اكتشف\ كشف طالبٌ بلجيكيٌّ، في العام 1987، كتابات قديمةً لبول دومان تُظهر أنه كان مؤيدًا للاحتلال الألماني النازي ومتعاونًا معه، وربما “معاديًا للسامية”، أثناء الحرب العالمية الثانية، في بداية الأربعينيات. أثار ذلك الاكتشاف حينها فضيحةً أو ضجةً كبيرةً وجدالاتٍ طويلةً. فدومان – أحد أبرز الأكاديميين ونقاد الأدب آنذاك، والذي كان يوصف بأنه “أبو التفكيك الأمريكي” – لم يتحدث مطلقًا عن تلك الكتابات وذلك التعاون/ التواطؤ مع النازية الألمانية. وقد انتظر كثيرون رد فعل دريدا خصوصًا على هذا الاكتشاف، لكونه “الأب الأكبر للتفكيك” والصديق الأقرب لدومان.
وقد أثار رد فعل دريدا امتعاض كثيرين أو انتقاداتهم من جهةٍ، وإعجاب كثيرين آخرين وإشاداتهم من جهةٍ أخرى. والصيغة الأبرز التي حكمت نص دريدا الطويل (30ألف كلمة تقريبًا) تمثلت في صيغة “من جهةٍ …، من جهةٍ أخرى…”.
وقد جسدت هذه الصيغة أطروحة التفكيك، الدريدي والدوماني، عن الإكراه المزدوج double-bind. وبهذه الصيغة حاول دريدا أن يكون موضوعيًّا ومنصفًا في خصوص جانبين أساسيين من جوانب حياة دومان وشخصيته.
فمن جهةٍ، طرح دريدا كل التساؤلات الممكنة المتعلقة بالظروف التي عاش فيها دومان، والضغوط التي يمكن أن يكون قد تعرض لها آنذاك، والعوامل المختلفة التي يمكن أن تكون قد دفعته إلى ما قام به آنذاك. لكن كل هذه التساؤلات وغيرها لم تمنع دريدا من انتقاد أو إدانة هذا التعاون/ التواطؤ مع الاحتلال الألماني النازي.
,من جهةٍ أخرى، أبرز دريدا شخصية دومان وأفكاره وأفعاله، بعد فترة الحرب التي شهدت التعاون المذكور، وأشاد بإيجابياتها الكثيرة والكبيرة، ورأى فيها محاولةً صامتةً، من دومان، للرد على تجربته في فترة الحرب/ التعاون. خلاصة رأي دريدا هي أنه ينبغي أخذ الجهتين في الحسبان معًا، وعدم اختزال دومان إلى إحدى الجهتين فحسب.
وهذا يعني أننا أمام طرفين نقيضين يفرضان نفسيهما علينا، ولا يسمحان لنا بإقامة الجدل أو التركيب بينهما، وإصدار حكمٍ شاملٍ أحاديٍّ، في خصوصهما، سلبيًّا كان ذلك الحكم أم إيجابيًّا. هذا هو الإكراه المزدوج، بلغة التفكيك الدريدي والدوماني، وهو الإكراه المزدوج للعمى والبصيرة، بلغة دومان، وللسلب والإيجاب، وفقًا للمفهوم العام.
تذكرت قصة دومان وسرد دريدا لهذه القصة، خلال متابعتي لردود فعل سوريين كثر على خبر عودة “مازن حمادة” المفاجئة أو الصادمة إلى سوريا. فليس سهلًا أن يفهم المرء “العودة الطوعية”” إلى “سوريا الأسد”، من قِبَل شخصٍ عانى، معاناةً فظيعةً، من الاعتقال والتعذيب الوحشي في سجونها، وأسهم لاحقًا في فضح هذا التعذيب الممنهج الذي يمارسه النظام الأسدي في تلك السجون. ويمكن الحديث عن ثلاثة أنواع متمايزة من الحقائق أو الوقائع، التي تجسِّد إكراهًا ثلاثيًّا ينبغي أخذه في الحسبان، بكل أبعاده، عند تناول هذه المسألة بالتحليل والتقييم.
من ناحيةٍ أولى، هناك مازن بوصفه معتقلًا وضحيةً من ضحايا نظام الأسد وشاهدًا رسميًّا على جرائمه. وقد قام ﺑ “كل ما بوسعه”، لفضح هذا النظام، والكشف عن حجم الفظائع التي يمارسها في سجونه؛ وقدم شهاداتٍ مهمةً في المحافل الدولية وأمام المؤسسات المختصة والمعنية بهذا الأمر. وبسبب ذلك عانى مازن معاناةً، جسديةً ونفسيةً، كبيرةً، في داخل السجن وخارجه. وقد قدم كثيرون شهاداتهم الشخصية الإيجابية عنه.
ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، أظهر تسجيل فيديو، قديمٌ نسبيًّا، تبنيه مواقف بالغة العنصرية والسلبية والسوء تجاه أكراد “البي كيه كيه” وعوائلهم. ويتضمن الفيديو رد مازن على تصريحٍ مجهولٍ منسوبٍ إلى أحد قيادات الميليشيات المذكورة الذي يهدد فيه العرب، في الرقة ودير الزور، بالقتل والتهجير وما شابه. وفي الرد/ الفيديو، يتهجم “مازن حمادة” على أفراد هذه الميلشيات، وينعتهم بأبشع الصفات النمطية التحقيرية، ويهددهم ﺑ “الدبج (الدعس) على نسوانهم وعجيانهم”، ويدعو إلى “تطيير” (قتل) ألف أو ألف خمسمئة شخصٍ منهم”، “ليكونوا عبرة لمن يعتبر”… إلخ. ولتوضيح هذه الناحية الثانية، والتمهيد لعرض الناحية الثالثة، من الضروري الإشارة إلى أنه لا ينبغي الاقتصار على فهم هذه المواقف العنصرية، البالغة السوء، أخلاقيًّا وسياسيًّا، على أساس التوترات الموجودة بين بعض السوريين العرب وبعض السوريين الأكراد عمومًا، وأولئك المنحدرين منهم من منطقة الجزيرة السورية خصوصًا. بل ينبغي أن نأخذ في الحسبان أيضًا توتر علاقات “مازن حمادة” مع سوريين كثر، من أصدقائه السابقين أو معارفه الذين كانت تربطه بهم علاقة جيدةٌ سابقًا.
وقد ظهر هذا التوتر في عمليات الشتم والتخوين التي قام بها مازن تجاه الكثيرين من هؤلاء الأصدقاء والمعارف، بدون وجود مسوغاتٍ معقولةٍ أو واضحةٍ. وبعض من تعرضوا لهذا الشتم و/ أو التخوين قدموا شهاداتٍ شخصيةً سلبيةً جدًّا عنه.
ومن ناحيةٍ ثالثةٍ، وانطلاقًا جزئيًّا مما سبق ومن الشهادات المذكورة وغيرها، يبدو واضحًا مرجَّحًا أن مازن لم يكن، في “الفترة/ السنوات الأخيرة”، “متوازنًا نفسيًّا”، وكان يعاني بالفعل من اضطرابات وأوضاعٍ نفسيةٍ صعبةٍ. وبدا عدم توازنه المذكور في الاضطراب أو التوتر الذي غلب على الكثير من علاقاته الاجتماعية، وفي استسهاله لإطلاق الاتهامات بالعمالة لمخابرات أجنبية أو سورية، أو توهُّمه ملاحقة تلك المخابرات واضطهادها له، أو اعتقاده بتقصُّد مؤسساتٍ هولنديةٍ أو أوروبيةٍ الإساءة إليه، وعدم التفاعل الإيجابي مع حاجاته ومطالبه. ولعل عودته إلى “أحضان جلاديه” تمثل ذروة اضطراباته النفسية والفكرية والأخلاقية والسياسية.
تركزت ردود فعل سوريين كثر إما على الناحية الأولى وإما على الناحية الثانية، مع أخذ الناحية الثالثة في الحسبان، لدرجةٍ أو لأخرى، أحيانًا. فمن ركز على معاناة مازن في سجون الأسد، وبعد خروجه منها، وعلى العمل المهم الذي قام به في خصوص توثيق هذه المعاناة، وتقديم الشهادات، في شأنها، أمام مؤسساتٍ مهمةٍ، رأى أن معاناة “مازن” السابقة والمستمرة حتى الآن، بأشكالٍ مختلفةٍ، تستحق منا الجميع اهتمامًا خاصًّا وتعاطفًا أكيدًا يستوجب عدم المبالغة في تقييم “مازن حمادة” على أساس فيديو لم يشاهده إلا قلة، ولا يمثِّل إلا خطأً اقترفه نتيجةً لأزمته واضطراباته النفسية، بالدرجة الأولى، ولا يعكس توجهًا سابقًا و”أصيلًا” في فكره وأخلاقياته. ويشير متبنو هذا الموقف إلى أن الفيديو ذاته الذي يتضمن الموقف العنصري لمازن حمادة يتضمن أيضًا تشديدًا منه على وجوب أن تكون سوريا المستقبلية دولةً مدنيةً، ودولة مواطنةٍ، وبلدًا لجميع السوريين، عربًا كانوا أم كردًا، وسنةً كانوا أم علويين أو مسيحيين.. إلخ. فهناك ما يمكن أن يسمح بالقول إن ردود فعله الغاضبة والحاقدة والبالغة السوء خلال المهاترات والتوترات بين بعض من العرب والأكراد، من قاطني الجزيرة السورية خصوصًا، لا تعبر عن موقفه، في هذا الصدد، تعبيرًا كاملًا ومنصفًا.
في المقابل ركز آخرون على موقفه المذكور من “الأكراد/ البي كيه كيه”، ورأوا فيه سقوطًا أو انتحارًا أخلاقيًّا لا يغتفر، ويستوجب ليس عدم التعاطف معه فحسب، بل ويستوجب أيضًا إدانته وإدانة موقفه العنصري وإساءاته، الكثيرة والكبيرة، إدانةً واضحةً وشديدةً، في الوقت نفسه. وذهب بعض متبني هذا الموقف إلى انتقاد كل من أظهر تعاطفًا أو تضامنًا مع “مازن حمادة” واتهامهم بأنهم شركاء لمازن في عنصريته وإساءاته الأخلاقية المعنوية بحق الأكراد وبحق الثورة السورية، التي كان مازن يمثلها تمثيلًا رسميًّا أو رمزيًّا.
على الرغم من ضرورة أخذ وضع مازن النفسي في الحسبان، ينبغي عدم اتخاذ ذلك الوضع ذريعةً لتسويغ كل ما قاله أو فعله، ونفي مشروعية أي انتقاد له في هذا الخصوص. ومن الضروري أن ينتبه من ينفي أهلية مازن ومسؤوليته عن أفعاله و/ أو أقواله، إلى أنه يحرمه بذلك من أي جدارةٍ أو قيمةٍ أخلاقيةٍ إيجابيةٍ. فالحكم الأخلاقي يُعلَّق حين يكون الإنسان فاقدًا للأهلية وللقدرة على تحمل المسؤولية. ولا يمكن حينها الإشادة أخلاقيًّا بمثل هذا الإنسان، أو إدانته.
في المقابل، ليس من الإنصاف اختزال شخصٍ مثل مازن إلى خطابٍ عنصري إجراميٍّ قبيحٍ تبناه في سياق المهاترات بين بعض الأفراد المنحدرين من إثنياتٍ مختلفةٍ في منطقة الجزيرة السورية. وثمة ما يسمح بالتفكير في وجود رابطةٍ قويةٍ بين المهاترات المذكورة والمهاترات التي اتسمت بها علاقة مازن مع الكثيرين من أصدقائه ومعارفه السابقين، بغض النظر عن كل انتماءاتهم الإثنية أو المناطقية أو غيرها.
في مثل هذا السياق، نحن أمام ما يسميه التفكيك “الإكراه المزدوج” المتجسِّد في طرفين متناقضين لا يمكن الاكتفاء بأحدهما ولا الجمع الجدلي المتسق بينهما. ويقودنا هذا الإكراه المزدوج إلى لحظةٍ من عدم الحسم أو اللاقرار، لتجنب أي حكمٍ أحاديٍّ أو اختزاليٍّ، أو أي حكمٍ شموليٍّ يزعم إمكانية التوفيق الجدلي بين قطبي أو أقطاب الإكراه المزدوج أو الثلاثي. وفي مواجهتنا لهذا الإكراه المزدوج، من الضروري العمل على تجنب إعادة إنتاج ما نقوم بإدانته؛ وفي هذا التجنب يكمن أحد معاني التفكيك. فمازن أعاد إنتاج خطابٍ منسوبٍ ﻟ “أحد قيادات البي كيه كيه” يتوعد فيه أبناء دير الزور والرقة بإبادة الصغير قبل الكبير. وبعض ردود الفعل على خطاب مازن تعيد إنتاج هذا الخطاب وقيمه أو مضامينه السلبية.
ومن الضروري العمل على الخروج من هذه الدورة الجهنمية من ردود الفعل السلبية، والسعي إلى إيقاف حالة التنابذ المتزايد بين السوريين المناهضين للاستبداد الأسدي. وإذا استمرت الدورة المذكورة، وتصاعدت عمليات تصيد عثرات الآخرين وأخطائهم، والرد عليهم/ عليها بقطيعةٍ كاملةٍ أو بعثراتٍ وأخطاء بل وخطايا أكبر، قد لا يجد السوريون، في المستقبل، سوريًّا، يتصيدِون عثراته؛ لأنهم سيكونون، على الأرجح، قد أصبحوا فعلًا، كالعبابيد، أي مثل الاحصنة المتفرقة الهائمة على وجهها والذاهبة في اتجاهات مختلفة.
ليس واضحًا متى تضعف قوة النبذ المهيمنة على العلاقات بين السوريين، وتتحول إلى قوة جذبٍ تسمح بتقاربهم وتعاضدهم. ويبدو أن معظم محاولات التقارب بين السوريين تنتهي ليس إلى الفشل فحسب، بل وإلى ازدياد النفور والتنافر بين المبادرين إلى تلك المحاولات والساعين إلى ذلك التقارب.
وفي مثل هذه الأجواء، ربما يكون ضروريًّا استعادة السؤال اللينيني الشهير “ما العمل؟”، ومحاولة الإجابة عنه بتأنٍ يأخذ في الحسبان الإكراهات والمعضلات الكثيرة التي يواجهها السوريون. وفي إطار محاولات الإجابة عن ذلك السؤال، يمكن التفكير في خياراتنا أو “مهامنا السياسية”. فهناك من يرى أن عودة “مازن حمادة” المفاجئة أو الصادمة، إلى “سوريا الأسد”، لم تكن سوى خيار من ليس لديه وعيٌ أو خيارٌ.