في الحرب أردت أن أكتب عن رواية «ما تبقى لكم» (1966) فما قرأته فيها شاهدته في أشرطة الفيديو التي تبث. كأن المشهد الذي أشاهده تجسيد لما كتبه غسان في روايته، والمشهد ليس من فيلم سينمائي أخذ عنها. إنه مشهد مما يجري في غزة في الحرب.
مئات الشبان الغزيين مجردون من ملابسهم، إلا ملابسهم الداخلية. يجلسون على الأرض، في أجواء شتوية شديدة البرودة، وأيديهم موثقة خلف ظهورهم، يحيط بهم جنود ويخاطبهم أحدهم بالعربية:
– ألم نطلب منكم مغادرة شمال قطاع غزة إلى الجنوب؟ لماذا لم تغادروا؟
يجيبه أحدهم:
– لقد حاولت، ولكنكم لم تسمحوا لنا.
– هذا غير صحيح، فالناس غادرت عبر شارع صلاح الدين.
بم يجيب الضعيف القوي؟
وعندما يسألهم عن رأيهم فيما جرى وعن حماس ويحيى السنوار وعدم الاحتجاج على ما فعلوه، يشتم الرجل السنوار ويقلل من قيمته.
في «ما تبقى لكم» التي تجري أحداثها في 1956- أي فترة العدوان الثلاثي على مصر؛ الفرنسي والبريطاني والإسرائيلي، وفيه احتل قطاع غزة – نقرأ عن حدث مشابه وشخصية مشابهة.
كان الجيش الإسرائيلي يبحث عن فدائي اسمه سالم، ولأجل إلقاء القبض عليه، فقد جمع عشرات الشبان وطلب منهم أن يدلوه على سالم، وهددهم بأنه سيقتلهم إن لم يعترفوا على مكانه، وكان سالم بينهم. رفض الشبان الاعتراف حتى ضعف زكريا خوفاً من القتل، فصاح:
– أنا أدلكم على سالم.
ولكن سالم فوت عليه فرصة أن يكون خائناً حقيقياً. «أقدم سالم من تلقاء نفسه ووقف أمامنا مباشرة، وقد رأيناه يغسلنا بنظرة الامتنان التي لا تنسى فيما كانوا يقتادونه أمامهم. إلا أنه عاد والتفت إلى زكريا وشيعه بنظرات رجل ميت: باردة وقاسية وتعلن عن ولادة شبح…. «وسيغيب سالم وراء الجدار هنيهة» ثم جاء صوت طلقة واحدة فيما أخذنا ننظر إلى زكريا وكأننا جميعاً متفقون على ذلك. زكريا. زكريا».
وأنا أنظر في شريط الفيديو وأصغي إلى المتكلم فيه تساءلت إن كان زكريا بعث من جديد، وتساءلت أيضاً عما كان المعتقلون يشعرون به في تلك اللحظات وبم كانوا يفكرون.
ليس زكريا وحسب هو من استحضرته من روايات كنفاني وقصصه. لقد استحضرت أيضاً نادية في قصة «ثلاث أوراق من فلسطين: ورقة من غزة».
لم يمر يوم من أيام المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة، إلا في أيام الهدن القليلة، دون أن نشاهد شريط فيديو يظهر فيه جريح غير مبتور عضو من أعضائه. بعض الأشرطة عرضت لحالات مرعبة لن يشفى من أثرها أصحابها إلا ساعة موتهم. خمسون عاماً. ستون. سبعون. الله أعلم. وسيظل هؤلاء يعانون ويتذكرون ويستحضرون مشاهد الحرب.
في قصة «ورقة من غزة» كتب كنفاني عن نادية. عما قصه عنها عمها المدرس في الكويت العائد في الإجازة لزيارة غزة.
يزورها عمها في المشفى وقد أحضر لها معه هدية هي بنطال أحمر:
« – قولي يا نادية.. ألا تحبين البنطال الأحمر؟
ورفعت بصرها نحوي، وهمت أن تتكلم، لكنها كفت، وشدت على أسنانها، وسمعت صوتها مرة أخرى من بعيد:
– يا عمي!
ومدت كفها، فرفعت بأصابعها الغطاء الأبيض، وأشارت إلى ساق مبتورة من أعلى الفخذ».
نادية في إحدى غارات 1956 صارت، في الـ 471 يوماً للحرب، مائتي ألف حالة.
هل انتهت الحرب؟
من قصص كنفاني التي ألحت، في الحرب وقبلها، على ذاكرتي «الصغير يذهب إلى المخيم».
كلما كتب كتاب غزة عن مشاكل أهلهم التي ستبدأ بعد انتهاء الحرب وجدتني أستعين بالقصة التي ميز فيها كاتبها بين زمن الحرب وزمن الاشتباك، ووجدتني أكتب لهم:
– ستنتقلون من زمن الحرب إلى زمن الاشتباك.
وصرت أكرر نفسي. صرت أشعر بأن كثيراً مما أكتبه ليس سوى تكرار، وغالباً ما كنت آخذ برأي إميل حبيبي في رده على من هاجموه بأن روايته «المتشائل» ليست إلا تقليداً لرواية (فولتير) «كنديد»:
– إنها الحياة التي تتكرر أحداثها أو تتشابه. تتكرر على شكل مأساة أو على شكل ملهاة.
يميز غسان في قصته بين زمن الحرب وزمن الاشتباك. في الأول هناك هدنة يلتقط فيها المحارب أنفاسه، وفي الثاني أنت تشتبك يومياً مع الحياة والناس، وفيه «كان الجوع – الذي تسمع عنه – همنا اليومي. ذلك اسميه زمن الاشتباك. أنت تعلم. لا فرق على الإطلاق. كنا نقاتل من أجل الأكل، ثم نتقاتل لنوزعه فيما بيننا، ثم نتقاتل بعد ذلك».
كم من كاتب في غزة كتب عن مشاكل الناس أمام الطوابير والتكايا؟!
عبد الكريم عاشور «يحدث في غزة الآن» وشجاع الصفدي ومريم قوش و… و… وهل ننسى الطفل عبد الرحمن نبهان الذي سقط، في 9/1/ 2025، في طنجرة الطبيخ ومات. هذا هو زمن الاشتباك الذي سيستمر عقوداً من الزمان. كما لو أن غسان كنفاني تنبأ به. وللكتابة بقية.