دأب الباحثون الكتابة بموضوع الغزل بشكل عام، والعذري على وجه الصفوة، لكن قلة من استطاع شرحه، وبسطه بأسلوب لا تمجّه الأسماع، بتفسير دقيق وتقصي ونقد وبيان عظمة الموضوع ومعياره، فقد وضع اليوسف نظرية مكتملة الأركان بالغزل العذري بجانبّي التنظير والتطبيق، وكان لليوسف مبررات للنزوع لهذا الموضوع فثمة أسباب دعته الكتابة بموضوع الغزل العذري، وهي دوافع عامة وخاصة، وقد عزا العامة إلى أن “هؤلاء الناس قد أنجزوا أخصب مرحلة غزلية في تاريخ الشعر العربي، فضلاً عن قدرتهم العارمة على اقناع القارئ بعدالة القضية الاجتماعية التي يدافعون عنها، إضافة إلى غزارة وجدانهم وخصوبة داخليتهم وامتلائها بسم القهر” [1]، فاليوسف يرى أنها مرحلة خصبة من تاريخ الأدب، وقضيتهم قضية لافتة، وأن المحرك لهم هو القهر، أما السبب الآخر فهو الدراسات التقليدية المعاصرة التي أنكرت العذرية وعدتها من البدع [2]، والبواعث الخاصة هو غوص اليوسف وبحثه أسباب تحريم العشق الذي لم يجد له جواباً شافياً فراح يستقصي برؤيته عن هذا الموضوع [3]، فوجد أن من مدعاة تحريم العشق كما يراه علماء النفس هو تعبير جسدي فحسب “وكلما تعمق العشق تعطل الذهن وكلما برئ منه الروح أمعن الوعي في الاستيقاظ” [4]، فوجد أن العمل نقيض العشق، وأن الروح الفردية تريد العشق، أما الروح التاريخية تريد الفرد خارج هذا السبات، والركود الذي فرضه الحب [5]، فهذه الضرورات كانت الدافع الذي حرك اليوسف لبناء هذه النظرية الغزلية، ويري أن هناك عدة مبررات لنشأة الغزل العذري، ومنها القهر فوجد أن الغزل العذري مر بمراحل عديدة، ففي العصر الراشدي كان غزلاً عذرياً موجوعاً؛ لأن كتابه رضوا بكبت غرائزهم، وأن سر تفوق المحور العذري هو الصدق الوجعي الذي يبثه الشعراء، وهنا نجد اليوسف يشدد على قيمة أن الوجع والقهر ينتجان لنا أدبا عظيماً خالداً متفرداً بفكرته، لذا نجده يفسر لنا معنى العشق كما رآه داخلي وخارجي، الخارجي هو الكلي المطلق، والداخلي التفجير الفوار [6]، كذلك العامل التاريخي الذي هدف لإنشاء الخط العذري أو الروحاني في الغزل العذري [7]، كان مبرراً لنزوع اليوسف لموضوع النظرية العذرية، ونلاحظ أنه يتناول الغزل العذري من باب صوفي، ويؤكد هو بدوره ذلك بقوله: “أسهم الحظر العشقي والخوف في انتشار الصوفية بين أبناء الطبقات البائسة طوال التاريخ العربي، فالتصوف، أو الانهماك في التعبد يخدم وظيفتين أساسيتين: اقتلاع الفرد من واقع لا يستطيع ان يتكيف معه، والتغلب على نزعة الموت التي تثمرها عقد الذنب واحتباس الشبقية داخل الجسد” [8]، ولا يكتفِ اليوسف بفرد نظرية عن العشق، إنما نقد كل من قلل من شأن هذا الموضوع الروحي كما يراه، وخير ما مثل ذلك نقده لكتاب ونقاد (النقد المقارن) بقوله: “دعني أبدي استهجاني إزاء تخلف المنهج المقارن في حركة النقد العربية المعاصرة (إذ هذا هو المنهج الأكثر تخلفا)، مع أن النقاد التراثيين لم يستطيعوا أن يفهموا الشعر إلا عبر الموازنات” [9]، فهم بحسب ما يرى اليوسف قللوا من قيمة الغزل العذري، ونظروا كما نظر أغلب النقاد بعين الاحترام والافتقار، إلى الرومانسية الغربية، فبخسوا من شأن النتاج العذري العربي، ولم تقف حدود اليوسف النقدية على النقاد بشكل عام فنراه يوجه نقداً قاسياً لابن الجوزي الذي سفه ضمنياً من العذرية وضائَلَ من شأن معتنقيها، وعندما نصب اليوسف نفسه مدافعاً وواضع نظرية بهذا الفن الروحي فكان هو خير من رد عليه، فذهب ابن الجوزي إلى أن “العشق ضرباً من الحماقة يجب اتقاؤه” [10]، فرده اليوسف بأن آراءه “تنطوي ضمنياً على تفنيد هذا الزعم… وأن شباب عذره يموتون لا بسبب من الحب، بل بسبب من حظر الحب… ويكرس ابن الجوزي في مجمل كتابه الهام جهوداً كبيرة لكي يبرهن على أن العشق بؤس ينبغي اجتنابه.. ولكنه لم يستطيع أن يدرك المعنى اللغوي للفظتي “التتيم” و”الوله” [11]، ويرى ابن الجوزي أن “عيادة المريض وتشيع الجنائز وزيارة القبور والنظر إلى الموتى والتفكير في الموت وما بعده، مما يطفئ نيران الهوى، كما أن سماع الغناء واللهو يقويه.. وبهذا يفند ابن الجوزي من حيث لا يدري كل فحواه أن الحب ينطوي على الموت، ويؤكد أن الحب هو الحياة في أصالتها وقبل أن تفسد بالحضارة ذات الأبعاد الاستغلالية” [12]، فاليوسف لا يكتفِ بإبراز مضامين ما لم يبح به ابن الجوزي، إنما يدينه من كلامه ليؤكد على القضية التي شدد عليها وهي أن الحضارة هي من أظهر الفرد بشكل مثالي مبالغ به وكأن الحب يقلل من شأن الفرد وقيمته، لذا رصد لنا مظاهر التحصين التي كانت تمارسها المجتمعات ضد العشق ومنها: إطلاق كلمة (حرمة) على المرأة في الثقافة العربية، ومن شأن إقناع الأفراد بتلك الحرمة التي تتمتع بها النساء أن يخلق لديهم عقدة ذنب [13]، وكذلك عقد الذنب والخوف “الخوف من السقوط في الاثم” [14]، ولقد بلغ التخوف من الإدانة بالإثم حداً بات معه العاشق العذري مقتنعاً بأن التلوث تدمير لامتلاء البرهة العشقية [15]، وكأن الحب عار إذا التصق بالشخوص، وكذلك من المظاهر الأخرى للتحصين في المجتمعات هي الرقابة الكابحة “العامل المشوه لأرواح الشعراء العذريين الذين صدقوا واقعهم وأرواحهم” [16]، وأيضا الحظر والحرمان من الحب والتوعد وإخفاء المحبوبة عن أعين العاشق [17]، وبالتالي يحملون العاشق على الجنون أو الانفصام أو الهستيريا فتتكون آلية دفاعية، والحب يكون مجرد أماني لا يمكن تحقيقها، والعقل يرفض ذاته ابتغاء التخلص من محتواه وداخله المرهق يلجأ له، فالجنون يكون رفض للمجتمع الخارجي [18]، وأن لهذه المظاهر كبير الأثر في إفساد الحالة النفسية، والعقلية وكأن المجتمع هو من ينتج هؤلاء الأشخاص، وهو من دفعهم بهذا الاتجاه، فراح اليوسف يستقصي لنا عظمة هذا الشعر فوجدها بتصويره لعدة عناصر، ومنها القهر وهو “العنصر الأول الذي تتأسس عليه عظمة الشعر العذري ومزاياه الوجدانية… فهو يعكس التمزق بين المثال والحاجة بين الكلي والجزئي، أو بين رغبات المجتمع ومشاريعه وبين رغبات الفرد وحاجاته” [19]، فالقهر ينتج مرضاً أبرز علاماته التنازل عن الهوية، واكتساب هوية زائفة، وهو يعني تغريب الإنسان عن نفسه قبل تغريبه عن الآخرين [20]، فللشعراء العذريين طريقة للتعبير عن الكبح المنتج للقهر تكاد تشكل ظاهرة في مجمل حركتهم، وتتلخص هذه الطريقة “في تشبيه الشاعر الممنوع من الوصول إلى المرأة بطائر ظامئ يرد حياض الماء فيمنع من الوصول إليها، ولكن شدة عطشه تدفعه إلى متابعة الدوران حول الماء عله ينال شيئا منه” [21]، ومن مظاهر العظمة العذرية الأخرى التي فردها اليوسف هي ظاهرة الطيف، ومن خلال الطيوف الطارقة نلاحظ أن المقصى يتشبث بحقه في الوجود “محاولة لاسترداد الفردوس المفقود، وبالتالي فهو شكل من أشكال مقاومة الانصياع أو لنقل هو مظهر لا شعوري من مظاهر إدانة الزمن المسروق. إنه احتجاج مقنع ضد البرهنة المفرغة، ومحاولة تعويضية لخلق برهة الفرح المنهوبة. ولذا فهو النتاج الضروري لنظام الرقابة” [22]، والنوستالجيا أو الحنين هو “التوقان المنهوم إلى الماضي وإلى أماكن معينة” [23]، يجمع الشاعر بعمله ثلاثة عناصر ليحقق هذا المطلب (المكان، الزمان، المرأة)، وكلما تناقضت هذه العناصر الثلاثة تناقضت فاعلية القصيدة، وتأثيرها الانفعالي، بمعنى إن حذف عنصر من تلكم العناصر يؤدي إلى مستوى أدنى من مستوى قصيدة تنطوي على العناصر الثلاثة [24]، أما سجع الحمام فهي وسيلة عبر بها الشعراء عن المكبوت في الذاكرة، تعلق الشاعر المقهور بحمامة تنوح على شجرة هو تعبير لا مباشر عن الولاء الذي يبديه الإنسان للطبيعة [25]، وهذه العناصر إذا توفرت بالنص الغزلي العذري تحقق العظمة بحسب نظرة اليوسف الغزلية الذي لم يقيد ببيان مواطن العظمة إنما نجده يحدد لنا معيار العذرية الذي وجده في عنصرين وهما الوجع الكثيف، وليس الوجع فحسب بل الصدق الوجعي، فالعذرية هي الوجع المأزوم والتوتر الداخلي الكثيف الناجم عن حظر العشق [26]، والعنصر الآخر هو الخيال تصوير المنهوب واسترجاعه، وهي أداة ممتازة لتجاوز القهر، والوظيفة المركزية للخيال هي ردع الزجر أو تحرير الإرادة، وبالتالي فهو نشاط داخلي وحي وحتمي نبذله في نضالنا من أجل استرداد المنهوب، وغير المحقق في المعاش اليومي، بينما الوظيفة الكبرى للمخيلة هي صيانة التماسك الداخلي للذات [27]، ووظيفة الخيال الوجداني عند الشاعر العذري هي التشبث بالممنوع ورفض التنازل عن الحاجة الأساسية الحب [28]، وهذان المعياران هما النواة التي شكلت النظرية العذرية، وبعد فرده للجانب النظري للعذرية تناول اليوسف عدة شعراء خاضوا بالموضوع فوجد أن اللغة هي الجزء الآخر الذي يكمل النظرية العذرية، والتي تتسم بصفات معينة استقصاها بعد دراسته التطبيقية لعدد من الشعراء عبر العصور المختلفة فوجد فيها أنها لغة مشحونة بالوجع العشقي الغزير، وشعور يفصح عن شزره برزانة وهدوء، وتتعامل مع الواقع المصور وجدانياً، كما أخذ بعين الاعتبار أن اللغة في الشعر العذري تخدم وظيفة أساسية فحواها النهوض بعبء الانفعال، وهي لغة ترسخ الوجداني في أنسجتها، وتقشير الطلسمية والسرية عن علاقة التنكر، واللغة العذرية تتغذى بالوجدانيات أكثر مما تغذي بالمجازات، فهي لغة استنطاق الفؤاد ابتغاء إدانة العدوان القائم ضد حقه الكوني لغة الوعي المشطور، وتسير هذه اللغة على محورين أولهما يقدم المرأة بوصفها امكانية سعادة ووعداً بالفرح الأعظم، ويقدم حظر المرأة من حيث هو وجع لا يمكن احتماله، فالشاعر يمتلئ ببعدين متضادين: الحب والكراهية، حب المرأة وكراهية حظرها، ويخلص إلى أن اللغة العذرية مزدوجة الاتجاه تطرح النقص وتغطيه في تركيبة واحدة، والمحوران الأساسيان للغة العذرية هما معجم القهر، ومعجم الفرح، وللغة العذرية لغتان أساسيتان هما اللغة المتوترة واللغة الانفراجية [29]، وبهذا فقد وضع لنا اليوسف نظرية عذرية متكاملة الأركان استعمل فيها رأيه الخاص، وحسه الشعري، ونظرته النقدية الألمعية، فاليوسف آمن بمقولة أنا أعشق إذن أنا موجود، وأقر بالنيرفانية [30]، ونبذ مجتمعه الذي وجده رهين محبسين المجتمع والغرائز، ففهم العشق على أنه نزوع إلى السكينة، وشدد أن فهمه أمر ضروري، رشد إلى أن الحب ينطوي على غريزة الموت، وصدق بأن الوجع العشقي لا يمكن أن يصدر إلا عن التجربة المعاشة، وثق أن العذرية هي ذلك الوجع الرزين الذي يبديه الشاعر إزاء الحرمان والكبد، فكانت الرومانسية لديه بمعنى واقعية الأعماق، تناول العشق بحب، وبرحلة صوفية، وبتبتل، فأثمرت قراءته نظرية غزلية عذرية مكتملة الأركان..
الهوامش
[1] – الغزل العذري، دراسة في الحب المقموع، يوسف سامي اليوسف، دار الحقائق، ط2، 1982: صفحة 5 .
[2] – ينظر :المصدر نفسه : صفحة 7.
[3] – ينظر: المصدر نفسه: صفحة 5-6.
[4] -المصدر نفسه: صفحة 16.
[5] – ينظر :المصدر نفسه: صفحة 19-26.
[6] – ينظر :المصدر نفسه: صفحة 15.
[7] – ينظر :المصدر نفسه: صفحة 11.
[8] – المصدر نفسه: صفحة 37.
[9] – المصدر نفسه:148.
[10] -المصدر نفسه: صفحة 21.
[11] -المصدر نفسه: صفحة 22.
[12] -المصدر نفسه:23-24.
[13] -ينظر:المصدر نفسه:27.
[14] -المصدر نفسه: صفحة 35.
[15] -ينظر:المصدر نفسه:37.
[16] -المصدر نفسه: صفحة 67.
[17] -ينظر:المصدر نفسه:67.
[18] -ينظر:المصدر نفسه:80-81.
[19] -المصدر نفسه: صفحة 30.
[20] -ينظر:المصدر نفسه66-67.
[21] -المصدر نفسه: صفحة 60.
[22] -المصدر نفسه: صفحة 39.
[23] -المصدر نفسه: صفحة 43.
[24] -ينظر:المصدر نفسه:44.
[25] -ينظر:المصدر نفسه:47-48.
[26] -ينظر:المصدر نفسه: 32-33.
[27] -ينظر :المصدر نفسه:40-42.
[28] -ينظر:المصدر نفسه: صفحة 91.
[29] -ينظر:المصدر نفسه:129-141.
[30] – وهو مصطلح من اللغة الهندية القديمة، وهي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة، والسعادة القصوى والقانعة، وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية: كالاكتئاب، والحزن، والقلق، ويصل لها الفرد بعد مدة طويلة من التأمل العميق، وهذه النظرية تشبه في تراثنا العربي الذات الصوفية على نحو كبير. ينظر :الموسوعة الحرة .