قراءة في الرواية والفيلم: العمى والوباء الافتراضي
كتب الأديب البرتغالي الشهير جوزيه ساراماغو روايته الشهيرة ” العمى” في العام 1995، وبعد ثلاثة أعوام فاز بجائزة نوبل للأدب، عن جدارة واستحقاق وفق معاصريه ، وكانت رواياته تترك جدلاً واسعاً بين الأوساط الثقافية، لعمقها الفلسفي وجرأتها وقدرتها على تناول الأسئلة الحادة في الفكر والحياة.
وما روايته العمى إلا مثال على ذلك، لأنها تغوص في معنى العوَق الذهني عند البشر، والذين يفقدون الأحاسيس والمشاعر في ذروة الكوارث والأوبئة، فيتركون الضحايا بمواجهة المجهول للتخلص منهم كبضاعة كاسدة. لقد تخلت الأنظمة عن قيمها وفضلت الهروب، وترك الضحايا يواجهون مصيراً غامضاً.
والسؤال الذي طرحته الرواية: هل الإنسان سلعة يمكن التخلي عنها في وقت الشدة؟
وهل الأنظمة الرأسمالية -التي أعمتها تخمة المال- تكترث لكرامة الإنسان؟
لقد انتهجت الرواية فكرة الوباء الافتراضي، الذي يتنافى مع المنطق العلمي القائل بأن العمى حالة غير وبائية، وهو ما يدركه ساراماغو، فقد قال في مقابلة صحفية: “إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقدُ اتفاقاً ضمنياً مع القارئ، وهو إنَّ ما يهمّنا هو التطور المنطقي للفكرة، حتى وإن كانت منافيةً للعقل”.
لذا، فقد استعان بالخيال لإبراز فكرة العمى الشامل كمدلولٍ مجازيّ يتسع للكثير من التفسيرات، ومنها الجهل والتخلف ، والطبيعة الاستهلاكية للأنظمة الرأسمالية، التي حوّلت الإنسان إلى سلعةٍ رخيصةٍ، تبحثُ عن المنافع اليومية، وتلهثُ وراء تحقيق بعض الإنجازات المادية، متناسيةً في غمرة هذا اللهاث المحموم القيمَ والمُثلَ التي ناضل الفكر الإنساني لعصورٍ، في سبيل صياغتها .
يجتاحُ العمى المدينةَ وينتقل من شخصٍ إلى آخر ومن مجموعة إلى أخرى، حيث تنعدم الرؤية، وكأن ستاراً حليبياً ناصع البياض يهبط على البصر. لم يسمّ الكاتبُ المدينةَ التي كانت مسرحاً للعمى باسمها، وكذلك أبطاله كانوا بدون أسماء، وكان يطلق عليهم بعض الصفات للتعريف بهم مثل:(الطبيب، زوجة الطبيب، الطفل الأحول، الفتاة ذات النظارة السوداء، الكهل. إلخ)، فالرواية تلغي المكان والزمان والأسماء، كي تظلّ صالحة لكل الأزمنة، ومحتملة الحدوث في كلّ الأمكنة، كما أن الصفات التي عرّف بها شخوصه، كي يكونوا تشخيصاً للجنس البشري، بغض النظر عن اختلافاته في العرق واللون واللغة، فالعمى مصيرٌ حتميٌ للبشر الذين ينهمكون في لهاثهم اليومي.
ويحاول الكاتبُ أن يرسمَ لنا دبيب العمى منذ لحظاته الأولى، حيث الحياة وضجيجها في المدن المأهولة بالسكان، وحيث الزحام والحركة في الشوارع. وفجأة فإن الشخص الأول الذي يقود سيارته توقف في التقاطع، لأن الستار الحليبي قد غلّف بصره، مما سبب إرباكا في الطريق، ويتجمع عليه المارة للوقوف على جليّة الأمر، فيتبرع أحدهم بإيصاله إلى بيته، ولكنه يستغل حالته فيسرق سيارته. وحين تعلم زوجته تقوده إلى عيادة طبيب العيون، والذي وجد أن عينيه سليمتان من الناحية الطبية، ولكن العمى قد تسرب عن طريق العدوى إلى جميع المراجعين في عيادة العيون. بما فيهم الطبيب نفسه الذي اكتشف أنه لا يرى في صباح اليوم الموالي، فسارعت زوجة الطبيب للاتصال بالإسعاف لنقل زوجها. ولكن رجال الإسعاف رفضوا أن تصحبه، مما جعلها تدّعي العمى أيضاً، ولكنهم بدلاً من أخذهم إلى المستشفى لعلاجهم فقد حجروهم وكأنهم خارجون على القانون.
وتتسرب عدوى العمى بين الناس الذين اقتربوا من العميان أو لامسوهم، فأدركت السلطات الحكومية أنهم أمام وباء شديد العدوى والخطورة. لذلك قاموا بتخصيص مستشفى الأمراض العقلية، لغرض عزل المصابين، الذين تعرضوا إلى أسوء انتهاكات لإنسانيتهم، فوضعوهم تحت الحراسة المشددة، في ظروف أقرب إلى معتقلات أسرى الحرب، وظلوا يضعون لهم الطعام قرب البوابة التي يحرسها جنودٌ مدججون بالسلاح، ولديهم أوامر صارمة بقتل أي أعمى يقترب من البوابة. وتزداد أعداد المصابين، ويصبح الطعام عسيراً على الحصول، كما أن بعض المجرمين من العميان، تنكروا لواقع الهمّ المشترك، وحاولوا ابتزاز العميان الأقل قوة بمحاولة الاستيلاء على ملكياتهم الصغيرة لقاء الطعام، من ساعات يدوية وأسورة ونقود، وقد انصاع العميان للعصابة التي تمتلك السلاح، ولا يتردد أفرادها عن القتل، نتيجة لحالة الفوضى. ولم تتوقف مطالب العصابة عند هذا الحد، فقد طلبوا بأن تقدم النسوة أجسادهن لقاء الطعام، وهكذا فإن التنازلات الصغيرة، تقود إلى تنازلات باهظة، لذلك فقد بدأ الشعور بالغبن والابتزاز بالنسبة للنساء اللواتي اُغتُصبن، وقدمن إنسانيتهن من أجل إطعام أنفسهن وبقية رفاقهن من المصابين، وقد صَمّمنَ على الانتقام. فأخذت زوجة الطبيب مقصاً تحت ملابسها، وشاغلت رئيس العصابة فقتلته، وهكذا انتهت سيطرة هؤلاء الحثالات البشرية الذين تراجعوا. ولكن النساء المغتصبات حاولن الثأر لكرامتهن، فاشعلن النار في عنابر العصابة. مما أحدث مزيداً من الفوضى والعنف، ويحاول بعض العميان المحجورين الاقتراب من البوابة الرئيسية، ليكتشفوا بأن الحرس قد هربوا وتركوهم لمصيرهم. وهكذا يهيمون في شوارع المدينة التي تحولت إلى ركام من الفوضى، فالكلّ أصيب بالعمى، ويبحث عن الطعام، فقد عمّ الخراب، وانتشرت الجثث في الشوارع، وأصبحت أكداس القمامة في كل مكان، وتستطيع زوجة الطبيب أن تصل إلى بيتها، مصطحبةً زوجها وبعض المصابين، وقد تحولت إلى عينهم المبصرة ودليلهم ومنقذهم من الأزمات، ولكنها رأت أكثر منهم، كيف يكون العمى على حقيقته، فقد تلاشت قشرة الحضارة من المدينة، وتحوّلت إلى منطق ووحشية الغابات، فالبيوت قد اقتحمت، وكذلك المحال التجارية، والمقاهي ومراكز التغذية، كما انتشرت جثث الحيوانات النافقة.
واستطاعت زوجة الطبيب أن تعثر على بيتهم في وسط هذه الفوضى، فمكثت المجموعة الصغيرة في البيت لتدبير الأمور.
وكما أصاب العمى الرجل الأول، فقد عاد إليه البصر وهو يهمّ بشرب قهوته، فصرخ: (أنا أرى)، وتبعه الآخرون، وهكذا يعود البصر إلى الجميع، فيرون بأعينهم فداحة العمى.
هذه الخطوط العريضة للرواية التي شغلت أقلام النّقاد منذ ظهورها حتى اليوم. ومثلما حدث العمى بدون مقدمات أو أسباب، فقد عادت الرؤية رويداً رويداً إلى الجميع، وانتهت مرارة التجربة.
ساراماغو كاتب برتغالي، وُلد في عشرينات القرن الماضي ومات في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عاش حياة قاتمة وبائسة، وهو من عائلة فلاحية بسيطة، اشتغل في الميكانيك وفي تصليح الأقفال، ثمّ انتقل إلى العمل في الصحافة، التي أهّلتهُ لأن يُصبح روائياً بعد الخمسين من عمره، فحاول أن يفكّ الكثير من (الأقفال) الفلسفية المستعصية، وقد كان شيوعياً، ومات وهو يؤمن بأن الاشتراكية هي الطريق الوحيد للعدالة والمساواة. وكانت أغلب أعماله الروائية تبحث عن أسئلة الاستعباد.
تنتمي روايته العمى إلى الواقعية السحرية. التي هي مزيج من الواقعية الاشتراكية مصحوبة بالأخيلة التي يلوي من خلالها عنق بعض المسلّمات، من أجل تأكيد الحقائق البديلة، لذلك حاول أن يستخدم الرمز، فالعمى هو نهج تدميري للبيئة والإنسان، ويغلّف هذه الأنظمة، مع اعتقادها بأنها تملك نعمة البصر، لذلك يقول في الرواية على لسان زوجة الطبيب:
“لا أعتقد بأننا أُصبنا بالعمى، لقد كنا عميانا منذ البداية، حتى وإن امتلكنا عيونا مُبصرة”.
كثرت محاولات تحويل هذه الرواية إلى فيلم سينمائي، ولكنها كانت تجابه برفض الكاتب الذي كان يخشى من تشويه فحوى روايته، غير أنه انصاع في النهاية لرغبة المخرج البرازيلي فيرناندو ميريليس، للسمعة الفنية التي يتميز بها هذا المخرج، ولكن ساراماغو اشترط على الشركة المنتجة أن تبتعد عن كل ما له علاقة بالسينما الهوليوودية، وأن تحافظ على جوهر النص، وأن تُبقي شخوص الفيلم بدون أسماء كما هي في الرواية. تم تمثيل مشاهد الفيلم في مدن مختلفة ومنها تورونتو الكندية وساو باولو البرازيلية، واستطاع الفيلم أن يغوص في أعماق الرواية، ليلتقط منها أجمل الصور التي جسدت الصراع الإنساني من أجل البقاء، فقد كانت المشاهد مؤثرة من خلال سرعة أحداث الفيلم وتسلسلها بكيفية جعلتنا نكتشف اللوعة في الانحدار نحو كهوف التخلف، والغرائز الإنسانية المتوحشة، حيث التراجع عن معطيات الحضارة، وعن حقوق البشر، وعن تكريس علاقات الاحترام بين أفراد المجتمع . فقد تهاوى هذا الصرح الذي أنجزه الإنسان في مسيرته نحو التحضر. وسقط البشر في الحفرة العميقة التي تخيلها الفنان بيتر بروخيل في لوحته المشهورة، وهم يقودون بعضهم نحو أعماق المتاهة .
يبدأ الفيلم بالأعمى الأول، ومنه يسري إلى شرائح عشوائية من المجتمع مثل اللص والعاهرة والطبيب والطفل، وهكذا يتحول المصابون إلى مجموعات منبوذة ومطاردة، وفائضة عن حاجة نسيجها الاجتماعي، وقد استطاع المخرج من خلال الصورة وتأثيراتها، أن يجسد لغة الرواية، وذلك من خلال الصور المتتابعة للإشارة الضوئية، وزحام الطرق وضجيج العجلات، وحركة المُشاة، وذروة الاستعجال اليومي. وحينما يصاب أحدهم بالعمى لأول مرة، فقد استفزّ هندسة الحركة اليومية الدؤوبة، لأنه عطّل السير لدقائق، وفي لحظة تأزم الوضع، يأتي شخص ليتبرع بقيادة سيارة الأعمى، ولكنّ نيته السرقة وانتهاز فرصة مواتية للابتزاز، ليأتي السؤال المُوجِع:
“أي نوع من البشر يسرق من رجل أعمى”؟
ينتقل المُشاهد إلى ذات النظارة السوداء والتي تبيع الجسد في غرفة أحد الفنادق، ولكن في لحظة الانهماك في الخلوة تفقد بصرها، ثم تنتقل الكاميرا بين الكثير من المَشاهد والزوايا حيث يعصف هذا الوباء الغريب بين الناس، وكأنه يُطفئ ألق الحياة. وليس مصادفة أن تتنصل مؤسسات السلطة من رعاياها، فقد اختارت لهم مستشفى الأمراض العقلية. وذلك لأن الضحايا أصبحوا لا يستحقون العيش.
ورغم أن المخرج استعان بحوالي سبعمائة من الكومبارس، لكنه ركّز عدسته على الأبطال الرئيسيين، كي يجعلهم أكثر دقة في تقمص العمى، وقد وضع عدسات لاصقة على أعينهم، كي يتقمصوا دور العمى بشكل دقيق، وركّز على ملامح الوجوه، وتوجيه الظل والضوء كي يُظهر حجم الضياع، وكيف أن هؤلاء كانوا يلتفّون ببعضهم، وكيف أن زوجة الطبيب كانت تلمح نوعا من التلامس الجسدي بين زوجها وبين الفتاة الشابة ذات النظارة السوداء، لذلك فقد كانت ملامحها تتأرجح ما بين الغيرة وما بين الواجب، فقد وجدت نفسها العين المبصرة لجمع من العُمي مشلولي الحركة، وكيف تمّ العشق بين اللص والعاهرة الشابة، وكأنّ العمى قد أذاب كل الفروقات بينهما، مثل العمر والعرق والماضي، وكأنّ المحنة قد عجنتهما من جديد.
صوّر لنا الفيلم بشاعة الاغتصاب القسري الذي فرضته العصابة على النساء، من أجل السماح بوصول الطعام لبقية المحجورين، لقد كان موقفاً يرمز لاستباحة المرأة عبر التاريخ، ويرمز أيضا لحجم تضحياتها من أجل استمرار الحياة، من خلال مقايضة الجسد بالطعام كي تستمر الحياة للجميع.
لقطات الفيلم ركّزت على شراسة العصابة وانحطاطها، فحتى بين الضحايا من ينتهز فرصة الفوضى فيتحول إلى جلّاد! ولكنّ المقص الذي استخدمته زوجة الطبيب في قتل رئيس العصابة، يعيد للعدالة بعضاً من منطقها، رغم بشاعة القتل الذي جاء كحلٍّ لا بدّ منه لأن زوجة الطبيب كانت تحت وطأة الدفاع عن النفس والكرامة.
حينما انعتق المحجورون بعد حريق العنابر، لم يجدوا السلطة الحكومية الجبانة والتي هربت من المواجهة، لذلك كان الفضاء مفتوحا لرؤية الكارثة، من حالة الجوع والبحث عما يسد الرمق، والشوارع التي أصبحت طافحة بالقمامة، والبشر الذين تحولوا إلى قطعان متوحشة تتصارع مع بعضها من أجل ما يسد الرمق البيولوجي. لقد اختفت القيم والمثل والعقائد وعاد الإنسان إلى مجاهيل الأدغال المظلمة.
بعد عودة زوجة الطبيب إلى بيتها، وبعد أن قادت معها أسرتها الجديدة التي تكوّنت في عنابر الحجر وهم: (المصاب الأول ذو الأصول اليابانية وزوجته، والرجل ذو العصابة والفتاة المومس والطفل الأحول).
في لحظة تأمل واسترخاء، تسرب الضوء إلى عين أول ضحية للعمى، فصاح بعد أن قدمت له زوجة الطبيب قهوته المفضلة، حين تراءت له رغوة القهوة البنية: (أنا أرى). ورغم أن أحداً لم يصدّقه، لكنهم انغمروا في فرح غامر، لإحساسهم بأن الرؤية التي فقدوها ستعود لهم كما حدث مع أول ضحية.
وكما انتشر العمى في المدينة فجأة وبدون مقدمات أو تفسيرات، فقد عاد بنفس الطريقة، مما يجعل الفيلم والرواية قد تغلّفا بغلالة من الرمز الذي يغلّف هذه الأحداث الافتراضية.
تعبٍر العمى، كرواية أو كشريط سينمائي على حد سواء، بشكل أو بآخر عن حالة الهلع التي أصابت البشرية في هذا العام، فقد كان الإنسان منهمكاً في إنتاج وسائل الاستهلاك والمتعة والقتل والمودة وتدمير البيئة واستنزاف الموارد، وانتهاج التخمة في الاستهلاك. ولكن الإنسان لم ينتهج العقلانية في تعامله مع الطبيعة الأم، ولا أسلوباً تسامحياً لإظهار المحبة مع غيره، فكأن العمى هو الذي سيطر على أفكارنا ورؤانا ومواقفنا، وما جائحة كوفيد- 19 إلّا تعبير عن هذا العمى الشامل الذي أصاب الإنسان، وجعله لا يرى إلا نفسه.