1-أميل حبيبي: التأثُّر والتأثير
هذا الصيف أنا مشغول بأميل حبيبي، ولا أدري لماذا مرّت ذكرى وفاته في أيار دون أن أقرأ مقالاً عنه، بل ودون أن أقرأ خبراً عن ندوة أقيمت هنا أو هناك، في هذه المدينة أو تلك. هل ما كتبه أميل حبيبي يقلّ أهمية وقيمة عما كتبه غسان كنفاني أم أن السبب يعود إلى ماضي كل منهما السياسي، وإلى موقع كل منهما وموقفه من الكيان الإسرائيلي؟ وهل لتسلم أميل جائزة الدولة الإسرائيلية صلة بالأمر؟ وأنا أُمعِن النظر في واقعنا الثقافي وفي احتفالاتنا برموزنا تساءلت إن كنا، في آب، سنحتفل بالشاعر محمود درويش، كما احتفلنا بغسان.
هذا الصيف درست لطلبة الماجستير رواية “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” (1974). سأدرس صلة الرواية بالتراث العربي القديم والحديث، وصلتها بالآداب العالمية، وسأذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى أبعد من تأثر أميل بالآداب العربية والعالمية، إذْ سأتساءل إن كان حبيبي ترك أثراً في غيره من الكتّاب. هل هذا بدعة؟
في الأدب العربي دراسات كثيرة عن الأثر الذي تركته أشعار شاعر ما في غيره من الشعراء. بدأت هذه الدراسات بالتوقف أمام ظاهرة السرقات المحمودة والمذمومة، وهي ضرب من تأثر اللاحق بالسابق، بقصد أو بغير قصد، ولم تنته بتأثير قصيدة البوصيري:
أَمِنْ تذكّر جيران بذي سلمٍ مزجتَ دمعاً جرى من مقلة بدمي
لم تنته بتأثير هذه القصيدة في الشعراء اللاحقين في زمنه، فمن قرأ أحمد شوقي أو استمع إلى أم كلثوم ولا يعرف قصيدة شوقي:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلَمِ أَحَلَّ سفكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
ها نحن في الأشهر الحُرُمْ، في رمضان ـ شهر رمضان، لا رمضان كاتب الكلمات في مناسبات. وها هو الدم السوري يسفك في سورية كلّها.
هذا الصيف أنا مشغول بإميل حبيبي، بتأثره بالأدبين؛ العربي والعالمي، وبتأثيره في غيره من الكتّاب.
عدد الطلاب الذين أُدرِّسهم خمسة. هل كانوا قرأوا شيئاً لإميل، من قبل، غير ما قررته على بعض الطلاب في مرحلة البكالوريوس. أنا أدرس إميل في مرحلة البكالوريوس في ثلاث محاضرات أو في خمس محاضرات على أمل أن يقرأه الطلاب فيما بعد، بعد تخرجهم، ولكنهم لا يقرأون إلاّ المقررات، وبعد أن يحصلوا على الشهادة يكفيهم الله شرّ القراءة، فلا يقرأون إلاّ النحو ـ إن قرأوه. هل أظلم الطلاب بقولي هذا؟ وحين أشدد على طلبة الدراسات العليا فيرسب منهم عدد لا بأسَ به، إنما أفعل ذلك لأنهم يواصلون وعودهم لي بأنهم بعد تخرجهم، سيقرأون، وأنا تعلمت من التجربة أنهم يعدون ولا ينفذون.
هل ترك أميل حبيبي أثراً في الرواية العربية والفلسطينية؟ هناك عشرات الدراسات والكتب التي أنجزت عن حبيبي وحياته. دارسون عرب ودارسون فلسطينيون ودارسون من العالم تناولوا ما كتب هذا الكاتب، بل ومنهم من تناول سيرته، فأجاب عن سؤالي: لماذا اهتم بغسان أكثر من الاهتمام بإميل؛ داخل فلسطين وخارجها؟ هل أُحيل إلى كتاب خضر محجز: “إميل حبيبي بين الوهم والحقيقة”؟
أتت الدراسات على تأثر إميل بالمقامات وبالجاحظ وبالقرآن الكريم وبألف ليلة وليلة وبأدب الرحلات وبالشعر العربي القديم، وبالشعر الفلسطيني الحديث، وعد كاتبو هذه الدارسات إميل حبيبي ملك التناصّ في الرواية العربية المعاصرة، لدرجة أن دارساً مغربياً هو سعيد علوش ألّف كتاباً عن حبيبي عنوانه “عنف المتخيل: دراسة في أدب إميل حبيبي” (1986)، أحصى فيه اقتباسات إميل حبيبي وتضميناته، والأخيرة أكثر من الأولى، بل هي الأصحّ. وكتب آخرون، غير سعيد علوش، عن صلته بالتراث العربي، كتب هؤلاء كتابات كثيرة، لدرجة أن اللاحق، أحياناً، أضاف إضافات قليلة إلى السابق، وما تبقى مما كتب كان من باب التكرار ليس أكثر.
وأنا والكاتب أحمد حرب، وأحمد قبلي، كتبنا عن إميل و”كنديد” لـ (فولتير)، ثم كتبت أنا عن إميل و (يا روسلان هاتشيك) صاحب رواية “الجندي الطيب شفيك” وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فأنجزت في العام 2009 بحثاً شاركت فيه في جامعة البتراء عنوانه “إميل حبيبي: نقض الفكر الصهيوني/ إميل حبيبي أديباً ومفكراً” قارنت فيه بين “المتشائل” ورواية (ثيودور هرتسل): “أرض قديمة ـ جديدة”. هل شططت في هذا؟ وسأعرف، مؤخراً، من الكاتب وليد أبو بكر أنه كان كتب مقالات عن تأثر إميل بـ (دون كيشوت) وبـ (الجندي الطيب شفيك)، وسأسأله عن مقالاته ومكان نشرها فلعلنا نفيد منها، غير أنه لم يعد يذكر أين نشرها ومتى وفي أي الصحف؟!
هل أتى الدّارسون على تأثير إميل حبيبي في غيره من الكتاب اللاحقين له؟ ـ أي هل أثر إميل في الرواية العربية والفلسطينية؟ لهذا أنا مشغول بإميل منذ فترة، ولهذا قررت أن أدرسه، صيف هذا العام، لطلبة الدراسات العليا. بمن تأثر إميل وفيمن ترك أثراً؟ من هم الكتّاب الذين تأثر بهم، ومن هم الكتّاب الذين تأثروا به؟
طلاب الدراسات العليا غالباً ما يكون أكثرهم ـ إن لم يكن كلهم ـ طلاباً بكراً ـ أعني أنهم يأتون بلا تجربة في القراءة، فكيف يمكن أن أدرسهم عن تأثير كاتب في غيره، كاتب معاصر في كتّاب معاصرين، روائي في روائيين، وهم لم يقرأوا من الروايات إلاّ ما كان مقرراً عليهم في مرحلة البكالوريوس ـ أي رواية أو روايتين على أكثر تقدير؟ هنا سأعتمد على نفسي ـ قد أتهم لاحقاً بأنني حاج أشغل الطلاب لصالحي.
أنا قارئ لا بأس به، ولا أُبالغ إذا زعمت بأنني واحد من مائة ممن يقرأون في فلسطين باستمرار. ولهذا، وأنا أقرأ، أعرف الأثر الذي تركه كاتب مثل إميل في الرواية العربية، وتحديداً في الرواية الفلسطينية، وهذا ما قلته لطلابي، صيف هذا العام وفي المحاضرات وطلبت منهم أن يتابعوه ـ إن استطاعوا.
سأقترح على الطلاب أن يقرأوا الروايات التالية في ضوء قراءة “المتشائل”: آلام السيد معروف لغائب طعمة فرحات و”حارس المدينة الضائعة” لإبراهيم نصر الله، و”بنات الرياض” لرجاء الصانع. ولن أفاجأ بعد سنوات إن قرأت رسالة دكتوراه في الموضوع.
أنا أُفرّخُ موضوعات لطلبة الدراسات العليا، وهم يتهمونني بأنني حاج. رمضان كريم. هم سيقولون: اللهم إني صائم، وأنا سأقول: اللهم إني مفطر.
2012-07-22
2- إميل حبيبي و(ثيودور هرتسل)
هل قرأ إميل حبيبي رواية (ثيودور هرتسل) “أرض قديمة ـ جديدة” (1903) وكانت روايته “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل” (1974) في جانب منها تدحض ما ورد في رواية (هرتسل)؟ في إحدى المقابلات التي أجريت مع اميل حبيبي قال إنه كتب روايته رداً على مقولات وزير المعارف الإسرائيلي (آيغال ألون) الذي قال بعد حزيران 1967 إنه ليس هناك عرب في فلسطين، ولو كان هناك فلسطينيون وشعب فلسطيني لكان له أدب، وبالتالي فأفضل برهان على عدم وجود شعب فلسطيني هو عدم وجود أدب له.
في روايته “أرض قديمة ـ جديدة” لم ينكر (هرتسل) وجود عرب في فلسطين، فقد كان هؤلاء حاضرين فيها، ممثلين بشخصية رشيد بك الذي رحب باليهود ونشاطهم ورأى فيه إثراء لأهل البلاد، وسيستغرب رشيد بك هذا من تساؤل المسيحي صديق اليهودي ـ أي من تساؤل (كينجز كورت) صديق (فريدريك ليفنبرغ): ألم يتضرر سكان البلاد من المشروع الصهيوني، وسيقول رشيد بك متسائلاً: كيف تعتبر لصاً من يقدم لك يد المساعدة ومن يعطيك؟ لقد أثرانا اليهود. بل وسيذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول إن اليهود سيجلبون الحضارة والخير العميم لسكان فلسطين. بل إن الرواية تحدثت عن وجود الكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب الجامع، ودعت إلى تعايش الأديان. هل كانت رواية (هرتسل) أكثر صدقاً من مقولات (آلون)؟ ولكن ما صلة هذا بالعنوان؟
نقلت رواية (هرتسل) إلى العربية في العام 1968 ـ الطبعة التي أملك صورة عنها ـ وإن كان غسان كنفاني أشار إلى أنها نقلت في العام 1962، وصدرت في حيفا عن دار هاينس دويتش فيرلاغ.
وهذا يرجح ترجيحاً كبيراً أن يكون إميل قرأ الترجمة العربية إن لم يكن قرأ الترجمة العبرية للرواية التي كتبت أصلاً بالألمانية.
حفلت الترجمة العربية الصادرة في العام 1968 عن المجلس الأعلى للآداب والفنون التابع لوزارة المعارف والثقافة/ تل أبيب (دار النشر العربي)، وقد ترجمها (منير حداد)، حفلت بصور لفلسطين ولـ (هرتسل) وأفراد عائلته، صور تعود إلى ما قبل بدء المشروع الصهيوني وأخرى إلى ما بعد إقامة دولة إسرائيل، وغالباً ما كانت الصور توضع جنباً إلى جنب ليظهر المترجم والجهة الداعمة الفرق بين ما كانت عليه فلسطين قبل تأسيس دولة إسرائيل، وما غدت عليه بعد تأسيسها، والمترجم والجهة الداعمة يريدان أن يعززا ما ورد في الرواية. فماذا ورد في الرواية؟
يزور اليهودي (فريدريك ليفنبرغ) وصديقه المسيحي (كنجز كورت) فلسطين في بدايات ق19، ويريانها أرضاً جرداء تكثر فيها المستنقعات والملاريا، ويريان مدنها: يافا وحيفا والقدس مدناً بائسة مثل الشرق البائس المتخلف. فأين هذه البلاد ومدنها من سويسرا والريفيرا الفرنسية؟ وأين سكان هذه البلاد الوحوش من الرجل الأوروبي المتحضر؟ ويتخيل (فريدريك ليفنبرغ) فلسطين بعد عشرين عاماً من سيطرة الحركة الصهيونية عليها، يتخيلها وقد غدت قطعة من أوروبا، بل قطعة من الجنة، الشوارع عبدت وسفلتت، والمستنقعات جففت وتحولت إلى أراض زراعية مونعة ومثمرة، والقطارات الكهربائية أخذت تصل بيروت ودمشق وشرق الأردن، وغور الأردن وقد غدا أرضاً خضراء. ويمتاز أفراد الشعب القادم من أوروبا ـ أي الإسرائيليين الأوائل / الرواد / البيونير ـ يمتازون بروح المبادرة، حتى إن القطارات الكهربائية في فلسطين لتغدو أحدث من تلك الموجودة في أوروبا، ولا تختلف المصانع في الأرض القديمة ـ الجديدة عن المصانع في برلين، فأي تغيير أحدثه اليهود؟ وأية عجائب شهدتها البلاد؟ وأية معجزة تحققت؟ ويقرأ المرء في رواية (هرتسل) عشرات العبارات التي تشيد بمجهودات أبناء الشعب اليهودي والصفوة فيه، فهل راق هذا لإميل حبيبي؟
في العام 1948 أقيمت دولة إسرائيل، وتشرد ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني وأكثر، ولم يبق من الفلسطينيين في قراهم ومدنهم سوى 150,000 مواطن (شرد 650,000 مواطن). واضطر الباقون أن يعملوا في المزارع والمصانع وفي البناء، وبعد هزيمة 1967 انضم إلى هؤلاء عشرات الألوف من عمال الضفة الغربية وقطاع غزة، وازدهر البناء وازدهرت التجارة والزراعة في الدولة الناشئة، فمن الذي بنى الدولة؟ الأيدي العاملة العبرية أم الأيدي العاملة العربية؟ ومن الذي حقق المعجزة التي يتحدث عنها الإسرائيليون؟
في الروايات الصهيونية التي خرجت من معطف “أرض قديمة ـ جديدة” مثل رواية (آرثر كوستلر) “لصوص في الليل” و(ليون أوريس) (أكسودس) يصور العرب على أنهم عجزة كسالى لا يجيدون سوى البكاء، وإذا ما قارن المرء بين المناطق التي غدت تشكل دولة إسرائيل، والمناطق الفلسطينية التي حكمتها مصر والاردن، لاحظ الفرق شاسعاً وردد مقولة عجز العرب وكسلهم ـ كما تذهب الروايات الصهيونية، وكما يخدع المرء للوهلة الأولى ـ ، فماذا رأى اميل حبيبي في روايته “المتشائل”؟
في أكثر من موطن من مواطن روايته يأتي اميل على هذا الجانب، لا ليقر به، بل ليدحضه، وهكذا يحضر في روايته الخطاب الصهيوني كما يحضر نقيضه، أيضاً، فالرواية تحفل بشخصيات إسرائيلية يهودية صهيونية وبشخصيات عربية. حتى الشخصيات العربية التي تخدم الدولة العبرية وتتعاون معها، مثل شخصية سعيد بطل الرواية، لا يروق لها الخطاب الصهيوني، بل إنها تسخر منه وتتهكم على أصحابه، لأن لها رأياً آخر يقول عكس ما تقوله الرواية الصهيونية.
في الرسالة الرابعة من الكتاب الثاني “باقية” من “المتشائل” يتساءل سعيد: “فمن شيد المباني الشاهقة في هذه البلاد، وشق طرقها العريضة، وزفتها وأحكم الاستحكامات، وحفر الملاجئ، ومن زرع القطن، ثم جناه، ثم حلجه..” و”من شيد المباني وشق الطرقات وحرث الأرض وزرعها، في إسرائيل، غير العرب الباقية في إسرائيل؟ فالعرب الباقية، صبرا، فيما احتلته دولتنا من أرضٍ لهم لم يجد لها أحمد الشقيري متسعاً في ملفات خطبه الرنانة… إلخ.
وفي الرسالة الثالثة من الكتاب الثالث “يعاد الثانية” يزعم رجل المخابرات الصهيوني أن من كبار اليهود في دولة إسرائيل من يعتقد أن الدولة تعامل العرب داخل السجون معاملة أفضل منها خارج السجون وأن هؤلاء الكبار “موقنون أننا بذلك نشجعهم على الاستمرار في مقاومة رسالتنا الحضارية في المناطق الجديدة….”.
وسيفخر الرجل الإسرائيلي بما أنجزه الإسرائيليون: “الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان، أحيينا الموات وأمتنا الحيات (وكان يعني الأفاعي)، ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم “الخط الأخضر” مما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدينة”.
وسيكتشف سعيد زيف ادعاءات الرجل الإسرائيلي حين يقيم في قرية عربية يعمل سكانها في أحد الكيبوتسات، فما إن تحاصر القرية وما إن يمنع سكانها من الخروج للعمل، حتى يتوسط أهل الكيبوتس لهم ليفك عنهم الطوق فالأراضي “تتوق إلى أيادينا الماهرة، فيتوسطون لفك الطوق، فنعود إلى العمل في حقولهم..” وهنا يعقب سعيد : “فالخضرة نبت سواعدكم، إذن، لا كما ادّعى الرجل الكبير، كأن اميل بهذا ينقض الرواية الصهيونية من أساسها. حقاً هل كانت رواية (هرتسل) من قراءات إميل حبيبي؟.
2013-08-04
3- كما في حياته هو في مماته يشعل النار فينا وينام ملء جفونه
أثارت الحلقة التي بثتها فضائية “الميادين” عن الكاتب الراحل إميل حبيبي تحت عنوان “في الهوامش” جدلاً عنيفاً بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه ومع أطروحاته السياسية الأيديولوجية.
كما لو أن إميل حبيبي قال ما قاله المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها / ويسهر القوم جراها ويختصم
ولقد نام في 1996 نومته الأبدية ملء جفونه وترك الآخرين يختصمون ويتجادلون، كما اختصموا وتجادلوا في حياته وكان يومها لا ينام. كان يصحو ويتدخل في الجدال ويشارك فيه ولم يكن يومها ليأخذ ببيت المتنبي ولم يكن أيضاً يأخذ بمقولة نظرية التلقي التي التفتت إلى القارئ ولم تلتفت إلى المؤلف. غدا أصحاب هذه النظرية يرددون “المعنى في بطن القارئ” خلافاً لمن سبقهم ممن كان يرى أن المعنى في بطن المؤلف. كما لو أنهم أخذوا بمقولة رولان بارت “موت المؤلف“.
مرة تدخّل إميل حبيبي في إبداء رأيه في بعض نصوصه. سئل إن كان قصد معنى ما فأجاب: لم يخطر المعنى ببالي ولكن أظن أنه ممكن، وهنا طلب منه بعض قرائه ألا يفسر نصوصه وأن يترك تأويلها للنقاد.
ليس تسلم إميل حبيبي جائزة الدولة العبرية هو العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين، وليس ميله إلى جناح غورباتشوف أيضاً العامل الوحيد الذي ألب عليه كثيرين مثل رفيقه في الحزب توفيق زياد الذي هاجم إميل بقصيدة عنيفة عنوانها ”المرتد”، نشرها في ديوانه «أنا من هذي المدينة».
بعد تسلمه الجائزة كتب فيصل دراج في كتابه «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية»، 1996، مقالاً عن حبيبي عنوانه “إميل حبيبي الوجه الضائع بين الأقنعة المتعددة” تساءل فيه عن تقلبات الرجل واختلاف مواقفه.
وقبل دراج وبعد زياد كتب سميح القاسم عن إميل ما لم يخطر ببال أحد.
اختلف رفيقا الأمس لربع قرن تقريباً وتركا الحزب وسار كل في طريق وأشار سميح إلى ما حدّثه عنه إميل عن سفره إلى براغ لتسهيل صفقة سلاح للدولة الإسرائيلية، وحول هذه الصفقة دار جدل كبير لم يقعد ولم ينته ووصلت الأمور إلى حد الاتهام بالعمالة/الخيانة.
قبل سميح القاسم وتوفيق زياد كان الخلاف الكبير بين إميل حبيبي والشاعر راشد حسين، وقد اعتمد د.خضر محجز في رسالة الدكتوراه «إميل حبيبي بين الوهم والواقع» على كتابات خصوم حبيبي وتتبعها بدقة شبه متناهية ولم تكن صورة إميل في الكتاب الذي صدر في العقد الأول من القرن الحالي إيجابية. إنه كتاب أثار أيضاً ضجة كبيرة بين محبي الرجل المتبنين أفكاره ورؤاه وبين الذين يختلفون معه.
لم يكن التشكيك بإميل حبيبي واتهامه قبل التسعينيات عنيفاً وكبيراً كما غدا بعد انشقاقه عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وتسلمه جائزة الدولة العبرية. بعد هذين الحدثين اختلفت الأمور كثيراً ولم يعد الحزب وصحافته يدافعان عن إميل، وعلى العكس من ذلك أخذا يهاجمانه هجوماً عنيفاً وتشابه موقفهما مع مواقف من هاجم الرجل من قبل منذ الخمسينيات.
لعل ما مد مهاجمي إميل بمسوّغات أخرى إضافية إقراره في آخر لقاء أجري معه ونشر في مجلته «مشارف» أنه حين كتب روايته «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» عام 1974، كان يكتب عن نفسه.
قبل الإقرار أشار في المقدمة التي كتبها لكتاب «الرسائل» بين محمود درويش وسميح القاسم أنه كان يكتب الرسائل إلى نفسه. وقوله هذا لم يلفت نظر النقاد إلى إعادة قراءة المتشائل في ضوء هذه العبارة الدالة.
في بداية التسعينيات نشرتُ دراسة في جريدة «نابلس» وازنت فيها بين إميل وبطله سعيد ورأيت أن سعيداً يشبه إميل. لم يعترض الرجل وبلغت به الجرأة أنه وافق على نشر الدراسة في مجلته. حقاً لقد اندهشت مما فعله، وبعد ثلاثة أشهر من نشر الدراسة نُشرت المقابلة التي أقر فيها بأنه حين كتب روايته كان يكتب عن نفسه “أنا في عمر لا يسمح لي بالكذب، حين كتبت المتشائل كنت أكتب عن نفسي“ (ببعض اختلاف).
بطل رواية إميل بطل متعاون قدم خدمات للدولة الإسرائيلية ثم توقف وقرر أن يبيع البطيخ على التعاون وحين هدده رجل المخابرات بأنه سيكشف أمره أمام أبناء شعبه صاح سعيد وقال لرجل المخابرات: أعطني شهادة بتعاوني معكم وسأعلقها على العريشة“.
إشكالية عودة إميل إلى فلسطين بعد قيام الدولة العبرية كانت أيضاً عاملاً من العوامل التي اعتمد عليها أعداؤه للنيل منه وللتشكيك في وطنيته، عدا اختلاف الرؤى والموقع والموقف.
هل عاد إميل بشروط اسرائيلية؟ وما هي هذه الشروط؟
في هذه الأثناء صدر كتاب هلل كوهين «العرب الصالحون» ويبدو المؤلف شيوعياً يتبنى وجهة نظر الشيوعيين أكثر مما يتبنى وجهة نظر معارضيهم. يدافع كوهين في مواطن عديدة عن ”الحزب الشيوعي الإسرائيلي“ وطروحاته أمام طروحات بعض التيارات القومية والزيارات الموالية للحزب الصهيوني الحاكم ما بين 1948 و1967، ويأتي على عودة ما لا يقل عن 20 ألف فلسطيني تسللاً أو بتصاريح -وقد عاد إميل متسللاً وأتى في «المتشائل» على عودته- ويرى كوهين أن كثيرين من هؤلاء العائدين وافقوا على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية مقابل السماح لهم بالبقاء.
سعيد أبو النحس المتشائل يقر في الرواية بتعاونه مقابل البقاء. والسؤال هو: هل كل ما كتبه إميل عن سعيد حدث معه أم أن سعيد كان يجمع بين ما حدث مع إميل وما قام به غيره من العائدين تسللا؟ للدكتور عادل منّاع كتاب صدر من عامين أتى فيه على سيرة إميل حبيبي وما أورده لم يكن لصالح إميل. لعل ما كتبه منّاع يستحق وحده مقالة خاصة.
منشورة في:
إميل حبيبي من وحي الأيام
عن موقع رمان
(تم النشر بإذن من الكاتب)