تنويه كتبت هذا المقال عام 2016 لم يعجب الكثير من الجهات المستفيدة من حالة التشظي الفلسطيني، والأن أعيد نشرها لأنها نضجت عمليا، وللفائدة.
قد تصبح أوروبا الساحة الكفاحية الأولى للفلسطينيين بعد الوطن المحتل، فيما كانت سوريا هي الساحة الأولى في الشتات، ليس من الناحية العددية بل لجهة التأثر والتأثير في الحدث الفلسطيني، فمنذ النكبة تحرك مركز الثقل الفلسطيني عدة مرات، إلى أن استقر في الوطن المحتل بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وأصبحت باقي الساحات تلعب دور الرديف الكفاحي، خاصة على المستوى السياسي، وقد ارتبطت هذه الحركة بجملة من المعطيات، في مقدمتها الحروب الإسرائيلية والانقسامات العربية والإقليمية، ومن جملتها الأخطاء الفلسطينية، التي لم تخضع للنقد والتدقيق بشكل يحصن الحالة الفلسطينية، ولا يتركها في مهب الريح مع كل متغير أو طارئ. فهل يخرج الفلسطينيون في أوروبا من عباءة الماضي، خاصة أنهم متحررون نسبيا أو قادرون على التحرر من المحاور الإقليمية، التي أنهكت الحالة الفلسطينية وشتت مجهودها الكفاحي، وعلى صخرتها تحطمت الكثير من الأحلام، وضيعت الكثير من الانتصارات التي كانت قابلة للتحقق بفعل التضحيات الفلسطينية الكبيرة. اليوم وبعد التغيير الديمغرافي القسري لخريطة الشتات الفلسطيني، الذي نقل مجموعة كبيرة من الفلسطينيين من العالم العربي إلى أوروبا والأمريكيتين، هل يمتلك الفلسطينيون رؤية جديدة تتناسب مع الواقع الجديد؟
الهجرة القسرية:
دفعت الكارثة الإنسانية التي تعيشها سوريا معظم الفلسطينيين المقيمين فيها نحو الهجرة، حالهم كحال السوريين الفارين من جحيم الحرب، والملاحقة الأمنية وخطر الاعتقال، إذ كان يعيش في سوريا حوالي نصف مليون فلسطيني، غالبيتهم العظمى في مخيم اليرموك، المحاصر منذ سنتين. في البداية اتجهت هذه الهجرة نحو لبنان بشكل رئيسي، ونحو تركيا والأردن، على أمل العودة إلى سوريا بأقرب وقت ممكن، بيد أن تفاقم الأزمة وظروف العيش غير الكريم، رجح خيار الهجرة عبر البحار نحو أوروبا، فاستقرت أرواح المئات منهم في أعماق البحار، في حوادث مأساوية ما زالت مستمرة حتى اليوم، فيما نجح كثيرون في الوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي، بعد معاناة كبيرة وابتزاز شبكات التهريب، ومنهم من تعرض للسجن في أكثر من محطة وأكثر من دولة، خاصة في مصر، لبنان، مقدونيا، تشيكيا، وغيرها من الدول، والحقيقة أن تسارع الأحداث المأساوية في سوريا، حجب الأضواء بشكل نسبي عن الكوارث التي تعرض لها المهاجرون السوريون والفلسطينيون على حد سواء، فكل واحد من هؤلاء قصة قائمة بذاتها، أخشى أن تكون هذه القصص عصية على التوثيق والأرشفة الإعلامية، بوصفها جزءا من تاريخ المأساة السورية.
الفلسطينيون في أوروبا بين الحاضر والماضي:
قبل موجة الهجرة القادمة من سوريا، كان يعيش في أوروبا حوالي ربع مليون فلسطيني، غالبيتهم العظمى تتوزع بين بريطانيا وألمانيا بالدرجة الأولى، ودول اسكندنافية بالدرجة الثانية، ومع صعوبة الإحصاء الدقيق لعدد الوافدين الجدد، من المتوقع تضاعف هذا العدد، ليساوي إلى حد ما عدد الفلسطينيين الذين كانوا يقيمون في سوريا وربما أكثر، إذ ما زال الحبل على الجرار، فالهجرة مستمرة ومعاملات لم الشمل تحضر العشرات يوميا.
تعتبر الجاليات الفلسطينية الموجودة في أوروبا من الجاليات النشيطة، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتحتفظ بنسبة تعليم عالية ومجموعة كبيرة من الجامعيين والأكاديميين، بيد أنها تفتقد إلى التنسيق الفعال فيما بينها، وتعاني من ذات الانقسامات الموجودة في الساحة الفلسطينية، مع وجود هوامش أكبر للخروج من الحالة الفصائلية، حيث تنتظم ضمن جمعيات كثيرة ومتنوعة، منها من يتبع الفصائل الفلسطينية، ومنها من يعمل بشكل مستقل، ويغلب على أنشطتها الطابع الثقافي والاجتماعي، أما على المستوى السياسي فتلتقي عند شعار الحفاظ على حق العودة، والحق يقال أنه بفعل كفاح هذه الجالية إلى جانب الجاليات العربية، تم تغيير الصورة النمطية للصراع العربي الإسرائيلي، فلم تعد إسرائيل هي الضحية، وباتت فلسطين موجودة ومعروفة على المستوى الشعبي والرسمي، وحازت فلسطين على اعترافات متعددة في أوروبا، اهمها الاعتراف السويدي بدولة فلسطين على مستوى الحكومة والبرلمان، فيما اعترفت برلمانات العديد من الدول بالدولة الفلسطينية، أو أنها تدرس مشاريع قوانين بهذا الشأن، وكلها انجازات هامة رغم قصور الدور الأوروبي في ميزان السياسية الدولية الخاصة بالصراع الشرق أوسطي، حيث تم تهميش دورها فيما عرف بالرباعية الدولية، التي انبثقت عنها خطة خارطة الطريق عام 2002/ 2003.
عقبات في طريق وحدة الجالية الفلسطينية في أوروبا:
يجد الكثير من الفلسطينيين الذين قدموا حديثا إلى أوربا صعوبة في الاندماج مع المجموعة الفلسطينية القديمة، ويرى البعض أن مهمة الاندماج مع المجتمعات الأوروبية قد تكون أسهل من الدخول في متاهات الجاليات والجمعيات القديمة، يعود ذلك لعدة أسباب تحتاج إلى نقاش معمق كي لا تتفاقم وتؤدي إلى مزيد من التشظي في الحالة الفلسطينية.
وعلى رأس تلك الأسباب الخلاف في الرؤية حيال ما جرى ويجري في العالم العربي في ظل الربيع العربي، إذ تنظر المكونات الأساسية للجاليات نظرة نمطية تاريخية لما يجري في العالم العربي، معظمها يؤمن بنظرية المؤامرة وغياب الشعوب عن دائرة فعل التغيير، بحكم بعد تلك الجاليات عن الحدث من ناحية جغرافية، وبحكم التجاذبات الإعلامية الكبيرة، إضافة إلى تداخل العوامل الوطنية والقومية مع العوامل الإقليمية والدولية، لذا تغيب الرؤية الموحدة، علاوة عن حالة الانقسام الفلسطينية السابقة لأحداث الربيع العربي، والتي وجدت تعبيراتها أحيانا باختلاف الرؤى من موقع النكايا السياسية لا من موقع الموضوعية.
يمتلك القادمون الجدد رؤية نابعة من الواقع ومعايشة الحدث، وتكسر الأحلام التي ولدت مع بداية الربيع العربي، فمنهم من يحذوه الأمل بفجر عربي جديد، ومنهم من ودع طموحاته وأصيب بالإحباط بسبب المشهد الدموي من جهة، وبسبب عظم الكارثة التي حلت باللاجئين، علاوة عن استشعار الدور غير النزيه على المستوى الدولي والإقليمي، وأخيرا وليس أخرا نجاح الثورة المضادة في مصر، وتشظيات الحالتين اليمنية والليبية، مع ذلك لا يسلم الكثير من القادمون الجدد بنظرية المؤامرة، وهم يعتبرون أن كل ما جرى هو ملك للشعوب رغم كل الاحباطات والتخبطات التي وقعت وما زالت.
تشتمل برامج الجمعيات القائمة على برامج اجتماعية وثقافية وسياسية بحجم الجاليات القديمة، في حين تتسع هموم القادمون الجدد، لتشمل مشاكل من بقي وسط المعاناة من الأسر والعائلات والشعوب، إضافة إلى توق القادم الجديد إلى الانعتاق من سلطة المحاور الإقليمية، في حين لا تستطيع الأطر القديمة التحرر من ذلك، فثمة أزمة برنامجية تحول دون الانصهار التلقائي، تبعا لبرامج الجمعيات القائمة، إذ علت في الآونة الأخيرة الأصوات المنادية بتأسيس جمعيات فلسطينية جديدة، وبالفعل هناك جمعيات قد تأسست، في الوقت الذي تعاني فيه الجمعيات القديمة من أزمة ليس فقط على صعيد التوحد بل على صعيد التنسيق فيما بينها، وهناك أصوات تنادي بضرورة إطلاق حوار مبكر، على الأسس البرنامجية والرؤى السياسية والفكرية، تفاديا للتشظيات والانقسامات المحتملة.
الحوار وسيلة لتفادي الانقسام:
تكتسب الساحة الأوروبية أهمية خاصة، في ظل الواقع الديمغرافي الجديد للفلسطينيين خاصة والعرب عموما، تكبر معها التحديات يوما بعد يوم، وتزداد الأهمية لإطلاق حوار بناء يوحد الرؤى، ويحول دون الانقسام، بهدف الحفاظ على المكتسبات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تحققت، والحيلولة دون وقوع البعض ضحية لأفكار متطرفة مضرة وغير بناءة، إذ لا يصلح مع الواقع الجديد الخطاب التعبوي القديم، الذي لا يأخذ بعين الاعتبار خصوصية الدول من جهة، وتنوع الرؤى لمكونات الجاليات، وتحديد بدقة ما هو المطلوب، سواء على صعيد تقديم صورة نموذجية عن العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية، ومحاربة الصور النمطية التي تتغذى على بعض الأخطاء، تلك الأخطاء التي تحث العنصرية، وتؤجج ثقافة الكراهية، الواقع الجديد يحتاج إلى رؤى جديدة وأدوات جديدة، وأهداف محددة لا تتجاوز قوانين الاتحاد الأوروبي، واحترام المواطنة، والإفادة من الهوامش الديمقراطية بمنحى إيجابي.
شاهد أيضاً
قضية دير مار الياس الكرمل: الديني والسياسي (1)
القسم الأول آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار …