قراءة في مجموعة خبز وملح.. تجربة في القصة القصيرة جدا لراضي الضميري

القصة القصيرة جدأ.. هذا النوع من الادب الذي بدأ نجمه يبزغ في الأونه الأخيرة، والذي يقترب كثيراً من اللافتات اليابانية الشعرية المختصرة، ومازال الكثير يحاول التوغل في هذا النوع من الأدب المتأخر، ولكن قل ما تجد العمل الإبداعي بقلم مبدع تصدر مشهد هذا الأدب وأبدع به.. رغم أنه اكتفى بكتاب منشور ونصوص كثيرة غيرها مدفونة .. وجزء لم ينشر ولم يدفن.. شاهداً على راضي ليبقى قيد الضمير مودعاً راضي الى مثواه الأخير.

اقتبست ذات يوم عبارة للصديق راضي الضميري ذات يوم وقمت بنشرها.. ناسباً في نهاية النص العبارة له، دخل راحل أخر ليعلق: ايش أخباره راضي؟!.. فتركتهما يتحاوران بعد أن فرقت الأيام والظروف بينهم فيلتقيان على هذه العبارة المنشورة.. كان هذا هو مدير نشاط الشطرنج في نادي الجليل _ مخيم إربد.. فقد كان راضي لاعب ماهر متمرس في الشطرنج وشارك في العديد من معاركها على الصعيد المحلي والعربي، حاولت أن أعثر على صور من ذلك الراحل ومن أخرين لعب معهم ولكن للأسف.. على ما يبدو أن الذاكرة أيضاً قصفت كل شيئ جميل وبات تحت الردم باحثة عن من يسعفها وينقذها.. ما جعلني أستذكر هذا الحدث هو هذا النص الذي كتبه راضي.. ولربما قصد به نفسه.

تخطيط

جلس أمام رقعة الشطرنج، بخفة اخذ يحرك القطع، يسابق الوقت كي ينفذ مناورة:

يضحي بالجنود، الرّخ، الفيل.

اقترب من الفوز. ثمة ثغرة في جناح الملك،

يفكر، بتفاءل، يتمتم: ربما يكون الخصم غبيّاً ؟

ربما ما سأعرضه في هذا المقال المطَوّل ليس قراءة لهذا الكتاب أو نقداً له، إنما لشريحة كاملة من المسحوقين الذين خنقتهم الحياة، الذين نؤوا بأنفسهم نحو هامش الحياة.. هؤلاء المقهورين قصراً رفاق حنظلة ومن ماتوا ولم يقرعوا جدران الخزان تحت الشمس.. هذه الشريحة تزعّمها راضي.. فيختنق حد الموت وهو يصرخ بصمت.. ويبكي من غير دموع.. ليكون هذا المقال قراءة لراضي وكتابه ورثاءاً له ولكل المقهورين.

يكاد يكون هذا العمل الوحيد المطبوع للراحل راضي الضميري، ولكنه ليس الوحيد الذي كتبه، فلديه العديد من المسرحيات والصفحات التي قرّر دفن جزء منها ووضع شاهد قبر عليها.. قبل أن يشرع في الكتابة بموضوع أخر. ( خبز وملح ) هذا الكتاب الذي أقدم هذه القراءة عنه عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة جداً، هذا النوع من الادب الذي بدأ يفرض نفسه في الساحة الأدبية، باحثاً عن مبدعين يتقنون صياغته، وراضي الضميري كان من الذين أبدعوا في كتابة القصص القصيرة جداً وعلاوة على هذا الكتاب فهناك الكثير من النصوص التي لم يتسنى له نشرها.

القصص القصيرة جداً، نوع من القصص التي لا تتعدى في سياقها جملة في سطر أو عدة أسطر قليلة جداً في أقل من صفحة. طاف بنا راضي في مجموعته التي اختار النقد والسخرية والوجع متوغلاً فيه منزلاً القيح من توغله، تصاحبه الدموع ولربما الضحك في تهكم على وضع بائس وصلنا اليه، أجاد راضي فهمه والتعبير عنه بكوميديا سوداء وعجز عن مجاراته وتطويعه واستيعابه، فكان ضحية من ضحايا هذا البؤس!.

هنا اقتبس جزء مما كتبه د. مسلك ميمون من أغادير- المغرب في مقدمته لهذه المجموعة:

” تلتقط نصوص مجموعة القاص راضي الضميري اللحظة الزمانية الشّاردة بعفوية فنيّة، لحظة عادية ذاتية أو اجتماعية ، أو انسانية ولكنها تُبلوَر في نسق قصصي قصير جداً، فتحمل المتلقي على الدهشة والتأمل والتساؤل وذلك لما يلمس من ترابط لفظي وتماسك دلالي، في اطار لغة تتسم بالوضوح الذي يضمر أكثر مما يبدي ، أقصد المعنى الكامن الذي يتحوّل به المؤلف غريباً كاملاً للتأويل ، والبحث والتخمين والعصف الذهني في نصوص قصيرة تعتمد الجمل القصيرة المشحونة بالإيحاء والتلميح تارة ، والجمل الملغومة بالرمز اللغوي المباشر وغير المباشر والحرص على الاقتضاب والحذف وتنويع صيغ السرد : محاكاة، وأسلبة، وتهجيناً. “

أبدع في ايصال الفكرة، يكاد القارئ يشعر أنه يتكلم عنه أو عن حالة يعرفها، بلهجة فصيحة وسليمة تكاد تشعر انها باللهجة المحكية لشدة وضوح فكرتها وملامستها للواقع بكل تجرد بحيث تبقى الفكرة عالقة محدثة نوع من الذهول عند استعادتها في كل مرة. رغم البؤس الذي عاشه والغبن الذي تعرض له الا أنه كان يعبر بلافتاته العربية القصيرة  أيضاً عن اماله واحلامه، رغم انتهازية هذا العالم الذي ظغت به المصلحة على الحق.. هذا العالم الذي أصبح به راضي وأمثاله في طي النسيان رغم الصراخ والضجيج الذي ملأ به الدنيا.. ولكن من دون ان يسمعه أحد.. وكأنه في واد وباقِ العباد في واد.. هذا الصراخ الذي أيضاً جعل من حياته قصة قصيرة جداً.. ورحل فجاة.. كانت قصة حياته بعنوان “راضي الضميري”!!.

سأعرض الأن عدداً من النصوص (قصص قصيرة جداً) التي كتبها راضي في هذا الكتاب، معلقاً ومقدماً قبل كل قصة قصيرة جداً، علّنا نعيش مع راضي ورفاقه من الذين أصابهم البؤس ولم ينصفهم الأمل الذي تمسكوا به.. فيصبح بيننا وبينهم خبز وملح!.. الخبز والملح عنوان مجموعته هذه وهو نفسه عنوان احدى قصصه القصيرة جداً.. فقد كتب :

 خبز وملح

يا للصدف ما اجملها ،اخيراً عثر عليه، على الفور أرسل له طلب صداقة، جاءه الرد سريعاً. تبادلا التحايا بحرارة، وسارع الأخر بسؤاله عن احواله. طفق يفضفض عما يجيش به صدره، كسابق عهدهما أيام الدراسة الجامعية، وشكا له سوء الظروف…

بعد لحظات ساد هدوء كئيب، ظن أن الشبكة ربما تباطأت كعادتها، لم يدر بخلده أنّه أُضيف الى قائمة النسيان.

*(عُطيل الضميري) كل يوم قبل النوم في عزلته في الصحراء على طريق إربد _ الزرقاء.. قبل وفاته:

مُدان

استعار من المكتبة مسرحية عطيل، قضى يومه في قراءتها حتى داهمه النعاس ، وضعها تحت وسادته، يلتجف بطانيته وهو يتمتم: انا أيضاً لم يكن لدي خيار. 

* نقاتل لأجل حلم ونقف على ناصيته لنقاتل.. فينهرنا الكوكب: ” فلسطيني ممنوع تعيش “:

فلسطيني

سأله من خلف النافذة : هل ما زلت تحلم ؟

_ اكاد أطير.

_سنرى.

… عندما انهى فترة اعتقاله الطويلة، فوجئ به ينقض عليه من الأعلى.

*ينزف هنا راضي دماً ودمعاً على وطنه في مشهد يومي.. لم يجد مُخرجاً وشركة انتاج بحجم الكارثة:

محاكاة

حركة دؤوبة في المعسكر، القائد يتافف بضجر، المخرج يرتشف كأسه بغضب.. في الخيمة كان المنتج يتصبب عرقاً، لاعناً حظه العاثر: كم مرة سنعيد مشهد تحرير القدس؟!

*عندما يموت أصحاب الصوت الحقيقي (راضي ورفاقه).. بلا تامين.. أو حتى ثمن سكر نبات يعيد لهم صوتهم بعد كل مظاهرة:

أبطال من ورق

أطل من شرفته أمسك بالميكروفون ، وأخذ يهدد ويتوعد. الجماهير تحييه بحرارة ، والعسس منتشرون في كل مكان.

خلف النفاذة كان الأطباء في حيرة من امرهم!.. ما زال امامهم يوم واحد فقط كي يعيدوا له صوته!.

*الأمل في شيخوخته.. رغم الشيب.. ومنفى دار المسنين الذي يشبه منفى راضي الأخير.. إلا أنه كان يكتب للأمل ويغني.. “الأمل الأمل”:

نافذة

في عيد ميلاده الستين قرر أن يفتح صفحة جديدة مع الحياة، فهبط من غرفته وفي يده عدة شتلات زهور ، سار نحو الحديقة الملحقة بدار رعاية المسنين.

*ويحه.. ثكلته أمّه.. الله يرحمك ويرحم أيّام زمان:

انفتاح

استفحلت الرغبة في شراييني لحظة رأيتها قادمة من بعيد، لم انتبه لنظرات كانت ترصد سكناتي بكل حنق الا بعد فوات الاوان، حافظت على توازني حين مرت من جانبي، بحنق كانت أمي تترحم على أيام زمان!.

*تحتاج إلى ناقد فذ:

أدب

سأل النقد نصّاً بعيد فوزه في الانتخابات : هل أنت فخور بصاحبك ؟

فتململت الحروف.. وأطرقت علامات الترقيم رأسها لها خجلاً، وانزوى التشكيل في ركن شديد.

*اعادني هذا النص القصير جداً الى نص قصير جداً أخر سابق أيضاً قد كتبه راضي، ولم ينشره في الكتاب ” في المدينة الصناعية.. طفل كادح على صدره يبتسم ميسي “:

استنتاج

_قال لامه بغضب : لن أذهب الى المدرسة ، حتى تشتري لي حذاءاً جديداً .

تلعثمت لكنها طيبت خاطره ووعدته بمناقشة الموضوع مع والده.

الحصة الأخيرة كانت للرياضة وقبيل الإنصراف سقط عليهم صوت كالصاعقة:

_من الغد سوف ياتي كل واحد منكم بحذاء رياضة جديد لونه أسود وشورت وفانيلا لونها احمر، هل كلامي مفهوم؟

عاد إلى البيت: أمي أخبري أبي أنني طردت من المدرسة.

 

*كأنها شيفرة م. كهرباء يعلم طلابه على قانون أوم بنَص شعري، رتّب بها لوان المقاومة الكربونية:

” أسود بني حمر كالبرتقال الأصفر           اخضرت ازرقت بليل كالرماد الأبيض ”  

ربما يكون فك هذه الشيفرة أقل تعقيداً من شيفرة دافنشي.. و شيفرة راضي:

اعتراف

اقتحم احدهم موقعهم ، فك الشيفرة ، وهدد بتخريب أثارهم الحضارية.. فجُنّ جنون ايزابيلا وهرع فيرديناند ليحمي بنفسه أل الاحمر. 

*لم ولن يسمع يا راضي!!:

تجاهل

لم يعد يحتمل الألم، بالكاد استطاع ان يدبر أموره ثم ذهب، ضاربا بعرض الحائط كل ما سيقوله عنه. جلس في غرفة الانتظار، ثم دخل، فتح فمه، بتعالِ سأله:

_ألم تسمع عن اختراع اسمه معجون أسنان؟

رد بأسى:

_هل سمعت عن واقع اسمه فقر مدقع؟        

*ثلاثة راضي .. حين تطوف بالأوطان.. تنادي يازمان الوصل بالأندلس.. فتعانق ثلاثية غرناطة.. تختفي الحرية ويختفي الوطن ويختفي الخبز .. ويبقى الملح ومدنه:

ثلاثية من غضب

(1)

دقق النظر في خارطة الوطن العربي ثم احترق.

(2)

 كتب مقالاً جريئاً عن الحرية، ثم جهز حقيبته، وجلس ينتظرهم.

(3)

سأله المحقق والعصا بيده:

-الخبز أم الوطن؟

رد عليه بهدوء:

 -وما الفرق بينهما؟

*زعيم المعتزلة ” في صومعة الرّخ” في القرن الحادي والعشرين ” راضي ابن عطاء .. أو واصل الضميري “:

حالة

وضع الى جانبه أجمل نصوصه ، وطفق يكتب ثم يمحو ، يلتفت الى نصه الذ نال التقدير والإستحسان فيكتب ثم يمزق .

يضيق نفسه، يتخيل أمامه مقصلة، ترتعد فرائصه، يتجمد.

إنه الأن يفكر جديا باعتزال الكتابة 

*مثل كوكب الشرق.. له المشرق والمغرب.. يطرب من يشاء.. باحثاً عن الأمل في جميع الاتجهات المعاكسة:

حسبة

اتجه بأماله صوب الغرب متفائلاً، ولم يمضِ وقت طويل، حتى وجد نفسه في حفرة عميقة .. توجه الى الشرق متأملاً، فرأى كيانه على شفا منحدر عميق، فحمل كتابه بيمينه، وقرر أن يعيد تنظيم الأمور على طريقته.

*وين كنتِ رايحة يا شرن برن.. عالدكانة رايحة لجبلك بِن!:

صدفة

عادت من المدرسة في غير موعدها. فتحت الباب بحذر. ماكادت تدخل غرفتها، حتى لمحت طيف رجل خرج بسرعة الضوء من الغرفة الأخرى ! زعقت . احتضنتها أمها .. هدات من روعها :

_ هذه مجرد تهيؤات يا بنيتي ، خذي واشتري ما يحلو لك

فيما بعد صارت تفعل ما يحلو لها .

*راضي يتوغل في كل مايشاهده ويسمعه ويقرأه ويلمسه.. أي عالم انتميت اليه وأي ضمير حملت.. رثوا ناجي العلي حين قالوا: “الأرض عندما تتنكر على هيئة إنسان”.. ماذا سيقولون عن ضمير راضي:

فاكهة

” عنب .. رمّان .. تين ” صاح البائع، فقال الطفل لزميله :

_أنظر، يا ألله ما اجملها!

_صدقت ، امي قالت لنا ان هذه فاكهة الجنة،

ثم أردف _ وهما يتابعان طريقهما – قائلاً:

_ لا شك بأن والدينا يأكلان منها الأن

*هي هيك.. الدنيا حظوظ!!:

فلسفة

كلما مرة من حارتها – عند زيارته لصديقه – يجدها واقفة امام مدخل ذلك البيت ، ترتدي نفس الثوب، تبتسم.. فيبادلها الإبتسامة والدنيا لا تكاد تسعه من الفرحة، ويحاول أن يظهر لها كتب الحكمة والفلسفة التي يتأبطها، تتسع ابتسامتها ، فيطير… 

تكررت الزيارات كثيراً ثم انقطعت، بعد ان جاء صديقه ليسترد كتبه، واخبره عن اختفاء فتاة كانت مصابة بمرض نفسي…

*ذهب الذين تحبهم ذهبوا.. فإما ان تكون أو لا تكون.. 

كلب البلدية

كان يسرّ له بما يعتريه من هموم . بحدثه عن أحلامه الكبيرة، وعن فكرة الخلاص. يؤيده :

-علينا أن نركو على قلب الثقب قبل ان يتمدد .

فيشتعل حماساً

-هو ذاك .. نحتاج هواءاً نظيفاً .

مضت الأيام وانقطعت عنه أخباره. راسله فلم يرد. دفعه قلقه عليه للبحث ، فلمحه من بعيد جالساً عن يمين الثقب يعوي، وبين يديه عظمة صغيرة!.

*درجت طرفة عن طموح الموظف في القطاع العام في العالم العربي.. بأن طموحه ان يهرب من دوامه من دون ان يستجوبه مديره على فعلته.. أو أن يلحق بكوب من الشاي في وقت الإستراحة:

*اليوم عندما يأتي حتى ذلك المسؤول .. فالمسؤول الأعلى من المراسل هو من يلتقط الفتات.. الله يرحم زمن المراسلين البرجوازيين من كانوا يجدون مسؤولاً يقتاتون على بقايا طعامه.. لا تعليق!!:

حسرة

بعدما تقاعد.. سأل المراسل زميله عن أسعد اللحظات التي كانت تواجهه في أثناء عمله، بلا تردد اجاب:

_عندما تتعثر معاملة ما لأحد المراجعين …  وأنت؟

_عندما يأتي مسؤول ما الى دائرتنا.

_……………………!.

متنهداً:

_إييييه، كنا نشرب مياه معدنية ونأخذ ما تبقى من حلويات!.

*حفر أمير الأمراء، حفرةً في الصحراء.. كم راء في (ذلك)؟

فاصل ونعود

تجول الضيوف بين لوحات الفنانين المحتفين بالربيع العربي، يستفسرون باقتضاب ويهنئون، ثم توقفوا امام لوحة أثارت انتباههم. سألوا صاحبها، فاجاب: الصخرة التي يفصلها متر عن الخروج من الحفرة هي القدر، والأيدي التي تجاهد لدفعها هي الشعب. قاطعه أحد الضيوف:

_وتلك النقاط التي تشكل دائرة مغلقة في السماء      

_الحمراء أقمار تجسس، والسوداء بقع نفط، اما الصفراء فهم الخدم يا سعادة السفير.

انفض الجمع دون أن يسأل احد عن مغزى وجو مدفع، فوهته مصوبه نحو الحفرة.

*عنما كان غبار الحنين يدخل اللا عينا راضي.. فتدمعان وينزف قلمه:

ذكريات

       بإصرار ظل يركض نحو المبنى حتى وصل، غير عابئ بازيز الطائرات التي ظهرت فجأة في السماء، والقذائف التي انهمرت بقوة. غير بعيد كان هناك من ينتظره ممن أتوا معه لكنهم تراجعوا بعد خرق العدو للهدنة. مضى وقت طويل قبل أن يعود لاهثاً وبين يديه صرة كبيرة، وألبوم فيه أشياء لا يمكن تعويضها.

*مسدس كاتم للحوار:

حوار

أزيز الرصاص يدوي في كل مكان

فجأة سمع طرقات قوية على بابه، أصاغ السمع، تردد قبل أن يفتح، ليجدهم امامه. امطروه بالأسئلة، لكن رصاصة احدهم أردته قتيلاً فور أن وقعت عيناه على مسدس ملقى تحت السرير.. من جملة العاب لم يلتفت اليها أحد.

*بصحتك!!:

تقليد

بعد كل مشهد،

ينناول المخرج زجاجة الويسكي، ويتأفف البطل:

 كم هو متعب تقليد صلاح الدين.  

*يجلس ليحرسهم من هواة الرثاء.. صامد لوحده خلف هذا الدمار العظيم:

فقد

رفع رأسه الى أعلى، أخذ يتنسم عبير الأزهار الفوّاحة، لم يعبأ برائحة البارود التي عمّت ارجاء المكان، ظل جالساً بإصرار على نفس المقعد حيث اجتمعا يوماً، قبل أن يستفحل الداء في ربوع الوطن!.

*رحمك الله ورحم الله نصوصك وسرحياتك التي وضعت شاهداً على قبرها .. ولم تنشر:

ولادة طبيعية

اجتهد في كتابة قصة قصيرة جدا، فرحاً عرضها على احدهم، عاد متجهماً ضّق الصدر. صادف في طريقه مقبرة، حفر حفرة، وضع فيها أوراقه، ثبّت عليها شاهد قبر، تنهد وكتب “لا تصدق كل ما تسمعه”، وعاد ليحفر من جديد.  

*كم منا لم ولن يدري.. طالما هناك من يفكر عنّا ويجرنا من ناصيتنا إلى المسلخ:

قلق

وقف مشدوها لم يدري ما يفعل، فجأة الجميع من حوله يجرون، الشارع يكاد يخلو من المارة، يلتفت من حوله لعله يعرف السبب، أصابه الرعب، بالكاد استطاع ان ينطق ليسأل أحدهم وهو يجري:

_ماذا هناك؟

_لاهثاً:

_لا أدري، أهرب، أهرب.       

*إلى رحمة الله يا ضمير بن عطاء:

منعطفات حادة

جلس قربي عند مدخل الميناء وبيده كتيب. ” إذا قتلت نفسي هل اعتبر كافراً؟” سألني.

قلت: نعم

سألني: “ماذا لو طلبت من أحد أن يقتلني؟”

_………………؟!

اتجه نحو الحاوية، ثم مضى يتأبط حقيبة. تأملت الكتيّب وقد اتسخ كليّاً بالقاذورات، فراودني فرح غريب!.

النصوص التالية ومضات من الكتاب:

لاجئ

نجى من جلاده، ابتلعه البحر.

ثورة

تزينت لحفل زفافها، اغتصبها الشهود.

انتحار

لمّا حصل على جنسية أخرى، نحر ذاكرته.

فوضى

جاء الربيع مبتهجاً، أجهشت الفصول بالبكاء.

كتابة 

راودته فكرة الإنتحار، تشبث بالقلم.        

تائب

أقلع عن شرب الكحول، أثملته جراح أمته.

**تالياً مجموعة من القصص القصيرة جداً التي لم ينشرها راضي الضميري في هذا الكتاب:

عصافير بلا ريش

“قرّرت أن أكون إيجابيًّا، فقمت بشطب كل محطّات الأخبار عن التّلفاز، وحذفت الفيس بوك عن هاتفي الجوّال.

بحثت عن حذائي، عثرت عليه بعد جهد جهيد، استخدمت البصاق، واجتهدت في تلميعه، ثم خرجت.

كنت كلما مشيت بضع خطوات ألتفت من ورائي، فأجد مجموعة من الناس يسيرون وعلى وجوههم تبدو أمارات الغضب والثّورة، تزايدت أعدادهم وأنا في حيرة من أمري، فقد كانت حنجرتي تعاني من آلام حادّة، وبالكاد أستطيع الكلام، إلا أنني قرّرت أن أشارك في المظاهرة، ولم أكد أصرخ “الشّعب يريدفإذا بالشّرطة تقبض عليّ، وكان أوّل سؤال وجّهوه لي: أين القميص والبنطال؟.”

*

وحيد، يخشى القمر، ويبكي لغيابه

*

تجشّأ، هذه حريّة شخصيّة، لكن ليس أمام جائع

*

هناك، في المستشفى الحكومي، تتمنّى أحيانـًا لو كانت لك علاقة حتّى مع سيفون المرحاض المعطّل

*

حتى في أيام العطل، لا يكفّ الدّيك عن الصّياح.

*

قبيل وفاته، أوصى بثيابه للفزّاعة.

*

تينة معمّرة، الشّاب المرح الذي نقش اسم حبيبته عليها، يرقد الآن في قاع المتوسّط

***في النصوص التالية.. راضي الضميري يستشرف موته:

نموت فقراء.

لم نتلوّث بالنّفط،

ولم نساوم على حبرنا.

*

نموت كما نحبّ،

نسمّي الأشياء بأسمائها،

أحيانًا نختبئ خلف المجاز، لا لشيء؛

فقط كي نتعب بال ابن الحرام الذي يراقبنا.

*

نموت كما نشتهي،

على هذه الأرض مشيت كثيرًا، حافيًا، لم تخذلني قدماي، لم تكسرني الهزائم، حتى أنني لم أنزعج حين أوقفوني بتهمة التّطاول على مفتي رأيته يداعب خصية سيّده بلحيته.

*

كلنا سنموت،

كم يحلو الحديث عن الأوغاد، حين يجتمع البرد مع الجوع!

هل اغتسلت بالحليب هذا الصّباح كي تبدو وسيمًا وأنيقًا في صلاة الجمعة؟ كم لا أحسدك!

أيّها الحاجب، أحضر المرآة؛ طويل العمر نسي أن يمسح أحمر الشّفاه الأمريكي عن شلاطيفه…

*

كيف سنموت؟ سؤال قبيح في زمن المراييع.

“نريد قمحًا مستوردًا وخاليًا من الأمراض الوراثيّة” يقول مرياع أخرق في مجلس الحمير المنتخبة بشفافيّة ونزاهة تغار منها بغال الغرب قاطبة.

*

وحتى يحين الأجل، نعيش على أمل في بلاد لو رميت في تربتها حجرًا لأنبتت وردًا، وتكاد الشّعوب تموت جوعًا؛ أليست بلاد العُرب أوطاني؟

بلى، بلى أيّها الأوغاد؛ طال عمركم…

أخر نص كتبه الراحل راضي الضميري.. أخر قصة قصيرة جداً:
” أينما ولّيت وجهك على امتداد هذه الخريطة البائسة من الماء إلى الماء هناك من يشبهك، ودونما حاجة للخوض في التّفاصيل، ستجد من يقضم الألم من قلّة الحيلة، ويتجرّع الأسى خجلاً من أبنائه، ويتوسّد الرّصيف، ويأكل من الحاويات، وستجد من يزايدون عليه في الوطنيّة والشّيطان جالس في حضنهم كتلميذ بليد في مسرحيّة مملّة اسمها (الوطن فوق الجميع(. ”

خاتمة: بما يشبه الرثاء

راضي..  أيها النبيل.. النظيف.. النقي.. الرائع.. الإنسان.. لم أجد مفردات تفيك حقك أكثر من هذه الكلمات البسيطة.. أنت كُلّ هذا، انت كل شيئ جميل.. يا صاحب الضمير الحي.
راضي..
يا ابن المخيم البّار.. مخيم الحصن.. ابن الاحياء التي سميت بلوك.. ابن الوحدات السكنية التي نُمّرت بالأرقام.. أيها الإنسان البسيط.. أيها الشعب الكريم.. العظيم.. أيها المظلوم، بين مبدعي و خلاّقي هذا الزمن سأجعلك خبز قلبي و أجتر من حروفك وصف الأيام.. سأرسمك على صدري مبتسماً راضيَ الضمير أتنفس من ابتسامتك، أفتح بها شبابيك الامل مستشرفاً للزمن القادم بروح ضميرك.. ضميري، لكي يكون ضميري.. راضي.. سأرسمك و أتنفس الضمير الحي بشهيق و زفير كلماتك، وسط كهوف الظلم الأسود التي طمستنا.. ضميرك المبتسم أحق أن يوضع على صدر طفل كادح في المدينة الصناعية بديلا عن (ميسي) و أمثاله من المشاهير!.
راضي..
حظنا العاثر.. للمرة الألف؛ لم يقتل ضميرنا: رغم القتل.. هذا الحظ الذي شبهته ذات يوم بتحايل الفأر على مصيدتك التي نصبتها للمرة الألف..
راضي..
هكذا وصفت تشاؤم كاتب.. “بداعي الهجرة، للبيع؛كتب لم تشفع لصاحبها!!.”
أذكر يوماً بعد ان قرأت نص مسرحي لك، طالبتك بعرضه على فنانين و فرق مسرحية.. فقلت لي: عرضت كثير و لكن للأسف الي مثلي ما بدهم اياه، فأخذت منك ُاحد النصوص و قمتٌ بعرضه على عدة فرق.. و لكن للأسف كما قلت لي.. مافي حدا لا تندهي!!.. فرضيت ان تبقى بالظل و تكتب لنفسك و لمن يشبهك، ليبقى الضمير راضي.. و لكن المرارة و الوجع كان أكبر من أن يتحمله صاحي الضمير.
راضي..
قبل وفاتك كنت أستعد لموعد أخر يجمعنا في مقهى.. كي نلعن قبح المرحلة و نبتسم سويا و نرى جمال الحياة بعيون الضمير.. الضمير الحي الراضي.. منذ عدة أيّام و انا اهدس بك و لم تغب عن بالي لحظة، و احدث نفسي بالإتصال بك لنجلس في مقهى الكمال و على حسابي كما كنت تمازحني.. لكن هذه الحياة الملهاة كان لها رأي أخر فأخذتك على حين غرة بنوبة قلبية لا عالبال ولا عالخاطر,, لكنها أقدار الله.. رحلت انت و بقي ضميرك. الذ لم يشعر به ولا بصاحبه احد.. كشعور سكة حديد في محطة قطار، شعورها بأحد الركاب كان وحده ينتظر القطار.
راضي.. أيها العزيز
ها أنا وحدي أنا و متعبي القلب، و أزقة مخيم الحصن، و كل المظلومين.. نركن في زاوية مهجورة يرقد بها تلفاز قديم.. نتمتم.. سقى الله تلك الأيام.

راضي .. لاعب الشطرنج والكاتب.. واللاجئ المشَحّر، بكل مافي معنى الكلمة من شحار، الذي عاش مغترباً معظم حياته متنقلا بين الجزائر وسوريا إلى أن انتهى به المُقام في الأردن، وعلى تخوم صحرائها شرقاً مختفيا بعد أن ضاق الحال وأصبحت الحياة لاتطاق بسبب ضنكها وبسبب ما تجرعه من مرارة.. عاش الحياة بأملها وانسداد أفقها.. ببؤسها وفرحها بقبحها وجمالها.. ورحل راضياً لضميره.

عن شريف الحاح حسين

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *