غاستون باشلار : حلم التحليق(3)

ترجمة : سعيد بوخليط

لقد تصور عالم طبيعيات عربي(وردت الإشارة عند بوفيتو، مكتبة أيرونوتيكا، إيطاليا) الطائر مثل حيوان خاليا من الدهون: ”لقد خفَّف الله وزن أجسامهم بتخليصها من عدة مكونات كالأسنان، الآذان، البطن، المثانة، فقريات الظهر”.

إذن، نحتاج أساسا من أجل التحليق، إلى جوهر محلِّق أكثر من الأجنحة، وكذا تغذية مجنَّحة. ابتلاع مادة خفيفة أو ندرك ماهية خِفَّة، نفس الحلم الذي يتم التعبير عنه تارة من طرف مادي وكذا مثالي. علاوة على ذلك من المفيد الانتباه إلى ملاحظة ناشر كتاب الليالي :”من غير المجدي أن يتجه انتباهنا نحو ضرورة تناول هذه العبارة وفق المعنى المبتذل لِلَّحم الخفيف”، بحيث ابتغى الناشر بكل قوة العثور على دلالة مادية لوصفة تستخدم قيما متخيَّلة في غاية البداهة. نعاين هنا مثالا جيدا عن عقلانية تتجاهل الحقيقة النفسية. ستكون لنا أيضا أمثلة متواتر حول هذه الأفكار المادية التي تؤمن بالمشاركة في التحليق عبر المشاركة في طبيعة الريش، إذا اقتفينا تاريخ وقائع محاولات هوائية.

في هذا الإطار، بادر سنة 1507الراهب الإيطالي داميان، المقيم  في بلاط اسكتلندي، متوخيا التحليق بواسطة أجنحة مصنوعة من الريش. قفز من أعلى برج، لكنه سقط وتحطمت ساقيه. لقد عزا سقوطه إلى سبب مرده استعمال عيِّنة من ريش الديك حين تحضير الأجنحة. يظهر هذا الريش ”ملاءمته الطبيعية” بالنسبة إلى فِناء الدواجن، رغم وجود نوع آخر من الريش يعتبر هوائيا حقا، بوسعه أن يضمن وحده، تحليقا صوب السماء (برتولد لوفير، ما قبل تاريخ الطيران، شيكاغو،1928،ص 68).

تبعا لمنهجيتنا الثابتة، المتمثلة في اقتفاء تلك الأمثلة، تبدو معها مادية المساهمة الغذائية وفق صيغة فظة للغاية، من خلال مثال أدبي أكثر، مصقول للغاية، لكنه حسب اعتقادنا، تبلور نفس الصورة. يقترح جون ميلتون في كتابه :”الفردوس المفقود”(ترجمة شاتوبريان،ص195)، نوعا من التسامي النباتي يهيئ، طيلة فترة النمو، سلسلة أغذية أثِيرية أكثر فأكثر :”هكذا ينبعث من الجذر بكيفية أكثر خِفّة الساق الخضراء؛ التي تنبثق منها أغصان هوائية أكثر؛ ثم أخيرا العبق الرائع المنطلق من أرواحها العطرة. الورود وثمارها، غذاء الإنسان، المتطايرة حسب سلَّم متدرج، تتنفس أفكارا حيوية، حيوانية، ذهنية؛ وتمنح في الوقت نفسه الحياة والشعور، الخيال والفهم، من هنا تتلقى الروح العقل قد يتأتى للبشر خلال فترة تقاسمهم الملائكة طبيعتها، حينئذ لا يصادفون أمامهم سواء حِمية متعبة ولا تغذية خفيفة جدا. ربما، صارت أجسادكم، فكرا تماما، مع مرور الوقت، نتيجة اقتياتها من هذه الأغذية الجسدية، تتحسَّن بفضل فترات الزمان، ثم تحلِّق مثلنا على أجنحة في الأثير”.

قال جيامباتستا فيكو vico :”يمثل كل مجاز أسطورة صغيرة”. نلاحظ بأن تعبيرا مجازيا قد يكون أيضا فيزياء، بيولوجيا، بل نظاما غذائيا. يشكل حقا الخيال المادي وسيطا مطاوِعا يوحِّد بين الصور الأدبية والعناصر. بوسعنا حين التعبير ماديا، وضع كل الحياة في قصائد.

قصد التدليل على أنَّ تأويلنا للتحليق الحُلُمي، ظاهريا خاصا جدا، بوسعه تقديم تيمة عامة بغية تسليط الضوء على بعض الأعمال، سنفحص سريعا من خلال هذا التصور الدقيق  قصيدة بيرسي شيلي.

بالتأكيد، عشِق شيلي، الطبيعة كلها، وتغنى بالنهر والحياة، أفضل من أيِّ شخص ثان. ارتبطت دائما حياته التراجيدية بوجهة المياه. مع ذلك، تبدو لنا السمة الهوائية أكثر عمقا، وإذا وجب الإقرار بصفة معينة بغية تحديد القصيدة سنتفق حتما وببساطة على أنَّ قصيدة شيلي هوائية. لكنها خاصية، لا تكفي في رأينا مهما كانت صحيحة. نود تقديم الدليل بأن شيلي شاعر هوائي، مادي وديناميكي. بالنسبة إليه، كائنات الهواء: الهواء، العِطر، الضوء، كائنات بلا شكل، لها مفعول مباشر :”أستمد انفعالات قوية، من الريح، الضوء، الهواء، أريج وردة”(1).حينما نتأمل عمل شيلي، نفهم كيف أن بعض الذوات ترهف حسها إلى عنف الليونة، ومدى حساسيتها نحو أوزان غير قابلة للوزن، ثم كيف تصبح ديناميكية حين سموها.

أن تنطوي تأملات شيلي الشعرية على ميزة الصدق الحُلُمي وتأكيدنا بهذا الخصوص على كونها مسألة حاسمة شعريا، لذلك سنطرح فعلا على التوالي، دلائل مباشرة وغير مباشرة. لكن لنقدم بداية، قصد تحديد مجال النقاش، صورة توضح بكل بداهة ”الجناح الحُلُمي” (الأعمال الكاملة، الجزء الثاني،ص209 ) :”من أين أتيتم، بهذا الجموح الكبير والخِفَّة الشديدة؟ لأن أحذية أقدامكم يسكنها وميض، وأجنحتكم عذبة وناعمة مثل الفكر”. هناك انزلاق خفيف للصور التي تفصل الأجنحة عن أحذية الوميض؛ بيد أنه لا يمكنه تكسير وحدة الصورة؛ فالأخيرة متكاملة فعلا، ويكمن العذب والناعم، في حركة، تداعبها يد حالمة، ولا يتعلق الأمر بالجناح أو ريشه.

نؤكد ثانية بأن صورة من هذا القبيل ترفض التحديدات المجازية؛ وتدعونا إلى استيعابها على منوال حركة متخيَّلة، بروح مبتهجة. نقول عن طيب خاطر بأنها فعل للروح، وسنفهمها إذا انصرفنا نحو: “ظَبْي، من خلال الاندفاع العالق لركضه السريع، وقد بدا أقل أثيرية وخِفَّة ”يضيف شيلي(الجزء الثاني،ص263 )،الذي أثار بمفهومه عن الاندفاع العالق، رموزا هيروغليفية يستعصي على خيال الأشكال تفكيكها.

يمنح الخيال الديناميكي المفتاح : يعكس الاندفاع العالق بكيفية دقيقة جدا التحليق  الحُلُمي. وحده شاعر بوسعه تأويل شاعر آخر. انطلاقا من هذا الاندفاع العالق الذي يترك لدينا أثر تحليقه، يمكننا الاقتراب من هذه المقاطع الثلاثة للشاعر ماريا ريلكه (2).

حيث لا يوجد طريق

حلَّقنا.

ثم لازال القوس ماثلا داخل ذهننا.

آنيا وقد اكتشفنا السمة الأساسية، سنحاول أن ندرس بشكل أكثر تفصيلا الأصول العميقة لقصيدة شيلي. لنتناول، على سبيل الذكر، مسرحيته المعنونة بـ ”بروميثيوس المنقِذ”. سنكتشف فورا هوائية بروميثيوس. إن ارتبط تيتان (أسطورة إغريقية)بقمة الجبال، فمن أجل استيفاء حياة أجواء الهواء. إنه ينزع نحو الأعلى بكل حدة توتر أغلاله، بحيث امتلك  أقصى ممكنات تطلعاته الديناميكية.

بالتأكيد، انطلاقا من طموحات شيلي الإنسانية، وكذا تأملاته الشاردة الجلية عن إنسانية أكثر سعادة، فقد تبيَّن مع  بروميثيوس الكائن الذي يدفع الإنسان كي ينتصب ضد المصير، ثم الآلهة نفسها. مختلف دعاوي شيلي المجتمعية متداولة بين صفحات عمله. لكن وسائل وحركات الخيال مستقلة كليا عن المشاعر المجتمعية. بل نعتقد بأن القوة الشعرية الحقيقية لبروميثيوس المنقِذِ، لم تستلهم شيئا من الرمزية المجتمعية. يعتبر الخيال كونيا لدى بعض الذوات، أكثر منه اجتماعيا. هكذا الوضع بحسبنا، مع خيال شيلي.

يجسد الآلهة وأنصاف الآلهة بشرا بشكل أقل- صور جلية تقريبا عن هؤلاء البشر- قياسا إلى كونها قوى نفسية ستلعب دورا نحو وجود يحركه مصير نفسي حقيقي. لا نسرع، إذن، بالقول أن الأفراد بمثابة مجرَّدات، مادامت قوة الارتقاء النفسي، كقوة بروميثيوسية بامتياز، ملموسة للغاية. تضاهي عملية نفسية يعرفها شيلي جيدا، ويرغب في التحول بها إلى قارئه.

لنتذكر بداية بأن برميثيوس كتب عمله ”بروميثيوس المنقِذ” :”عند الأطلال الجَبَلية لحمامات كاراكالا، وسط غابات الأزهار ”أمام جسور معلقة في الهواء، تحدث دوخة”. سيركز شخص أرضي انتباهه على الأعمدة؛ في حين لن يهتم الهوائي سوى بتلك :”الجسور المعلقة هوائيا”. أو بشكل أفضل، لا يتأمل شيلي تصاميم الجسور، إذا تجرأنا على قول ذلك، بل ما تبعثه من دوخة. يعيش بكل روحه في وطن هوائي، داخل فضاء ينتمي إلى أعلى المرتفعات. فضاء، أخذ منحى تراجيديا، بسبب دوخته التي نتحداها كي نستمتع بانتصارنا على قهرها.

هكذا، سيجذب الإنسان قيوده بهدف إدراكه عند أيِّ اندفاع سيكون متحررا. غير أنه لاينبغي لنا بهذا الخصوص الانخداع، لأن الحرية تظل الإجراء الايجابي، تميز تفوق حدوس الهواء على الحدس الأرضي والصلب للقيْد. يمثل هذا الدُّوار المهزوم، ثم رعشة اطِّراد الحرية، نفس دلالة  الديناميكية البروميثيوسية.

منذ المقدمة، انصب تأويل شيلي على معنى نفسي جدا، يلزم إعطاؤه لصوره البروميثيوسية :”لقد استخلصت جانبا كبيرا من الصور التي وظفتها، بالاستناد إلى عمليات للذهن البشري أو أفعال خارجية تعبِّر عنه :شيء نادر جدا في القصيدة الحديثة، وإن حضرت أمثلة كثيرة من هذا القبيل عند دانتي وشكسبير، لاسيما دانتي أكثر من أيِّ شاعر ثان وبنجاح كبير”(3).لقد خضع عمل ”بروميثيوس المنقِذ” لرعاية من طرف دانتي أليغييري، صاحب النزوع الأكثر عَمُودية قياسا لباقي الشعراء، فقد اكتشف عَمُودية الجنة والنار.

بالنسبة لشيلي، تعكس كل صورة إجراء ينجزه الفكر الإنساني؛ تمتلك مبدأ روحيا داخليا حتى ولو اعتقدناها مجرد تجلٍّ بسيط للعالم الخارجي. أيضا حينما يخبرنا بالآتي : ”القصيدة فن إيمائي”، يلزمنا التقاط ما تهمس به دون أن نراه قط :الحياة الإنسانية العميقة. إنها تومئ بالقوة، أكثر من الحركة. بينما، الحياة التي نراها، والحركة التي نستعرضها، فيكفينا النثر بصددها تعبيرا. وحدها القصائد بوسعها دوما بعث القوى المضمرة للحياة الروحية. إنها حسب تصور شوبنهاور للمفهوم، ظاهرة لهذه القوى النفسية. تمتلك فعلا كل الصور الشعرية إيقاع عملية روحية.

لكي نفهم شاعرا حسب تصور شيلي، فلا يتعلق الأمر، بتحليل على طريقة دي كوندياك لـ :”عمليات الذهن البشري”، مثلما قد توحي بذلك قراءة سريعة لمقدمة بروميثيوس المنقِذ. مهمة الشاعر تحفيز الصور قليلا حتى يتأكد بأن الذهن البشري أبدعها إنسانيا، وبأنها صور إنسانية، تؤنسن قوى الكون. إذن، لقد اهتدينا نحو الكون الإنساني. ثم، إعادة الإنسان إلى القوى الأولية والعميقة، بدل أن يعيش تجسيما ساذجا. والحال، أن الحياة الروحية اتسمت بإجرائها المهيمن :تتوخى النمو، الارتقاء. تتطلع غريزيا صوب العلو.

نظر شيلي دائما إلى جلِّ الصور الشعرية، باعتبارها عوامل للارتفاع. بمعنى ثان، الصور الشعرية عمليات للذهن البشري في نطاق كونها تمنحنا الخِفَّة، وترفعنا، ثم تحلق بنا. ليس لها إلا محورا للإحالة :المحور العمودي. إنها بالضرورة هوائية. إذا أخفقت صورة شعرية واحدة كي تملأ وظيفة التخفيف تلك، يتحطَّم الشاعر، ويستكين الإنسان إلى عبوديته، ثم يؤلمه القيْد.

تستعيد شعرية شيلي، مع اللاوعي المطلق للعبقرية، مسألة تحاشي الأثقال الطارئة ثم تجميعها مختلف أزهار التعالي، ضمن باقة رائعة. تبدو إمكانية أن يقيس بِلَمسة أصبع رهيف، قوة تقويم مختلف السنابل. حين قراءته، نستوعب الدلالة العميقة لعبارة ماسون أورسيل :”تشبه قمم التطور الروحي تلك التحولات الناجمة عن محفزات خارجية”. نلامس العلو المتنامي. هناك، ترسي صور شيلي الديناميكية  قِمَم المسار الروحي.

نفهم بيسر أن صورا اتجه تركيزها بقوة نحو معاني الارتفاع يمكنها الحصول بسهولة على تقييمات اجتماعية، أخلاقية، بروميثيوسية. غير أنها لم تشكل موضوع بحث؛ وليست هدفا للشاعر. قبل المجازات المجتمعية، تتبدى الصورة الديناميكية مثل قيمة نفسية أولى. لا ينطوي حُبّ البشر، وقد تموقعنا من خلاله فوق وجودنا، سوى على مساعدة إضافية بالنسبة لكائن يريد باستمرار أن يحيا في أعلى مناطق وجوده، عند قمم الوجود. هكذا، يحظى الارتفاع المتخيَّل بشتى مجازات السمو الإنساني؛ لكن واقعية الارتفاع النفسية لها اندفاعها الخاص، اندفاعها الذاتي. إنها الواقعية الديناميكية لنفسية هوائية.

لقد درسنا في كتابنا الماء والأحلام، تيمات القَارَب الشعرية. بحيث أوضحنا  بأنها حظيت بقوة كبيرة لأنها تتضمن الذكرى اللاواعية لبهجة الهَدْهَدَة، عن مهد اختبر لحظتها الكائن الإنساني بكيفية تامة سعادة لانهائية.

أشرنا كذلك، إلى أن قَارَب الحلم ،المتمايل فوق الأمواج يغادر بالنسبة لبعض الحالمين الماء دون اكتراث نحو السماء. وحدها نظرية للخيال الديناميكي بوسعها إدراك استمرارية صور من هذا القبيل، ولن تسوِّغ أمرها تلك الواقعية المكتفية بالأشكال، أو معطيات تجربة حياة اليقظة. التحليق الحُلُمي، مجرد تعبير عن مبدأ استمرارية الصور الديناميكية بين الماء والهواء.

أيضا، عندما نستوعب الدلالة العميقة لبهجة الهَدْهَدَة، ونقترب بها من عذوبة الأسفار الحالمة، سيبدو السفر الهوائي بمثابة سمو سهل للسفر فوق الأمواج : الكائن المُهَدْهد في مهده، بجوار الأرض، تهدهده الآن أياد أمومية. هكذا، تتحقق أفضلية سعادة الهَدْهَدة :سعادة محمولة. منذئذ، أمكننا بيسر تأويل، جلّ صور السفر الهوائي كصور للنعومة. حينما تمتزج بها اللذة، ستشع بعيدا لذة ناعمة. لا يتألم قط الحالم الهوائي جراء شغف ما، أو تجرفه  العواصف وكذا رياح الشمال، أو على الأقل، يشعر دائما برحمة يد وصيَّة وسواعد محتضِنة.

لقد امتطى شيلي، في أغلب الأحيان، زورقا هوائيا، بحيث عاش فعلا بين حضن مَهْدِ  الريح. يقول في عمله المعنون بـ” حول روح صغيرة” :”يشبه زورقنا طائر القَطْرَس بحيث يمثل عشّه فردوسا بعيدا في الشرق الأرجواني؛ ثم نجلس بين أجنحته، بينما يتواصل تحليق الليل والنهار، الإعصار والهدوء”(4). إذا اقتضى الأمر تحقيق تآلف بين الصور من خلال المشاهدة، فسنفقد كل أمل بخصوص الاقتران بين القارب وطائر القَطْرَس ولن ننتبه قط إلى عشٍّ يأخذ حيزا عند أشعة الفجر الأفقية. لكن للخيال الديناميكي قوة أخرى.

إنَّ كاتبا مثل جورج ساند تحُول عقلانيته غالبا دون الحلم، استضاف في كتابه : ”أجنحة الشجاعة”، الطائر الذي يضع بيضه في السحب، وتحتضنه الريح، دون تمثله الفعلي للصورة، بالتالي إمكانية تحريضنا على التماهي معه، كما فعل شيلي، بالحياة وكذا السفر الهوائيين.(5)

على منوال الزورق، تصبح الجزيرة العائمة- عوالم الجن المتداولة كثيرا عند نفسية مكرَّسة للماء- بالنسبة لنفسية هوائية، جزيرة معلَّقة. تنتقي شعرية شيلي، كموطن فعلي ”جزيرة معلَّقة بين السماء، الهواء، الأرض والبحر، تتهَدْهد في سكينة وصفاء ”.نعاين ذلك جيدا، لأن الشاعر يتخيل أو يعيش هَدْهدة مطمئنة فرأى الجزيرة السماوية. تتأتى الرؤية من الحركة، وعندما نعيش الأخيرة، فإنها تشعرنا ببلسم سكينة لا نعرفه قط مع حركة نكتفي بتأملها. كم مرة لم يعثر الشاعر على استرخاء: ”في هذه الجزر الهائمة ذات الندى الهوائي”(ص 249).

يقطن شيلي عبر لانهائية السماء، بلاطا أرست دعائمه:” قِطَع يوم بليغ وهادئ”، تغمره :”طبقات من ضوء القمر”. حين دراستنا الزواج المتخيَّل بين المضيء والمتسامي، ثم  نوضح بأنها نفس :”عملية الذهن البشري” التي ترتقي بنا صوب النور والارتفاع، سنعود إلى إرادة البناء الشفافة تلك، وكذا الترسيخ ذي الألوان البرَّاقة، لكل ما نحبه بشغف في الأثير العابر.

من الآن فصاعدا، نتوخى تقديم انطباع مفاده أن الضوء نفسه من يمضي بالحالم ويهَدْهده. تكمن هنا إحدى أدوار، الضوء المفرط، دون ثقب أو بَتْر، بجانب الأشكال الدائرية والمتحركة، بخصوص تسيُّد الخيال الديناميكي.

هكذا فالضوء، الأخ الشقيق للظلام، يطوي الأخير بين ذراعيه :”نهارا وليلا، بعيدا، عند أعالي الأبراج والسطوح المرتفعة، تبدو الأرض والمحيط، نائمين وقد احتضن أحدهما الثاني، يحلمان بالأمواج، الورود، السحب، الأشجار، الصخور، ومختلف ما نقرأه في ابتسامتهما وننعته بالحقيقي”(6).

تمتزج في الجزيرة المتدلية من السماء، أزهار مختلف العناصر المتخيَّلة :الماء، الأرض، النار، الهواء، نتيجة التحول الهوائي. جزيرة عالقة في السماء، إنها سماء فيزيائية، تمثل أزهارها أفكارا أفلاطونية بالنسبة لأزهار الأرض، بل تعتبر الأكثر واقعية مقارنة مع باقي الأفكار الأفلاطونية، ولم ينتبه إليها شاعر قط.

حين الإصغاء إلى قصائد شيلي، وقد توخينا حقا أن نعيش مثالية الصور الهوائية، يلزمنا إدراك بأنها مثالية تتجاوز كونها مجرد نمذجة مثالية لمشاهد الأرض. لأن الحياة الهوائية تمثل في نهاية المطاف الحياة الفعلية؛ بينما الحياة الأرضية متخيَّلة، حياة شاردة وبعيدة. الأشجار والصخور بمثابة أشياء مترددة، عابرة ومنبطحة. بالتالي، يكمن الموطن الحقيقي للحياة وسط السماء الزرقاء، و ”أغذية” العالم رياح وعطور. مثلما أدرك شيلي هذه الصورة لريلكه :

رؤى ملائكة، قمم أشجار ربما

هي جذور، ترتشف السماوات؛

وفي التربة، جذور عميقة لشجرة الزَّان

تبدو لها وقائع صامتة.

(بساتين)

حينما ننام في مكان أعلى قياسا للذي استكان إليه شيلي، ثم نحلم تبعا لكل أنفاس الهواء، حينئذ تتجاوز بلا توقف المرتفعات الضخمة وكذا مستويات البحار، نوم الأرض والمحيط. في خضم لوحات منحنيات النهار والليل، تتهَدْهد معا الأرض والمحيط، بفضل السماء الشاسعة والثابتة، ويرقدان معا بين  طيات سعادة مشتركة. تجسّد شعرية شيلي، شعرية ضخامة مُهَدْهدة. العالم عند شيلي مرقد هائل- مرقد كوني- من ثمة، تحلق أحلام باستمرار.

أيضا، مرة أخرى، مثلما أشرنا إلى ذلك مرارا في دراساتنا حول الخيال المادي للماء، سنرى ارتقاء انطباعات حالم غاية المستوى الكوني.

ربما اتُّهِمنا أننا وظفنا نهجا سهلا للتضخيم وكذا النفخ في الصوت بدل تقديم مبرراتنا بكل بساطة. غير أن المقاربة النفسية للحلم، ستفقد شيئا ما، إذا أوقفنا هذا التضخم و الانتفاخ. هل يستحق الحلم تسمية من هذا النوع، إن لم يغير أبعاد العالم ؟هل يمكننا أن ننسب الحلم لشاعر معين إذا لم يتوخى الارتقاء بالعالم؟

يسمو الشاعر الهوائي بالعالم وجهة تلغي كل الحدود، وبوسع لوي كازاميان(7)أن يقول بصدد شيلي، حين تعليقه على كتاب :”قيثارة الريح” :”يتموَّج كليا مع آلاف الأمواج الحسية التي تبعثها الطبيعة، وتنتج ربما، على حبال الكون، هذا النسيم المثالي الذي سيكون في الوقت ذاته روح كل كائن وإلها للجميع”.

……………….

مصدر المقالة :

Gaston Bachelard : l’ air et les songes ;1943.PP :47-56.

(1) لوي كازاميان :دراسات في التحليل النفسي الأدبي، ص 82 .

(2) ريلكه : أشعار، ترجمة لو ألبير لازار.

(3) شيلي : أعمال مترجمة، الجزء الثاني ص.120

(4)  شيلي : أعمال مترجمة، الجزء الثاني،ص.274

(5) بيير غيغين: رهانات كونية، ص. 57

(6)ربما بنظرات متجسِّدة، يمكننا تأويل تخمينات شوبنهاور التي ادعت بأن الألوان مزيج للضوء و الظلمات.

 (7) لوي كازاميان : دراسات في علم النفس الأدبي، ص 53 .

 

About سعيد بوخليط

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *