متظاهرون في برشلونة يحملون قائمة بأسماء ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. 11.11.2023 الصورة AP/ Paco Freire/ SOPA Images/Sipa USA
متظاهرون في برشلونة يحملون قائمة بأسماء ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. 11.11.2023 الصورة AP/ Paco Freire/ SOPA Images/Sipa USA

غزة 2023 أكثر من مجرد إبادة جماعية

ديرك موزيس

ترجمة محمود الصباغ

أعاد هجوم حماس الأخير على إسرائيل إلى الواجهة موجة جدل دولية واسعة حول مفهوم الإبادة الجماعية. ونظر بعض أهل الاختصاص في حقل دراسات الإبادة الجماعية، من بينهم المؤرخ الإسرائيلي راز سيغال وعالم الاجتماع البريطاني مارتن شو، إلى الهجوم الإسرائيلي الانتقامي على قطاع غزة بصفته إبادة جماعية، وهو ذات الرأي الذي اتفق عليه العديد من الأكاديميين القانونيين الفلسطينيين والدوليين، وطيف واسع ومتزايد من المعلقين (من بينهم الكثير من الأصوات اليهودية). ولعل هذا ما دفع مركز الحقوق الدستورية الأمريكي إلى مقاضاة الإدارة الأمريكية بسبب فشلها في منع الإبادة الجماعية في قطاع غزة. وقبل هؤلاء.. وبعدهم؛  أصدر خبراء قانون دوليون بياناً يدين مذبحة حماس التي راح ضحيتها 1,200 إسرائيلي وأشاروا إليها بعبارة “الإبادة جماعية”؛ واعتبرت مجموعة من المتخصصين في الهولوكوست أن ما جرى في غلاف غزة يوم السابع من تشرين الأول الماضي أعاد  إلى الأذهان “المذابح [بوغروم] التي مهدت الطريق للحل النهائي”.Top of Form

 

وحيث إن  الهدف من مزاعم الإبادة الجماعية  وثيق الصلة ليس بالجوانب القانونية والاستراتيجية فحسب ، بل بأمور ذات طابع ملح وأخرى أخلاقية -كما هو الحال في الغزو الروسي لأوكرانيا وطريقة تعامل الصين مع المواطنين الإيغور- فسوف تكون غايتنا في نهاية المطاف إنقاذ الأرواح والتصدي لوقف الكوارث الإنسانية. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، يتعرض قطاع غزة لحملة تدمير شاملة بالقنابل والصواريخ الإسرائيلية، وتتزايد الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين كل ساعة -ترتفع أعداد القتلى والمصابين بالمئات يومياً لا سيما بين النساء والأطفال- وتم استهداف المستشفيات، وتعرض  العاملون في المجال الإنساني والصحفيين للقتل. وسجلت حركة نزوح لأكثر من مليون فلسطيني من بيوتهم؛ وتقوم القوات العسكرية الإسرائيلية  بهجوم بري واسع. وفي ذات الوقت، أطلق المستوطنون والسلطات الإسرائيلية موجة إرهاب نسقي على فلسطينيي الضفة الغربية، في سياق حملة أطلق عليها  “يوم الانتقام قادم”، كما أعلن عن ذلك رجال ملثمين وهم يقومون بقتل وطرد الفلسطينيين من بيوتهم.

ترافق الجدل القانوني حول الإبادة الجماعية، انتشار واسع لحركة احتجاج عالمية -هي الأكبر منذ حرب الخليج الثانية- تندد بما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة باعتباره إبادة جماعية وتطالب بوقف إطلاق النار. وتعبر وجهة نظر المحتجين عن حالة من الغضب والحزن إزاء تدمير الحياة العارية الرثة المثيرة للحزن. و سعى المحتجون إلى استيلاد حالة ضغط سياسي لكبح التطلعات الإسرائيلية، ويأملون، لو ينجحوا في النهاية، تأسيس شكل من المساءلة القانونية الدولية وتجريم العنف العسكري الإسرائيلي بوضعه في ذات الإطار الذي تتوضع فيه الهولوكوست، باعتبارها حالة نموذجية للإبادة الجماعية. ولهذا السبب، كتب الأكاديمي الفلسطيني الغزي، حيدر عيد، في 10 تشرين الأول أن ما يجري حالياً بمثابة “انتفاضة وارسو”. ورداً على ذلك، عكس المعلقون الإسرائيليون المعادلة بمقارنة قصف بلادهم لغزة بالتدمير البريطاني لدرسدن خلال الحرب العالمية الثانية. وبالنسبة لهم، الفلسطينيون، وليس الإسرائيليون، هم النازيون في هذه الدراما القاتلة.

ومع ذلك يبقى للمسائلة القانونية دور مساعد لتفسير الأسباب وراء عدم اكتساب زعم الإبادة الجماعية في قطاع غزة زخماً  وتأثيراُ كبيرين خارج إطار حركة الاحتجاج. إذ يضع القانون الدولي معياراً عالياً لجهة إثبات تهمة الإبادة الجماعية، مما يشير إلى ندرة “جريمة الجرائم؛ أي الإبادة الجماعية” في سلوك الدول “المارقة”. وتكمن أعمال العقاب الجماعي والترحيل وحتى تدمير الشعوب، في واقع الأمر،  في صلب وأسس الدول الحديثة. ويمكن العثور على أدلة وافرة في التاريخ، تكفي لتعريف الإبادة الجماعية اليوم بطريقة وافية، لكن معظمها لا يحقق ذلك. وعلى هذا سوف يكون إطار مفهوم الإبادة الجماعية الناتج عن أحداث عنف السابع من  تشرين الأول، وما بعده، مقتصراً أساساً على المعايير القانونية للمفهوم. وينبغي لمن يهتم بحماية المدنيين النظر في التاريخ الأوسع لعنف الدولة والمقاومة العنيفة، وصلاتهما بإسرائيل وغزة اليوم.

لا يعتبر  العنف الجماعي الذي تمارسه الدولة ضد المدنيين خللاً في بنية النظام الدولي أو حتى تعطيل له؛ بل هو بالأحرى جزء من جهاز الدولة ذاتها، منصهر تماماً في مؤسساتها. ومتساوق مع سلوكها؛ لا سيما لجهة الدور  الأساسي الذي يلعبه الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس ضمن التصور الذاتي للدول الغربية عن نفسها على وجه الخصوص ، والتي لا يمكن فصل لحظات تأسيسها عن آليات التوسع الإمبريالي. ومنذ الغزو الإسباني للأميركتين ( القرن السادس عشر )، تذرع المستوطنون بأعمالهم الانتقامية ضد مقاومة السكان الأصليين بمبدأ دفاعي يتوسل “الحفاظ على الذات”. وانغمس المستعمِرون في عمليات انتقام هائلة ضد الشعوب “الأصلية” -حتى الأشخاص العزل غير المقاتلين منهم- حالما شعروا بمخاطر وجودية تهددهم. وتمثّلت ردود الفعل الجماعية لهم ضد “السكان الأصليين” بــ “التأثير المزدوج”؛ بما يعني، من بين أشياء أخرى، غض النظر عن  قتل الأبرياء بصفته أثر جانبي لغاية أخلاقية ، مثل الدفاع عن النفس.

لقد فهم هؤلاء المستعمِرون أن وجودهم في تلك الأراضي البعيدة هو وجود شرعي، ومن هذه النقطة؛ ومن ناحية التراتبية الحضارية والعرقية، تم تأطير المقاومة “الأصلية” كعمل إرهابي وغير شرعي. واعتقد الإسبان أن الرب نفسه فوضهم نشر  الإيمان، مما أعطاهم مسوغاً لضم جميع الأراضي التي لا يسكنها مسيحيون وتحويل سكانها “الوثنيين” إلى المسيحية.  ويمكن من خلال هذه القراءة، اعتبار الشعوب الأصلية سكان الغابة هم المعتدون، وليس المستوطنون قطعاً. وتعززت مهمة التبشير المسيحي مع بداية القرن التاسع عشر من خلال أنشطة البعثات التبشيرية في ما نظر  إليه كمهمة تحضير السكان الأصليين “المتوحشين”. وتجلت هذه الإيديولوجية الاستعمارية، في الآونة الأخيرة، في مشروع “جلب الديمقراطية إلى العالم العربي”، حيث يتم تعيين إسرائيل بصفتها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، والـ “فيلا في الغابة” كما يتردد في أوساط إسرائيلية وغير إسرائيلية حتى باتت هذه الفكرة مضرب مثل.

ومكنت الحروب الاستعمارية التي سيطرت بموجبها أوروبا على معظم الجغرافيا العالمية في أواخر القرن التاسع عشر من انفتاح الدولة الأوروبية الحديثة. ولم يكن بقدرة هذه  الدول توليد فائض قيمة رأسمالي بهامش عريض يسمح لها بدفع تكاليف مؤسساتها العسكرية والأجهزة البيروقراطية اللازمة للحفاظ عليها وإدامتها لولا وجود هذه الممتلكات الإمبراطورية وتلك التجارة المربحة من سكر وسلع أخرى تعتمد على تجارة الرقيق عبر الأطلسي. ورغم عدم شروع القوى الأوروبية والمستوطنين في مستعمراتهم في إبادة الشعوب التي احتلوها، لكنهم قتلوا أي شخص قاومهم على كل حال، بزعم أنهم أجبروا على تلويث أيديهم بدماء هؤلاء المقاومين.

 

ويمكن استخلاص عدد من الدروس من تاريخ التوسع والعنف الجماعي هذا.

يُظهر الدرس الأول التناسب الطردي بين الدمار المدني وحجم الانتقام الأمني عند وصوله إلى أعلى مستوياته، أي “الأمن الدائم” -ويتم تنفيذ ردود الفعل المتطرفة من الدول على التهديدات الأمنية، تحت عنوان الدفاع عن النفس. وتستهدف الإجراءات الأمنية المستدامة سكاناً مدنيين، كمجموع وليس كأفراد، في إطار منطق يضمن عدم السماح للإرهابيين والمتمردين بألا يشكلوا تهديداً مرة أخرى. بكلام آخر، تظهر هذه الإجراءات الأمنية كمشروع يسعى، في هدفه النهائي الاستراتيجي، إلى تجنب أي تهديدات مستقبلية من خلال توقعها  الآن وهنا. ويمكن ملاحظة نتائج هذه الإجراءات وأهدافها في العديد من الأزمات الإنسانية الجارية. فعلى سبيل المثال، يبرر فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا، بضرورة إعادة هذه الأخيرة قسراً إلى الفلك الروسي حتى لا تكون منصة تنطلق منها صواريخ الناتو على روسيا، ربما بعد عقود من الآن. ومثال آخر  يفسر سعي الجيش في ميانمار إلى سحق النزعة الانفصالية بشكل نهائي بطرده أقلية الروهينغا في العام 2017؛ وأخيراً سعي قيادة الحزب الشيوعي الصيني إلى “تهدئة” و “إعادة تثقيف” الإيغور بالسجن الجماعي لإحباط مساعي الاستقلال.

ينظر الدرس الثاني من تاريخ التوسع والعنف الجماعي إلى ظهور الأعمال الانتقامية الشرسة بشكل خاص عندما تنطوي مقاومة السكان الأصليين على هجمات تشمل عائلات المستعمِر -النساء والأطفال. ونعرف من التاريخ كيف ولماذا شُنت الحملات ضد “التمرد الهندي” في الفترة ما بين  1857-1859 ، والتمرد الصيني المعروف باسم “تمرد الملاكمين” في العام 1900 ، وانتفاضة هيريرو في جنوب غرب إفريقيا الألمانية في الفترة من 1904 إلى 1907. ومما يزيد من حدة الدمار وإراقة الدماء حقيقة أن هذا النوع من الصراع الديموغرافي  المتواصل ذي المحصلة الصفرية غالباً ما يرتبط بشدة بحركات المقاومة الخلاصية العنيفة التي تنشأ عقب الانهيار الاجتماعي الناجم عن الحكم الاستعماري. حيث تنظر هذه الحركات إلى المستعمِرين بصفتهم كياناً معادياً واحداً وموحداً لا يمكن فصل مكوناته “المدنية” عن “العسكرية”، وعلى هذا، ستكون عائلات المستوطنين هدفاً لهم مثلما هو حال أفراد الجيش والشرطة. وسوف تكون تسمية “الإبادة الجماعية التابعة” التي يطلقها بعض المؤرخين، تعني بالدرجة الأول الإبادة الجماعية ضد المستعمِرين، والتي تنشأ في هذه الظروف على وجه التحديد من ميزان القوة والعنف غير المتكافئين.

ويتضح ظهور المقاومة، من الناحية التحليلية، كنتيجة لاستمرار الاحتلال الدائم / المديد أو الحكم الاستعماري؛ غير أن هذه الفكرة لا ينبغي لها، بأي قدر على الإطلاق، تسويغ شن هجمات على المدنيين باعتبارها مسألة معيارية أو قانونية. وتظهر السجلات التاريخية أسلوب المستعمِر في تحطيم الانتفاضات العنيفة المناهضة له بعنف يفوق  بكثير عنف هذه الانتفاضات مهما كانت فظاعته . فالعنف الذي يمارسه “المتحضرين” سوف يكون أكثر فعالية بكثير من عنف أولئك “البرابرة” و “المتوحشين”. وعلى سبيل المثال؛ تسبب قمع انتفاضة ماجي ماجي في شرق إفريقيا الألمانية بين عامي 1905 و 1907 في مقتل ما لا يقل عن 75 ألف أفريقي، وربما يصل العدد، في بعض الدراسات، إلى 300 ألف. وعلى مدار خمسة قرون من تاريخ الإمبراطوريات الغربية، تفوق أمن المستعمِرين الأوروبيين على أمن واستقلال المستعمَرين.

ماذا يعني كل هذا في حالة إسرائيل وغزة اليوم؟

يبدو أن العديد من مسؤولي «حماس» قد اتخذوا موقفا خلاصياً في تبنيهم نهج المقاومة العنيفة، حتى لو كانت الحركة مستعدة للتفاوض بشأن الرهائن الآن. وفي مقابلة مع محطة تلفزيون العربي، أشار خالد مشعل رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس كيف يمكن للنضال ضد للاستعمار  الاستمرار لعقود وربما لأكثر من قرن ويتضمن تضحيات باهظة قد تصل إلى ملايين الأرواح. واعترف بأن «حماس» لم تستشِر الفلسطينيين في غزة في هجوم السابع من تشرين الأول، ورغم ذلك فقد ألمح بأن عليهم دفع ثمن صيرورة التحرر الوطني: “لا توجد أمة تحررت دون تضحيات”. وعندما سئل عن مذبحة المدنيين الإسرائيليين، أجاب أن الخسائر في صفوف المدنيين تحدث في الحرب وأن حماس “ليست مسؤولة عنها”، رافضاً الاعتراف بالفظائع التي ارتكبتها قوات حماس. أما بالنسبة لإسرائيل، فقد اتبع محللوها الأمنيون منذ فترة طويلة استراتيجية الاستنزاف لاحتواء المقاومة الفلسطينية، ضمن ما أطلقوا عليه تكتيك “جز العشب”؛ المتمثل بدرجة رئيسية في أسلوب الاغتيال المستهدف والقصف العرضي المنتظم. وهذه النظرة المستقبلية هي تعبير معاصر عن مقاربة الزعيم الصهيوني التصحيحي فلاديمير جابوتنسكي الشهيرة لتصور “الجدار الحديدي” التي تعود للعام 1923، حين تفهم مسألة المقاومة الفلسطينية وحتمية مناهضتها للاستعمار. وكتب في حديثه عن الفلسطينيين: “يشعرون على الأقل بذات الحب الغيور الغريزي لفلسطين، كما شعر الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة، والسيوكس لمروجهم وبراريهم”. ولأنه لا يمكن شراء الفلسطينيين بوعود مادية، أراد جابوتنسكي من سلطات الانتداب البريطاني تمكين الاستيطان الصهيوني حتى يصل اليهود، الذين كانوا آنذاك أقلية صغيرة من فلسطين، إلى أغلبية. وخلص إلى أن “توقف أو استمرار الاستيطان الصهيوني غير متربط إطلاقاً بالسكان الأصليين. مما يعني أنه لا يمكن المضي قدماً والتطور إلا تحت حماية قوة مستقلة عن السكان الأصليين -خلف جدار حديدي  لا يمكن للسكان الأصليين اختراقه.”

وها قد اخترقت حماس “الجدار الحديدي” لحدود غزة في 7 تشرين الأول. ورداً على ذلك، نشهد الآن تبلور محاولة إسرائيلية للتوصل إلى حل أمني دائم. فبعد فشلها في “إدارة الصراع”، وتفسير مذبحة حماس بصدمة شبيهة بالهولوكوست، يعلن قادة إسرائيل الآن أن هؤلاء “النازيين” الفلسطينيين لا ينبغي لهم أبداً أن يشكلوا تهديداً لإسرائيل مرة أخرى. ولا تسعى الحكومة الإسرائيلية، من خلال هجماتها الجوية والبرية، إلى تدمير حماس ككيان سياسي وعسكري -وهو هدف أمني لا شك- فحسب، بل تعمل على حشر الكثير من الفلسطينيين، إن لم يكن جميعهم، في جنوب قطاع غزة ،ربما بهدف إقامة منطقة عازلة دائمة في الشمال، وفي نهاية المطاف، دفع سكان القطاع عبر الحدود إلى مصر.

ويفترض  المنطق الاستراتيجي لهذا الأداء الإسرائيلي أن ضغط الكارثة الإنسانية الناجمة عن سير عملياتها العسكرية سوف يجبر الأمم المتحدة، وبشكل خاص العالم العربي، على إعادة توطين الفلسطينيين، وهو هدف أمني إسرائيلي مستدام. وقد قام مركز أبحاث مقرب من الحكومة الإسرائيلية، وهو معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، بصياغة خطة كبرى لتحقيق هذه الغاية. حتى أن وزيراً إسرائيلياً يمينياً متطرفاً يميل إلى إعادة استيطان اليهود في غزة من جديد.

بعبارة أخرى، سوف تخضع القوات العسكرية الإسرائيلية مليوني فلسطيني لجرائم حرب متسلسلة وعمليات طرد جماعي لضمان عدم تمكن المقاتلين الفلسطينيين من مهاجمة إسرائيل من جديد. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 16 تشرين الأول أن “هدفنا هو النصر، تحقيق انتصار ساحق على حماس، وإسقاط نظامها وإنهاء تهديدها لدولة إسرائيل دون رجعة”. وردد وزير الدفاع [السابق] بيني غانتس، هذه الفكرة بقوله: “لا يمكن لإسرائيل قبول تهديداً نشطاً على حدودها”. وفي 14 تشرين الأول، حذّر مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة من إمكانية حصول نكبة جديدة. وهو الرأي الذي تبناه بعض القادة الإسرائيليون؛ مثل وزير الزراعة وعضو مجلس الوزراء الأمني، آفي ديختر الذي تحدث عن “تنفيذ نكبة غزة”. وكان قد أشار قبل ذلك أريئيل كالنر ، عضو الكنيست [عن الليكود]: “الآن، هناك هدف واحد: نكبة! نكبة ستلقي بظلالها على نكبة 48. النكبة في غزة والنكبة لكل من يجرؤ على الانضمام!”

ولم يكون دعم الدول الغربية لاستراتيجية الحل الأمني الدائم الإسرائيلية -مثلما تفعل الولايات المتحدة كما يبدو، من خلال تخصيص ميزانية لدعم اللاجئين في البلدان المجاورة تحت غطاء “إنساني”- جديداً، بل هو تعبير عن مواصلة تقليد قديم.  لنتذكر ما حدث أثناء الحربين العالميتين في القرن العشرين وما بينهما وما بعدهما، حين جرت عمليات نقل وتبادل سكانية واسعة عبر  أوروبا وآسيا بهدف التجانس الجذري للدول والإمبراطوريات وتعزيز توحدها، حيث فر ملايين الأشخاص أو طردوا أو نقلوا؛ من تركيا واليونان والنمسا وإيطاليا والهند وفلسطين وأوروبا الوسطى والشرقية في سياقات هذا التجانس. واعتبر الأوروبيون التقدميون آنذاك، أن نقل الأقليات المزعجة سوف يحقق سلاماً طويل الأمد. وتؤكد هذه الرؤية الإيديولوجية -التي تشترك فيها حكومات روسيا والصين وتركيا والهند وسريلانكا اليوم- على وجوب خضوع السكان الأصليين والأقليات لتبعيتهم، وإذا قاوموا فسوف يواجهون القهر أو الترحيل أو التدمير. وتعتبر عمليات مكافحة الإرهاب التي تسبب في قتل آلاف المدنيين ردود مقبولة على العمليات الإرهابية التي تقتل أعداداً أقل بكثير من المدنيين.

ومن ثم، فإن الشعوب الأصلية والمحتلة توضع في موقف مستحيل أشبه بالعطالة. فإذا هم  قاوموا المستعمِر بالوسائل العنيفة؛ فسوف يتم قمعهم بعنف أشد. وإذا لم يقاوموا فسوف تتغاضى الدول عن العنف الأقل حدة (ولكنه دائم)  الموجه ضدهم [إلى أن يفنوا ربما] . وفي الوقت الحالي، لا تظهر الدول الغربية، وحتى العديد من الدول العربية، وجهاً آخر غير التسامح إلى أجل غير مسمى مع الظروف التي خلقتها إسرائيل في قطاع غزة والضفة الغربية، والتي لا تطاق بلا ريب،  بينما تحاول ،هذه الدول، التوسط للوصول إلى سلام دائم في الشرق الأوسط دون حل لجوهر الصراع  التحرري الفلسطيني، أيا كان الشكل الذي قد يتخذه.

كتب عبد الجواد عمر، طالب الدراسات العليا في جامعة بيرزيت/ رام الله، في 9 تشرين الثاني: “هناك عنف في هذا الإصرار على اللاعنف من قبل المجتمع الدولي، لأنه يمثل، في واقع الأمر، دعوة للفلسطينيين للتخلي عن نضالهم وقبولهم الموت.. في الواقع، يتم، فعلاً، تجاهل المقاومة اللاعنفية لهذا الوضع بل يتم شيطنتها وقمعها بوحشية”. فعلى سبيل المثال، تجرّم العديد من الولايات الأمريكية وألمانيا حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات BDS  باعتبارها حركة معادية للسامية. وقوبلت مسيرات العودة في غزة ما بين عامي 2018 إلى 2019 بنيران القناصة الإسرائيليين راحت ضحيتها نحو 233 شخصاً؛ وجرح وتشويه ما يقرب من 6000 فلسطيني. وتمارس السلطات الإسرائيلية سياسات التضييق والتقييد على القادة الفلسطينيين المحليين الذين يدعون إلى حماية مجتمعاتهم بطرق سلمية من المستوطنين، مثلما حصل مع عيسى عمرو من مدينة الخليل. وكما لاحظت هيلينا كوبان محللة شؤون الشرق الأوسط، كيف تستدل “حماس” من هذه الأفعال أن الفلسطينيين ليس لديهم ما يكسبونه بالامتثال لـ “النظام الدولي القائم على القواعد” الذي تقوده الولايات المتحدة والذي تخلى عنهم ونسيهم.

وتشير مجمل هذه الاعتبارات إلى بعض القيود المفروضة على النقاش الدائر حول مفهوم الإبادة الجماعية؛ الذي قد يستخدمه البعض بمعنى تفسيري أوسع، إلا أنه يستحضر اليوم كرزمة قانونية لتوجيه الاتهام إلى إسرائيل بأخطر وأبشع جريمة دولية.

وفي حين يمكن إدانة الإجراءات بصفتها إبادة جماعية لجهة التعبئة السياسية، غير أنه لا يمكن، من الناحية القانونية، الإعلان عن إبادة جماعية من جانب واحد. وبدلاً من ذلك، تقوم المحاكم بمحاكمة الأفراد على أعمال الإبادة الجماعية، ويكون ذلك بالعادة إلى جانب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وربما يأتي اليوم الذي يمكننا فيه من تثبيت الإبادة الجماعية من طرف واحد. وقد أعلن كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أن المحكمة تمتلك ولاية التخصص القضائي في الأراضي التي يدور  فيها النزاع وأنه يراقب الوضع عن كثب. لكنه حتى الآن يتحدث بشكل عام عن جرائم الحرب، وليس عن الإبادة الجماعية. وإذا ما كان يحاول العثور على أدلة تدعم مزاعم الإبادة الجماعية الموجهة ضد إسرائيل، فهو ليس بحاجة إلى النظر بعيداً؛ لقد أدلى العديد من السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بتصريحات متنوعة ذات دلالات تقترب من تعريف معنى الإبادة الجماعية، مؤكدين على الشر العميق (“الحيوانات البشرية”) والذنب الجماعي للفلسطينيين في غزة في جريمة القتل الجماعي الذي ارتكبته حماس ضد الإسرائيليين في 7  تشرين الأول. وفي 28 تشرين الأول، قارن نتنياهو حماس بالعماليق (عدو إسرءيل  التوراتي) حين قرأ مقطعاً من سفر صموئيل الأول: “فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا».” (صموئيل الأول 15: 3). ولعله يُنسى أحياناً في هذا السياق حظر اتفاقية الأمم المتحدة بشأن معاقبة ومنع الإبادة الجماعية (UNGC) للعام 1948 “التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية”. ولاحظ ضابط مخابرات سابق في الجيش الإسرائيلي أنه “مثلما تجاوزت حماس جميع الخطوط الحمراء في استهدافها المدنيين، سترد إسرائيل أيضاً بتجاوز جميع الخطوط الحمر”.

غير أن الأمر ليس على هذه الدرجة أو تلك من السهولة، فمن الصعوبة بمكان التثبت من ارتكاب أفراد إسرائيليين أعمال إبادة جماعية بالنظر إلى المعايير التي حددها القانون الدولي. وهذه الصعوبة ليست حدثاً عارضاً أو من قبيل الصدفة. فعندما تفاوضت الدول الموقعة على الميثاق العالمي للأمم المتحدة في عامي 1947 و1948، عملت على تمييز نية الإبادة الجماعية عن الضرورة العسكرية، حتى تتمكن من شن ذلك النوع من الحروب التي تشنها روسيا وإسرائيل اليوم وتتجنب الملاحقة القضائية بتهمة الإبادة الجماعية. وينبع المعيار القانوني الرفيع من تعريف الأمم المتحدة التقييدي للإبادة الجماعية، الذي وضعه فريق الأمم المتحدة للإبادة الجماعية؛ بالاستناد إلى الهولوكوست كجملة مقارنة، ويتطلب الأمر، حتى يتحقق، وجود نية لدى الجاني في القيام بـ “تدمير ، كلي أو جزئي، لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، على هذا النحو” (dolus specialis) باستعمال واحدة على الأقل من خمس طرق محددة وموصوفة  (actus reus) تمثل (الفعل الإجرامي). وتفترض عبارة “على هذا النحو”، بمعناها الواسع، شرطاً صارماً للغاية لثبوت “النية الجرمية”؛ حيث لا يعتبر الفعل إبادة جماعية إلا إذا تم استهداف الأفراد بحكم انتمائهم إلى جماعة محددة كتلك الموصوفة أعلاه  -مثلما حصل مع  اليهود خلال الحرب العالمية الثانية- وليس لأي اعتبار آخر، أو لأسباب استراتيجية مثل قمع حالة أو حركة تمرد. وعلى الرغم من التأكيدات المتعددة للقادة الإسرائيليين على الذنب الجماعي الفلسطيني، فلم يمنعهم هذا من التأكيد أيضاً باستهداف الجيش الإسرائيلي حماس لما تمثله من تهديد أمني، وأن الأعمال العسكرية للجيش لا تستهدف الفلسطينيين “بحد ذاتهم” أو “بصفتهم هذه… على هذا النحو” .

فإذا كانت المحرقة حدثاً فريداً ، كما هو مؤكد عادةً، فكيف إذن، يفترض وصف حالات العنف الجماعي الأخرى ضد المدنيين؟

تتمثل الصعوبة هنا في استحالة القيام بذلك. وبعبارة أخرى، لن تسمح الدول الموقعة على الميثاق العالمي للأمم المتحدة بمنع حقها في تحقيق أمنها الدائم، ضد أعداء داخليين أو خارجيين. ويشهد نطاق العنف الهائل الذي ارتكب بعد الحرب مع الإفلات من العقاب على نجاح الدول في سلوكها ضد أعدائها. صحيح أن الدول وافقت على معاهدات واتفاقيات أممية أخرى، مثل اتفاقيات جنيف، باعتبارها “تقييداً للحرب”، لكنها بذلت قصارى جهدها أيضاً لتجنب مثل هذه القيود. لقد قتلت الولايات المتحدة وروسيا معاً الملايين من المدنيين في حروبهما الإمبريالية في كوريا وفيتنام والشيشان. وكذلك فعلت دول ما بعد الاستعمار مثل نيجيريا وباكستان في محاربة الانفصال. وقد تم توجيه مزاعم الإبادة الجماعية في بعض هذه الحالات في حملات عالمية مثل الحملة التي نراها الآن، ولكن لم يتم تثبيت أي منها، وطويت صفحتها، إلى حد كبير، من سجلات العنف الجماعي ضد المدنيين. ويبدو في حقيقة الأمر أن على المدافعين عن فلسطين اليوم مواجهة احتمال نسيان دعواهم، كما حصل لغيرهم، وتكاد تكون المقارنات الناجحة مع الهولوكوست مستحيلة عملياً -لا سيما من قبل الفلسطينيين ضد إسرائيل التي تعتبر ذكرى  الهولوكوست جزء من مشروع دولتها.

ومما يزيد من صعوبة إثبات نية الإبادة الجماعية الوضع الملتبس في القانون الإنساني الدولي بشأن شرعية المدنيين الذين قتلوا “عرضياً” أثناء مهاجمة أهداف عسكرية مشروعة. بينما يتفق معظم  المحامين الدوليين على أن وفيات المدنيين مقبولة طالما أنها متناسبة مع الفائدة العسكرية المنشودة، ويجادل آخرون بأن قصف الأسواق والمستشفيات المزدحمة بغض النظر عن الهدف العسكري ليس سوى حالة من حالات العنف العشوائي بالضرورة، ويعتبر، بالتالي، تصرف غير قانوني. وغني عن القول إن المسؤولين الإسرائيليين يصرون على التزامهم بمبادئ القانون الدولي باستهداف حماس فقط وإصدار تحذيرات للمدنيين. كما أنهم يدافعون عن أوامر الجيش للفلسطينيين بالانتقال إلى جنوب القطاع كمحاولة لفصل السكان المدنيين عن مقاتلي حماس. وتقبل معظم الدول الغربية -بما في ذلك الولايات المتحدة- هذا المنطق من التفكير، وتجد أن استخدام حماس “الدروع البشرية” هو السبب الرئيسي للأعداد الكبيرة من الضحايا المدنيين، وبالتالي تبرير الهجمات الإسرائيلية العشوائية. ويذهبون أبعد من ذلك في تبرير كل سلوك إسرائيلي تحت عنوان “حقها المشروع في الدفاع عن نفسها”. حتى أن الولايات المتحدة  قد ترددت حول ما إذا كانت اتفاقيات جنيف قابلة للتطبيق على الأراضي الفلسطينية. وبالتالي، ليس من المستغرب عدم ممارسة هذه الحكومات أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية لشرح كيف أن قطع المياه والغذاء والكهرباء عن غزة  -“حرب التجويع” على حد تعبير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان- يكون تكتيك عسكري مشروع غير مشمول بالميثاق العالمي للأمم المتحدة، الذي ينص على أن أحد أركان الإبادة الجماعية الأصلية يتمثل في  “التسبب عمداً في خلق ظروف حياة للجماعة بهدف تدميرها المادي كلياً أو جزئياً”. ولكن إذا حدث ما يسمى بالهدن الإنسانية للسماح بدخول القليل من المساعدات، وإن كان من الواضح عدم كفايتها، وتم رفع “الحصار الكامل” بعد الهزيمة العسكرية لحماس (إذا حدث ذلك)، فسوف يكون من الصعب القول، في سياق قانوني، إن خنق إسرائيل لغزة كان عملاً من أعمال الإبادة الجماعية.

وقد لاحظت مجموعة حقوق الإنسان الإسرائيلية “كسر الصمت” أن العملية العسكرية الحلية الإسرائيلية في قطاع غزة، لا تدخل في تعريف الإبادة الجماعية بقدر ما هي شكل من أشكال الردع المتوحش، على قاعدة “عقيدة الضاحية”، التي، كما يجادلون، تعني القيام بـ”هجمات غير متناسبة، بما في ذلك هجمات ضد المنشآت والبنى التحتية المدنية”. ومن الواضح أن هذه الأعمال، ضمن هذا الوصف، هي أعمال غير قانونية. وكتب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان، ومن وجهة نظر مماثلة، في مقال افتتاحي قال فيه إن سلوك إسرائيل الحالي في القطاع يهدف إلى إرسال إشارة لأعدائها بأنه لا يمكن لأحد أن “يستفزها ويتفوق عليها”. ولتحديد ما يعنيه، صاغ مصطلح “عقيدة حماة”، تذكيراً بما فعله الرئيس السوري حافظ الأسد حين قتل بشكل وحشي 20 ألف متمرد إسلامي في مدينة حماة في العام 1982. وقياساً على هذه  الأسس، تسير إسرائيل في طريقها للوصول إلى هذا الرقم الرهيب وربما تجاوزه.

وعلينا أن نتذكر هنا أن الأعمال الانتقامية المفرطة هي عنصر أساسي في الحرب الاستعمارية وتوطيد الدولة.

وبغض النظر عن أي مسألة قانونية تتعلق بالإبادة الجماعية، يتغاضى مؤيدو إسرائيل ضمنياً عن المذابح المستمرة ضد آلاف المدنيين الفلسطينيين. ومن المفهوم أن يرفض جزء كبير من شعوبهم هذا الوضع الفظيع. لكنهم يبدو وكأنهم غير متأثرين بالتقسيم القانوني لمتطلبات الميثاق العالمي للأمم المتحدة المتعلق بقتل الناس “على هذا النحو”، أي قتلهم على أساس هويتهم فقط -نية الإبادة الجماعية لتدمير العدو- بدلاً من المنطق العسكري لهزيمتهم. وفي حقيقة الأمر، سواء كانت إسرائيل ترتكب إبادة جماعية أو تقيم “جداراً حديدياً” جديداً للدفاع عن نفسها، فما زال الفلسطينيين يُقتلون جماعياً وربما يطردون من بيوتهم وقراهم. وهذا بحد ذاته تمييزاً لا فرق فيه للضحايا.

في ضوء ذلك، يمكن فهم مزاعم حركة الاحتجاج بوصف سلوك إسرائيل على قاعدة الإبادة الجماعية كأحد أعراض “فشل القانون الدولي التام  في الرد على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية (بما في ذلك سياسات الفصل العنصري)”، كما لاحظ الباحث القانوني إيتمار مان. وتعكس مزاعم حركة الاحتجاج أيضاً “حقيقة” وجهة نظر الضحية. وبما أن الإبادة الجماعية هي مرادف لتدمير الشعوب، سواء كان القتل يشمل ثقافتهم أو قمعهم بدافع التدمير “في حد ذاته” أو بدافع الردع، فالتجربة بالنتيجة هي واحدة أي؛ هجوم مدمّر على شعب، وليس فقط على مدنيين عشوائيين. لكن الميثاق العالمي للأمم المتحدة لا يعكس وجهة نظر الضحية، فهو في واقع الحال يحمي الجناة.. بكلام آخر؛ يحمي الدول التي تسعى إلى الأمن المستدام.

وحتى الآن، فعلت معظم الدول الغربية الشيء ذاته، فوحدت صفوفها خلف إسرائيل ودعمتها. واعتبرت حماس هي المسؤولة الوحيدة عن الصراع الحالي، كما يقولون. وغاب عنهم الاعتراف بالتاريخ الذي أدى إلى هذا الوضع الذي نحن فيه اليوم. فعلى سبيل المثال، معظم الفلسطينيين في قطاع غزة ليسوا من سكان القطاع أصلاً، بل هم  لاجئون من التطهير الصهيوني لقراهم في العام 1948. ولديهم كل المشاعر المشروعة والرغبة في العودة إلى تلك القرى، المدمرة الآن، وهم وحدهم ربما من يتذكر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (الدورة الثالثة) الصادر في 11 أيلول 1948، والذي ينص على أنه “وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم”. كما أن معظم دول الجنوب العالمي لم تنس حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وهم لا يسألون ما إذا كان لإسرائيل الحق في الوجود فقط -وهو السؤال المعتاد في الغرب- بل يسألون أيضاً ما إذا كانت فلسطين لها هذا الحق. ولهذا السبب نراهم حين يستنكرون قتل حماس للمدنيين الإسرائيليين، لا يعتبرون الهجوم “غير مبرر”، مثل معظم الدول الغربية.

لا شك أن هجمات حماس الفظيعة تجعل احتمال العيش بسلام مع جيرانها الإسرائيليين مستحيلاً في الوقت الحالي.

لاحظ مؤرخ القومية اليهودي هانز كون وضعاً مشابهاً لما نحن فيه اليوم عندما غادر فلسطين بعد مذبحة اليهود في الخليل في العام 1929. وفهم العنف، مثل جابوتنسكي، بصفته انتفاضة استعمارية. ولكنه كان يعتقد، على عكس جابوتنسكي، بعدم إمكانية الدفاع عن الاستعمار الصهيوني خلف الجدار الحديدي للجيش البريطاني، لأنه أقيم ضد غالبية السكان العرب وسوف يتسبب في حربٍ استعمارية لا نهاية لها.

إن الأحداث الرهيبة منذ 7 تشرين الأول -وفي الواقع منذ المشروع الصهيوني لإعادة هيكلة فلسطين الانتدابية ديموغرافياً عن طريق الهجرة الجماعية التي بدأت في عشرينيات القرن العشرين- تشهد على وجهة نظره المتبصرة هذه. لقد تحطمت رؤية كوهن لدولة ثنائية القومية في فلسطين بسبب منطق “الجدار الحديدي” للصهاينة الآخرين.

واليوم، يتحدث المفكر السياسي الفلسطيني بشير بشير عن “الثنائية القومية المتساوية” كترتيب عملي يحترم القوميات المستقلة للفلسطينيين والإسرائيليين  ويربطهم في ذات الوقت بنظام سياسي عادل.

ربما قد يعود شبح كوهن يوماً ما. وإلى أن يحين ذلك اليوم، يجب الاعتراف بأن قانون الإبادة الجماعية لا يستنفذ العمليات البغيضة أخلاقياً لحل الأمن الدائم. وما لم تتم مواجهة ظروف انعدام الأمن المستدام هذا، فإن التطلعات والممارسات الأمنية الدائمة ستطارد الفلسطينيين والإسرائيليين بآن معاً.

المصدر: https://www.bostonreview.net/articles/more-than-genocide/

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل الاقتصادية

ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *