناية كما يتبع كلب البحر رائحة الدم”، هذا عدا كتابته عن رائحة القهوة.
وفي أدبيات السجون غالباً ما قرأنا عن رائحة العطن في الزنزانة، ورائحة البول، وأحياناً عن رائحة الدم، وفي الأدبيات التي أتت على المدن القديمة كالقدس ونابلس قرأنا عن رائحة الأزقة في الصباح، وكتب إلياس خوري في “كأنها نائمة” عن رائحة المدن؛ بيروت ويافا، وعن رائحة البسطرما والبرتقال.
ولن أعرج على رائحة العطور ورواية الألماني (باتريك سوسكيند) “العطر” وتأثير ترجماتها في بعض الأدبيات الفلسطينية، وإن كنت لا أنسى رواية عزمي بشارة “حب في منطقة الظل” وكتابته فيها عن رائحة الخشب،  وعندما قرأتها تساءلت إن كان وقع تحت تأثير رواية (سوسكيند) فقد ذكرها في روايته.
وفيما يخص رائحة الموت وارتباطها بالجثث أذكر أسطراً لمظفر النواب ونص الكاتب الفرنسي (جان جينيه) “أربع ساعات في شاتيلا” الذي كتبه بعد أن شاهد في اليوم التالي لمذبحة شاتيلا وصبرا آثارها، ونصه ترك أثره في رواية إلياس خوري “أولاد الغيتو: اسمي آدم“.
ترد أسطر مظفر في “وتريات ليلية” (1973):
وطني أنقذني رائحة الجوع البشري مخيفة/ وطني أنقذني من مدن سرقت فرحي/ أنقذني من مدن يصبح فيها الناس مداخن للزبل مخيفة/ أنقذني من مدن ترقد في الماء الآسن
كالجاموس الوطني وتجتر الجيفة“.
وأما (جينيه) فكتب في صلب الموضوع ولست متأكداً إن كان سامي أبو سالم قرأه.
يكتب (جينيه): “وقد يستطيع طفل ميت، أحياناً، أن يسد الأزقة لأنها جد ضيقة، والموتى كثر. ولا شك أن رائحتهم مألوفة لدى الشيوخ، فهي لا تضايقهم. لكن، ما أكثر الذباب….. كانت هذه الكومة من الأجساد ذات رائحة قوية، ولكنها لم تكن كريهة. وخيل إلي أن الرائحة والذبابات متعودان علي….. إن الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة….. لم تكن رائحة الجثث تخرج من منزل ولا من جسد منكل به: بل كان يبدو لي أن جسدي وكياني هما اللذان يبعثان تلك الرائحة“.
وفي “أولاد الغيتو يذهب الدكتور ميخائيل الفلسطيني المولود في اللد إلى بيروت، بطلب من إدوارد سعيد، مع وفد ترأسه إبراهيم أبو لغد، وعندما عرف بأخبار المذبحة هرول إلى المخيم ليجد نفسه في مواجهة الموت والرائحة والذباب!
حين دخلت إلى المخيم كانت مفاجأتي الأولى هي الرائحة. عادت رائحة اللد. الرائحة التي لا اسم لها، ولا تستعاد إلا حين تشمها مرة أخرى، فتفوح بها الذاكرة. شممت رائحة الموت قبل أن أرى شيئاً… وشممت رائحة اللد“.
عندنا مثل شعبي يقول:
طول عمرك يا زبيبة (..). حالة الفلسطينيين سيزيفية. هل للموت رائحة؟

المصدر: https://www.al-ayyam.ps/ar/Article/401043/%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR2w2CI-23F0JQAo9U1Z9n_D80M0qX7u92YpJJmXfhXo04-K8ewIOakGvGY_aem_AQzO_DJTTpFGgHzbPj08FIXoyILLnmFmUU_XRD_-lXUPuW2VfqyA5vCM-Ia9P6Egnk4A_I_NyMWVpfJEFvZbHSye#

 

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *