رحلت في 20 / 4 / 2023 سلمى الخضراء الجيوسي عن عمر يقارب الـ 95 عاما ، وآخر مرة التقيت فيها بها في العام 2016 . وكنت التقيت بها أيضا في 2012 ، وذلك بعد لقاء لها موسع مع أدباء الضفة الغربية ، في قاعة بلدية البيرة ، عقدته لها وزارة الثقافة الفلسطينية ، بطلب منها لتناقش معهم جملة من الأسئلة عن الأدب الفلسطيني .
عممت الدكتورة على الحاضرين ورقة تحتوي على أسئلة قالت إنها من وضع مستشرق اسمه ( استيفان ) في دراسة الأدب الفلسطيني ، ولم يسألها أي من الحاضرين عن هويته أو عن آرائه ومواقفه في القضية الفلسطينية . سجلت الدكتورة النقاش على أشرطة ثم افترق الحضور .
بعد أعوام من اللقاء وعلى هامش معرض الكتاب في رام الله اتصلت بي الدكتورة ودعتني إلى العشاء ، ولما سألتها عما آل إليه مشروع المستشرق أجابتني بأنها هي من أنجزت الكتابة ، وللأسف فلم أطلب منها نسخة ، وحتى الآن لم أقرأ دراستها .
كانت الدكتورة يومها في بداية الثمانين ، وعلى الرغم من متاعب جسدها ، حيث كانت حركاتها محسوبة ، إلا أن ذهنها كان صافيا تماما ، فقد كان تركيزها عاليا وكلامها موزونا .
أول رسالة وصلتني منها كانت في صيف 1987 ، وكان دافعها للكتابة هو شروعها في إنجاز مشروع ( بروتا ) – ترجمة الأدب العربي الحديث إلى الإنجليزية – المشروع الذي أسفر عن ترجمة ما لا يقل عن ٤٠ عملا أدبيا ، بالإضافة إلى موسوعات منها موسوعة الأدب الفلسطيني وموسوعة أدب الخليج العربي .
كانت الدكتورة بحاجة إلى فريق عمل وأشخاص تستشيرهم فيما يمكن أن يترجم من أعمال ، فمهما كانت ثقافتها من السعة والشمول ، فلا يمكن أن تحيط بكل ما صدر في العالم العربي وما يستحق الترجمة منه ، ولما كنت أنجزت رسالة ماجستير عن القصة القصيرة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ، فقد كتبت إلي كي أرشح لها قصصا أرى أنها تصلح للترجمة .
يعد مشروع ( بروتا ) من المشاريع المهمة الناجحة لخدمة الأدب العربي والفلسطيني .
بدأت سلمى حياتها شاعرة ، ولكنها لم تواصل كتابة الشعر ، ولو واصلت كتابته لربما حققت مكانة لا تقل عن مكانة فدوى طوقان ، وربما فاقتها ، فهي التي درست في الجامعة الأميركية في بيروت عاشت في وسط ثقافي غني ثري ، وقد تعرفت إلى أبرز رموزه والتقت بهم وحاورتهم ، ولكنها آثرت الانصراف إلى الدراسة الأكاديمية ، وبدلا من أن تواصل كتابة الشعر أخذت تدرسه ، فأنجزت فيه رسالة الدكتوراه ، وواصلت دراسته وتدريسه في الجامعة ، ثم عكفت على ترجمته ، وكانت تنطلق في دراستها من ربط الشعر بالمجتمع والتاريخ ، مستفيدة من منهج ( هيبوليت تين ) الفرنسي الذي درس الأدب الإنجليزي ، وركز على عناصر ثلاثة هي : البيئة والعصر والعرق = المعيش والمشاهد والموروث ، ومن منهج الفرنسي أيضا ( برونتير ) الذي درس المصنف الأدبي في ضوء جنسه الأدبي وفي ضوء مكانته من نتاج الأديب ومن الأدب الوطني والقومي و العالمي ، ومن هنا جاءت دراستها تركز على ” الاتجاهات والحركات ” في الشعر العربي ، وعلى تطور بنية القصيدة العربية في عصورها المختلفة ، واهتمت فوق هذا بحركة الحداثة والشعر الحداثي ، فدرست قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة . لقد أغفلت دراسة شعراء مهمين لأن هناك من هو أهم منهم في تيارهم الشعري ، وحجتها أن مهمة الناقد الأدبي غير مهمة المؤرخ الأدبي ، فالأول يصنف ويميز والثاني يؤرخ ويعدد ويحصي ، وما كتبته يندرج في باب النقد لا التأريخ .
ولأنها عاشت في الغرب فلم تهمل قضية التأثر والتأثير ، وإذا كانت ركزت على العوامل الاجتماعية في نشأة الشعر وتطوره ، فإنها رأت أن هناك عاملا آخر مهما هو تأثير الشعر الغربي على الشعر العربي ، وقد بدا هذا واضحا في دراستها ” بنية القصيدة العربية عبر القرون ؛ المقاومة والتجريب ” التي قدمتها في الحلقة النقدية في مهرجان جرش الثالث عشر 1995 .
والحقيقة أن جهودها في تقديم الأدب العربي إلى الغرب بدأت مع دراستها الشعر العربي لا مع مشروع ترجمته ، وكانت فيها تسعى إلى الكشف عن المنجز الحضاري الإنساني للعرب في العصر الحديث وتقديمه للعالم ، لتغيير تصوراته عن العرب بأنهم شعب بلا ثقافة . ( راجع محمد القضاة ، سلمى الخضراء الجيوسي ونقد الشعر العربي الحديث ، الرؤية والمنهج .
وقد دحضت الدكتورة في دراستها ” بنية القصيدة العربية ” نظرية العرق التي هاجم أنصارها الشعر العربي ولم يعتبروه ، فهو في نظرهم ” شعر أبيات لا شعر قصائد ، مخلع ، متجزئ تجزؤ العقل العربي نفسه ، خطابي ، عاطفي ، يعاني من رتابة كبيرة مملة بسبب أوزانه وشكله الشعري ذي القافية الواحدة ” ( المؤثرات الأجنبية في الشعر العربي المعاصر ، 1995 ، ص 31 ) .
وبقي مشروعها الثاني وهو دراسة الحضارة العربية في الأندلس ، وغالبا ما تحدثت عنه في المقابلات التي أجريت معها ، مثل المقابلة الشهيرة في مجلة ” العربي ” الكويتية ، وفي اللقاءات التلفازية في الفضائيات ذائعة الصيت . تحدثت عنه وعن معاناتها في إنجازه ، إذ خذلها بعض الدارسين العرب بخلاف الدارسين الغربيين الذين قدموا إسهامات قيمة في الكتابة عن الحضارة العربية في الأندلس .
الجدير بالذكر أن أكثر دراساتها المكتوبة بالإنجليزية نقلت إلى اللغة العربية ، وبالتالي توفرت للقارئ العربي الذي لا يتقن اللغة الإنجليزية .
في رحيل سلمى الخضراء الجيوسي خسر الأدب العربي والفلسطيني رافعة مهمة عملت على إيصاله إلى العالمية ، وهنا يجدر التذكير بدورها في تقديم نجيب محفوظ إلى الأكاديمية السويدية للحصول على جائزة نوبل ، وقد تحقق ذلك .
الأربعاء والخميس 3 و 4 /5 / 2023
( ملاحظة : بعد الانتهاء من كتابة المقال عدت إلى مقابلة مع سلمى الخضراء بثتها فضائية الجزيرة في العام2008 ، ضمن برنامج رائدات أدلى مستشرق إنجليزي اسمه استيفان سبيرل شهادة عن علاقته بها وهو يدرس في جامعة في لندن )