موتيفات وأفكار في الأدب: سؤال الهوية في الرواية العربية

قبل الحديث عن سؤال الهوية في الرواية العربية لا بد من الخوض في هوية الرواية العربية ، فماذا نعني بالرواية العربية؟

هل الرواية العربية هي النتاج الذي صدر باللغة العربية ،في العالم العربي ، من محيطه إلى خليجه ؟

هل هي الرواية التي كتبها روائيون عرب في العالم العربي ؟

في تحديد هوية أدب ما يعتمد الدارسون على معايير عديدة منها معيار اللغة ومعيار المكان ، ومعيار الهوية السياسية والمعيار الديني والفكري .

إذا قصرنا الموضوع على اللغة فإن إشكالين ، وربما أكثر ، سيقفان أمامنا ؛ الأول : وماذا عن الروائيين العرب الذين يقيمون في أماكن شتى من هذه المعمورة ، ويكتبون بلغات أخرى غير العربية ، كالفرنسية والانجليزية والألمانية والإسبانية ؟ بل وماذا سيكون موقفنا من روائيين عرب فلسطينيين أخذوا يكتبون بالعبرية ؟

والثاني : ماذا عن أجانب ليسوا من أصول عربية يكتبون بالعربية ؟ وربما نذهب إلى إلى ما هو أبعد من ذلك فنتساءل عن أدباء ولدوا من زواج مختلط وأخذوا يكتبون بلغتين إحداهما العربية ؟

ما من أحد منا لا يعرف روائيين كتبوا بلغات أخرى غير العربية ، وخاضوا في موضوعات تمس عصب الحياة العربية وسؤال الهوية فيها . من أمين معلوف ورفيق شامي ، وجبرا ابراهيم جبرا من قبل ، وليس اننهاء بانطون شماس وغيره . فهل ندرج روايات هؤلاء ضمن الرواية العربية ؟

إن قلنا : نعم ، فأنا لست مؤهلا للخوض في الموضوع ، لأنني لا أجيد اللغات الأجنبية التي تعلمتها لأقرأ النصوص المكتوبة فيها بدقة متناهية لا توقعني في سوء القراءة ، ثم إنني لا أعرف الفرنسية والإسبانية و .. و .. ولا أظن أن هناك دارسا عربيا مؤهلا للحديث في الموضوع . هنا لا بد من فريق عمل ينجز كل دارس فيه بحثا يقتصر على اللغة أو اللغتين اللتين يتقنهما .

وإذا ما اعتمدنا معيار المكان وقصرنا الدراسة على الروائيين العرب الذين يقيمون في العالم العربي ، فإننا نجد أنفسنا في ورطة حين يثار السؤال التالي : وماذا عن الروائيين العرب الذين يقيمون في أماكن أخرى خارج العالم العربي ، وهم في العقود الأخيرة ، والحمد لله ، في تزايد مستمر ؟

سنان أنطون وإنعام كجه جي العراقيان ، وعبد الله مكسور السوري ، وربعي المدهون الفلسطيني ؟ هؤلاء من أصول عربية ، وقضوا شطرا من حياتهم في العالم العربي ، ثم أجبرتهم الظروف أن يرحلوا إلى الغرب ، وهناك كتبوا رواياتهم أكثرها ، بل إن قسما منهم حصل على جنسية البلد الجديد وأخذ يفخر بهذا ، والطريف أنه برواياته التي كتبها في الغرب وهو يحمل الجنسية الفرنسية أو البريطانية او .. حصل على جائزة الرواية العربية ، أو وصلت روايته إلى القائمة القصيرة للجائزة ؟

إن سؤال الهوية في روايتي أنعام كجه جي ” الحفيدة الأميركية ” ( 2009) و ” طشاري ” ( 2013) حاضر حضورا لافتا ، فالفتاة زينة التي ولدت في العراق وهاجرت منه عادت إليه بزي الجيش الأميركي ، بل وبزي عسكري ، إذ عملت مترجمة للضباط الأميركيين . وفي ” طشاري ” يثار السؤال الآتي : من هو العراقي ؟ بخاصة بعد التحولات التي طرأت على المجتمع العراقي وفتتته إلى طوائف ، اضطر بعضها إلى مغادرة العراق والإقامة في دول غربية والحصول علي جنسيتها .

لم تكن د . وردية اسكندر في 60و 70ق20 ، وحتى سقوط بغداد في 2003تشعر بأنها مسيحية بالدرجة الأولى . كانت ترى نفسها عراقية وكانت تشارك العراقيين الأخرين أفراحهم وأتراحهم وتدخل إلى بيوتهم في المناسبات الدينية الخاصة بهذه الجماعة أو تلك ، وكانت هي بدورها تدعوهم الى بيتها . بل إنها كانت لا ترى في العرب القادمين إلى العراق غرباء ، ولقد عاشت مع هؤلاء حياة طبيعية عادية ، ثم اختلفت الأحوال بعد الغزو الأميركي ، فتقوقعت كل طائفة على نفسها ، وبدأت الطائفية تقوى وتتغول ، حتى وجدت د . وردية نفسها ، تغادر العراق إلى فرنسا وتستقبل هناك على أنها مسيحية لا عراقية .

لا أظن أن ما سبق هو ما خطر بذهن منظمي مؤتمر السرد هذا ، ويخيل إلي أن ما خطر بأذهانهم هو سؤال آخر ، وربما أسئلة ، يدور على ألسنة الشخصيات الروائية حول انتمائها .

هل يمكن الكتابة عن رواية عربية في زمن القطريات ؟

غالبا ما أخذت الدراسات النقدية ، منذ عقود ، تدرس الأدب العربي اعتمادا على القطر الذي تنتمي اليه ، فهناك الآن كتابة عن رواية مصرية او رواية فلسطينية أو رواية أردنية أو رواية خليجية او رواية جزائرية ….. الخ … الخ .

وغالبا ما يكتفي أصحاب هذه الدراسات بقصرها على أدبهم الوطني ، وغالبا ما ينسبون الروائي إلى بلده الذي يحمل هويته السياسية ، وربما ما يساعدهم على هذا التوجه أن الروائي يعالج في نصوصه قضاياه المحلية وهموم بلده . هل يمكن هنا الحديث عن رواية عربية ؟

إن المعيار اللغوي يتراجع لصالح المعيار السياسي ، والمشروع القومي الذي حاوله محمد علي ، وأراد جمال عبد الناصر مواصلته ، أخفق مع هزيمة حزيران 1967، ومع بداية الحديث عن الدولة الوطنية والقرار الوطني وسيادة شعارات مثل ” نابلس أولا ” ومن قبل م . ت . ف هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني .

ليس غريبا ، والحالة هذه ، أن يثار سؤال الهوية على أساس وطني/ قطري ، وكان الشاعر مظفر النواب هجا حزب البعث لأنه الحق بدال العربي دالا آخر يعبر عن قطرية الحزب :

” قالوا بالوحدة وأضافوا القطرية ذيلا قبليا ” .

يتجسد هذا السؤال في روايات عربية عديدة ، تعد رواية الكاتب سعود السنعوسي ” ساق البامبو ” واحدة منها ، ولعلني أجد وقتا للحديث عنها .

وماذا عن أدباء يساريين ؟

منذ 50ق 20بدأ الأدب ذو التوجه الاشتراكي ، في العديد من البلدان العربية ، يبرز بروزا لافتا ، في لبنان وسورية ومصر والعراق وفلسطين ، وحفلت روايات عديدة بشخصيات رئيسة وثانوية تتبنى الأطروحات الماركسية وتدعو لها ، وهذه الشخصيات تنظر إلى الهوية من منظور مختلف يقوم على أساس الصراع الطبقي . إن الهوية الوطنية او القومية تتراجع ، ولو جزئيا ، لتحل محلها ، أو لتعلو عليها ، الهوية ذات البعد الأممي . يدعو الكاتب هنا ويناضل من أجل مجتمع إنساني بالدرجة الأولى ، حتى في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي يقوم أساسا بين قوميتين على الأرض قرأنا نصوصا لأدباء ذهبوا إلى أن الصراع في عمقه هو صراع طبقي ، ويمكن هنا الإشارة إلى بعض روايات أفنان القاسم ” المسار ” وسميح القاسم ” إلى الجحيم أيها الليلك “.

هل نتحدث هنا عن هوية عربية او فلسطينية ؟

الأدب الاسلامي : هوية عربية أم وطنية أم إسلامية ؟

مع بداية ثورة الخميني بدأ المد الاسلامي . وربما قبل ذلك بقليل .

ومع بروز حماس وميل صدام إلى التدين حين أغلق الخمارات وكتب على العلم عبارة ” لا إلاه إلا الله ” بدأ هذا المد يزداد ويقوى .

إن متابع بعض كتب النقد الأدبي الصادرة مع بدايات 90ق 20سيلحظ بروز مصطلح ” الأدب الإسلامي ” بل ويقرأ عناوين كتب عن المناهج النقدية الحديثة من وجهة نظر إسلامية . هذا يعني الحديث عن هوية إسلامية للأدب المكتوب باللغة العربية . هل تتقدم الهوية الدينية على الهوية القومية .

في الرواية العربية ستكتب روايات ذات توجه إسلامي من أدباء توجههم إسلامي ، وهم يكتبون بالعربية ، مثل وليد الهودلي من فلسطين وأيمن العتوم من الأردن .

هنا سأتوقف أمام نماذج روائية عربية تساءلت بعض شخصياتها عن هويتها .

.

– سؤال الهوية في نماذج روائية :

غسان كنفاني ” عائد إلى حيفا ” ( 1969)

” الإنسان في نهاية الأمر قضية ” يقول سعيد . س بعد أن التقى بابنه خلدون ( دوف ) وتجادل معه وطلب منه أن يعود إليه ، فآثر الابن أن يظل مع والديه اللذين ربياه ، ورفض منطق الأبوين اللذين تخليا عنه .

هل كان لرواية ” عائد إلى حيفا ” تأثير في رواية إميل حبيبي ” المتشائل ” ؟

إميل حبيبي ” الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد … ” ( 1974)

لا يختلف سعيد المتشائل عن سعيد . س حين يرفض كلاهما أن يلتحق ولاء وخالد بالمقاومة ، ثم يتوصلان إلى رأي مغاير ، بحكم التجربة . فبعد حوار سعيد . س مع خلدون يتمنى الأب أن يلتحق ابنه الثاني بالمقاومة ، وحين يسجن المتشائل ويلتقي ، في السجن ، بالفدائي سعيد ، يشعر أنه كبش ومقيم ، ويحتار في هويته .

إن سؤال الهوية في ” المتشائل ” سؤال مركزي ومحوري .. يعرف الفدائي على نفسه : ” فدائي و لاجيء ” ويسأل : ” وأنت ؟ ” فيجيب المتشائل : ” فتحيرت في هويتي كيف انتسب أمام هذا الجلال المسجى الذي حين يتكلم لا يئن ، ويتكلم حتى لا يئن . هل أقول له إنني كبش ومقيم ؟ أم أقول له إنني دخلت إلى بلاطكم زحفا ؟ ” – أي السجن . ( ص172 من طبعة حيفا ، 1985) .

هل سعيد المتشائل فلسطيني أم إسرائيلي ، هو المتعاون مع سلطات الاحتلال ؟

ممدوح عدوان ” أعدائي ” ( 2000)

سيكون سؤال الهوية في رواية ممدوح عدوان ” أعدائي ” ( 2000) سؤالا محوريا أيضا . والرواية التي يعود زمنها الروائي إلى الحرب العالمية الأولى لا تخلو من اسقاطات معاصرة ، فقد أقر كاتبها في لقاء معه نشر في مجلة ” الكرمل ” ( عدد 68صيف 2001) إنه حين كتب عن تجربة ابراهيم كان يسقط تجربته هو على بطله ، فلماذا لا يسقط بعض أسئلته على لسان بعض شخوص روايته ، فيما يخص الهوية ؟

لقد عالجت السؤال في رواية ” أعدائي ” معالجة مفصلة في كتابي ” اليهود في الرواية العربية ” ( 2012، ص57 وما بعدها ) ، ويمكن أن يتوقف المرء أمام فقرتين دالتين في ص 340، 480، فالعرب عربان والمسلمون قسمان وأكثر ، وهؤلاء كلهم في حالة حرب مع بعضهم .

” لم يبق أمامنا إلا أن نفكر بأننا عرب يجب أن نحمي هذه الأرض من الإنكليز واليهود والأتراك . والله العظيم نحس أننا دائخون لا نفهم ما يجري . يا ليتها كانت حربا صليبية . كنا فهمناها . مسيحيون ضد إسلام . اوروبيون ضد مشرقيين . كانت سهلة . ولكن مسلمون وانكليز وفرنسيون يهاجموننا ومسلمون وألمان يدافعون عنا . عرب في الجيش الانكليزي وفي جيش الشريف يهاجموننا . وعرب في الجيش العثماني يقاومونهم . خليفة المسلمين في اسطمبول يعلن الجهاد المقدس باسم الإسلام . والشريف حسين سليل الرسول ، يعلن الجهاد ضد العثمانيين الكفرة . حتى اليهود لم نعد نستطيع ان نفهمهم . يهود يتبرعون للجيش العثماني ويدعون إلى التطوع فيه ويهود يتجسسون لصالح الإنكليز ضد العثمانيين ……. ” ( ص 340) .

ويكتب عدوان عن التباس هويات حين يأتي على الختان و مواعين الزلم .

” تصور أن كل إنسان تصير هويته في مواعينه . طيب . شلنا من الضحك . هذه وحدها ألا تستحق مني أن أظل متشبثا بك ؟ ليس لكي أوصلك إلى حبل المشنقة فقط ، بل أن امشي بك بعد هذا الشنق لأضمن بيدي دخولك إلى جهنم . تقول لي إن المسلمين نزعوا الطبخة عليكم لأنهم يختنون مثلكم ، وبالتالي قد يغلط الأجداد . وما الحل ؟ إما أن يظل اليهود معزولين في الغيتو ، إذا ظلوا ضعفاء ، فيضمنون عدم اختلاطهم بغيرهم ، ويزداد الغيتو انغلاقا إذا كان داخل المجتمعات الإسلامية لأنه سيصير هناك التباس هويات من خلال تشابه مواعين الزلم . وإما أن يصير اليهود أقوياء فيقتلون كل مسلم في الدنيا . يعني على حسب خرافيتك هذه لا عدو لكم إلا نحن . طيب . قبلت . ولذلك ، أو بدون ذلك ، أنا أعتبرك عدوي وعدو شعبي وعدو ديني ثم عدو جنسي البشري كله ، الذي ترى نفسك أفضل منه . وترى أنك ستنقله من الهمجية إلى الحضارة. ” ( 480) .

إن حيرة بطله عارف هي حيرته هو ، ولو ظل على قيد الحياة وتابع ما يجري في سورية والعراق لغرق في الحيرة .

جبور الدويهي “شريد المنازل” (2009)

في رواية جبور الدويهي “شريد المنازل ” ( 2010) يعاني بطلها نظام العلمي الأمرين . الطفل المسلم الذي يتربى في أسرة مسيحية ، يوم كان المسلمون والمسيحيون سمنا على عسل ، يقع ضحية ولادته وتربيته والحرب الأهلية .

أيضا الختان له حضوره هنا . يعرف نظام أنه مسلم ، حين يقع بأيدي الكتائبيين ، من ماعونه ، علما بأنه يمتلك هوية مسيحية ، وحين تقع هذه الهوية التي يغدو فيها جوزيف صافي بأيدي القوات الوطنية يقتل عليها مع أنه مختون . وتبلغ المأساة قمتها حين لا يعترف به أخواه ويرفضان أن يشارك معهما في جنازة أبيه محمود العلمي . إن مأساة نظام مبكية حقا .

الرواية التي تأتي على تغيرات المجتمع اللبناني بسبب الحرب لا تغفل تمثيل تيارات سياسية هويتها لا تنبني على معايير دينية أو طائفية . إن خلية فرج الحلو الشيوعية لا تلتفت إلى الدين باعتباره معيارا يحدد الهوية ، فهي تضم أفرادا من طوائف دينية مختلفة ، بل إنها لا تكترث للمعيار القومي ، إذ يجتمع معها أساتذة جامعة قدموا من أميركا ، ورأوا في اجتماع أفراد هذه الخلية صورة لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع اللبناني . يندمج نظام في أفراد هذه الخلية التي ضمت أيضا يهوديا لبنانيا ، ويعطي كل فرد من أفرادها مفتاحا لشقته ، غير مكترث إطلاقا للطائفة التي انحدر منها . إن هوية الإنسان هنا يحددها انتماؤه للفكر الذي ينتمي إليه وهو الفكر الماركسي الذي يرى في الصراع صراعا طبقيا بالدرجة الأولى، لا صراعا دينيا أو قوميا . وحتى اللبنانيون أنفسهم ليسوا كلا متجانسا ، فالرواية تأتي على الصراع بين فقراء طرابلس والأغنياء الذين يريدون احتكار صناعات ومهن .

سنان انطون ” يا مريم “(2012):

في روايته ” يا مريم ” يأتي سنان أنطون على الواقع العراقي ، ويستعرض فيها صور المجتمع العراقي من خلال النظر في البوم عائلة ؛ الملبس والأصدقاء ومآل أفراد العائلة ؛ من مات ومن عاش ومن هاجر ومن وصل إلى أسوأ سنوات حياته .

لقد فسد كل شيء في العراق . تفرق الأصدقاء وتخرب النسيج الاجتماعي وبرز وحش الطائفية.

كان العراقيون سنة وشيعة ومسيحيين ويهودا وكلدانيين و..و..ولكنهم كانوا عراقيين .كانت هويتهم هوية وطنية ، ثم جاء حزب البعث ، كما ترى إحدى شحصيات الرواية ليفسد كل شيء . أراد ان يعرب العراق فقاده الى ما قاده إليه ، ومع الاحتلال الأميركي برز وحش الطائفية . أراد حزب البعث أن يكحلها فعماها ، وأراد الأميركيون إحلال الديموقراطية محل الدكتاتورية ، فأوصلوا العراق إلى الطائفية وخربوه .

تنظر إحدى شخصيات الرواية في صورة لها تضم أصدقاء ثلاثة ؛ يهوديا ومسيحيا ومسلما ، وتأتي الصهيونية ، وتخلف المجتمع العربي وسوء قيادته ، فيهاجر نسيم اليهودي العراقي إلى فلسطين ، وسيهاجر مسيحيون كثر بعد الاحتلال ٢٠٠٣ ، إلى الغرب . لم يعد هؤلاء عراقيين ، فلقد غدوا يهودا أسقطت عنهم الجنسية ، ومسيحيين طلب بعض المسلمين المتشددين منهم دفع الجزية.

لقد غدت الهوية مختلفة وازداد انقسامها أكثر ؛ سنة وشيعة وبرزت القبلية وامحت الهويتان ؛ الوطنية والقومية امحاء لافتا .

هكذا نصغي إلى إحدى شخصيات الرواية تقص ” كل ما أريده هو أن أعيش في مكان أكون فيه مثل الآخرين . أمشي وأخرج وأدخل ولا يشار إلي أو يتم تذكيري بأني مختلفة . قال لي أحد الموظفين ذات يوم ، وهو يقرأ استمارة ملأ تها بالمعلومات الشخصية لأكمل معاملة ، معلقا على اسم والدي : جورج أجنبي مو ؟! فأجبته بحزم :

” لا مو أجنبي ، عراقي .

” شلون مو أجنبي ؟ مثل جورج بوش .”

” لا، مثل جورج وسوف … وجورج قرداحي .”

دفع الاستمارة وأعادها إلي وأحسست بالتعالي والكره يسيل من نظراته عندما تبرم قائلا :

– ” يعني قحط أسامي؟ شوفو لكم أسامي عربية .” (ص111 )

وتتابع مها :

” لم أقل شيئا ، فما فائدة الجدال مع جاهل حقير . ولم تكن تلك أول مرة ولا آخر مرة . عندما حكيت القصة لأبي حدثني عن عبد السلام عارف الذي حكم البلاد قبل أن أولد أنا بسنين طويلة وكيف قال ذات يوم وهو يلقي كلمة أمام حشد كبير :

” لا جوني ولا جورج بعد اليوم . بوية حمد وخوية حمود . “

.

سعود السنعوسي ” ساق البامبو ” ( 2012)

تعد رواية سعود السنعوسي “ساق البامبو” من الروايات اللافتة لمناقشة سؤال الهوية في الرواية العربية ، فشخصيتها الرئيسة عيسى/خوزيه لها اسمان وتتوزع على عالمين ؛ الكويت والفلبين .وهو يقول في ص (385) من الرواية ، وهو يتحدث عن مصطافين كان التقى بهم :

” هل سيصادفون نصف كويتي على شواطيء تلك الدول؟ الله وحده يعلم ! ” .

ولد عيسى لأب كويتي وأم فلبينية كانت تعمل خادمة في بيت عائلة راشد . أحبها وتزوجها سرا دون علم أمه ولما عرفت هذه استشاطت غضبا وطلبت منه أن يطلقها ، فهذا عار يلحق بعائلة الطاروف . يتردد راشد فتطرده أمه من بيت العائلة ، ولما أنجب طفلا يحمل اسم العائلة يذهب إلى أمه لمراضاتها عل الطفل يشفع له .

تصر الأم على رأيها وتجبر ابنها أن يطلق زوجته وأن يعطيها الطفل أيضا . أمام ضغط الأم يترك راشد زوجته وطفله ويعيدهما الى الفلبين ، وأما هو فيتزوج وينجب خولة ثم يستشهد في مقاومة الجيش العراقي أثناء احتلاله الكويت .

حين يكبر عيسى/ خوزيه ترسله أمه إلى بلاد أبيه / الكويت /الجنة ، ليتعرف على أبيه ويعمل هناك .

لا ترحب الجدة بحفيدها العائد ، وخشية من الفضائح تمنحه سكنا في بيتها زاعمة أنه خادم فلبيني ، دون أن تعرف أن الخدم يعرفون القصة التي شاعت ، ما يجبر الجدة وبعض بناتها على إجباره على ترك المنزل ، وتستمر بعض عماته في التضييق عليه حتى يغادر الكويت إلى الفلبين ثانية . وتظل هويته موزعة على بلدين : الكويت والفلبين . وحين يشاهد مباراة في كرة القدم بين الدولتين يحتار لمن ينحاز ، فهما وطناه ، وهو فلبيني وكويتي في الوقت نفسه.” اسمي Jose هكذا يكتب .ننطقه في الفلبين ، كما في الانكليزية ، هوزيه . وفي العربية يصبح ، كما في الإسبانية خوسيه . وفي البرتغالية يكتب بالحروف ذاتها ولكنه ينطق جوزيه .أما هنا في الكويت فلا شأن لكل ذلك بالاسماء بإسمي حيث هو …عيسى !’.(ص389). وتحتاج مناقشة سؤال الهوية في هذه الرواية الى كتابة مفصلة.

إلياس خوري ” أولاد الغيتو”(2016)

في “أولاد الغيتو “يثير إلياس خوري سؤال الهوية على لسانه وعلى لسان بطله آدم.في المقدمة يتساءل إلياس عن بطله :” إلا أنها لا تعرف هوية هذا الرجل بالضبط .هل هو فلسطيني يدعي انه اسرائيلي أم العكس ،لكنه شخصية فذة.” كأن السؤال عن الفلسطيني الإسرائيلي (آدم) هو وجه آخر لسؤال الهوية في رواية اميل حبيبي :الفدائيون اللاجئون فلسطينيون ،فماذا عن عرب فلسطين الذين بقوا،ومنهم من خدم الاحتلال؟ أهم فلسطينيون ام إسرائيليون؟

يكرر إلياس سؤاله عن آدم :” إن هذا الرجل كاذب ،يدعي أنه إسرائيلي مع عشيقاته ،مع أنه فلسطيني ،وهويته الفلسطينية هذه كانت حجته الكبرى ضد روايتي ،كأنه لا يحق لي أن أكتب عن فلسطين لمجرد أنني لست من ابوين فلسطينيين.”(ص14).

والياس نفسه كتب عن الفلسطينيين واحبهم وعاش معهم ، وربما عده بعض الفلسطينيين فلسطينيا ، بل إن بعضهم يحبه ويدافع عنه أمام بعض الفلسطينيين.

إن أسئلة الهوية التي أثارها إلياس في مقدمة الرواية وفي المقابلات التي أجريت معه ،يعود قسم منها ليظهر في الرواية على لسان بطلها آدم.”أهرب من كتاب لم يكتب ،فاكتشف أنني لا أعرف من أكون ؟” يتساءل آدم في ص 117.

إن سؤال الهوية لا يلازمه على مستوى فردي وحسب :من هو أبوه الذي بذره ومن هي أمه التي حملت به ؟ من هو أبوه الذي رباه ؟ ومن هي منال التي ربته ؟ هل هو ابن مأمون الأعمى الذي التقطه من حضن أمه تحت شجرة الزيتون وأعطاه إلى منال؟ هل هو ابن الشعب الفلسطيني الذي شرد أم أنه “ابن الدولة اليهودية “حيث يجعل نفسه ابنا لابوين يهوديين :”اخترعت لنفسي ابا يدعى اسحق واما تدعى سارة “(ص 269).

“أنا سليل ذي النون المصري المتصوف الكبير ،وابن مدينة الخضر ،ومواطن عربي أو فلسطيني في دولة إسرائيل ،وحين تركت منزل أبي اكتشفت أنني ابن نفسي “(162) ،ومثل سعيد أبو النحس لم يخطر بباله الالتحاق بالكفاح الفلسطيني المسلح ،” أردت أن أكون مواطنا في هذه الدولة وأنسى “( ص283) ، وهكذا اخترع لنفسه ذاكرة جديدة وانزلق فيها إلى النهاية بحيث “أنني لم أعد أعرف من أكون بالضبط؟ هل أنا ابن منال وحسن دنون أم ابن يتسحاق دانون وزوجته المريضة ،ام أنا مجرد حكاية مصنوعة من الكلمات ؟”.

من هو الشاعر العربي الذي سأل امته العربية : يا امتي هل أنت امة؟ وهل يستحضر إلياس بأسئلته ،على لسان بطله ،عنوان قصيدة نزار قباني :”متى يعلنون وفاة العرب؟”

المصادر:

– الياس خوري ، أولاد الغيتو ، 2016.

– إميل حبيبي ، الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل ،1974.

– أنعام كجه جي ، الحفيدة الأميركية ، 2009.

-أنعام كجه جي ، طشاري ، 2013.

– جبور الدويهي، شريد المنازل،2010.

سنان انطون ، يا مريم ، 2012

– سعود السنعوسي ، ساق البامبو، 2012.

– غسان كنفاني ، عائد إلى حيفا، 1969.

-ممدوح عدوان ، أعدائي ، 2000.

About د.عادل الاسطه

Check Also

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *