وفي انكسارات إناء وردةٍ عاشقة.. في صباحات زمنها تنامُ أحلامها.. يا ابنة هذا الشرق خذي مني ما أعطتني
جدتي.. رواية من وقت ينزف على دموع اشتياقها، لكرمل يلفح هواءه وجنتيها وهي تفكك جدولة شعرها..
ولأنها في مثل هذا النيسان المنكوب رُحلت من بلدها مضرجة برعب المذبحة.. وأمام هول ما لم تعشه جدتي.. لا تمر عليَ كالبرق، هي كأنها الآن في غرفتها الصغيرة تروي لي عشقها..
نحن، يا أيها الناس، في وقتنا كثير من فرحٍ ينشغل بفرح الآخرين، هنا كانت ترمق بحر حيفا يرمي بُخاره على سهل الخيول ، تصحو من كبوتها، تداعب سنبلة نبتت بين شقوق جدار، وزمن جدي ، الذي كنت أداعب عظام كثيرة بحثا عنه، راح قبل أن أولد، وحيفا في دمي تسقى شرايين قلبي المتعب، نحن أيها الناس أبسط من تلك السنبلة بين يدي طفل يفركها، ولا يدري ما ستنبته، وكالفُرس نكبوا أوقاتا، وصهيلنا في الوديان، كان فيما “نحننا” تزاحم “أنانا” يصل مرجة دمشق و “بور” صور وبيروت، موجة بحر تركبها الفرسان في بحر طبريا..
وجدتي بقيت دموعها في حزنها وفرحها تسقي روحي، روحي تتأمل شعرها وعيونها الخضراء وأنفها القبطي، تلك جدتي، حين صحوت أتأملها بلا جد..
تلك جدتي، السنبلة العاشقة لحيفا … أشم زمني الراحل وهي تضمني بدفء قلبها، من برد لم أعرف منه سوى ما أخبرتني، ودفء زمني يرحل مُحضرا لي أناي المتعبة وحدةٍ، هو أنا الذي صار يهتز قلقا كرأس عصفور ، يغرد بحثا عن عاشقته بطرف غصن شجرة التوت على كتف كرمل البلاد، يداعبه بحرها..
هو القلق، وهو أنت حين يسألك: ولما لم تكن مثل هؤلاء؟ لمَاذا لَمْ تتركني عند مزهرية الياسمين على شرفة عاشق يتغزل بنفسه، ها أنا، أرتشف قهوتي .. الأخيرة.. وحدي.. قاطعا درجات هبوط نحو مقهى “النوفرة”، وخبز دمشق يداعب تنور ليس من زمن جدتي في طابون وقتها، ووجه شرطي مرتشٍ يشوه أزقة القيمرية، قبل أن تغزوها طلائع المستعمرين الجدد للشام
في تعرجات باب توما تنزف صبايا الياسمين، وهنَ يشحنَ بعيدا عن تلوث قوس الحياة، يتوسطها..
و بلا هدف.. تنتهي قدماي عند باب شرقي، المسجد يتداخل مع الكنيسة في الزقاق الأخير عندما رأيت يرموكي يجادل آخر عن الوقت إلى مخيمه، أحدق في الباب وحجارته، لابد أنه من زمن ليس ذلك الذي تَعلمَ فيه أطفال هذه البلاد بأنها لم تكن بلادا قبل أن يصير الحاكم الأبدي حاكماً..
يا جدتي، ولو تعلمين ما صارت عليه دمشق، ولو تدرين بأن التي كفكفت دموعك، وأنت تعشقين حيفاكِ .. صارت تكره كل زيفـ”نا”..
ينفض الرجل عن ثيابه غبار طرقات موحشة، ويكسو العقل طبقة منه، يا جدتي صار الزمان غير زمننا، وخيول الغوطة ذُبحت عند قدم تهبط من سماء تعصف بعروبتنا..
- وكان أحمد يعشق البلاد..
يخبئ الناصرة بين ضلوع البلاد، وهو يندهش في دمشق، وهنا وقف عبد الناصر يا أحمد، أحمد أبو حسين، تسرق ابتسامات اللقاء الأول، ذلك الموت المؤجل، ثم يسحبه الموت لحظات بعد اندلاق طفولتنا على درج القلق إياه..
- أهذه عظام جدي يا حيفا؟
لشظايا الإناء ظلها الغارق فينا..
انظر يا صديقي، هذا هو المرج، وبكفه يشير هاشم ، العاشق لإلهامه، حارسة ذاكرة خميرته الأولى في مدماك زمنه خلف القضبان، نحو مرج بن عامر، فهنا تاريخ.. وهنا منبت قلق على قلق .. تراكم في انفجار الأرض زلزالا ابتلع ربع جبل وخيول الرجال ترى غبارها في الرينة(*).
ونزعت حذائي حين ولجت القبر الجماعي، أقلب جماجم زمن جدي، هنا يرقد عز الدين القسام.. محاطاً بسياج رصاصات لم أبحث عنها بين العظام، ومن فوقها تتدلى ليمونة.. أحمل منها اثنتان حين كان توفيق يخبرني عن اندهاشه من ذلك القبر الذي خُبئ كتاريخنا في الأقبية..
ويا لعكا .. أرتعش عند سورها تلطمه موجة تاريخ .. تاريخنا المركون.. وبيوت يافا يَنهب تاريخها ” مثقف يهودي” عند مئذنة مسجد يصير مطعما يُشبع كل انفصام الفن.. والثقافة تحبو على أنقاضنا وجثثنا الموزعة بلا نسق..
أُقلب جمجمة وراء أخرى.. يأكلني الغيظ اليوم أني لم أبحث عن فشكات اخترقتها.. ويسألني: وماذا ستفيد كل تلك يا صديقي؟ … أنت في زمن آخر، هنا سلموهم أداة الجريمة وزادوها فتكا.. وهناك سحبوها فازدادوا صمتا على الذبح متنقلا..
صوري فيها أرى بعض شام.. يكبر.. ولابد أنه صُدم حين كشفوا له بأن “العكيد” الذي عاش دوره كصبي محبٍ لشام المسمى باسمها كان باب حارته يوصد على ” علم انتداب” بعد أن كان استقلال.. فيا لانفصام ذلك النادل في رام الله وهو يُسكت الزبائن لينصتوا إلى مسلسل يتحول إلى جزء من ” المؤامرة”..
وجدتي عاشقة حيفا غادرت قبل أن تصير الشام ما صارت عليه.. شامها ليست دمشق ببواباتها وأسوارها.. شامها تمتد من حيفا إلى سهل حوران حتى حلب.. تلك هي شامها وهي تقول لي: اذهب إلى السيدة زينب واربط خيطا.. فستنجح في امتحانك.. تعلم يا ابني فقد أخذوا منا البلاد بالعلم.. زينب هي جدتي وعظامها في مخيم اليرموك.. لا فرق عندها بين شام وشام.. فحيفا لها وطن مثل الشام.. وإن ظلت تحن إلى حيفا عودة..
لبلادٍ.. يحملها قلبها الأخضر
“أنا المركون على قارعة قلب بلاد.. أعرف أنه كبير.. وهي أراد قلبي أن تحتل مكانها اللائق.. قبل الرحيل!”
فكرت ذات مرة: لماذا نخاطب البلاد بصيغة المؤنث؟
ربما لامتزاج اللغة بجمال العشق، يسدل شعره على واد.. في القدس لم أعرف اسمه.. إلا بعض التضاريس.. ولأنني لست بمكتشف لأنثى بلادي التي تحرس الزيتون والذاكرة، خضت في الخلط بين البلاد وجمال عشق لا يدري منه سوى صدري الصغير..
في الطريق كان شجر التين قد أثمر.. كان هذا في عام مضى يلتقط منه صديق ما يريد مذكرا إياي بمهنتي الطفولية في المزة حين كنت أخرج فجرا.. لأنهم قالوا أنه أفضل وقت لجمع ثمرات التين ، بالقرب من المقبرة الفرنسية كان الصبار عند العصر عاشقان يسرقان وقتا مستقطعا.. فماذا يعني أن يختلس طفل مثلي مشهد عشق في المقبرة الفرنسية بدمشق، وهو يذكرني بزوجي حمام راقبتهما في شقوق دير قديم قدم عقل الإنسان؟
واليوم أنظر بحسرة الراحل، وهو يراقب مشهد الورق والثمر الذي ينتظر أشهرا قليلة كي يثمر.. كنت عند صديق ألملم ما تطرحه شجرة الرمان، لتُخفف عن نفسها زهرٌ وثمرٌ يثقلها قبل أن ينضج.. توهمت أني سأحمل في حقيبتي زهر الرمان، وتخيلت دالية صغيرة.. قبل أن أصحو من حلم يقظة في اختلاف المناخ..
سيأتي موسم التين، وربما الرمان، والدالية سيخفف عنها يدان ترفقان بحنو على القطوف المتدلية.. كانت.. وربما ما تزال جدتي في مخيمها البعيد، تصحو في الفجر لنروي ظمأ كل القلب الأخضر، المعلق على جدران خارجية وداخلية لمنزل متواضعٍ، تجعل من الشارع مكانا يفيء منه الناس شمس النهار.. وأمي التي لا تترك زاوية أو ممرا، مهما كان ضيقا ومتواضعا، إلا وتضع فيه نباتات من كل نوع.. تعيد طقس أمها الصباحي.. تُكنس وتمسح مدخل الدار بعد أن تروي ذلك النبات الذي يمتد من مدخل الحارة إلى مصطبة القهوة الصباحية..
كيف لمخيم أن يحمل كل هذا النبات.. والشجيرات التي ترعى بعيون ترى شيئا وهي سارحة في البلاد.. لما لا؟ فهؤلاء الذين زينوا حاراتهم بأسماء مدنهم وقراهم ما عاد يهمهم كل الوعود.. البلاد تسكنهم كما الزعتر الذي لا يفارق البيوت..
*** ***
ضحك صديقي حين تناولت سمكا مجبولا بالحبوب.. لأنني قلت ” هذه الوجبة تذكرني بطفولة ما..”.. فطلب مني أن أنظر إلى نصف الكأس الملآن .. لكنه على أية حال كان سمك البلاد.. لا أحد يسأل السمك “من أي شاطئ تم اصطيادك؟ “.. لكني سمعت الناس تسأل وتنشغل كثيرا بمسقط رأسها.. لعلني لن أجد، أو لن أقول تفسيري المقتحم لعقل هؤلاء، حتى يَنصب الاهتمام على أسئلة لا علاقة لها بما نحن عليه..
في الطريق تلفحني الشمس في “واد النار”.. وحين أصل إلى رصيف الفندق، أجد صديقي وقد أرهقته عيناه وشعره الداكن تموجه خصلات رمادية.. نسير حتى نصل قبل الغروب.. وقبل أن يسأل إن كنت جائعا قلت: كم أنا جائع وعطش يغمرني!
جلسنا نعيد ترتيب لوحة ليست سهلة.. كان يُكثر من ابتساماته.. يحدثني عن مشاريع الكتابة والانتقال.. عن تفاصيل كثيرة لم يسنح لنا الوقت أن نحكيها في السابق.. كأني لم أره منذ زمن بعيد جداً..
نزلنا باتجاه ذلك الوادي المعشوشب.. كانت الأضواء تشير إلى أن القمر حل مكان الشمس.. لم يصمت كثيرا.. ظل يحدثني وبقيت أستمع بشغف عله يصل إلى ما كنت قد حلمت به.. فبعد فترة طويلة من الانقطاع لا بد أن يكون للحديث طعم آخر.. أنا لا أقول بأننا لم نتحدث عن السياسة ونحن نرى كل ما يدور حولنا.. لكن البشر.. أو الإنسان.. أو كلينا.. جميعنا بمن فيهم أنتم، كان محور هذا الحديث..
أعترف بأني شعرت بخيبة أمل.. صرت أهلوس: ماذا لو قال لي غير ما قاله الآخرون؟ ماذا لو أعاد صياغة جمل التحمل والصبر والبقاء.. وكل المفردات التي يستخدمها الأصدقاء؟ ماذا لو كتب لي رسالة بدل عناء هذا الالتقاء المؤلم.. لكلينا؟
ربما تغير الأمر.. أو ربما استجمعت بعض الألوان الخضراء من قلب أخضر.. يبدو أنه يمنع نفسه من الارتواء.. فحتى الماء تسرق..
قرأ صديقي نص “رحيل بلا مقدمات”.. كنت أعتقد أنه لن يكون مثل غيره من الذين فرحوا لهذا الرحيل.. أصابني الصمم.. لم أعد أستجمع هذا الكلام المتدفق بدفء يلسع أذني .. جوفي كان حارا.. وفمي ظمأ.. رأيت نفسي كمن يُدفع إلى واد سحيق.. تلفظه كل حرارة التردد..
أيمكن حقا أن يكون مثل البقية؟
سؤال ظل يطيح برأسي، مذ تمددت مسترجعا ذكريات هذا العمر، الذي تمنيته للحظات على صدر البلاد.. أمسكت بجأشي.. وبكل الجمال الذي تربى فيَ سنوات الغياب.. قَطع آذان الفجر صوتي الداخلي.. فركت عيني وإذ بالصبح يعيد خيوط الشمس إلى مكانها.. متثاقلا وجدتني أستمع لنشرة الأخبار من “مونتي كارلو”.. أرتشف قهوتي.. وأنا أسأل نفسي: هل كنت أحلم، أم أني فعلا قابلت صديقي؟
لم يكن حلما.. فقد كنت مستيقظا.. أحدق في الفراغ.. بجدران بيضاء على أريكة أتعبت مفاصل جسدي.. لكنني أعترف أن حلما ما قد اجتاحني، قبل أن أجده سرابا.. فعدت إلى كل واحة خضراء صغيرة، الممتدة من المخيم.. إلى “جنة صديقي” وأنا أراقبها من تحت رمانة تنثر ما تطرحه عن كاهلها.. !
_____
* الرينة.. مدينة صغيرة وادعة من قضاء الناصرة… فيها سكنَ الصديق الجميل الراحل الصحفي هاشم حمدان… وفيها كانت الدكتورة الراحلة روضة عطا الله تُعرفني على وجه البلاد الآخر..