إن لم يتمخَّض قرار المحكمة الجنائية الدولية الذي جعل الأراضي الفلسطينية التي تحتلها دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ حرب 1967، ضمن اختصاصها الإقليمي، عن عقوباتٍ على مسؤولي هذا الكيان وضباط جيشه، فإنه سيكون رادعاً يمنعهم من المضي في ارتكاب مزيدٍ من الجرائم التي درجوا على ارتكابها طوال أكثر من 70 سنة. وإذ وفَّر القرار فرصةً للجانب الفلسطيني لفتح ملفات الجرائم ومحاسبة الإسرائيليين على ارتكابها وإظهار وجههم الحقيقي أمام المجتمع الدولي، فإنه سيكون دافعاً لنشاط المنظمات الدولية التي تناصر الشعب الفلسطيني وتدعو لمقاطعة دولة الاحتلال. وربما لذلك سيكون نقلةً في النضال الفلسطيني، قد تصبح أهم نتائجه القريبة، كبحُ سياسة القتل والاستيطان الإسرائيلية.
فبعد سعي فلسطينيٍّ طويل، ومحاولاتها التي امتدت على مدى سنتين، نجحت المدعية في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، في 5 فبراير/ شباط الجاري، في دفع الدائرة التمهيدية للمحكمة لإقرار أن الاختصاص الإقليمي للمحكمة، فيما يخص فلسطين، يشمل الضفة الغربية المحتلة والقدس الشرقية وقطاع غزة. وهو قرار سيمكِّن القيادة الفلسطينية أو المنظمات الحقوقية الفلسطينية، من تحضير لوائح اتهام ورفع طلباتها للمحكمة بفتح تحقيق في الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، خلال حروبها على أبناء الشعب الفلسطيني وممارساتها الإجرامية بحقه.
وليست الحروب والمجازر وحدها ما يجرِّم الإسرائيليين، بل هنالك قضية الاستيطان الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية وطرد السكان الأصليين من منازلهم وترحيلهم من قراهم وإحلال مستوطنين مكانهم. ويعدُّ هذا الترحيل جريمة ضد الإنسانية، تبعاً للنظام الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية ذاتها. أما الاستيطان بشكل عام، فيعدُّ انتهاكاً للقانون الدولي، خصوصاً بعد قانون تشريع الاستيطان الذي أقره الكنيست الإسرائيلي سنة 2017، والذي أدانته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من قادة الدول، لأن الأراضي الفلسطينية المحتلة تقع خارج اختصاص هذا الكنيست.
كذلك هنالك قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، ومنهم نساء ومدنيون، والذين لا تطبق عليهم السلطات الإسرائيلية أحكام القانون الدولي الذي ينص على منع العنف والترهيب عنهم، بل تمنع عنهم المحاكمة العادلة وتعرضهم للتعذيب، ما يؤدي على الدوام إلى وفاة أعداد منهم بسبب التعذيب أو بسبب حرمانهم من الاستشفاء المناسب، علاوة على إصدار أحكام سجن جائرة بحقهم تصل لمئات السنين. إضافة إلى ذلك، فإن اعتقال المدنيين ووضعهم في الأسر ينتهك معاهدة جنيف الرابعة التي تنص على عدم جواز اعتقالهم سوى لفترة مؤقتة، احتياطياً، حتى تنعدم الأسباب التي استوجبت توقيفهم.
ومن الأمور التي يمكن أن تثار أمام المحكمة أيضاً، جدار الفصل العنصري الذي شيده الإسرائيليون في الضفة الغربية، والذي يصل طوله إلى أكثر من 730 كم، وأرادوا من خلاله ضم أراضٍ فلسطينية إلى كيانهم وتقسيم أراضي الضفة إلى جذرٍ متناثرة يستحيل التواصل بينها. ومن أهدافه عزل الإسرائيليين ومنع اختلاطهم بالفلسطينيين ليكون بذلك جدار فصلٍ عنصريٍّ، منتكها المعاهدة الدولية ضد التفرقة العنصرية ليعد جريمة ضد الإنسانية، بحسب النظام الداخلي للمحكمة الجنائية الدولية، والتي يقع ضمنها بند الترحيل الذي تفرضه سلطات الاحتلال على السكان الواقعة قراهم ومساكنهم في مسار بنائه. كما ينتهك الجدار اتفاقية جنيف الرابعة لأنه يقوم على ممارسة عقوبة جماعية بسبب أعمال فردية، كونه يهدف لحماية الإسرائيليين من هجمات هؤلاء الأفراد. إضافة إلى ذلك، فأن هدم المنازل والاستيلاء على الأراضي التي تقع في طريقه يُعدُّ انتهاكاً لاتفاقية لاهاي التي تمنع مصادرة أملاك السكان الخاصة في المناطق الواقعة تحت الاحتلال. ومن انتهاكاته أيضاً، منع تواصل الفلسطينيين فيما بينهم وحرمانهم من حق الحركة والعمل بمنع وصولهم إلى أعمالهم وحقولهم وإلى مصادر المياه، ومنع الطلاب من الوصول إلى مدارسهم.
ليس احتمال اتهام الإسرائيليين بارتكاب جرائم حرب بحق أبناء الشعب الفلسطيني محض افتراض لدى مسؤولي المحكمة، بل يعلم القادة الإسرائيليون، قبل غيرهم، أن ما ارتكبوه من ممارسات بحق هذا الشعب ترقى لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتأكيداً لهذا الأمر، قالت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في 16 يوليو/ تموز 2020، إن السلطات الإسرائيلية تُعِدُّ قائمةً سريةً تضم ما بين 200 و300 شخصية إسرائيلية من ضباط جيش الاحتلال والمخابرات، وغيرهم من المسؤولين الذين يمكن أن يتعرضون للاعتقال في الخارج، عند فتح المحكمة الجنائية تحقيقاً في جرائم الحرب التي ارتكبوها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويُعدُّ هذا الخبر مشجِّعاً للسلطة الفلسطينية والمنظمات الحقوقية الفلسطينية للمطالبة بالكشف عن هذه القائمة، أو حتى اتخاذها حافزاً لعمل المحكمة الذي إذا ما بدأ حول الجنود والضباط المدانين فإنه سيوصل إلى المسؤولين الحكوميين الذين أصدروا قرارات البدء في المعارك التي أدت إلى قتل مئات الأطفال والنساء والعجائز، أثناء حرب الجرف الصامد على غزة وحدها، سنة 2014.
وأكثر ما يخشاه الإسرائيليون من هذا القرار، ومن بدء رفع القضايا للمحكمة للتحقيق فيها وإجراء المحاكمات لبعض المسؤولين الإسرائيليين على إثرها، هو أن تتغيَّر الصورة التي دأبوا على إظهار أنفسهم بها أمام الدول الغربية والرأي العام الغربي والعالمي، صورة أنهم الديمقراطية الوحيدة في بيئة من الدول التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية. وسيظهر موضوع التعددية والانتخابات الديمقراطية وتداول السلطة، قشرةً تحاول أن تتستر بها دولة الاحتلال على جرائمها بحق شعبٍ أعزلٍ واقعٍ تحت سلطة احتلالها. كما إنه سيبين للمجتمع الدولي عدالة المطالب الفلسطينية، وسيعطي الزخم للمنظمات الغربية التي تناهض دولة الاحتلال وتدعو إلى مقاطعتها وسحب الاستثمارات منها بسبب سياسة الاستيطان وممارساتها بحق الشعب الفلسطيني.
كما أنهم يخشون أن يدان مسؤولون إسرائيليون أعطوا الأوامر بالعمليات العسكرية وساهموا في حماية المستوطنين، وبالتالي تزداد صعوبات تنقُّلهم وسفرهم خارج دولة الاحتلال خشية اعتقالهم وتقديمهم للمحكمة، ما سينعكس على النشاط السياسي والاقتصادي لهؤلاء المسؤولين ولحكوماتهم بطبيعة الحال. ويخشون أن يتوقف دعم الدول الغربية لهم فبعد أن كانت دولة الاحتلال تلقى مساندة الغرب الذي يجعلها خارج إطار المساءلة القانونية أو المحاسبة، أتت هذه الخطوة لتُشعر قادة الغرب الذين واظبوا على نصرتها، ظالمةً، بالحرج إذا ما استمروا في تغطية جرائمها، وربما سيظهر حيادهم أمام قتلها الضحايا الفلسطينيين تورطاً في الجريمة.
وبينما رحب الفلسطينيون بالقرار، وحمل لهم الأمل بإنصافهم ومحاسبة الإسرائيليين على جرائمهم التي اقترفوها على مدى عقود، قابلَه الإسرائيليون بالإدانة والخشية من تغير الموقف الأميركي. وربما اشتموا في صدوره رفضاً للإدارة الجديدة في البيت الأبيض لاستمرار التغاضي عن ارتكاب الجرائم. لذلك فإن جريان التحقيق، وربما المحاكمات، سيكون رسالةً للإسرائيليين من الفلسطينيين والمجتمع الدولي والأميركيين، تردعهم عن المضي في سياسة اقتراف الجرائم التي كانت تجد دائماً كثيرين يتطوعون لتغطيتها.
* * *
شاهد أيضاً
العدوان على غزة: أجندة إسرائيل الاقتصادية
ما هي الأسباب الحقيقية وراء معارضة إسرائيل لتطوير حقول الغاز في الساحل الفلسطيني؟ هل هي …