قبو العوانس

 حين انتهت الخطّابة رشيدة من نزول الدرجة الأخيرة، لفحتها رائحة العفونة المختلطة برائحة الفحم والتبغ، فأحسّت بقشعريرة خفيفة ذكرتها بعملها في “الريجي”، وبأوجاع ركبتها المتزايدة يوماً بعد يوم.

ــ وينكم يا أهل الدار؟

قبل أن تمتد الأيدي وتفتح الباب لرشيدة، كانت الزغاريد قد لعلعت من كل صوب وملأت أرجاء القبو باحثةً بين دخان النراجيل عن مكان تنفذ من خلاله إلى آذان كل الجيران، فأم سعدى، بعد وفاة زوجها، تعودت، وبناتها، على استقبال الخطابات بالزغاريد حتى لو جئن إلى البيت لمجرد الزيارة، إذ على مبدأ ((صيت غنى ولا صيت فقر)) كانت توحي للجميع بأن بناتها الخمس مازلن مرغوبات ومطلوبات للزواج، وهذه العادة قد تساهم في لفت النّظر إليهن، لكنها بالتأكيد جاءت متأخرة، كون سعدى البنت الكبيرة قاربت الأربعين عاماً رغم إصرارها على أنها مازالت في الثلاثين، وسعاد التي تصغرها بحوالي ثلاثة أعوام، لا تختلف عنها كثيراً، أما فوزية البنت الثالثة فهي عبارة عن كتلة هلامية ضخمة لا يتحرك فيها إلا اليدان والفكان، وإن تحركت كلها لا يمكن التمييز بين ذهابها وإيابها، ولأنها لا تفكر بالزواج أصلاً، لا تحاول أبداً الاهتمام بشكلها رغم بكائها أحياناً من تعليقات أمها التي تسعى دائماً إلى جعلهن أكثر حيوية وتفاؤلاً من خلال حثهن على الاهتمام بجمالهن ((المميز)) وأخلاقهن الفاضلة، وإقناعهن بأن سبب تأخير زواجهن كان ناتجاً عن رفض والدهن الدائم للعرسان، كالذي لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب.

ــ أهلين بهالطّلة

ــ … … …

ــ تفضلي يا رشيدة تفضلي

استقبلت أم سعدى وبناتها الخطّابة رشيدة، وتبادلن معها القبل والأحضان، وهرعت فيروز البنت الرابعة إلى تجهيز النّرجيلة الخضراء المخصصة للضيوف الأعزاء، ففيروز أكثر أخواتها قرباً من رشيدة، وهي الوحيدة التي يمكنها الخروج معها في زيارة الأسواق والجيران والتسكع على كورنيش البحر إلى ما بعد غروب الشمس، حيث يحلو لها البوح لرشيدة عن رغباتها وأحلامها وكوابيسها التي لا تنتهي.

وإن كانت أم سعدى تدعي أن زوجها السّبب الأول في تأخير زواج بناتها، فالكل يقرّون، بصمت، أن سبب عنوسة فيروز – شق التوم – هو الله عزَّ وجل، ولا يمكنهم إلا شكره على نعمته. وإن بدا على فيروز حين تنظر إلى وجهها الجميل وصدرها العارم، ومن ثم إلى رجلها العرجاء، إثر خلع في الولادة، إن بدا عليها التذمر من نعمته، وأحياناً الكفر بها، فإنها لا تقطع فرضاً، بل وتكون أكثر أخواتها خشوعاً وبكاءّ في الصلوات الجماعية. وهي التي كتبت لها الحياة بينما غادرها أخوها التوأم، تفكر دائماً بالموت، وياما هجست لرشيدة بذلك، خاصة بعد جلسات التّحسر على حرمان العائلة من الذكور، والتي يعاد بها غالباً الحديث عن وفاة صبي العائلة، وعن الآلام والأحزان الشديدة التي سببت لأم سعدى انقطاعاً عن الإنجاب دام طويلاً رغم زيارتها لعدد كبير من الأطباء والشيوخ، وكلهم لا يعرفوا سبباً لهذا الانقطاع، اللهم ما عدا طبيب أرمني ذهبت من أجله إلى مدينة جلب، قال لها بعربيته المكسّرة: ((أنت مدام ما يصير رضاعة، في رضاعة، أولاد ما في)). ربما كان رأيه صائباً في سبب الانقطاعات المتتالية التي كانت تحدث معها، حيث لم توجد مدة تقلّ عن ثلاث سنوات بين ولادة وأخرى، لكن هذا الانقطاع استمر أكثر من عشر سنوات لم تترك خلالها أم سعدى طبيباً أو شيخاً إلا زارته، ولا دواء إلا جربته، ولا حجاباً إلا علقّته على صدرها، تحت إبطها وسرّتها، داخل سروال زوجها الذي كاد يكفر بكل الأديان حين تحايلت عليه ونتفت من خصيته اليسرى أربع شعرات وضعتها في أحد الحجابات التي أدت كثرتها إلى اختلاط الحابل بالنابل، فلم تعد أم سعدى تعرف هذا الحجاب لأي شيخ، ولا أي شيخ صاحب هاتيك الوصفة. حتى حين حصل الحمل لم تعرف السبب: أهو من دواء الطبيب الأرمني الذي عاودت زيارته عدة مرات، أم من مغلي أعشاب الشيخ عباس، أم منقوع خلطة الشيخ مسعود أم من دهنة الشيخة بديعة، أم من… المهم حصل الحمل وانتفخت الأمنيات، وحلم أبوسعدى بالنبي يونس يزوره وهو يرتّل سورة مريم تحت دالية خضراء، وقال له: ستزرق بولد ذكر تسميه برهوم على اسم جده المرحوم.

تفاءلت أم سعدى كثيراً بهذا الحلم، وراحت ترصد بوادر تحقيقه من خلال الإشارات والعلامات في الرّمل والأصداف وعبر خطوط القهوة المتعرجة داخل الفناجين.. وأكدت للجميع أن لبطات الجنين تختلف عن كل من سبقوه، واستمرت في تأكيداتها وهي تعاني من آلام المخاض التي طالت أكثر من اللازم حتى جاءت فطوم يلفّها برقع رقيق شفاف لامع يعكس جمالها كهالة من السحر والضياء، جعل القابلة تشهق بذكر الله، ومن ثم تسبع المولودة وهي تقسم أنها ما رأت في حياتها جمالاً مثل جمالها، ولا ولادة أيسر من ولادتها، أما أبوسعدى الذي كان يحوص أمام باب الغرفة بانتظار قدوم برهوم، فقد أدرك من خلال الصمت المطبق على مخارج الزغاريد أن المولودة بنت، لكنه هرع ليتأملها وهي تفلعص بين يدي القابلة، وبصمت قبّل زوجته من جبينها وركض ليجلب خرزة زرقاء تلبية لطلب الشيخة بديعة، التي تنبأت للمولودة ذات البرقع بحظ كبير في الدنيا والآخرة، وبرعاية دائمة من الله ورسله وأوليائه الصالحين.

ــ والله أهلين بها الوجه السمح، أهلين بأغلى رشيدة

ــ … … …

ــ طولوا بالكم يا جماعة، خلوني آخذ نفس

رشيدة الخطّابة تعاني من ضيق التنفس يتعبها منذ صغرها، وزاد وضعها الصحي سوءاً عملها في مصنع التبغ (الريجي)، وآلام ركبتها المتزايدة، لكنها مازالت تبدو قوية بالنسبة لنساء جيلها اللواتي يناهزن الخمسين عاماً. والمفارقة الغريبة العجيبة، هي أن رشيدة من عوانس الحارة أيضاً! لماذا خطّابة وعانس؟ الأسباب متداخلة والأقاويل متضاربة، البعض يقول إنها مسترجلة، ولا تفكر إلا في جمع المال، والبعض الآخر يذكر المثل القائل (باب النجار مخلوع)، وهناك من يقول إنها تجرب الرجال قبل أن تخطب لهم، وهناك من يؤكد أنها صرفت عمرها ودم قلبها، وضيعت شبابها في سبيل تربية أخواتها.. وهكذا تتكرر الأوقايل كلما تمت خطبة أية فتاة في الحارة، ولكن إذا سألوا رشيدة قالت: ((الكيسين ما قبلوني، والعاطلين ما قبلت فيهم)).

ــ تفضلي يا رشيدة، أرجيلتك جاهزة

ــ يسلموا هالأنامل يا أحلى فيروز بالساحل

ــ تسلمي لأخواتك يااارب

في الصباحات الباكرة توقظ أم سعدى بناتها ليغتسلن، ويلبسن ملاءات بيضاء استعداداً لتلبية دعوتها لقيام الصلاة، وبعد الصلاة يتناولن فطورهن ويذهبن إلى مراياهن، يصبغن وجوههن بأجمل ألوان المكياج، ويرتدين قمصان نوم شفافة لم تستخدم للنوم يوماً، يجلسن بها حول نراجيلهن، يقرقرن، يثرثرن، وأيضاً يعملن، فلقد اضطرت أم سعدى إلى الاتفاق مع صاحب معمل الحلويات على أن تقوم وبناتها بتغليف قطع السكاكر مقابل أجر تستطيع به دعم مدخول أسرتها القديم الآخذ بالتناقص منذ وفاة زوجها الذي ساهمت معه كي تعم شهرة مخللاتهم اللاذقية كلها، وتابعت بعده عملها بدقة متناهية، وأضافت أصنافاً جديدة من الخضار والزيتون، وحرصت على أن لا تلمس أية بنت من بناتها أوعية التخليل أثناء أيام دورتها الشهرية، فلماذا إذاً تراجعت شهرتهن وقل عدد زبائنهن؟ ((شو يا رشيدة؟؟)). غابت رشيدة يومين، وعادت تدندن ضاحكة: ((ومع أن مخللاتك طيبين، بس بعبصة النسوان ما بتعجب الموسوسين)). حينها أدركت أم سعدى تماماً ماذا تعني هذه الدندنة، وسارعت إلى البحث عن مدخول ثان تعيل به أسرتها..

ــ وأهلين ببشارة الخير

ــ الله يخليك يا أم سعدى

ــ أيوا يا رشيدة شو مخبتيلنا اليوم؟؟

بهدوء مصطنع سألت أم سعدى عمّا تخبئه رشيدة في جعبتها، فعم الصمت أرجاء القبو العابق بالدخان ورائحة الرطوبة المختلطة برائحة السكاكر والمخللات، صمت حذر تشوبه قرقرة النراجيل، استطال أكثر من اللازم، فبدا للجميع أن رشيدة تحمل أخباراً هامة ومميزة، وهذا ما دفع أم سعدى وسعاد لتسألاهها معاً:

ــ شو يا رشيدة شو عندك اليوم؟

ــ قررررررق… برررررق… قرررر

ــ يا الله يا رشيدة خلصينا

ــ طيب يا جماعة، صلوا على النبي

صلى الجميع على سيدنا محمد، خلعت رشيدة ملاءتها السوداء، أخذت نفساً عميقاً، ارتفع من جرّائه صدرها المتهدل وصوت حشرجتها، وبعدما أسندت كوعها على الوسادة التي جلبتها فيروز، ومدّت رجلها كي تغفو أوجاع ركبتها قليلاً، راحت تنخ لهم فقاعات فضية تخرج مع دخان نرجيلتها الرمادي، فقاعات تحمل في فراغها اللامع صفات ومواصفات الخطيب، وكل صغيرة وكبيرة عن حياته وأصله وفصله… فقاعات متصاعدة مع ماء النراجيل تخفق لخفقاتها قلوب العذارى اللواتي راحت كل واحدة منهن تحلم بذاك الخطيب العجيب، معتقدة بأنها العروس المطلوبة.

ــ أيوا يا رشيدة، ومن سعيدة الحظ؟؟

كان من عادة أم سعدى أن تقدم للخطّابات ابنتها الكبيرة، وإن لم تكن سعدى ففيروز، ولكن مواصفات هذا الخطيب جعلتها تفكر بصوت مرتفع، فخرجت أفكارها من شفتيها على صيغة سؤال غير موجه لأحد، سؤال أعادت تكراره وهي تبحلق في جمرة نرجيلتها:

ــ أيوا يا رشيدة، ومين سعيدة الحظ؟؟

ــ والله يا خيتي، يعني بصراحة بصراحة، الخطيب حاطط عينه على فطوم

ــ فطّوم؟؟!

شهق الجميع بما فيهم فوزية التي توقفت عن قضم السكاكر، ففطوم لعبتهن الصغيرة، ولا يتخيلن أبداً أنها ستكبر يوماً رغم تجاوزها ربيعها الخامس عشر، ولا يعتقدن أنها صالحة للزواج أصلاً، ولهذا – بعد سماع اسمها – سلطن أنظارهن دفعة واحدة باتجاهها، مما جعلها تهرع لارتداء ثوب آخر فوق قميص نومها الشفاف، وتبحث عن زاوية تتكور فيها بعيدة عن عيونهن، قريبة من حواراتهن.

ــ بس فطوم صغيرة يا رشيدة

ــ والله الرجّال رايد فطوم، ومستعد يدفع البدكم ياه

إن تبني رشيدة لما يريده الخطيب تفهمه أم سعدى جيداً، ورغم أنها شهقت مع بناتها حين سمعت اسم فطوم، إلا أنها أدركت من خلال المواصفات المطروحة أن طلب الخطيب لن يكون كما تتوقع، وإن حاولت اقناع نفسها بأن رشيدة تبالغ كعادتها، لكنها هذه المرة الوحيدة التي يُترك لها تحديد المهر.

ــ يا رشيدة فطوم آخر العنقود، وأنت بتعرفي البير وغطاه

ــ بعرف يختي بعرف، بس العريس لقطة، صدقيني لقطة

فطوم آخر العنقود، متوسطة الطول رغم أنها تبدو طويلة بالنسبة لأخواتها، شعرها أسود فاحم يصل إلى ردفيها الصلبين، قدها ممشوق وصدرها مشرئب، بشرتها ياسمينية نضرة، وعيناها السوداون بها بريق آخاذ، وماكياجها سبحان الله – كما تقول رشيدة – رباني: حمرة خجلة دائمة على خديها، وعلى شفتيها المكتنزتين رضاب لامع يفضي على لونهما القرمزي الطبيعي شبقاً ساحراً، أما صوتها، فهادئ تشوبه بحة خفيفة تجعله قريباً من وشوشة العشاق، ولكنه يد يتحول إلى نحيب حاد إذا عكر مزاجها شئ ما، أو وقف أحد ما في طريق تحقيق ما تريد، ففطوم النورانية حظيت أثناء طفولتها باهتمام الجميع، وخاصة والدها الذي كان يأخذها معها أينما ذهب، ويشتري لها الثياب الولادية المتناسبة مع شعرها القصير، ويشرف على طعامها وحمّامها، وحتى على نومها الذي صار أغلب الليالي معه في سريره بعدما ظهرت عليه علامات الشيخوخة بشكل مفاجئ حين خلع كل أسنانه، وصارت عواطفه – كما تقول زوجته – أكبر من عمره، وملأت البيت كله فإضافة لتدليله لفطوم أصبح يهتم بكل أفراد الأسرة، وكثرت زياراته للحدائق العامة والمقاهي والمساجد، وترك كل أعمال التخليل لأم سعدى، وراح يخرج من وعكة صحية ليدخل في وعكة جديدة إلى أن وافته المنية وفطوم في ربيعها السادس، وكانت وصيته الوحيدة هي إدخالها إلى المدرسة، لكن تلك الوصية لم تنفذها زوجته إلا بعد نحو سنتين حين فتحت مدرسة قريبة من الحارة، وهذا التأخير ساهم في جعل فطوم تبدو مميزة عن بنات صفها، فلقد تبرعم نهداها وهي في بداية الصف الثالث، وفي نهاية الرابع احتفلت بقدوم دورتها وبتركها للمدرسة، بعدما قررت والدتها أن وصية والدها تعني تعليمها القراءة والكتابة، أي أن تصبح قادرة على فكّ الحرف، وفطوم – ما شاء الله – تطالع كل الصحف والمجلات، وتقرأ وتكتب الرسائل لمن يريد من الجيران.

ــ بس يا رشيدة فطوم الوحيدة المتعلمة بين أخواتها والفرص كثيرة قدامها

ــ طب ما هوّي الخطيب معه بكالوريا؟

فطوم لم تكمل تعليمها لأنها أيضاً لا تحب المدرسة، وإلاّ لا توجد قوة في العالم تجبرها على تركها، فكلهن يتذكرن كيف استمرت في البكاء لمدة أسبوع، وأضربت عن الطعام لأنها تريد الذهاب إلى المدرسة تاركة شعرها مفروداً على كتفيها بدون منديل يغطيه، ويتذكرن أيضاً كيف أصرت على  الرقص حين احتفلت بقدوم دورتها رغم أن الاحتفال يغلب عليه الطابع الديني عادة. ويبدو أن قرار أمها تناسب أيضاً مع ميولها للجلوس في البيت مع أخواتها اللواتي صرن يشعرنها، بقصد أو بدون قصد، أنها غريبة عنهن حين يضحكن على مواضيع وحوادث حصلت أثناء غيابها في المدرسة التي تكره التقيد بنظامها وبوظائفها المنزلية خاصة، حيث حقيبتها التي كانت في بداية دراستها لعبة مميزة بيد الجميع، صارت فيما بعد قطعة مهملة بين الخضار المعد للتخليل، أو السكاكر المعدة للتغليف

ــ والله ما بعرف شو بدي أقول لك يا رشيدة

ــ على كل حال فكروا مليح، ومعكم أسبوعين لتردوا خبر للسيد محمود اللامي

أسبوعان كاملان ورشيدة في جولاتها المكوكية تحاول إقناع أم سعدى بالموافقة على اللامي، وأم سعدى تحاول عن طريق رشيدة إقناع اللامي بالعدول عن فطوم، واختيار أي بنت من بناتها اللواتي أرسلتهن إليه واحدة تلو الأخرى، ضاربة بعرض الحائط كل الأعراف والتقاليد، علّه يتعرف عليهن عن قرب ويعجب بواحدة منهم، لكنه – للأسف – ازداد إصراره على فطوم أكثر وأكثر، وبدأت المساومات من جديد:

ــ بس يا رشيدة اسمعنا أنه سكرجي؟

ــ ليش في حد بيشتغل في البواخر وما يشرب سم الهاري؟

ــ وبعدين شغل البواخر خطر

ــ أي هي ((الدوررات)) بتجي بالساهل؟؟

هذه الحوارات تجيدها رشيدة تماماً، فهي أخت فطوم في بيت اللامي، وأم اللامي في بيت فطوم، وكلما عصلجت الأمور أكثر، ازدادت أجور أتعابها أكثر، واخضوضرت الدولارات أكثر وأكثر، لكن إلى درجة تحافظ بها على ألا ينقطع الخيط بين الطرفين، حيث تقرأ بوضوح تردد أم سعدى وأسباب طرحها سلبيات الخطيب، فتؤكد على ثقتها بمحمود اللامي وبإمكانياته المميزة، كما تؤكد للامي ثقتها الكبيرة بجمال فطوم وبعفتها، ((وما حدا باس تمها غير أمها))، فرشيدة ابنة الساحل تسمع الكثير عما يشاهدونه من نساء هؤلاء الذين يعملون في البواخر.

ــ ولا تنسي يا رشيدة قدّيش يغيب عنها لما يسافر

ــ وأنت كمان لا تنسي أنه بدّه يسجلها باسمها بيت طابق ثاني

أم سعدى التي مازالت مترددة، وأفكارها تتأرجح بين الرفض والقبول، يزعجها ما سمعته عن شربه الدائم للكحول، ولكن ما يقلقها تماماً، هو ذاك الفارق الكبير في السن بين محمود اللامي وأبنتها فطوم، وإن قالت رشيدة أنه يكبرها فقط بعشر سنوات، فهذا يعني عند أم سعدى أنه يكبرها بأكثر من خمس عشرة سنة، وهي التي ذاقت الأمرّين من الفارق الكبير بينها وبين زوجها، كيف ستورّث أبنتها المدللة نفس معاناتها؟

ــ بصراحة يا رشيدة، اللي محيّرني كتير هوي الفارق بالسن بين السيد محمود وفطوم

ــ إهيي، كلها عشر سنين

ــ علينا يا رشيدة؟

ــ طيب ما هوي كل شئ بحسابه

طبعاً أم سعدى تفكر جيداً بالمهر الكبير الذي يمكنها بالجزء الباقي منه شراء ماكينة لحياكة كنزات الصوف، وبالتالي إنقاذ أسرتها من أوضاعها المعيشة المتدهورة، وربما هذا ما جعلها تقنع نفسها أحياناً بأن الخطوبة ستكون فأل خير على الأسرة، فبسقوط حبّة ستفرط السبحة كلها، وتزوّج بناتها واحدة تلو الأخرى، لأن زواج فطوم سيؤكد للناس أنه لا يوجد خلل مشترك يمنع كل البنات من الزواج، والزواج قسمة ونصيب.. رغم كل هذا ظلت أم سعدى مترددة، سافر محمود اللامي إلى قبرص، وعاد بعد حوالي أسبوعين، فعادت رشيدة لفتح الموضوع من جديد، وخاضت عدة جولات حوارية بين الطرفين دون أن تتوصل إلى نتيجة.

عمّت الأسرة حالة من الفوضى أثرت على عملها، ازدادت الخلافات بين البنات، صارت فطوم تشعر أن أخواتها يعاملنها معاملة مختلفة، فاشتكت إلى أمها التي أصرت على أنها تتوهم ((هاي كلها وساوس))، لكن فطوم التي لا تقتنع ببساطة كعادتها، سألت رشيدة، وحين أجابتها: ((هادا كله من الغيرة، من غيرتهن حبيبتي)) زادت تلك الكلمات من انشغال تفكيرها بما يميزها عن أخواتها، ربما تمتلك من إمكانيات تجعلها قادرة على تحقيق أحلامها.. ففطوم التي تكره نافذة بيتها المطلة على أقدام المارين عبر الزقاق، تحلم بنوافذ مشرعة للريح تسمع منها دردشة الموج وتشاهد الآفاق البعيدة.. فطوم التي تحسّ أن للعتمة رائحة مقيتة في قبوها، تحلم ببيت في الطابق الثاني، تزوره الشمس عبر بلكون يطل على البحر، درابزينه خشبي مزركش بالأزهار ونباتات الزينة، هناك حيث حبال غسيلها ترفرف عليها أثوابها الملونة التي سيحملها لها زوجها من بلاد بعيدة هي والألعاب وحكايات البحارة الشيقة.

ــ وينكم يا أهل الدار؟

ــ أهلين برشيدة، تفضلي

ــ كيفك يا فطوم؟

ــ مليحة، الله يخليك يا رب

تطورت العلاقة بسرعة كبيرة بين فطوم ورشيدة، فصارت تختلي بها في القبو، وتأخذها معها إلى الأسواق وكرنيش البحر، أو إلى بيت الخياطة رغم تذمر أمها، وأخذت فطوم تهتم بأحاديث تتذكر أنها سمعتها من قبل، لكنها بالتأكيد لم يكن وقعها عليها هكذا، وإلا لماذا يرتجف عصفور قلبها، ويزداد دفق الدم إلى أذنيها حين تحدثها رشيدة العانس عن ليلة الدخلة وأسرار الزواج، ناقلة لها – كما تقول – ما سمعته من تجارب تحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، وتجيد سردها بنبرات متفاوتة البحة وتنهدات وآهات متنوعة، تجعل فطوم رغماً عنها تعتقد أن رشيدة صاحبة هذه التجارب، وبقربها منها تقترب من الحقيقة أكثر، فتدغدغها الهمسات أكثر فأكثر، وتحرضها التخيّلات على تعطي قراءة ما يكتب في الصحف والمجلات عن هذه المواضيع.

ــ ها يا أم سعدى شو عندك اليوم؟؟

ــ قررررررق… برررررق… قررررر…

تابعت أم سعدى مجّ دخان النرجيلة الخضراء، وعلى سحنتها يلوح ظل ابتسامة غريبة تثير التساؤل، فهي إضافة لكونها لم تضحك منذ شهرين فإنها مازالت متوترة وقلقة بشأن خطوبة فطوم، وخائفة من اتخاذ أي قرار، فلماذا هذه الابتسامة؟ هل وافقت أم سعدى أخيراً على تخطيب فطوم لمحمود اللامي؟ هذا ما ظنته رشيدة، لذلك عاودت سؤالها لأم سعدى بفرح خبيث:

ــ أيوا يا أم سعدى، لو وصلت؟

بعد صمت ثقيل تطاولت خلاله الرقاب وبحلقت العيون من كل صوب باتجاهها، وضعت أم سعدى نربيج النرجيلة الخضراء جانباً، وقالت والابتسامة ترف على شفتيها:

ــ يفتح الله

ــ شو يعني يفتح الله؟

ــ يعني ما في نصيب

رشيدة التي لم تصدق ما سمعته، اقتربت من أم سعدى حتى لامستها، وحاولت رغم تأتأتها صياغة سؤالها من جديد… إلا أن فطوم تقدمت فاردة شعرها الأسود الفاحم على ردفيها الصلبين، وصرخت بأعلى صوتها:

ــ بسس أنا بدّي إياااااااه

مأتم الزفاف

أمام إصرار اللامي على الزواج من فطوم أصغر أخواتها سناً، اضطرت أم سعدى الحائرة بعنوسة بناتها إلى إرسالهن إليه واحدة تلو الأخرى علّه يراهن عن قرب فيعجب بواحدة منهم ويتراجع عن إصراره، إلا أن اللامي بعد تعرفه على سعدى وسعاد ازداد تمسكه بفطوم أكثر وأكثر، واليوم جاء دور فيروز:

ــ ديري بالك يا رشيد، ما بدي فيروز تعرف بزيارة أخواتها

ــ من هالناحية اطمّني يا أم سعدى، وحطي ببطنك بطيخة صيفي

دقت رشيدة الخطّابة على صدرها، وكلها ثقة بقدرتها على ضمان عدم معرفة فيروز بزيارة أختيها، لكن من أين لها ضمان عدم فهم اللامي لأبعاد تلك الزيارة، وفي زيارتها الأولى عرفته سهواً على سعدى بأنها أخت فطوم الكبيرة، وأدى ذلك إلى انزعاجها وخروجها قبل أن يكمل اللامي قهوته ودهشته.

ــ وكمان لا تنسي اللامي يا رشيدة

ــ … … …

ــ شو شايفتك سكتّتي؟

ماذا عند رشيدة غير الصمت، رغم أنها في زيارتها الثانية مع سعاد قالت للامي إنهما كانتا في سوق البالة، ولم تعجبها أي قطعة، فعرجتا على بيته لتشربا قليلاً من الماء البارد، وعرّفته على سعاد بأنها ابنة جارتها الخياطة، ورغم أن سعاد كانت في غاية أناقتها وطلاقتها، تفتّلت في أنحاء البيت كالغزالة، صنعت القهوة بنفسها، تحدثت مع اللامي براحة تامة.. رغم كل هذا تعامل السيد محمود اللامي مع سعاد برسمية واضحة وجلافة غير مألوفة، وقبل خروجها انفرد برشيدة وطلب منها أن تأتيه في المرات المقبلة ضمن مواعيد محددة.

ــ بدّي أوصّيك بفيروز يا رشيدة

ــ ما أنت عارفة يا أم سعدى قدّيش غلاوتها عندي

تأكدت فيروز من رتابة ثيابها التي خيطتها خصيصاً لهذه الزيارة، ألقت على رجلها اليسرى نظرة عابرة، ومن ثم اتكأت على رشيدة وصعدت درجات اللامي الموصلة إلى الحلم، هناك حيث كان يجلس خلف الباب الموارب ودخان غليونه تتسرب رائحة تبغه المنعشة خلسة من بين أصابعه.

ــ أهلاً أهلاً برشيدة

ــ تسلم يا سيد محمود تسلم

ــ فيروز ماهيك؟

ــ نعم نعم، هي بذاتها

دهشت فيروز مما قاله السيد محمود، فكل اعتقادها أنها الوحيدة التي زارته في بيته، كيف  استطاع إذاً تمييزها عن أخواتها؟ هل رجلها العرجاء قليلاً هي السبب؟ كيف لاحظ ذلك رغم أنها حين تتكي على رشيدة لا تظهر فصعتها بوضوح؟ وإن كان قد لاحظ ذلك رغم أنه لا ينظر إلا إلى صدرها ووجهها، فكيف عرف اسمها؟ لماذا لا تكون صاحبة الرجل العرجاء تحمل اسم فوزية مثلاً، وما علاقة رشيدة بكل ما يحدث؟؟ تساؤلات مقيتة محيّرة جعلتها تغرق في صمت طويل تشابك مع رسومات السجادة العجمية الممتدة بشراشيبها البيضاء تحت الكنبات الخمرية.

ــ هاي، هاي، وين صرت؟

ــ مين؟ أنا..

 أجفلها سؤاله المباغت فارتجفت أطرافها المرتعشة أصلاً، وانحسر منديلها عن رأسها، فبان جزء من شعرها المصبوغ بالحنّاء حديثاً، وحين حاولت تغطيته من جديد، قال لها بهدوء الواثق من تحقيق طلبه:

ــ وكمان قدّامي بدّك تلبسي المنديل

ــ بس.. يعني.. يعني.. شو يا رشيدة؟

هزّت رشيدة رأسها فتأرجحت خصلات من شعرها الرمادي أما عينيها، وغمغمت بكلمات أوحت بها لفيروز، أو فيروز فهمت من خلالها بأن الخطيب يجب أن يتعرف عليها.. نزعت منديلها الأبيض المخرم برسومات عصفورية عن شعرها الخرنوبي الكثيف، فانسدلت على رقبتها الطويلة خصلات لامعة منه، وحاذت أزراراً من فستانها المشدود إلى صدرها العارم رغماً عنه.

ــ أهلين بأحلى فيروز، شو عجبك البيت؟

ــ بي، بي، بيجنن، حلو، حلو كتير

من المواصفات التي تدّعي الخطّابات عادة وجودها عند البنات هي قدرتهن على الحديث بطلاقة، وهذه الصفة تفتخر رشيدة بوجودها حقيقة عند فيروز صاحبة المنطق الحلو، لكن فيروز هذا الصباح يسيطر عليها الخجل كلياَ، فهي المرة الأولى في حياتها التي تجلس فيها وجهاً لوجه مع رجل قد يجتاح كل كيانها إذا نالت إعجابه، رجل وسيم تضفي خصلاته الشائبة من شعره السابل على شخصيته المرحة، الهيبة والوقار.

ــ أوكّي فيروز، وشو رأيك بصاحب البيت؟

ــ … … …

كانت فيروز تحاول ضبط ارتعاشاتها الداخلية والخارجية كي تظهر أمامه بمنطقها الحلو، لكن سؤاله أربكها تماماً كونه جاء أيضاً مصحوباً بنظرات غريبة مركزة تنتقل من عينيها إلى شفتيها فرقبتها، وترتاح على صدرها العارم، نظرات جعلتها تشعر أن الدم سينطّ من خديها، وراحت أصابعها دون إرادتها تتحسس صدرها، علّ من أزرار فستانها أنفكّ أمام عينيه من ضغط نهديها المضطربين مع خفقان قلبها.

ــ شو فيروز، ما بدّك تشربينا قهوة؟

ــ … … …

إنها الجملة القاضية شهقت فيروز، وألحقت شهيقها بسعال مفتعل كي تتدارك إرباكها الأخيرة الذي كاد يصل بها إلى حد الإغماء، لولا تدخل رشيدة في اللحظة المناسبة.

ــ معلش سيد محمود، أنا بعمل القهوة

ــ إيه شو عليه، تفضلي يا رشيدة

رشيدة تحب أن تشرب القهوة عادة من يد فيروز، وخاصة حين تعدّها لها مع النرجيلة الخضراء، ولكنها على ما يبدو شعرت  بإحراجها، ليس من صنع القهوة، بل من السير أمام اللامي من كنبتها إلى المطبخ، وهي التي ياما هجست لرشيدة بأمنيتها السفر مع اللامي إلى بلاد أجنبية لتتلقى العلاج هناك.

ــ يسعدلي ها الوجه الحلو

ــ يسعد أيامك سيد محمود

هدأت انفعالات فيروز رويداً رويداً، وراحت تتبادل مع اللامي الابتسامات والنظرات والوشوشات، ومن ثم القهقهات التي وصلت إلى مسامع رشيدة فجعلتها تعيد غلي ماء القهوة عدة مرات.

ــ تفضل سيد محمود

ــ يسلمو هالأنامل يا أحلى خطّابة في الكون

ــ تفضلي آنسة فيروز

ــ ميرسي، ميرسي كتير

شربت فيروز قهوتها مسرعة، وهمّت بالنهوض ورشيدة لم تكمل بعد سيجارتها الأجنبية التي قدمها لها السيد محمود، فأثار استعجالها بعض الشكوك، لكن رشيدة التي تؤمن بمقولة (الخبر اليوم بمصاري، بكرا ببلاش) طّنشت الموضوع، وشبكت يدها بيد فيروز، ونزلتا معاً درجات البيت بخطوات متأنية جعلت فيروز تمتلك الوقت الكافي للالتفات والابتسام للامي عدة مرات قبل ولوجهما شارع البالة.

ــ شو فكرك يا رشيدة، عجبته للسيد محمود؟

ــ … … …

ــ شفتي يا رشيدة كيف كان يطلّع فيّ؟

هزّت رشيدة رأسها، وتابعت سيرها مع فيروز عبر شارع البالة، ومن ثم انعطفتا يميناً نحو حديقة الياسميني، فالشارع المتجه صوب كورنيش البحر حيث شجرة الجمّيز العالية والمنعطف ما قبل الأخيرة المؤدي إلى الزقاق القابع فيه قبو أم سعدى.

ــ أهلين برشيدة، تفضلي

ــ تسلمي يا خيتي، تسلمي

تجاهلت أم سعدى فرح فيروز، واستقبلت رشيدة بوجه متعب وابتسامة صفراء، وراحت تتبادل معها – على انفراد – دخان النراجيل والتساؤلات التوقعات والوشوشات، وتوصلتا إلى أن اللامي مازال مصراً على الزواج من فطّوم رغم استلطافه لفيروز، ولذلك لا داعي لإرسال فوزية إليه، لأنها أيضاً لا تفكر بالزواج أصلاً، ولا يمكن أبداً ضمان صمتها كونها تتحدث للجميع عن كل ما يخطر ببالها.

ــ وبعدين يا رشيدة؟

ــ … … …

بعد حوارات دامت أسبوعين، جاءت رشيدة تحمل صرة زرقاء داخلها جزء من مهر فطّوم وصور لأدوات كهربائية، وماكنات لحياكة الصوف، وبعض الهدايا مع تحيات اللامي وإصراره على أن تكون الخطوبة والزواج في يوم واحد، وتحديداً يوم الخميس المقبل.

ــ بس يا رشيدة…

ــ بس شو يا أم سعدى، بس شو؟؟

ماذا ستقول أم سعدى الحائرة بعنوسة بناتها وقد أخذت قدرتها على ضبط شؤون أسرتها تتناقص يوماً بعد يوم؟ ففطوم رغم الشجار العنيف الذي أدى إلى تناثر خصلات من شعرها بين أصابع أمها، وإلى تفتت زجاج نرجيلة جدّها الخضراء، مازالت مستمرة في عنادها إلى درجة هددت فيها بالذهاب خطيفة مع اللامي. وسعدى وسعاد قلّ احترامهما لبعضهما بشكل سافر، خاصة بعد انكشاف أمر الزيارات إياها.. وفوزية لا تجيد إلا البكاء والأكل وفيروز المتمارضة دوماً، يزداد إدمانها للحبوب المهدية، وابتعادها عن أسرتها التي أيضاً ساءت أوضاعها المالية لدرجة جعلت أم سعدى تبيع أغراضها من البيت وتستدين من رشيدة الخطّابة كي تستطيع تأمين حاجاتها الضرورية.

ــ آآآخ يا رشيدة آآخ

ــ شو يا خيتي، الخميس الجاي

قبّلت رشيدة فطّوم من خديها المحمرّين، وعضتها من شفتها الرطبة المتدلية، ومن ثم تبادلت التهاني مع كل أفراد العائلة ما عدا فيروز؟!

ــ وين فيروز من غير شر؟

ــ والله يا رشيدة من لما رجعت من عند الخياطة وهيّ تعبانة

ــ أي خياطة يا أم سعدى؟

ــ إههي، الخياطة اللي كانت معك عندها

ــ أيوا، أيوا، الخياطة، قولي الخياطة.

بينما كانت أم سعدى تمجّ دخان نرجيلتها، وتقلّب صفحات (كتلوكات) الثلاجات وماكنات الصوف، كانت فيروز، التي سمعت كل ما قالته رشيدة،  قد ارتدت ملابسها ووقفت تنظر إلى الباب الخارجي بعينيها المنتفختين.

ــ وين يا مسهّل؟

ــ وين يعني لعند رشيدة

ــ ما هلّق كانت رشيدة هون، ليش ما شفتيها؟

ــ وليش ما صحتوني من نومي؟

ــ طيب يا فيروز طيب، متل ما بدّك، متل ما بدّك

حين وصلت فيروز بيت اللامي لم يكن الباب موارباَ كعادته، ولم يفتحه بعد سماعه الدقات المتفق عليها، بل اضطر لفتحه بعد استمرار الضربات العنيفة عليه من قبضة كأن صاحبتها تعرف أن اللامي خلف باب منزله.

ــ مين، فيروز؟!!

استقبلها بمنامته الطيونية، وعلى وجهه تزحف علامات الدهشة والحيرة، وينعكس لمعان شعره المصبوغ بالسواد على نظراته القلقة المتلاحقة باتجاه الغرفة المجاورة.

ــ شوف يا لامي، أنا..

أخرسها وجودها تجلس هناك شعرها المنفوش يتناثر على وجهها المدهون بطبقات عدة، وقميص نومها الشفاف ينحسر عن فخذيها ليتدلى على الكنبة الخمرية نفسها، هناك حيث تعرّف اللامي على منطق فيروز الحلو، وعلى شعرها وأزرار فستانها، هناك تجلس امرأة صغيرة تحتسي شراب التوت، على نفس الكنبة التي رضع عليها اللامي شراب عفتها من نهديها العارمين، هناك حيث غطّت في غيبوبة من الرهبة واللذة، كانت تجلس امرأة غريبة تنظر إلى اللامي بعينيها الشبقتين، وتشير إلى فيروز بأصابعها الملونة، وضحكتها تزداد لعلعة:

ــ وهـ هـ هـ هـ هي ي ي ي ي

مسحت فيروز خيبتها المنسابة مع دموعها المالحة، ومضت باتجاه أقرب صيدلية.

خلال ثلاثة أيام كانت أم سعدى وكل بناتها عدا فيروز قد انتهين من تجهيز مراسم الزواج، وبعد حفل صاخب ارتعشت به خصور الرقصات، ولعلعت الحناجر بالأغاني العربية والأجنبية، زُفّت فطّوم إلى بيتها المطل على شارع البالة، حيث ودعت أهلها وهم يبكون بحرقة ما رأت مثلها طيلة حياتها.

ــ برجلك اليمين، برجلك اليمين

ــ طيب، طيب البدلة علقانة، البدلة علقانة

فكّت رشيدة طرف البدلة البيضاء من كعب كندرة فطّوم السوداء، وساعدتها على تخطي العتبة برجلها دون أن تدري أكانت اليسار أم اليمين. أدخلتها إلى غرفة النوم بعدما جعلتها تلصق على بابها عجينة خضراء، ومن ثم غادرت مسرعة إلى  حيث كان اللامي ينتظرها عند الباب الخارجي كي يضع في يدها حلوانها الأخير.

ــ والله أهلين بفطومتي

ــ … … …

رفع اللامي عن وجه فطّوم النوراني طرحتها البيضاء، فسحره جمالها الأخاذ وبقايا دموعها السوداء الجافة على خديها الأحمرين. لثمها من جبينها وأعطاها منديلاً ورقياَ معطراَ كي تمسح كحلتها المنسابة، ومن ثم غادر ليعود وبيديه كأسين من الويسكي الفاخر الذي جلبه طازجاَ من البحر خصيصاً لهذه المناسبة.

ــ تفضلي، تفضلي، يا أحلى عروس في الساحل

ــ شـ، شـ، هادا سيد محمود؟

ــ أشربي، أشربي بصحة زواجنا السعيد

فطّوم الزوجة التي يجب أن تكون مطيعة، استطاعت رغم أنفها وحلقها أن تكمل النصف الأول من كأسها، وبينما كانت مضطجعة في سريرها، تقضم تفاحتها وتحاول إنهاء النصف الثاني، كانت أم سعدى قد انتهت من تجريب ماكنة حياكة الصوف، وخلدت إلى النوم مع كل بناتها ما عدا فيروز التي تناولت كمية إضافية من حبوبها المهدئة، وراحت تتقلب تحت غطاء سريرها الأصفر مع كوابيس يقظتها التي لا تنتهي.

ــ ايه جعلوا ألف صحة.

ــ على قلبك سيد محمود.

انتهت فطّوم من شرب كأسها، وراحت تتذكر أحلامها وأحاديثها مع رشيدة عن ليلة الدخلة” قمصان النوم القصيرة، غزل العيون، القبلات الدافئة، والنوم على صدر حنون كصدر والدها، والـ…

ــ وين صرت آنستي؟؟

ــ مين، أنا…

قبل أن يسمع اللامي اجابتها، كان قد انتهى من نزع بنطاله وسرواله الداخلي، وأخذ يرفع بدلتها البيضاء إلى أن غطت – رغماً عن أحلامها – نصفها الأعلى، فبان بطنها الأملس، وسرتها النظيفة الناعمة، وسروالها الأبيض الشفاف، المخرم بتشكيلات تكشف عن بشرة نضرة، اقشعرت جذور شعيراتها المنتوفة حديثاً قبل أن تغيب فطّوم تحت طرحتها الجديدة في كابوس من الخجل والألم والخوف.

وحين سال دمها الطازج على فخذيها الياسمينيين، كانت فيروز قد تناولت كل ما في حوزتها من أدوية.

خيبة حلم

في الخميس الثالث من زواجه، عاد اللامي بعد منتصف الليل يتجشأ عفونة خمرته المختلطة برائحة تبغ غليونه، ويتمتم بكلمات إنجليزية على عربية على يونانية، لم تفهم منها فطّوم غير أنه يريد القهوة المرّة حالاً.

ــ حاضر، حاضر

فطّوم المترعة بحزنها على أهلها، الخائبة بقدوم دورتها، باتت هذه الأيام وحيدة تماماً، فرغم إنقاذ أمها لأختها فيروز – في اللحظة الأخيرة – من محاولة انتحارها، قررت عائلتها عدم دخول بيتها إلا في الأعياد والمناسبات الخاصة، ويبدو أن هذيانات فيروز عن اللامي أثناء إسعافها، جعلت كل محاولات رشيدة بالمصالحة تبوء بالفشل، حتى رشيدة الباقية المتبقية لفطّوم لا تستطيع دائماً كسر سور وحدتها، لأن السيد محمود اللامي الذي يرجوها أن تهتم بزوجته أثناء غيابه، يسمح لها بالتواجد في بيته متى تشاء، لكنه حرّم على فطّوم دخول بيتها.

ــ هيء.. وين القهوة، وين القهوة يا… هيء؟

ــ حاضر، حاضر

وضع اللامي فنجان قهوته المرّة جانباً، وأخذ فطّوم من كتفها برفق وحنان، ومن ثم ارتمى على صدرها باكياً بمرارة أثارت دهشتها من جديد، وأشعلت في داخلها تساؤلات عن قساوته معها أحياناً، وهذياناته بحبه لها أكثر من أمه أحياناً أخرى. ((معقولة السيد محمود اللامي يجبني لهاي الدرجة؟)).

أول علاقة حب لمحمود اللامي كانت مع ابنة أبي خليل شيخ بائعي البالة في الحارة كلها، وزعيم الحشاشين في اللاذقية، حسب معرفة الجميع ما عدا رجال الشرطة وكبسياتهم الفاشلة، وحسب ما عرف اللامي فيما بعد كان لابنة أبي خليل الدور الأكبر في إنقاذ والدها من ورطاته المتكررة، والأنكى من هذا كله، هو أن بيت اللامي كان مخبأها الآمن فليلى الملقبة بلوكية، كانت تصعد إلى بيته عدة مرات في اليوم، برفقة النساء اللواتي يقمن بقياس ما يرغبن بشرائه من ثياب مستعملة. واللامي الذي كان يخفي وجهه خلف شعر أخته الصغيرة أثناء غياب أمه في بيت الياسميني، ما كانت أجساد النساء تعني له شيئاً قبل حبه للوكية التي تكبره بسنتين، لكنه صار فيما بعد يكره الأجساد المترهلة، ويحب البحلقة بالأجساد الصغيرة البيضاء المتلألئة تحت القمصان الداخلية الشفافة، وقد أثار اهتمامه الواضح بمراقبة النساء غضب بعضهن، وحينّ شكونه إلى أمه راحت تتلمس جسده ضاحكة: ((يوووه يا عيب الشوم، الولد بعده صغير))، وعلى الرغم من أنها استطاعت بحنكتها المعهودة امتصاص غضبهن، إلا أنهن ظللت مصرات على رأيهن، ولولا وجود لوكية، وصعود سويدية اللامي إلى رأسه، لتابعن خلع ثيابه ليثبتن لها أن أبنها ما عاد صغيراً، ((قال صغير قال، أي هلّق زوجيه بيتزوج)). وطنّت تلك العبارة بأذنيه وهو يغادر الغرفة ممسكاً ببنطاله بكلتا يديه، لكنها لم تثر خجله وتدغدغ تخيلاته إلا حين سمعها من لوكية هامسة له عما يدور بين النساء من أحاديث حول الزواج، تاركة شعرها الأجعد يخربش على وجهه قشعريرة محرجة، ويشعل خلجاته نار رغبة غامضة.

ــ هيء.. صدقيني،، هيء.. بحبك أكثر من أمي

مع أن فطّوم حاولت السيطرة على نفسها كما فعلت سابقاً، وحضنت زوجها وكأنها تحتضن طفلها، إلا أن ما يدور بخلدها من أفكار متشائمة، جعلها تجهش في بكاء طويل أثار اللامي وغضبه، فشدّها من شعرها، وبطحها على السرير، ومن ثم امتطى صهوة ظهرها وإرادتها، ولولا أنها ردمت صراخها بين طيات وسادتها وحيائها، لأيقظت سكان كل البيوت المطلة على شارع البالة، هناك حيث قضى اللامي أيام طفولته يتمرتح بين الدكاكين حاملاً أخته الصغيرة أو جارّاً أخاه المريض، بينما والدته ((اللفاية)) تتابع عملها في بيت الأرمل عبدالرحمن الياسميني الذي كان أهل الحارة يلمحونه خارجاً بسيارته الفارهة من باب بيته الخلفي، ولا يعرفون عنه غير أنه يحمل جنسية أجنبية، ويمتلك العديد من البواخر، ويدّرس كل أولاده في أمريكا، لكن اللامي استطاع زيارة بيته، ورؤيته عن قرب، وراح يحكي لأولاد حارته عن الغرف  الكثيرة المليئة بالأغراض الغريبة العجيبة والأضواء الملونة المنتشرة فيها وبالحديقة المكتظة بكل أنواع الفاكهة وأزهار الياسمين، يحكي لهم عن (عمو عبدالرحمن) وثيابه النظيفة الجميلة، كرشه الكبير، نظارته السوداء، غليونه العاجي الساحر، ويسترسل في وصف حركاته، وكيف مد له يده السمينة المبرقشة بالنمش، وطلب منه أن يأخذ منها ما يشاء من النقود، ووعده – إذا تابع تعليمه – بإدخاله الكلية البحرية كي يصبح قبطاناً مشهوراً.. لكنه لم يحكِ لأي كائن عن علاقة الياسميني بأمه، حتى وهو في جو البيت السحري لم يستطيع أن يحدد أكان التصاق ظهر أمه بصدر الياسميني حلماً أم حقيقة.

استيقظت فطّوم في اليوم التالي متأخرة على غير عادتها، تعاني من صداع شديد في رأسها، وتدور أمام عينيها لقطات متشابكة من أحلام وردية، انتابتها طيلة الليل، وسيطرت عليها النهار كله رغم محاولات انشغالها بأعمالها المنزلية، فصورة والدها المطلة عليها من عيون فيروز المتحجرة ما برحت تفارقها، ومنديلها الذي مزقته إرباً كي تذهب إلى المدرسة حاسرة الرأس، مازالت يتراقص على نرجيلة جدّها الخضراء، ووجوه أخواتها المصبوغة بالحنّاء تطّل من الملاءات البيضاء وتغيب مع الدخان، تتداخل الذكريات وأحلام اليقظة وكوابيس القهر.. والسيد محمود النائم بعمق بليد، ألا يكف عن التمتمة والشخير؟؟

ــ آآآخ تفوووو

نهض اللامي من سريره أخيراً، وبعدما بصق في أصيص نبات الزينة مرات عدة، غسل وجهه كيفما كان وارتدى ملابسه دون أن يقول لزوجته حتى صباح الخير، ولكونها هي أيضاً لا ترغب في التحدث معه، وضعت القهوة بالحليب على التربيزة الخشبية، وانهمكت في الاستعداد لأداء صلاة الجمعة قبل حلول موعدها بوقت غير قليل.

ــ وطراااخ

صفق اللامي باب منزله، فأرتج قلب فطّوم وأجهشت في بكاء مرير استمر حتى سماعها آذان الظهر، توضأت من جديد، وراحت تعيد الركعة تلو الركعة إلى أن أنهت صلاتها بخشوع راضية عنه، وبعد تردد مقيت، غادرت منزلها لترتمي في أحضان رشيدة باكية، ذابلة، واهنة، وكأن قيامتها ستقوم الساعة، لكن رشيدة الخطّابة – رغم دهشتها – استطاعت تهدئة روعها، وإقناعها بعدم ضرورة حصول الحمل من الأسابيع الأولى، وتحدثت معها عن أهلها، وعن كل تفاصيل الواجبات الزوجية… وتوقفت حائرة أمام ما فعله ليلة البارحة.

ــ يا عيب الشوم، يا عيب الشوم، هاي أول مرة يا فطّوم؟!

أول مرة يدرك فيها اللامي أنه صار مثل الشباب، جاءت بعد محاولات عدة، وكان ذلك في مساء صيفي، استحم به مطولاً، وعلا لهاثه لدرجة جعلت والدته تعتقد أن السويدة ضربت برأسه، فهرعت تدق عليه باب الحمام، مما جعله فيما يستمتع بغيابها أحياناً، ويستمتع أكثر بالانضمام إلى رهط من الصبية الكبار، يتجمعون في دكان أبي خليل، يدخنون، ويتفرجون على صور ومجلات جنسية مقابل مساعدتهم إياه في حمل وتفريغ بالات الثياب المستعملة، وكثيراً ما كان أبوخليل يغلق عليهم باب دكانه ليذهب إلى أداء الصلاة، أو إلى البيت ليتناول طعام الغداء، ورغم إدمان اللامي على تلك الجلسات، واختلاط التخيلات لديه ما بين صور المجلات وأفخاذ الصبية، وأجساد النساء اللواتي صار يتلصلص عليهم وهن يقسن الثياب في بيته، رغم كل هذا ظل طيف لوكية بعيداً كل البعد عن تلك الأجواء، حتى لو جلست معه على درجات منزله كاشفة عن شق نهديها الصغيرين، فاتحة ما بين ساقيها، كان يشعر بالندم الشديد إذا تذكرها إثناء عادته السرية، وقد لمحها في إحدى المساءات تقف في عتمة مدخل بيته ملتصقة برجل يضع يده بين فخذها، فتقدم منها تلوح أمام عينيه صورة التصاق أمه بالياسميني أثناء صلاتهما الضبابية، وحين سبقه وقع خطاه، هرعت لوكية إليه تحدثه عن ذاك المخبر الحقير الذي فتّش لتوه ثيابها الداخلية باحثاً عن قطع الحشيشة، وراحت تحضن اللامي وتقبله، تعصر فخذه بين فخذيها، تحشر بشعرها الأجعد على وجهه قشعريرة حرجة، تشعل في خلجاته نار رغبة غامضة، إلا أن اللامي رمى برأسه على ما بين نهديها، وأجهش في البكاء.

ــ قولي يا فطّوم هاي أول مرة؟!

فطّوم المربكة من هذا الحوار، تدرك بحسها الفطري على الأقل أن ما يفعله زوجها لا يؤدي إلى إنجاب الأطفال، ولذلك قررت أن تحكي لرشيدة عن كل تصرفات السيد محمود، لكنها لا تدري لماذا خجلت عن البوح لها عن بكائه على صدرها.

ــ بصراحة هاي ثالث مرة

ــ ثالث مرة؟ يعني ما لأنه كانت عليك الدورة؟

ــ … … …

ــ والله يا حبيتي يا فطّوم، زوجك شهوته قالبة

ــ شو، شو، شهوته قالبة؟!

ارتدت رشيدة ملاءها السوداء، وشدت فطّوم النورانية من يدها آخذة ايّأها إلى بيت الشيخة بديعة التي تنبأت لها حين ولادتها مع برقعها بحظ وافر في الدنيا والآخرة، وبمراعاة دائمة من الله ورسله وأوليائه الصالحين.

ــ شوفي يا بنتي يا فطّوم، هادا كله امتحان من الله

ــ امتحان؟ طيب أنا شو عاملة يا ربي؟

ــ صلي على النبي يا بنتي، واسمعيني مليح

راحت الشيخة بديعة تخرج من فمها الخالي من الأسنان كلمة تلو الكلمة، وبشفتيها المرتجفتين ترتّل وصفتها السحرية، وبين الجملة والجملة ترفع وجهها المليء بالتجاعيد باتجاه السقف  العنكبوتي، ترطن بآيات وتمتمات جعلت رشيدة تعتقد أنها عبارة عن فواصل زمنية تحتاجها الشيخة كي تستطيع تكملة اختراع وصفة جديدة ما سمعت بها رشيدة طيلة حياتها، أما فطّوم فقد ازدادت رجفاناً وخشوعاً، وأحسست أن ما تنطق به هذه العجوز يأتيها من عالم آخر.

ــ ولازم يا بنتي تكون الجرّة أصلية

ــ حاضر

ــ وعرنوس الذرة البكر، بتقطفيه بأيدك عن أمه وجه الصبح

ــ … … …

ــ وأوعك، أوعك يا بنتي تصلي قدام زوجك لمدة أربعين يوم

ــ حاضر، حاضر

قبلت فطّوم يد الشيخة بديعة القابضة عل ما فيه النصيب، وغادرت مسرعة إلى سوق الفخّار، اشترت جرّة بنفس المواصفات المطلوبة، واتفقت مع رشيدة على أن تقطف لها عرنوس ذرة بكر، ومن ثم عادت مسرعة إلى بيتها.

عاد اللامي من مطبخ سفينته مع طلوع الفجر، وقبل أن ينتهي من سماع آخر طقة لقفل باب منزله، كان صوت فطّوم المختلط برائحة النعناع يغرّد لصباح جديد.

ــ يسعدلي صباحك فطّومتي

ابتسامة صغير حركته شاربيه الناعمين، جعلت فطّوم تموج مع غبطتها، وتتراقص بمشيئتها الرشيقة من الحمام إلى المطبخ إلى غرفة النوم، الماء ساخن، المنشفة مشبعة خيوطها بدفء الشمس، الثياب الداخلية نظيفة ومعطرة، المنامة مكوية ومرتبة.

ــ يسلمو هالأنامل

ــ تسلملي ياااارب

فركت فطّوم ظهر زوجها بقوة، وتحسست كتفيه العريضين بنعومة المنشفة وحنان أصابعها، ألبسته ثيابه الداخلية ومنامته، ومن ثم جهزت الطعام تبعاً لتعاليم المطبخ البحري الصارمة، وناولته اللقمة تلو اللقمة كما تفعل العصفورة لصغارها.

ــ شو من وين هالجرّة؟

ــ الجرّة؟ الجرّة من عند رشيدة

ــ أنا ما قلتلك ما بتروحي لعند رشيدة

ــ أأأأنا ما رحت، رشيدة جابتها هدية سيد محمود

ــ وليش الجرّة؟ كل هالتلاجة ما عاجبتك؟

ــ … … …

استحمت فطّوم بالماء الساخن وصابون الغار، أعادت غسل شعرها بالشامبو الذي يحب اللامي رائحته، وبعدها ارتدت ثيابها الداخلية السوداء، وقميص نومها الأبيض الشفاف، راحت تجوب أرجاء البيت تارة، وتفتش بأعمالها المنزلية تارة أخرى، واللامي المضطجع مع غليونه لا تصدر منه أية همسة، أية إشارة تومي لها بالقدوم إليه، حتى رائحة دخانه المنعشة ابتعدت عنها، وراحت تداعب أجفانه حتى غطّ بنوم عميق، حاضناً وسادته وأحلامه.

أحلام اللامي بأمه مازالت مستمرة رغم مرور عامين على وفاتها، وأمنياته أن يحلم بوالده مازالت تبوء بالفشل رغم أنه يتذكر وجهه بوضوح، خاصة حين ألبسوه الرداء ذي الأكمام الطويلة وحملوه عنوة إلى سيارة بيضاء كانت تستظل بسور حديقة الياسميني، لتنقله إلى مكان بعيد كلما سأل اللامي أمه عنه، شدته من شعره، وعضته في مؤخرته شاتمة أباه المجنون. وفي كل مرة يسمع فيها من أولاد حارته عبارة (أم محمود جننت زوجها) يتحسس مؤخرته ويقرر معاتبة والدته، لكنه يتراجع في اللحظة الأخيرة، إلى أن جاء ذاك الصباح وحمّله أبو خليل – كما في كل آخر شهر – بعض الثياب كهدية لأسرته، وأضاف عليها – بعد إلحاح اللامي – بعض التفاصيل عن والده فضرب سويديته برأسه، وهرع إلى أمه يوبخّها ويقذفها بالثياب، لكنها تلقته بصدر حنون، قبلته لأول مرة منذ سنين طويلة، أخذته برفق إلى موقف الباصات، وسافرت معه إلى مدينة دمشق حيث (العصفورية) مشفى المجانين، وهناك بحثت عن طبيب تجمعها به علاقة طيبة لم يستطع اللامي تحديد أبعادها، لكنه لم يتذمر منها لأن الطبيب عامله كرجل، وراح يحدثه بأشياء يعرفها، وأشياء كثيرة لا يعرفها عن مرض الصرع وأسبابه، وسمح له بأن ينفرد بوالده لمدة طويلة.

عرنوس الذرة البكر كان في صرّة رشيدة الزرقاء قبل حلول صلاة الظهر، أخرجته منها بهدوء مفرط يتناسب مع همسات فطّوم، كي لا يستيقظ السيد محمود النائم على صوت شخيره وتمتماته.

ــ اسمعي، اسمعي، قلت للسيد محمود أنه الجرّة هدية منك

ــ طيب، طيب، خدي هاي أحلى عرنوس

ــ شو يا رشيدة؟ قطفتيه عن أمه وجه الصباح؟

غمغمت رشيدة وخرجت من البيت على رؤوس أصابعها، بينما هرعت فطّوم إلى جرّتها، غسلتها للمرة السابعة، ملأتها بالماء بعدما ركزتها على منصبها فوق الطاسة النحاسية. ((يا بنتي لما بتقشري العرنوس، بتخلي القشور مع الشباشيل علقانة بقمعيته)). قشرت فطّوم عرنوس الذرة، لفته بقماشة مطرزة بآيات قرآنية، وخبأته – كي لا يراه زوجها – في جرور ثيابه الداخلية، ومن ثم توضأت وذهبت للصلاة في الغرفة الثانية, ((أوعك يا بنتي تصلي قدام زوجك لمدة أربعين يوم)).

ــ فطّوم، فطّوم، يا فطّووووم

كان من عادة فطّوم حين يناديها زوجها أثناء صلاتها أن ترفع صوتها كي يسمع الآيات القرآنية ويكف عن النداء، لكنها اليوم تصلي في الغرفة الثانية على غير عادتها، فماذا ستفعل كي تتجنب أسئلته المحرجة؟

ــ السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله

قطعت صلاتها وهرعت إليه تتعثر بخلع ملاءتها البيضاء، تحاول – مستغفرة ربها – أن ترسم ابتسامة ما، أياَ كانت، صفراوية، خضراوية، المهم ابتسامة.

ــ شو، وين كنت؟

ــ هون، هون سيد محمود

ــ مين كان عنا اليوم؟:

أرعبها سؤاله المباغت، وأحسّست أن زوجها يعرف عنها كل ما تفعله حتى وهو نائم، فراحت تفكر بالجرّة، وبعرنوس الذرة، وبالشيخة بديعة، وبـ…

ــ مين كان عنا؟

ــ رشيدة رشيدة كانت عنا سيد محمود

خرج اللامي من البيت مزعوجاً، أو مدعيا الانزعاج كعادته، وراح الوقت البليد يتمتع بقلق فطّوم المنتظرة آذان المغرب وكأنها في شهر رمضان، كي تبدأ ممارسة طقوس وصفها السحرية ((بتغطسي العرنوس، سبع مرات الصبح، وسبع مرات المغرب، ولا تنسي يا بنتي دايماً بتكوني طاهرة)). توضأت فطّوم من جديد، وبعد صلاة المغرب غطّست العرنوس دون أن تلامس قشوره وشعرياته ماء الجرّة، ومن ثم لفته بقماشة مطرزة بآيات قرآنيية، وأعادته إلى مخبئه، وهكذا استمرت تنفذ التعاليم بدقة متناهية، كل صباح ومساء تضيف إلى الجرّة القطرات الناقصة منها، تراقب بشغف رشحها البطيء في الطاسة النحاسية. ((وفي اليوم السابع يا بنتي، بعد صلاة العشاء بتسلقي عرنوس الذرة بمية الطاسة، وبطعميه لزوجك حبة، حبة)).

في اليوم السابع بعد منتصف الليل، استيقظت فطّوم فزعة جراء دقات عنيفة على باب منزلها، تبعتها قهقات عالية، وتمتمات أجنبية عرفت من خلالها أن الطارق زوجها المنتظر.

ــ هيء.. العمى ضي…. عيء، ضيعنا المفاتيح

أول كأس خمرة يحتسيه اللامي كان مع علي الأروادي في مطعم البحّارة، حيث صار يعمل نادلاً بعد رسوبه في الصف الثالث الإعدادي لأسباب كثيرة، منها موت أخيه المصاب بداء الصرع، وانتهاء علاقته بلوكية التي ذهبت خطيفة مع أحد المخبرين بعدما زجوا والدها في السجن، لكن اللامي استطاع تجاوز مشاكله، وتابع دراسته وعمله كمساعد للطباخ، وتوطدت علاقته وأسرته بعلي الأروادي الذي بدوره أعجب كثيراً بشخصية أم محمود القوية، وبجمال ابنتها وببساطة تصرفاتها… وزيارة بعد زيارة صار النصيب وتم زواجها من علي الذي أبحرت معه إلى جزيرة أرواد، وكان جزء من مهرها هو إيجاد عمل لأخيها في مطبخ إحدى السفن، ومن يومها لم يترك اللامي بحراً إلا وماج فيه، ولا ميناء إلا ورسى عليه، ولا مأخوراً إلا وبحث فيه عن امرأة تعجبه، ولا باراً إلا وارتاده، وسكر فيه حتى البكاء.

ــ هيء… كيفك فطّومتي؟

ــ يسعدلي صباحك حبيبي محمود

ــ سـ … سـ … هيء… سيد محمود

ساعدت فطّوم السيد محمود على خلع حذائه المتسخ، وملابسه المجعلكة العابقة بعطر غريب، وغسلت له يديه وقدميه، ومسحت وجهه وجسده بمنشفة مبللة بالماء والصابون بعدما رفض الاستحمام، وألبسته ثيابه الداخلية ومنامته الطيونية، وهمت بالذهاب إلى مطبخها لتحضير الطعام.

ــ شو رأيك تتسلى بعرنوس كالذرة، عابين ما أحضر الأكل؟

فطّوم التي خربطت كل كيانها ضحالحة الماء الراشحة في الطاسة النحاسية، اضطرت بعد صلاة العشاء إلى إشعال فحم نرجيلتها، وشي عرنوس الذرة على وهجه بحرص شديد كي تحمّره حبة، حبة.

ــ وكمان هاي الحبة سيد محمود

ــ وكمان هاي الحبة

حبة، حبة، رائحة الشياط انتشرت في البيت كله، ووصلت إلى شبابيك الجيران حتى لامست أخيراً اندماج فطّوم بوصفتها السحرية، فهرعت إلى مطبخها لتطفئ النار تحت طنجرتها المحروقة، وتعاود تحضير الطعام من جديد، وبين فرصة وأخرى تركض إلى زوجها تطعمه حبة تلو حبة من عرنوسها المشوي.

ــ وكمان هاي الحبة حبيبي

تناول اللامي حبة الذرة ومعها قبضة فطّوم، ومن ثم لوى ذراعها، وبطحها على الكنبة الخمرية، وامتطى صهوة ظهرها وإرادتها، ولولا أنها ردمت صراخها بين طيات وسادتها وخيبة حلمها، لأيقظت سكان كل البيوت المطلة على شارع البالة.

الخفوشة

ما كان قصير القامة، لكنه كان يبدو هكذا من تقوس ساقيه وظهره، وتهدل رأسه في عش ما بين كتفيه المرفوعين دائما، ومن وقفته مشمّراً منامته أو بنطاله بيديه الضعيفتين، تاركاً أصابعه الرفيعة تعبث بصرته التي كلما نظر إليها أحس أنه اكتشفها لتوّه، فسالت ريالته لهذا الاكتشاف العظيم.

ـ يسعد صباحك أبو ريالة.

ـ أأأهلين، أهلين بالشباب ..

حموده أبو ريالة صامت بطبعه، لا يتكلم إلا مع أمه وجاره الخياط أبي فوزي، وفي الحارة لا يقول إلا أهلين بالشباب، أو خلاص ضربت برأسي، لكنه يحب الضحك ويعشق الركض فهو إن تحرك من مكانه، تحرك راكضاً، وراكضاً يلبي طلبات أمه وجاره، أو أية طلبات أخرى يقتنع هو بتلبيتها قبل أن تضرب برأسه، فالسويدة أن ضربت لا يمكن لأية قوة في الحارة كلها زحزحة أبو ريالة من مكانه، والسويدة هذه، لا يمكن حلها إلا بالمداورة والمواربة من بعيد، ومن بعيد يبدأ الهمس بالاقتراب من مسامع الخفوشة:

ـ فكرك بيقدر الخفوشة يشربنا ماي باردة؟

ـ لا، لا، ما بيقدر

ـ وحياتك بده ساعتين عالطريق

ويركض الخفوشة، يشغل محركه ويركض، كالغزال يركض بسيقانه المرنة عبر الأزقة الضيقة والبوابات المتتالية والبيوت المتراصة تحت سقف واحد يركض ويعود بالماء ضاحكاً راميا ظله من جديد على جدار منزله، حيث دكان أبي فوزي الخياط المتعاطف مع الجميع، خاصة والدة حموده المطلقة منذ عدة سنين، فهو يعزها كثيراً رغم بعض الخلافات التي لابد وان تنشأ بسبب مزاحمة الإيجار والاستئجار وطمع التجار، فأبو فوزي الذي تجاوز الخمسين عاماً، مازال يجلس وراء ماكينته العتيقة ونظارته السميكة تحت درجات بيت الخفوشة، والـ «تحت درجات» هذه لا تتجاوز مساحتها مترين مربعين، أو بالأحرى مثلثين، استأجرها أبو فوزي العام الماضي بعدما قضم الأوتوستراد الجديد دكّانه القديم، وكل شهر تطالبه أم حموده بزيادة الإيجار، يلاطفها، كعادته، ضاحكاً عليها بكلمتين في الصباح لتعاود مطالبته بالزيادة في المساء، فيعدها بمناقشة الموضوع في اليوم التالي، ويتابع لملمة أغراضه ويدخل ماكينته العتيقة إلى وكرها بمساعدة الخفوشة، ومن ثم ينزل باب دكانه السحاب ويقفله بقفل كبير، يبدو من بعيد كجرذ يتلصص من تحت الباب.

وكما في كل مرة يطل الأستاذ رمضان برأسه من نافذة غرفته ليعبر عن انزعاجه من صرير الباب السحاب، ضاحكا أو مكشراً أو مرفها عن نفسه وفضوله دون أن يحسب الوقت الضائع من دروس التلاميذ الخصوصية، وجناب الأستاذ هذا يسكن غرفة في بيت الخفوشة المكوّن من مطلع درج وغرفتين مع منافع مشتركة، استأجرها بعدما انتهت المطلّقة من قضاء فترة عدتها، وآخ.. أخ لو كان بإمكان الخفوشة أن يعبّر عما يجول في خاطره لقال للجميع ما قاله لأمه عن الأستاذ البصباص.

قفلٌ أكبر من بابه، بابٌ أصغر من مفتاحه، درجاتٌ عدة ونافذةٌ تنفتح على غرفة للأحلام، وبابٌ ينغلق على غرفة تتناقص أغراضها شهراً بعد شهر، وامرأة وصلتها من زوجها ورقة طلاقها وإشاعات عن زواجه من قبرصية عجوز تملك مطعما للمأكولات الشرقية، وصلتها الورقة، فأعلنت أن زوجها قد مات، وراحت نضارتها تموت يوماً بعد يوم «وليش إنا محسوبة عالمتزوجات أصلا؟!».

زوج فطوم، محمود اللامي، كان يعمل طباخاً في البواخر، ولأنها ضاربة برأسه دائما، لا يستقر في باخرة أو ميناء، دائم التنقل من بلد إلى آخر، من قارة إلى قارة، وان جاءت باخرته إلى مدينة اللاذقية مرة أو مرتين في العام يقضي معظم ليالي إجازته سكراناً مع معارفه، فلا تراه زوجته إلا فارطاً عند الفجر، ولا يراه ابنه أحمد إلا حين يستيقظ عصراً، ويعاود احتساء الويسكي من جديد، ويأخذ بإلقاء الأوامر الصارمة على فطوم وحموده الذي مازال يرتعب من خيال والده، ويخاف حتى من سماع سيرته رغم أنه لا يتذكر منه غير أقدامه الكبيرة وحزامه الجلدي، وتلك الورقة التي أبكت أمّه طويلاً وجعلته يكره أغنيته المفضلة: «حموده بخش الدودة.. طلّق مرته عالبارودة» لان فيها كلمة «طلّق» مع إنه كان يحب كلمة «بارودة» كثيراً.

حموده الخفوشة ما كان قصير القامة بل كان يبدو هكذا لأنه مسالم إلى حد التقوقع، لا يصلح حتى للصفع، لا يتعاطى المبالغة في انتصاب القامة كالعكداء، لا يدخن السجائر أو يشرب العرق مع بائعي البالة في دكاكينهم المظلمة، فهو لا يحب العتمة ويخاف منها أيضاً، «نام بكّير وفيق بكّير وشوف الصحة كيف بتصير».

باكراً وقبل أن تفتح الدكاكين أبوابها يغادر حموده بيته راكضاً باتجاه المخبز، يشتري الخبز لأمه ولزوجة الخيّاط، يعود مسرعاً لتناول فطوره المفضّل: رغيف ساخن، زيت زيتون مملح، رأس بصل هرس تحت قبضة أمه، وبعدها ـ يا سلام ـ كأس من الشاي بالنعناع، ومن ثم يبدأ الركض من عربة لعربة لدكان لآخر، من زقاق لزقاق لبيت لبيت، المداخل كثيرة وشيقة، التعرجات مثيرة.. الخفوشة يقود دراجة بشرية تشفّط من محطة لمحطة، بسيقانه المرنة وأقدامه المطاوعة تشفط راكضةً معه وراكضاً معها بتتابع حثيث وولهٍ غريب مع أنه يكره دروس الرياضة وأي ركض داخل المدرسة، فهو الأخير في كل شيء داخل صفه، وإن حدث وصار سباق لكل تلاميذ المدرسة سيكون الأخير، وسيكون الأخير لو تسابق مع أولاد حارته رغم أنه حين كان يذهب معهم لسرقة الفاكهة من حديقة الياسميني، كان يصل إلى بيته قبل الجميع حين يبدأ الركض.

هذا الصباح حموده الخفوشة لم يركض بعد، لم تضرب برأسه، لم يقف صامتاً أمام مدخل بيته يراقب ماكينة الخياط أو يبحلق بالدراجات النارية العابرة، وحتى أمه فطوم لم تناد أحمدها هذا الصباح!! فأين أنت يا.. خفوشة؟

تساؤلات تتالت مع صراخ الباعة وصرير العربات عن حموده أبو سويدة الذي كان يقف أحياناً طيلة ساعات وساعات متهدلاً يحاور أحلامه وسويداته دون أن يبادله أحد حتى التحية.

ـ فا.. وينك يا خفوشة؟

ـ وينك يا أبو ريالة؟

حموده الخفوشة سافر مع أمه.. هذا ما أعلنه الأستاذ رمضان نقلاً عن أبي فوزي الخياط، ويكون بذلك هذا الصباح هو الصباح الثاني الذي لم ينزل به حموده إلى السوق منذ تركه المدرسة، وكان الصباح الأول في الربيع الماضي حين استيقظ وعلى سرواله الداخلي سائل أبيض، لا تشبه لزوجته لزوجة الريالة، ورائحته لا تشبه أي رائحة يتذكرها! وحموده أبو سويدة قد توحي هيئته بالهرجلة في أغلب الأحيان إلا أنه من أنظف أولاد الحارة، فمن أين تلك الأوساخ؟! هرع يسأل أمه مع أنه سمع من شباب الحارة عما يفعلونه داخل الحمامات وعن وجع الصدر الذي شعر به حين تورم ثدياه:

ـ أمي، أمي أبصر شو في عا كلسوني؟

رغم حزن فطوم الشديد من وحدتها وما جرى لها، إلا أن سؤال أحمدها جعلها تدور حوله فرحة، ترطن بآيات قرآنية، تمسد على جسده، تنظر إلى السماء: «والله وصار ابنك رجّال يافطوم» ومن ثم تشعل بابور الكاز، تسخن الماء، تجلب الليفة وصابون الغار، وحموده على الطبلية الخشبية يضحك تارة، ويسكب الماء الفاتر على سيقانه تارة أخرى.. ونعيماً أبو حميد، بجامة جديدة، صباح جديد صارت فيه الفرحة فرحتين: لقد جاء أبو فوزي وطلب من فطوم استئجار ما تحت مطلع الدرج، وتم الاتفاق على أن يخصم من الإيجار المبلغ الذي سيدفعه لتحويل ما تحت الدرج إلى دكان يسجله باسم حموده.

وتتابعت الأيام وتوطدت العلاقة بينهم، صار الخفوشة يلازم أبا فوزي معظم أوقاته رغم كرهه لمهنة الخياطة، وتقربت منه فطوم محاولة التعرف عليه أكثر فأكثر، فأبو فوزي الخياط الذي فقد ابنه، أثناء نزوحه من اللواء لا تعرف عنه الحارة غير أنه في غاية اللطافة، ولديه ابنان مهاجران إلى البرازيل منذ زمن بعيد، وابنة تعيش في بيته هي وزوجها مع ابنتهما التي صار الخفوشة يتابعها بتنورتها الحمراء القصيرة وهي تسقي الإزهار المتعربشة على البلكون الخشبي في الصباحات الندية، بعدما أخذت الأمور تتغير في سويدته، وتوقفت ريالته عن السيلان الدائم، وصار يشتم في سره من يشاء وتضرب برأسه متى يشاء.

ـ فا.. وينك يا أبو سويدة؟

ـ وينك يا أبو حميد؟

تتالت ساعات النهار، تتالت التساؤلات عن حموده الخفوشة، والخياط الذي يتردد في الإجابة مرة، ويقلب شفته السفلى مرة أخرى، صار يشعر بغبطة وغصّة جراء هذا الحيّز الذي يشغله الخفوشة عند أهل الحارة التي بدت كئيبة بعد صلاة العشاء والدكاكين المغلقة كأن أبوابها مربعات رصاصية تولج في شارع الرماد. شارع البالة الخالي إلا من الوحشة أخذ يوحي لأبي فوزي بالحزن العتيق، والأضواء المنبعثة هنا وهناك من خلال النوافذ راحت تذكره بسراج أمه ومرابع الصبا النائمة تحت ظلال الصنوبر، وتعيد إلى غباش عينيه صور الليالي النبيذية التي قضاها تحت قنطرة دكانه القديم مع صديقه الحميم أبي طافش..

ـ شو أبو فوزي، ما ناوي تقفل ها لدكان؟

ـ وبعدين معك يا أستاذ؟

أبو فوزي الخياط تأخر اليوم في دكانه على غير عادته، لأنه مازال بانتظار فطوم وابنها وضيفها، بينما القلق المقيت يغرز في أصابعه إبراً من خدر، والتخيلات تنسج أمام رؤياه حدوداً أشجارها المغبرة أشباح ترتدي الزي العسكري، وتلاحق المنحنيات والعصافير وتبدد الذكريات.. ـ بالأحضان

ـ بالأحضان، والله زمان

وأخيرا وصل أبو طافش مع فطوم وحموده، والتقى بصديقه القديم أبي فوزي حسب المواعيد والاتفاقات المطبوخة سابقاً.

ـ أي هيه الشغلة بدها طبخ؟

ـ شو أبو طافش، على سنة الله ورسوله؟

ـ على سنة الله ورسوله

ـ وعقبال ابني حموده يااارب

أبو طافش كان مدرباً لعناصر الضفادع البشرية التابعة للعمل الفدائي، تعرف على أبي فوزي الخياط بعدما وافق على حياكة عدد كبير من البدلات المموهة خلال وقت قصير مقابل أجرٍ زهيد، وتوطدت العلاقة بينهما بشكل سريع واستمرت رغم الانقطاعات الزمنية والجغرافية، وكم حاول أبو فوزي إقناع صديقه بالزواج والاستقرار، وكم باءت محاولاته بالفشل تلك الأيام،.. أما هذه الأيام فلأن أبا طافش لا يريد الخروج من بيروت إلى السودان، عاد إلى اللاذقية متسللاً  كي يعمل صياداً في بحرها، ومن البحر والى البحر نعود.

ـ وشو المهر يا فطوم؟

ـ طزطيزة لحموده

ـ إيه شو عليه، طزطيزة لأبوحميد

حموده الذي نام تلك الليلة في دكان الخياط على بساط عتيق، وكانت وسادته من خرق بالية، كانت أحلامه من سحابة غضة تسبح فوق الأزقة المخملية، تزمر وتشفّط حاملة التنانير الحمراء والبواريد والفاكهة والأزهار… وكان صباحه من ابتسامات حنونة سطعت على عينيه حين أيقظه أبو فوزي وصحبه إلى فوق حيث صباحيّة أمه التي أخفت وراء قهقهاتها هالة من الحياء والنضارة والصفاء.

ـ طق طقطق طق

ـ مين؟ مين هالمزعج؟

ـ أنا، أنا الأستاذ

ـ أيه، وشو يعني؟

هكذا ببساطة رد أبوسويدة على جناب الأستاذ من وراء الباب رافضاً أن يفتحه له، وفي داخله رغبة عارمة بشتمه بصوت مرتفع، ولأنها خلاص ضربت برأسه، تدخل أبو فوزي بلطافته المعسولة، واستقبل الأستاذ وفضوله المعهود.. وكالعادة فاحت رائحة الخبر مع رائحة البالة، وانتشرت التساؤلات:

ـ أم أحمد تزوجت فلسطيني؟

ـ فطوم تزوجت فلسطيني، وفدائي كمان؟

ـ وشو المهر دخلكن؟

ـ طزطيزة لحمودة.

ـ طزطيزة للخفوشة؟

طزطيزة الخفوشة كانت عند الأصيل تدور بزينتها ومراياها، حول نفسها، تدور دوراتها الأولى في فسحة صغيرة قرب حديقة الياسميني.. كلها ساعات، ينتهي «الروداج» يتعلم حموده قيادة دراجته النارية ذات الدواليب الثلاثة بسرعة كبيرة، وبعد عدة أيام يتعاقد عن طريق عمه أبي طافش مع أصحاب الدكاكين ليجلب لهم البالة، البضائع، الفاكهة والخضار من الأسواق المركزية، وهكذا صار حموده يستقيظ عند الفجر، يحلق زغب وجهه، يغتسل بالماء الساخن المنساب من الدش بنعومة مفرطة تذكره بذاك الحمام كلما استيقظ مستحلماً، وبعد الدش يجفف جسده وخاصة سرته بمنشفته الجديدة، يرتدي ثيابه النظيفة، يرتب الغرفة التي صارت له بعدما دفع أبو طافش للأستاذ مبلغاً كبيراً من المال، يرتب غرفته ويقفلها بمفتاح معلق مع مفاتيح دراجته النارية، ومن ثم ينتعل شبشبه الجديد ويهبط درجات منزله بخطى ثقيلة واثقة رصينة، جعلت أبا فوزي يخلط أكثر من مرة بين وقعها ووقع خطا صديقه أبي طافش، وقد يترك ماكينته أحيانا كثيرة كي يتأمل بإعجاب وحنان حموده الخفوشة وهو يشغل دراجته التي صار يسوقها بيد، وباليد الأخرى يسلم على أهل الحارة فرداً فرداً أثناء ذهابه وإيابه.

انتظمت حياة الخفوشة بين عمله وبيته، ولم يعد يغادر أمه وحكايات عمه أبي طافش إلا يوم الجمعة… بعد الصلاة يغسل دراجته ويجهزها لمشوار العصر حيث يذهب بها متبختراً على كرنيش البحر، يفصفص البزر، يحلم بحفيدة الخياط وتنورتها الحمراء، يجرب قدرته على تمثيل أدوار شخصيات من الحكايات، أو يدندن أغان يعتقد إنها من تأليفة أو.. أو..

اليوم جمعة، والشباب بانتظار الخفوشة، على غير عادتهم استقبلوه بطريقة غريبة واحتفاء منقطع النظير، وراحوا يساعدونه في تنزل الطزطيزة من على طرف الرصيف، وفي غسل الدواليب، تنظيف الماكينة والعربة، مسح المقود والمقعد الجلدي.. لكنهم تركوا له مسح المرايا، وتلقوا ـ لأول مرة في حياته ـ أوامره بصدر رحب ونفذوا تعليماته بدقة متناهية ومن ثم:

ـ فكرك بيقدر حمودة يأخذنا مشوار؟

ـ لأ ولو، ما بيقدر أبداً أبداً

ـ شو يا شباب؟

ـ ما بيقدر ياخي، بيضربه عمه جوز أمه

وهيهات يا أبو سويدة.. واطلعوا يا شباب، والى أين المشوار والتخطيطات تدور برأسهم منذ بداية الأسبوع؟ وحموده الخفوشة تضرب برأسه متى يشاء.. وحموده يقدر، وحموده لا يقدر.. ذهب حموده أخيراً إلى الملعب ليحضر مع أولاد حارته مباراة بكرة القدم بين فريق حطين وفريق تشرين، والخفوشة الذي لا يعرف عن الدوري شيئاً، أصر على تشجيع فريق تشرين، وكل الشباب يشجعون حطين؟!

وما حلوة يا حموده، نحن من حارة واحدة يا حموده، آنت تجلس مع جمهور حطين يا حموده، لماذا يا حموده، كيف يا حموده؟ دون أية فائدة، ضربت برأس أبو سويدة!؟ وأبو سويدة صاحب الطزطيزة يا شباب، له الحرية المطلقة في تشجيع الفريق الذي يريده بصوت منخفض يا شباب. وطيبة تشرين طيبة، طيبة حطين طيبة، وعين عليك يا حكم، وتفوووو عليك يا حكم، وطيبة فلان طيبة، طيبة علان، و… أمك؛ يا أزرق.. أبوك يا أحمر.. انتهت المباراة بفوز الفريق الذي شجعه الخفوشة، الخفوشة الذي لا يعرف من كرة القدم غير الركض أنعشه الفوز فعرّم كالديك وراء مقود دراجته، وراح يشفط.. يطوط.. يراقص طزطيزته ضاحكاً من كل قلبه، وطيبة تشرين طيبة.. طيبة تشرين طيبة.. وبعد انزعاج الشباب لدرجة الغليان، وقبل منعطف الشارع المؤدي إلى حديقة الياسميني:

ـ فكرك بيقدر الخفوشة يمشّي الطزطيزة عا دولابين؟

ـ لا يا خي، ما بيقدر أبداً أبداً.

ـ معقولة هادا التشريني يمشّي الطزطيزة عا دولابين؟

ـ هلق أبو ريالة صا…

وشد أبو سويدة مقود طزطيزته إلى أقصى اليسار، فانقلبت الطزطيزة إلى جهة، وتفرطع الشباب إلى الجهة الأخرى، بعضهم قام متململا، وبعضهم راح يفتش عن إصابته.. أما أبو سويدة فقد قام مسرعا وراح يدور حول دراجته ضارباً يده بالأخرى ومتمتما بصوت منخفض:

ـ أختك عا اختو، عا أخت تشرين عا اخت حطين، عا أخت الدولابين، أختك عا…

يتمتم ويدور ناظراً إلى الشباب بطرف عينه، والشباب يتجمعون ويتراجعون رويداً رويداً، وتمتمات الخفوشة تزداد وضوحاً، وقامته تزداد انتصاباً.. وفجأة صرخ أبو حميد في وجه الجميع، ففروا أمامه مذعورين؟!

ترك طزطيزته وركض خلفهم!! هو يركض تسبقه شتائمه، وهم يركضون تلحقهم دهشتهم، هو يركض وهم يركضون أمامه إلى أن وصلوا حديقة الياسميني.. فإذ بسيارة بيضاء ذات مقاعد ثلاثة ترابط عند السور، وعلى بعد أمتار يموج حشد من أهالي الحارة، تتوسطه مجموعة رجال يرتدون بدلات أنيقة وربطات عنق زاهية، يحملون بأيديهم المزينة بالخواتم اللماعة مسدسات كبيرة يجرون تحت سطوتها أبا طافش من ياقته.. خلفه أبو فوزي يحبي على الأرض باحثاً عن نظارته، وفطوم النورانية حافية القدمين تتعثر برعبها، شعرها مشعث، وثوبها مشقوق عن صدرها، تحاول تمزيق الفراغ بأصابعها، وصوتها يضيع بين الصراخ والشتائم..

شهق الخفوشة، وركض باتجاه أمه ودموعه تسيل مع ريالته.

عن محمود أبو حامد

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *