تتميز السير الذاتية بكونها تشكل رافدًا من روافد المعرفة، وإن كان من الضروري اخذها بحذر ما جرّاء سعي كاتبها الى الميل الى “تلميع الذات”. والقصد بالمعرفة هنا هي التفاصيل التي ينقلها كاتب السيرة سواء عن نفسه أو عن محيطه الانساني والحياتي الجاري كالأحداث والأعلام والأمكنة وسواها مما يقرر تعريفنا به. لهذا، فإنّ السيرة الذاتية مبرمجة على يد كاتبها وفيها ما يريده هو في أن نعرف، ليس ما نريده نحن ان نعرف بأنفسنا. ولهذا فيمكن اعتبارها مفروضة من جانب واحد كنصٍّ اختاره الكاتب لغرض في نفسه.
ولكن، بالرغم من كل هذا، وبالرغم من كل ما يقال ويُكتب عن السيرة الذاتية فإنّها تبقى مصدرًا مساعِدًا لفهم الفترة الزمنية التي عاشها صاحب السيرة وتفاعله مع الاحداث والشخصيات التزامنية معه. وسنعمل في سلسلة من الحلقات على الاستفادة من مجموعة سير ذاتية لفهم علاق واضعيها بالمدينة، وتصويرها حياة المدينة بكافة تفاصيلها من خلال النصوص التي ترد في كتب سيرهم. وبطبيعة الحال، لكوني متيم بمدينتي الفلسطينية الجميلة “حيفا” فإنني اخترت الانطلاق منها، وزيادة على ذلك فأنا عارف بتفاصيلها ومركباتها، وبالتالي يساعدني هذا الجانب على التفاعل مع النص، وأيضًا استخدام النص كرافعة لفهم التحولات التي شهدتها المدينة في فترات زمنية متعاقبة خلال القرن العشرين على وجه الخصوص.
نلتقي في الحلقة الأولى مع عبداللطيف كنفاني صاحب كتاب:15 – شارع البرج حيفا. فكنفاني ينتمي الى عائلة فلسطينية – لبنانية مدينية (أي من أصول مدينية) موزعة على طول الساحل السوري اللبناني الفلبسطيني من بيروت إلى صيدا فعكا الى يافا مرورًا بحيفا. ومن أبرز شخصياتها الأديب المناضل الشهيد غسان كنفاني صاحب رواية “عائد إلى حيفا”. وكاتب هذه السيرة من مواليد حيفا في 1926 وتلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة البرج وتابع دراسته في صيدا، ولما عاد الى مدينته عمل في بيت المال العربي وتابع دراسته في مجال الحقوق في القدس، وبعد النكبة تهجّر مع عائلته الى لبنان، تاركًا واياهم عمارتهم في شارع البرج رقم 15 بحيفا، آخِذًا معه الذكريات والأحلام والآمال. رحل عبداللطيف في 2019 ولسان حاله يذكر حيفا في كل لحظة.
يُقدّم كنفاني في كتابه أعلاه وصفا لحياة عائلته في بيتهم الضخم والفخم المشرف على ميناء مدينة حيفا. وكذلك عن تفاعل عائلته مع باقي عائلات الحي المعروف باسم حي البرج في وادي الصليب. وفي كل فصل من الفصول الثمانية لكتابه هذا يستعرض جانبا من جوانب حياة المدينة. فحيفا التي ولد فيها، بقيت مرافقة له في اللجوء حتى الرمق الأخير. وحيفا المدينة التي عاش فيها شهد بنفسه يوما بعد يوم التحولات والتطورات التي حدثت فيها، والتي تركت أثرًا عليها في ميادين شتّى.
كانت حيفا القديمة التي بناها الشيخ ظاهر العمر الزيداني مسورة بأسوار متفاوتة الارتفاعات جرّاء موقع المدينة الطوبوغرافي، إلاّ أنّ بوابتها الشرقية لعبت دورًا تجاريًا هامًّا. كما أنّ بوابتها الغربية لعبت دورًا خدميًّا لقربها من مراكز المدينة الحديثة. أمّا البوابة الشرقية فهي التي كانت تستقبل الوافدين من مدينة عكا والجليل الاعلى والغربي واعتبرها كنفاني “سوق التجار”. ويعتبر كنفاني هذه البوابة أنّها مفتاح التجارة فيكتب:”فمنذ أن بزّت حيفا شقيقتها التوأم عكا في مضمار التجارة، انتقل إليها التجار من كل أرجاء الوطن كما من بعض المدن السورية واللبنانية والمصرية واتخذوا لأنفسهم المحال على جنبات الساحة ومن حواليها في الاسواق الداخلية المجاورة”(15-شارع البرج، ص 74). ويضيف:”المجتمع التجاري الذي ضمته البوابة الشرقية كان أشبه بالأسرة الواحدة يعمها الوئام وتسودها الألفة. تركيبة عضوية من سدى ولحمة أبناء الوطن على امتداده. ما كان أدل على جذور تلك التركيبة سوى أسماء العائلات التي تعود بأصولها إلى المدن والقرى الفلسطينية كافة”.
يوفر لنا كنفاني في هذين الوصفين الصفة الملازمة لحيفا المدينة المتشكلة حديثا، وهي مدينة مركبة من مكونات اجتماعية متنوعة اختارت كل على حدة العيش في هذا المكان. وبالتالي فإنّ هذه التركيبة جعلت من المدينة كوسموبوليتية إذا أضفنا إليها تركيبة المهاجرين من أبناء الجاليات الاجنبية واليهودية. بالإضافة إلى كونها كانت واقعة تحت الانتداب البريطاني ما أتاح لها تبني تحولات كثيرة فرضها عليها هذا الانتداب، إلى جانب اقتحام المشروع الصهيوني إلى حاراتها وضواحيها لنشر هيمنة هذا المشروع وصولاً الى ذروته في احتلال المدينة وإسقاط حيفا العربية الفلسطينية بيده.
وما كان لهذه المدينة الساحلية ان تعرف النمو والازدهار بدون مرفأها سواء ذاك الذي شيدته الدولة العثمانية الى الجهة الشرقية من موقع المدينة ووصل الى جانبه الخط الحديدي الحجازي في وقت لاحق، أو الذي أقامته حكومة الانتداب البريطاني في نهاية عشرينيات القرن الماضي. ويشير كنفاني الى العلاقة الوطيدة بين المدينة والمرفأ من خلال تبنيه وجود البوابة الشرقية التي جذبت بصره وفكره. يكتب كنفاني ما يلي:”كان مرفأها المتطور يعمل على مدار الساعة تفريغًا لحمولات السفن من مختلف البضائع، تتكدس في عنابر المرفأ وساحات التخزين ثم تجد طريقًا الى حواصل البوابة الشرقية ومخازن المركز التجاري الجديد التي كانت أبداً تطلب المزيد. تصريف البضائع في جانب منه كان ينطوي على حركة تهريب واسعة عبر الحدود الشمالية”(ص 78). وموضوع “التهريب” نجده في كل مرافئ الدنيا، بما فيها مرافئ حوض البحر الابيض المتوسط، ويبدو بوضوح انه كان موضوع الاحادسث بين الناس، لأن بعضهم استفاد من حركة التهريب، وبعض آخر اشترى ما كان يجري تهريبه.
ويتعمّق مفهوم المدينة لدى كنفاني عندما ينتقل إلى تقديم وصف دقيق لشوارعها وأزقتها ومحلاتها ومؤسساتها. واختار بنجاح وصف أحد شوارعها المركزية مُخصّصًا له فصلاً كاملاً تحت عنوان شارع الملوك. “فالحديث عن شارع الملوك قد يختصر سيرة شوارع حيفا وميادينها الأخرى، إنّما قد لا يُغني عن ذكرها فكلها حَرِيّة بالوصف والتوقف والتأمل عن بعد لِـما حلّ بها اليوم ولِـما لحِقَ بأسماء بعضها من تغيير وتشويه من قِبَلِ من سطوا على المدينة و”حسنوا” معالمها. إنّ لكل من جامع وكنيسة في حيفا عليّ حق كما أن لوادي النسناس عليّ حق ولمحطة الكرمل علي حق وللحليصة ولوادي الصليب والسوق الأبيض. كما للطيرة علي حق ولبلد الشيخ والكبابير وغيرها من البلدات والضواحي فكلها تستأهل العودة لها بالحنين ولا يكفي لتذكارها قرطاس وقلم”. نلاحظ في هذا الوصف مدى ارتباط الاحياء والبلدات القريبة من المدينة بالمدينة ذاتها. عمليا شكلت المدينة مصدر رزق ومعيشة لعائلات كثيرة وصلت إليها من هذه البلدات.
وتميزت حيفا كمدينة حديثة العهد مقارنة مع باقي مدائن فلسطين، بتنوعها الانساني وبالتالي تنوع عاداتها وتقاليدها بالإضافة إلى ما هو عام وثابت منها. ففي “المناسبات الوطنية كما في الاعياد الدينية كانت البوابة الشرقية تشهد مواكب كشفية تتقدمها الفرق الموسيقية تنطلق منها او عبرها من ساحة جامع الاستقلال… في تلك الأمسيات كانت تنتظم حلقات الدبكة والسحجة يتبارى فيها الفلاحون المتقاطرون من قرى حيفا والاقضاء بأكمله… وتنتشر بسطات لبيع الحلوى والمآكل الشعبية ومواقد مكشوفة للشواء ينتشر دخانها وسط الجموع…”. عمليا، هذا المزيج من التركيبة السكانية للمدينة جعلها متعددة الوجوه، واستعدادها لاستقبال واستيعاب هذه التركيبة بكل سهولة. بمعنى آخر، فإنّ المدينة الفلسطينية في فترتي الدولة العثمانية والانتداب البريطاني كانت على استعداد لفتح ابوابها لمزيد ومزيد من الشرائح المجتمعية الفلسطينية والسورية واللبنانية والمصرية والحجازية والمغربية أيضًا. وساهمت هذه التركيبة في تآلف مُمَيّز ولكنها في الوقت ذاته، حافظت كل شريحة على استقلاليتها ومكوناتها، أسوة بما كان يحصل ولا يزال لمهاجرين من دول مختلفة الى مدن كبرى في اوروبا وامريكا بميلهم الى التجمع حوالي بعضهم البعض. وهذا يفسر لنا، لماذا فضّل أبناء كل قرية وبلدة العيش في أحياء يتجمّع فيها ابنائها. ما يعني الحفاظ على أواصر القرابة والعلاقات الاجتماعية في القرية داخل المدينة. إذن، نلاحظ استعداد للاستيعاب ولكن مع حفاظ على مكونات تبعية لجذور قروية أو احيانا مناطقية، عند الحديث عن الوافدين الى حيفا من شمال افريقيا، أو من الحجاز وسواها.
يمكننا الاستفادة من نموذج كتاب كنفاني بكونه يعكس واقعًا عاشه ورآه بأم عينه. إلى جانب تصويره للحياة الاجتماعية داخل البيوت الحيفاوية بما فيها مناسبات جمعت النساء وحدهن أو الرجال وحدهن، وكان بيت عائلته هو النموذج لاستقبالات النساء الاسبوعية، واستراقِه للأحاديث التي كانت تدور فيها.
وفي ختام هذه المقالة، نشير إلى أهمية توثيق التاريخ الاجتماعي في السير الذاتية، وخصوصا في الحالة الفلسطينية، فإنّ السيرة الذاتية سِجِلُّ حياة ونشاط المجتمع الذي عاش فيه كاتب السيرة.
ملاحظة: جميع الصور المرفقة ملك شخصي لكاتب المقالة