الورقة الخامسة
الوضع التعليمي
كانت جميع مدارس المخيم أغلقت أبوابها عشية ضربة الميغ. وقسم منها قبل هذا التاريخ، بسبب قربها من خطوط التماس كالمدارس الواقعة على شارع الثلاثين، مثل يبنا وتلحوم، أو تلك التي خلف مستوصف محمد الخامس التابع لوكالة الغوث الدولية، مثل صبارين وصرفند و النقب وسخنين.
لذلك وأمام ضغط الحاجة، شرع قسم من مدرّسي المخيم الغيورين في البحث عن سبل ناجعة تمنع عن الطلاب انقطاعهم المدرسي والدراسي لتجنيب طلاب المخيم تكرار مأساة إخوتهم في الداخل خلال انتفاضة الحجارة، فكانت المدارس البديلة خيارا جدّيا عمليا وملائما.. وقد بدأت القصة في الثلث الأول من شهر كانون الثاني من عام 2013 عندما قرّر الأستاذ وليد ميعاري أن يكون الطابق الثاني من جامع فلسطين مكاناً لاستقبال طلاب المرحلة الابتدائية في الفترة الصباحية، وطلاب الإعدادية في الفترة المسائية. وقع اختياره على فريق من المدرّسين المتطوّعين الأكفاء، الذين رغم عدم انقطاع القصف عن أحياء المخيم، وعن محيط “المدرسة” نفسها، ورغم شحّ الامكانيات الضرورية للعملية التعليمية- التعلمية، من مقاعد دراسية ووسائل تعليم وغيرها.. رغم كلّ ذلك استطاعوا، بعزم لا يلين وقوة اقتدار، أن ينجحوا أيما نجاح في عملهم .
ثم قام المتطوّع يحيى أبو راشد، بجعل قبو الجامع مدرسة ابتدائية ثانية، ترافق افتتاحها، مع افتتاح دورة تعليمية لطلاب البكالوريا بإشراف مدرّس الرياضيات المتميّز منذر الشهابي، كان موقعها عند سوق الخضرة على امتداد شارع الثلاثين، ليحذو حذوهما، عضو الهيئة الأهلية، يحيى عشماوي عندما جعل من صالة شهرزاد للأفراح عند دوار فلسطين، روضة أطفال أثلجت صدور أمهات وآباء الأحياء المحيطة، تزامن ذلك مع افتتاح مدرستين أخريين: أشرف على واحدة منها الأستاذ أبو سلمى خليل، كان مكانها قبو الصالة الدمشقية للأفراح، الواقعة عند شارع الثلاثين بجانب سوق الخضرة. والثانية في معهد السمو في شارع اليرموك، أدارها الأستاذ جمال عبد الغني. وفي السنة الثانية، افتتح الأستاذ فؤاد محمد، مدرستين، ابتدائية واعدادية، عند مدخل بلدة يلدا، كما افتتح الأستاذ أنس حديد مدرستي الجرمق البديلة، ابتدائية واعدادية، واتّخذ من الطوابق الأرضية لمدرسة الفالوجة موقعاً لهما. ولاحقاً افتتحت الهيئة الخيرية الفلسطينية، روضة أطفال في مركز الإعاشة التابع لوكالة الغوث. و للحق، قدّم المعلمون كلّ ما لديهم من إمكانيات وخبرات وديناميات تعلّم فكانت النتاجات التعلمية لمدارس المخيم البديلة أكثر من جيدة، لابل أن الطالب الأول على جميع مدارس الأونروا في سوريا كان من طلاب إعدادية جامع فلسطين. و أمام هذا الواقع التعليمي البديل والاستثنائي أرى من الضروري تسليط الضوء على الجوانب المهمة الآتية:
1- كان للمدارس البديلة حظّها من قذائف وصواريخ النظام ولاسيما أثناء انصراف الطلاب، حيث استشهد طالبان (هشام محمود، وفرحات مبارك.) وجرح أكثر من خمسة مع معلمهم من جراء سقوط قذيفة هاون عند تقاطع شارع صفد مع شارع المدارس مقابل صيدلية حيفا. وتم استهداف ميكرو باص، من قنّاص الجسر، كان الأستاذ فؤاد محمد يقلّ به طلاباً إلى مدرسة السمو أثناء عبوره من شارع اليرموك؛ أسفر عن إصابة طالبة (سيدرا يونس) في رأسها لكنّها، لحسن الحظ، تماثلت للشفاء ونجت منها، كما سقطت قذيفة بجانب روضة أطفال صالة شهرزاد، لم تسفر عن إصابات ولكنها خلّفت حالة من الهلع والذعر بين الأطفال وذويهم.
2- تمسّك الهيئة بالمنهاج الدراسي الحكومي وعدم التعامل مع منهاج المعارضة المسلّحة بإطلاق، مما ترتّب عليه التواصل مع دائرة التربية في وكالة الغوث الدولية لتأمين الكتب والمواد اللازمة المرتبطة بالعملية التعليمية. وتأمين خروج ودخول الطلاب، من وإلى المخيم، لإجراء امتحانات الشهادتين الإعدادية والثانوية (وكانت الأونروا قد خصص باصاً لهذا الغرض).
3- الاتصال بالهيئة العامّة للاجئين الفلسطينيين بدمشق لتوفير إقامة الطلبة أثناء الامتحانات، وقد وقع الاختيار على معهد سعيد العاص التابع للهيئة العامة للاجئين في حي الأمين. حيث تم تأمين ( بالإضافة إلى المنامة والأكل والشرب طيلة فترة الامتحانات) مدرّسين متخصّصين لتهيئة الطلاب وإجراء مراجعات عامة لكافة المواد الدراسية.
4- كلّ من قدّم لطلّابنا أي مستوى من مستويات الدّعم تعليميّاً كان أو اجتماعياً أو نفسيّاً أو مادّيّاً أو إداريّاً، داخل المخيم وخارجه، قد قام بذلك بناءً على واجبه المهني نحو أطفال لهم الحق في التعلّم، مثلما لهم الحق في الحياة ضمن شروط ملائمة وصحيحة. وبالمقابل كل من استغلّ موقعه واستثمر في مجال التّعليم ،مثلما في غيره، لأغراض مشبوهة ولخدمة نوازعه الشخصية الدّنيئة سيظلّ محطّ احتقار، وازدراء، وستلاحقه لعنات أهالي المخيم إلى أن يحينَ وقت المحاسبة والمحاكمة.
5- ثمّة أشخاص أثبتوا أنّهم فلسطينيون حقيقيون؛ اشتغلوا بصمت ودأب وتفانٍ من أجل المخيّم، ومن أجل طلاّب المخيم بشكل خاص، ومن خارج إطار واجبهم الوظيفي والمهني، لهؤلاء ترفع لهم القبّعات، وأخصّ بالذّكر السّادة: علي مصطفى مدير الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين. راتب شهاب عضو القيادة القطرية للتنظيم الفلسطيني لحزب البعث. الدكتور (المرحوم) تيسير الصّبّاغ مدير برنامج الصحة في وكالة الغوث.
الوضع الطبي
كان في المخيم، لغاية 16- 12- 2012، ثمة ثلاث مستشفيات خاصّة (فلسطين، الباسل، الشهيد فايز حلاوة) وثلاثة مستوصفات تابعة للأونروا (محمد الخامس ، الجليل ، فلسطين )، بالإضافة إلى عشرات الصيدليات، والعديد من مختبرات التحليل؛ كانت، جميعها، تقدّم الخدمات العلاجية والطبية لسكان مخيم اليرموك. خرجت مشفى فايز حلاوة عن الخدمة بعد هذا التاريخ مباشرة لأنها أصبحت مستهدفة من القناصين المنتشرين على البنايات المقابلة في شارع الثلاثين وكذلك المستوصفات الثلاثة بسبب توقف عمليات الأونروا في المخيم.
قبل هذا التاريخ بنحو أربعة اشهر كانت مشافي المخيم تستقبل يومياً أعداداً كبيرة من جرحى الأحياء المحيطة التي كانت عرضة لصواريخ وقذائف النظام، وخاصة أحياء الحجر الأسود ويلدا والتضامن. إذ اتّخذت إدارة كلٍّ من مشفى فلسطين ومشفى الباسل قراراً حاسماً، يقضي باستقبال جميع الجرحى الوافدين إليهما بلا استثناء فاستحقّتا تقدير أهالي المخيم والأحياء المجاورة بجدارة، وأخصّ بالذّكر منهم : الدكتور نور الدين عبد الرزاق ومعن جلبوط وجمال حمّاد.
ومن باب الاحتراز الأمني صار من المستحسن عدم إبقاء المصابين، وخاصة العسكريين منهم ليلاً، حيث كانت دوريات الأمن العسكري تداهم المستشفيات بشكل “مفاجئ” وتعتقل كلّ من تطاله من الجرحى، ولذلك، كان أطباء وممرّضو هذه المشافي يعملون على مدار ساعات النهار بأكملها، ولا يتوقّفون عن عملهم النبيل هذا ضمن أقسى وأصعب الظروف، دون تمييز بين الحالات المدنية والعسكرية بإطلاق، رغم ما قد يترتّب على ذلك من اعتقال تعسّفي قد يودي بحياتهم، فقد أصبح الطبيب في سورية متّهما لكونه مجرّد طبيب، فما بالك إذا كان طبيباً في مخيم محاطٍ بأحياء جريحة من جهاته الثلاثة؛ ويعمل في مشافي فتحت أبوابها لإسعاف ومعالجة “الإرهابيين”؟! وهذا ما حصل مع طبيب الجراحة العصبية علاء الدين يوسف، دكتور الدراويش كما كان يسميه أهالي المخيم، الذي اعتقلته المخابرات العسكرية عند حاجز جسر المخيم في 25-12-2012 ولم يعرف عنه شيئاً حتى كتابة هذه السطور. وهذا ما جرى أيضاً للطبيب الجراح هايل قاسم حميد أستاذ كلية الطب في جامعة دمشق رئيس قسم الجراحة العامة في مشفى الأسد الجامعي، حين اعتقلته المخابرات العسكرية في عيادته في شارع اليرموك بتاريخ 13/8/2012 بتهمة معالجة الجرحى! ومنذ ذلك الوقت لا يعرف عن مصيره شيئا حتى هذه اللحظة، دون أن ننسى، أن دكتور البولية المتميز نزار جودت كساب كان قد استشهد على إثر ضربة الميغ 16-12-2016 وهو في طريقه إلى عمله في مشفى الباسل. أما دكتور النسائية محمود حمارنة فقد استشهد تحت التعذيب بتاريخ 24-12-2014. كما تم اعتقال الممرّضيْن نبيل فياض النعيمي وموعد سعيد الموعد، عضو قيادة إقليم سورية في حركة فتح، اللذين كانا من أوائل كوادر التّمريض الفلسطينيين الذين اعتقلتهم أجهزة المخابرات، فقط لأنهما قدّما الإسعافات اللازمة والضرورية لمستحقّيها، ليلتحق بهما بعد نحو سنتين الممرّض عبد الرحمن سلامة، الذي أصبح مديراً بالإنابة لمشفى الباسل، والذي اعتقل عند حاجز الكابلات جنوبي المخيم، ولم يعرف عن الثلاثة شيئا حتى الآن. من غير أن ننسى آخر الأطباء، الطبيب الوحيد الذي بقي في المخيم، الدكتور أحمد نواف الحسن الذي كان يدخن سيجارته الأخيرة أمام مدخل مشفى فلسطين عندما اخترقت جسده شظايا قذيفة حاقدة، قد استهدفت المشفى في صباح ذلك اليوم المشؤوم الموافق من السابع عشر من حزيران من العام 2013. و لازلت أذكر كيف بكى بمرارة إثر عملية صعبة معقدة لطفل انتهت بوفاته نتيجة عدم توفر المصل والدّم اللازميْن لنجاح العملية.
بحلول الشهر الثالث من العام 2013 أصبح كلّ من مشفى فلسطين ومشفى الباسل يعانيان من شحٍّ في كلّ شيء سوى من القذائف التي تنهال عليهما بين الحين والآخر. فالحاجة إلى أدوية الالتهاب والسيرومات باتت ماسّة. وحواجز النظام تعتبر إدخال الأدوية من أكبر وأفدح الجرائم!
ما العمل إذن؟
إذا كانت “الضرورات تجيز المحظورات” فلقد رأت الهيئة في مصادرة مخزون الأدوية من مستوصف الجليل، التابع لوكالة الغوث الدولية، حلّا مؤقتاً لكنه ضروريّ جداً، على أن يتم توزيعها على المشفيين دون إبطاء. فأخذنا (أبو ربيع زكريا، ويحيى عشماوي، وزوجته الممرضة ومجموعة من نشطاء الهيئة الشباب، وأنا) سيارة بيك أب، واتجهنا صوب المستوصف الواقع بالقرب من شارع الثلاثين من جهة سوق الخضرة. كانت أبواب المستوصف مغلقة بإحكام وحين سألنا الجيران عن المستخدم المسؤول عن فتح وإغلاق المستوصف، اندفع أمامنا مجموعة من الأولاد كانوا يلعبون هناك. وبعد دقائق معدودة، رجعوا ومعهم سيدة أربعينية رشيقة الحركة، ممتلئة القوام متوسطة الجمال.. عرفتنا فوراً، ليس فقط من بدريسة الأورانج وإنما من “مشاهدتها الدائمة لنا أمام مكتب الهيئة القريب نسبياً”. هكذا قالت. ثمّ عرّفت عن نفسها “، وبدت لي بمنتهى الحسن والهيف والوسامة حين علمتُ أنها أخت طبيب معتقل لازال “قريب من قلبي كما الله”. تشجّعت السيدة للفكرة وأظهرت تفاعلاً وتعاوناً ملحوظيْن مع رجاء بإعلام الدكتور ( المرحوم) تيسير الصباغ مدير برنامج الصحة في الوكالة. (أجريتُ اتصالاً معه وذكرتُ له الدافع إلى “مصادرة” أدوية المستوصف.. أبدى الرجل تعاطفه مع القرار بعد أن طلب تدوين أسماء الأدوية وإرسالها إلى مكتبه.). كان المخزن مكدّساً بكلّ أصناف الأدوية والمسكّنات والسيرومات ولم يخلو حتى من “الواقي الذكري”، حيث وجدنا كراتين ضخمة منه في قسم “رعاية الأسرة”، وكأنّ برنامج وكالة الغوث في ذلك الوقت كان قد عقد العزم على تحديد نسل أهل اليرموك، [والعياذ بالله، وما ذلك طبعا إلاّ خدمةً للمشروع الإمبريالي الصّهيوني.]. استغرقت عمليّة التّفريغ أزيَد من نصف نهار بقليل. وأشرف على توزيع الأدوية أبو المجد سلامة من مشفى الباسل وجمال حماد من مشفى فلسطين. وكانت المفاجئة كبيرة عندما أخبرنا حمّاد أن أدوية الالتهاب قليلة ومحدودة جداً على عكس بقية الأدوية! عند سؤالنا عن السبب جاء من يقول لنا أنّ “أبو العبد عريشة، عضو الهيئة الخيرية الفلسطينية، كان قد سبقنا إلى المستوصف واستخدم قارصاً حديدياً (عتلة) وأخذ ما طالته يداه من أدوية الالتهاب بالميكرو الخاص بهيئته! اتّجهنا، فوراً، إلى مركز الهيئة الخيرية الواقع في مدرسة الفالوجة في شارع المدارس. فوجدنا هناك، بالإضافة إلى أبو العبد، كلّا من الأخوين التوأمين الرائعيْن دياب ورضوان عيسى. و لما عرف سبب مجيئنا طلب ( رضوان عيسى، أبو هادي، وهو مسؤول الهيئة الخيرية الفلسطينية التابعة لحركة الجهاد الإسلامي في المخيم، من مساعديه إحضار أدوية الالتهاب “المصادرة” ووضعها أمامنا. تسلّم جمال حمّاد حاجة مشفى فلسطين منها ، وأرسل ما تبقى إلى مشفى الباسل ليستلمها أبو المجد سلامة هناك.
كيف تنظر الأجهزة الأمنية للمخيم
غير رجال الأعمال وأصحاب المصالح المستعجلة لا أظنّ أنّ أحداً في سورية قد فكّر بزيارة فرع مخابرات بمحض إرادته. حتى هؤلاء أجزم أنهم لو أنهم استطاعوا قضاء حاجاتهم الملحّة باتصال هاتفي، أو عبر إرسال أحد مستخدميهم، عوضاً عنهم، لما دنوا من تلك الأمكنة المرعبة أصلاً. فرع المخابرات، ومفارز الأمن الجنائي وأقسام الشرطة وقوات حفظ النظام.. ليست في نظر عامة الناس في سورية سوى مصنع لانتهاك كرامات الناس وإذلالهم، أو “أمكنة معادية من غير الممكن التآلف معها” حسب باشلار.
فالخوف من المخابرات هو شعور محايث لكّل من كانت سورية موطناً له، وخاصة في العقود الست الأخيرة. أوائل عام الألفين، أذكر إنني، والصديق موفق العايدي، وقعنا تحت ضغط حاجة تتطلب الذهاب إلى فرع مخابرات حصراً (1). وبناءً على نصيحة صديق “خبير” كان علينا من أجل قضائها أن نقابل اللواء هشام بختيار، مدير شعبة المخابرات العامة ومسؤول ملف الأحزاب آنذاك. وتقع الشعبة بالقرب من دوّار كفرسوسة. وعند مكتب المراجعات على المدخل الرئيسي للفرع.
– “شو بدكِن”؟ سأل مدير مكتب المراجعات.
– “مقابلة سيادة اللواء هشام” أجبنا معاً وبنفس اللحظة كأننا تلميذا ابتدائي في حصّة محفوظات..
– “انتو مين” ؟
– “موفق.. وياسر.. من حزب العمل الشيوعي”!
رفع السماعة وقال: “سيدي في اتنين من العمل الشيوعي بدّن سيادة اللواء”.
دقائق ثقيلة مضت قبل أن يقول “إن سيادته ليس موجوداً” على الرغم من حاجتنا الماسّة إلى هذه المقابلة، وأنّ مجرد توقيع منه ينهي قضيتنا؛ استقبلنا العبارة بفرح مكتوم مثلنا في ذلك مثل ضعيف الإيمان الذي قال في نفسه “إجت منك وليس مني!” حين رأى الجامع مغلقاً.
في كل جوانب الحياة ثمة دائما خطوط حمر ينبغي عدم تجاوزها، بحال من الأحوال، حتى لا تنطفئ جذوة الإنسانية ويبقى ثمة أمل للخروج من حالة الخوف والبؤس والفاقة..
المخيم بلا كهرباء، بلا وقود، بلا غذاء، بلا أدوية.. القذائف المتساقطة هي الشيء الوحيد الذي لم ينقطع عن أحيائه. ما يربو عن اثني عشرة ألف عائلة تعاني من شظف العيش وأوضاع حياتية في منتهى السوء، كان حاجز فرع فلسطين، وأعوانه من المجموعات الفلسطينية (2)، عند المدخل الشمالي للمخيم يحصي على الناس أنفاسهم ويحدد المسموح والممنوع من الأكل والشرب لسكانه. يصطف الناس أمامه في طوابير طويلة، أثناء الخروج وأثناء الدخول، لتأمين خبزهم وبعض ضرورات عيشهم. حتى الخبز صار يمنع إدخال أكثر من ربطة واحدة للعائلة(3) وفي حال قبض على أي شخص متلبساً بأكثر من ربطة يصادر خبزه مع شرشحة وبهدلة وقلة قيمة.
يا ترى ما الذي فعله هؤلاء البسطاء ليمارس بحقهم كل هذا العسف وكل هذا القدر من الهوان؟. سؤال لا يستطيع الإجابة عليه إجابة قاطعة وحاسمة سوى من يعطي التعليمات لهؤلاء الجنود الذين ينفذون الأوامر دون اعتراض.
اجتمعت الهيئة بكامل أعضائها وتم الاتفاق على:
تأمين اتصال مباشر وعاجل مع رئيس فرع فلسطين على أمل أن يتم تخفيف الضغوطات المعيشية والغذائية والأمنية على أبناء المخيم. وقد وقع الاختيار على السيد أنور عبد الهادي سفير الدائرة السياسية في منظمة التحرير، والمكلف من رئاسة السلطة الفلسطينية في متابعة الملف الامني والسياسي لفلسطينيي سورية. رجل أتم عقده السادس، أو نحو ذلك، طويل القامة، وسيم ومهذب، كتلة من الحركة والنشاط، مبادر إلى أبعد الحدود، خاصة حين يرى تقاعساً من الآخرين(٤)، يقوم بالأعمال المكلف بها دون إبطاء، ويجيد الإصغاء إلى محدّثيه، وحين يتكلم، لا يخرج عن النص الذي رسمه لنفسه، أو المرسوم له مسبقاً، لا لأنه استاتيكي، أو يعاني من جمود ذهني، وإنما لحرصه على تجنّب مسؤولية خيارات لا تحمد عقباها، وهو المكلف بملفين بمنتهى الخطورة، في بلد تعصف به الرّياح من كل حدب وصوب، وهذا لعمري ينطوي على قدر كبير من الفهامة والحنكة والذكاء.
يصفه بعض المحيطين به، ممّن يتسوّلون على أبوابه وعلى موائده، بـ “المخبر عند الأمن السوري”، ربما لدوافع تتعلق بصرف أنظار الناس عن وجوههم القبيحة وسلوكياتهم القذرة.
للأسباب آنفة الذكر، برز نجمه. وربما من أجل هذا لجأت الهيئة الوطنية إليه: تأمين اتصال مع العميد سهيل رمضان رئيس فرع فلسطين.
صباح يوم 2013-2- 12 كنا في مكتب العميد رمضان، وكان على وشك الخروج من عنده معالجاً فيزيائياً كان قد انهى لتوّه جلسة تدليك لرجله، إثر تعرّضه “لإصابة في أعلى فخذه الأيسر من جانب المعارضة المسلحة” هذا ما قاله لنا حرفيا. والعميد رمضان في أواخر الخمسينيات طويل القامة يرتدي بِزّة عسكرية مبرقعة، أشقر، قاسي الملامح، عيناه زرقاوان، كسماءين، لكن التوتر بدا جليّاً فيهما. وأنا أتأمّل شكله لم يحضرني سوى ضابط الغستابو جورج شقيق هيلين بطلة رائعة إريك ماريا ريمارك “ليلة لشبونة”. بدأ اللقاء بتقديم أعضاء الهيئة لأنفسهم(٥) . أثناء ذلك قدم لنا حاجب العميد قهوة مرّة فاترة. تحدّث أبو أحمد الهواري، بشجاعته المعهودة، عن واقع المخيم المزري، وعن حاجات سكانه إلى الخبز والكهرباء والدواء وعن طوابير الذّل وتسهيل حركة الناس في الخروج والدخول من وإلى المخيم..
عندئذ تحدّث العميد بأسلوبٍ قاسٍ وعنيف عن:
– تشغيل الهيئة الأفران الثلاثة بعدما سمح النائب قدري جميل بإدخال الطحين والمازوت، وإن الهيئة وزعت الخبز على المسلحين بدل أن تمنعه عنهم.
– تعاطف سكان المخيم مع المسلحين أحد أهم أسباب عدم خروج المسلحين منه.
– اعتبار المخيم منطقة عسكرية، وأن تشغيل الكهرباء، وتسهيل إدخال الخبز والوقود والأدوية.. مثلما ستفيد المدنيين سيستفيد منها المسلحين أيضاً.
– تكليف القيادات الفلسطينية، بدمشق، متابعة ملف المخيم وقضاياه
تابع رئيس فرع فلسطين قائلا “لا تفتكروا ما بعرف شو مَ يصير بالمخيم ؛ لِك أنا إلي عيون فيه بكل شارع وبكل حارة!”، و قال الجملة الأخيرة ووقف مستنداً بكلتا يديه على مكتبه وكأنّه يقول “انقلعوا برّه”
عن المساعدات المالية والإعانات الغذائية
لا يَستوِ الحديث عن المساعدات التي قُدِّمت إلى سكّان مخيّم اليرموك خلال سنوات الحصار، سواء أكانت عينيّة أو نقديّة، من غير التوقّف عند الهيئات والمؤسّسات والجهات المانحة إنّما أيضا عند الأفراد والمجموعات الممنوحَة وكذلك عند الطّرائق التي اعتمدها هؤلاء في التوزيع. ولا أبالغ إن قلت أن تاريخ الشعب الفلسطيني كان تاريخ إعانات ومساعدات وإغاثات من مختلف الجهات الدولية والعربية، بمقدار ما كان تاريخ مِحَن وفظائع ونكبات، ومن ذات الأطراف الدولية والعربية أيضاً. وما تأسيس الجمعية العامة للأمم المتحدة لـ “الأونروا”، الوكالة الدولية لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، سوى التعبير الأبرز والأكثر دلالة على ذلك.
اكتفت م ت ف “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” بتقديم سلّة غذائية واحدة بالإضافة إلى 1500 ليرة سورية لكل شخص، جرى توزيعها بطريقة انطوت على كثير من الشّرشحة والبهدلة وقلّة القيمة وقليل من الرّفق والاحترام والإخاء. فعلى سبيل المثال؛ أن تقف سيارة محمّلة بالسلال الغذائية على مدخل شارع صفد لتوزيعها على أناس يعانون من حالة عوز تامّة؛ هي دعوة للفوضى أكثر منها رغبة جادة لخدمة الناس وتلبية حاجتهم. وإثارة الفوضى، والحال هذه، ينطوي على دوافع عديدة أكتفي منها بذكر اثنين:
-التّهرب من التوزيع الصحيح المسؤول والعادل.
-التنصّل من المحاسبة والمحاكمة حين يقتضي الأمر ذلك.
مع العلم أنّ عائلات كثيرة لم تَنَل من هذا العطاء “السّخي” أيّ نائل، فقط لأن أمر توزيعه قد خضع للفوضى ولهوى ومزاج صاحب الأمر، و أذكر أننا كنّا عائدين من دمشق باتجاه مدخل المخيم، رجا ديب وعلي العبدو وأنا، في باص النقل الداخلي، وأثناء نزولنا من الباص كان أمامنا امرأة، علائم البؤس بادية عليها، معها طفلين، فاستوقفها علي وأعطاها 1500 ليرة سورية. بدا الأمر وكأن ما قدّمه للمرأة زكاة أو صدقة جارية وليس إعانة ملزمُ بتقديمها، لكل أسرة فلسطينية، بعد أن يسجّل مفصّل هويتها مع صورة عن بطاقة العائلة، وفق الشرط المعلن من منظمة التحرير بلسان سفير دولة فلسطين بدمشق. واترك لكم استنتاج ما يضمره هذا السلوك البسيط من حقائق. وعليه، استحقّت “الممثّل الشرعي” اللّعن مرّتين؛ مرّةً حين عجزت عن التخفيف من آثار الكارثة التي حلّت بالمخيم. وثانية أخرى عندما اختارت لتوزيع “هبتها” أناساً غير مناسبين لتنفيذ مهمة إنسانية كهذه بإطلاق. وللحق، قدّمت فصائل منظمة التحرير وفصائل التحالف الوطني الفلسطيني، إلى الهيئة الأهلية، مبلغ مليونيْ ليرة سورية، مصاريف يومية ونقليات وخدمات أخرى.. وذلك في أواسط نيسان من العام 2013 حين اجتمع وفد الهيئة الأهلية بخلية الأزمة (السفير الخالدي، د سمير الرفاعي، د طلال ناجي). استلم المبلغ السيد علي العبدو على مرحلتين وراح يتصرّف بها من غير ضابط أو ناظم، ـو آلية عمل محددة ومناسبة، لمثل الظرف الاستثنائي كالذي يعيشه سكان المخيم، وكانت حجّته الدائمة أنه “يملك تفويضاً بالصرف من الدكتور سمير الرفاعي، ولا يحقّ لأحد أن يحاسبه إلا الدكتور”!.
علماً أنه في أوائل نيسان من العام 2013، وفي قاعة المجلس الوطني بدمشق وفي أحد اجتماعات الهيئة الأهلية؛ اقترح أبو خطاب موازنة خاصة بفريق الانضباط لتأمين بعض المستلزمات الأساسية التي تساعد على أداء مهام فريقه بطريقة أفضل (ملابس تتناسب مع أعمالهم المجهدة والشاقة، أحذية رياضية، وجبة طعام، دخان.. إلخ) وقد قوبل اقتراحه بالرفض؛ والذريعة المكرّرة ذاتها “لا توجد موازنة”!، فتقدّم باقتراح آخر، وهو أن يُصارَ إلى جمع مبلغ شهري خاصّ بفريق الانضباط من أمناء أقاليم الفصائل الفلسطينية، فتمت الموافقة عليه بالإجماع باستثناء صوت واحد عبّر عنه مسؤول إقليم سورية في الجبهة الديمقراطية، أبو خلدون هللو، الذي رأى “أن يصرف المبلغ من موازنة الهيئة، لا من الفصائل”. أما بقيّة الفصائل فقد وافقت على دفع خمسة آلاف ليرة سورية شهرياً باستثناء حركة فتح والجبهة الشعبية حيث قرّرت كلًّ منهما تقديم ضعف المبلغ أي عشرة آلاف ليرة سورية شهريا ومن أصل 14 فصيل، التزمت أربع فصائل فقط بالدفع ولفترة محدودة: حركة فتح: 40000 ليرة دفعها الدكتور سمير الرفاعي عن أربعة اشهر فقط، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: 30000 ليرة دفعها أبو أحمد فؤاد عن ثلاثة أشهر فقط، وجبهة التحرير الفلسطينية: 15000 ليرة دفعها تيسير أبو بكر عن ثلاثة أشهر فقط، وجبهة النضال الشعبي- جناح خالد عبد المجيد 15000 ليرة دفعها أبو جمال عسكر عن ثلاثة أشهر فقط، أي ما مجموعه مائة ألف ليرة سورية فقط لا غير ،أي ما يعادل 512$ على اعتبار سعر الصرف كان ،حينئذ، حوالي 195 ليرة. جمعها الرفيق أبو ربيع زكريا العبدالله وأعطاها لـ (أبو خطاب) بحضور أبو الجاسم قواريط. لتغطية مصاريف نحو 60 متطوعاً في لجنة انضباط الهيئة الأهلية! وربما أصغر شرطي في الامن الوقائي الفلسطيني يتقاضى شهرياً أعلى من هذا المبلغ بثلاثة اضعاف! . في هذا السياق ثمّة واقعتان لابد من التطرّق اليهما، الأولى: استيلاء مسلّحي الحجر الأسود على نحو 1200 سلّة غذائية وجدت في مستودع، بالقرب من مبنى مجلة الهدف، يخصّ السيد أبو أحمد طيراوية مسؤول حركة فتح في مخيم اليرموك. وذلك في أوائل شباط من العام 2013. والثانية: حصلت بعد يومين على الواقعة الأولى، عندما استولى مسلّحو الحجر، للمرّة الثانية، على 800 سلة غذائية كانت قد وُضعت في مشغل مؤسسة “صامد” التابعة لحركة فتح غرب شارع اليرموك. وعند سؤال أمين سرّ إقليم سورية في حركة فتح، عن سبب وجود هذه السّلال في هذه الأماكن أجاب “مخبّينها لوقت الحاجة”! فأيّ حاجة أشدّ من تلك التي كان فيها سكان المخيم يخاطرون بحياة أبنائهم و أزواجهم في سبيل الحصول على ما يسدّ رمقهم من خارج المخيم؟!
وأمام شحّ المواد الغذائية وازدياد الحاجة إليها ارتأت الهيئة الاهلية أن يتمّ العمل على شراء مخزون البزوريات من أصحابها، لنكتشف أنّ هناك قرار مخابراتي يقضي بمنع التجّار بيع المواد لأهل المخيم، لا بل عملت أجهزة الأمن على تسهيل إجراءات إخراج بضائعهم إلى أسواق العاصمة دمشق! وكأنّ لسان حالها يقول: “من لم يمت قنصاً أو بالقذائف والبراميل عليه أن يموت جوعا”، وفي حديث جرى بين أبو هاني شموط، قائد لواء العهدة العمرية، وأحد اصحاب البزوريات في المخيم، أراد أبو هاني أن يشتري محتويات البزورية وبالسعر الذي يريده، فخاف الرجل وقال “شو ناوي تخرب بيتي إنتِ”؟! كان ذلك في بيت ابو هاشم زغموت وبحضور كلاًّ من: أبو خطاب وأبو هاشم وأبو هاني وشخصين، لازالا هناك، وأنا.
كان ذلك فيما يتعلّق بالمساعدة التي قدّمتها السّلطة و الفصائل الفلسطينية وطريقة توزيعها. أمّا فيما يتعلق بالمساعدات التي قُدمت من هيئات ومنظمات أوروبية، والأن جي أوز منها بخاصة، إلى المؤسسات العاملة في المخيم فكانت للحق أكثر سخاءً، بلا أدنى شك. سخاءٌ ما كان ليتخيّل أحد أبداً أن يموت نحو مائتي شخصا جوعا لو استُثمر على نحو رشيد.
كان إغلاق شرايين الحياة عن المخيم نتيجة حصار النظام الخانق والجائر، واحتكار القائمين على تلك المؤسسات للأموال المقدّمة لمخيم اليرموك، عوامل تضافرت وأدّت إلى تفاقم الوضع الإنساني بشكل متسارع، شهد المخيم، خلاله، لجوء الناس إلى أكل شتى صنوف الأعشاب والحشائش من أطراف البساتين المجاورة، حتى ألواح الصبار، صار لها طريق إلى أمعائهم الخاوية، كما سجّلت حالات موت كثيرة نتيجة الجوع. وبدل أن يتمّ استثمار الأموال في شراء المواد الغذائية الضرورية، من رز وبرغل وسكر وسمن وطحين.. والمتوفّرة في يلدا وببيلا وبيت سحم، جرى الاستثمار في صور ضحايا الجوع، على نحو ملفت، لكسب المزيد من عطف الجهات الدّاعمة فانطبق عليهم المثل “بِموّت سبع حتّى يطعمي واوي”! , وما يجعل لمثل هذا الظّن نصيب من الصحّة هو أنّ أحداً من الأحياء المجاورة لمخيم اليرموك لم يمت جوعا. وعليه، ولأنّ من صميم العمل الإغاثي هو الروح المتعالي عن التفاهات، ولأننا لسنا ممّن يجيد الاصطياد بالماء العكر وحتى ندرأ “الحدود بالشبهات”؛ اتوقّع من السّادة الذين كانوا، وربما مازالوا، قائمين على الهيئات والمؤسسات الناشطة العمل على فتح ملف الإعانات والمساعدات المقدمة إلى مخيم اليرموك، العينية منها والنقدية، خلال الفترة الواقعة بين الشهر الثامن من العام 2012، اليوم الذي شهد مجزرة شارع الجاعونة، وبداية العام 2018 تاريخ بدء نزوح سكان المخيم إلى يلدا. فلغة المساعدات هي لغة الأرقام، بمعنى أنها لا تتطلّب جهداً كبيراً لمعرفة عمّا “ائتُمنتم وعمّا أدّيتم”. فعرض مدوّنة المساعدات المقدّمة في تلك الفترة، يتيح المجال للنّظر فيها من أصحابها الفعليين أقلّه، الذين لولاهم ما كان لأحد أن يرى سنتاً واحداً من الجهات المانحة. وعلى اعتبار أن في نشر البيانات الصّحيحة القول الفصل مع كلّ الظنون والتكهّنات فهو لن يحتاج إلى تبرير أو تفسير إلاّ عند من تنقصهم الشجاعة، إن انطلقنا من حسن النوايا، أو عند من كان متورّطاً، إن انطلقنا من سوئها.
أما الهيئات والمؤسسات الفاعلة والناشطة في مخيم اليرموك، أثناء تلك الفترة ، فهي:
– حملة الوفاء الأوروبية (أمين أبو راشد، أحمد فرحات )
– المجلس المحلي لمخيم اليرموك (أبو عبدالإله مهند فرهود)
– الهيئة العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين في الحكومة المؤقتة (أيمن فهمي أبو هاشم، أكرم عطوة)
– مؤسسة جفرا (أحمد عباسي، أحمد برغيس، ياسر عمايري، أسامة موسى)
– مؤسسة بصمة (عبدالله الخطيب، يزن عريشة، سمير عبد الفتاح، أبو سلمى خليل، فراس الناجي)
– مؤسسة نجدة ناو (خولة دنيا، حسام سعد، عادل سليمان، محمد أبو عمرو، محمد كيوان )
– مؤسسة تواصل (حسام سعد، عبد الخطيب، عادل سليمان، محمد أبو عمرو، أحمد كوسا )
أستثني هنا وكالة الغوث الدولية (الأونروا) ربما لأنها الهيئة الوحيدة التي اعتمدت المعايير الدولية في تقديم الإعانات الانسانية إلى مستحقّيها. وبهذه المناسبة، أتساءل فيما إذا كان باستطاعة أحد من الرفاق والأصدقاء، وخاصة ممّن لديه أقنية على المؤسسات الأوروبية والعربية المعنية، وعلى نظيفي الكفّ في الائتلاف السوري المعارض، أن يحصل على ملف المساعدات المقدمة باسم المخيمات الفلسطينية السورية واليرموك منها بوجه خاص؟ .يقيناً أنّ من رفض نظام القتل والنهب يُفترَض أن يكون أكثر نظافة وأقلّ فساداً، ليس بالحكي وإنما بالسلوك العملي “فالحكي ببّلاش”
” المعس” ذاك الفعل الكريه
بات ليل المخيم بات طويلاً وحالكاً. لاشيء سوى العتمة والقذائف والبرد والجوع وانتظار المجهول.. قنّاصون وقتلة، شرفاء وأبرياء، مختلسون ولصوص يستبيحون البيوت والمتاجر المخازن والمختبرات المستوصفات والصيدليات وكل شيء.. كل شيء أصبح معرّضا للسّلب والنّهب أو “المعس” وفق العبارة الكريهة التي أصبحت قيد التداول على ألسِنة سكّان المخيم. لقد تمّ “معس” بيت زيد أو “معس” دكّان عمرو ! تماما مثلما قمنا، نحن في الهيئة، بـ “معس” مستوصف الجليل، وما حدا أحسن من حدا !. كلّ شيء “ضاق حتى ضاق” ومن أجل سدّ رمق أطفالهم لم يعد أمام أرباب الأسر المنكوبة سوى خيارين إثنين إما العمل بـ “المعس” أو الالتحاق بأحد فصائل المعارضة المسلّحة. كان خيار “المعس” أهونهما ولكن إلى متى؟!
أمّا منظمة التحرير الفلسطينية فقد عبّرت عن مسؤوليتها ، على نحو صفيق ومنحط ، حين اكتفت بمنح 1500 ليرة سورية للأسرة الواحدة وسلة غذائية لمرة واحدة لا تكفي حاجة أسرة ، من خمسة أفراد، لأسبوع واحد. أزعم أن دافعها إلى ذلك لم يتعدّ رفع العتب؛ ولمَ لا، أليست هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني؟! أعتقد جازماً، والقرائن الملموسة هنا أقوى برهان، لو كانت منظمة تحرير يهودية لما سمحت أن يصل شعبها إلى هذا المستوى من الفاقة والبؤس والهوان.. وخلال أسبوعين أنقذت الهيئة الأهلية صيدليّتين من “معسٍ” محقق ، الأولى صيدلية “بركة” الواقعة في شارع المغاربة والثانية صيدلية “القدس” مقابل مكتب الجبهة الديمقراطية (مقرّ الهيئة الأهلية)، كلتاهما استُهدفتا من ذات المجموعة المسلّحة، مجموعة أبو صيّاح فرّامة(6). اُنقذت الأولى بتدخّلٍ شهم من الفدائي الهمام ماهر الجبالي، ورفاقه حيث شهّر بندقيته بعد أن جعل جسده سدّا حال دون اقتحام فرّامة الصيدلية.
في كل مجتمع هناك أناس طيّبون أخيار بالفطرة لا يهابون في الحقّ لومة لائم شجعان سبّاقون لمدّ يد العون لمن يحتاجها ودون مقابل، الجبالي كان أحد هؤلاء(7). “لن تدخل الصيدلية إلا على جثتي” ! ، بهذه الصرخة المزلزلة المنبثقة عن عزيمة صارمة ومضاء؛ مَنَع الجبالي “معس” صيدلية بركة. أما الصيدلية الثانية فكانت نتيجة تدخّل مباشر من مجموعة تابعة للعهدة العمريّة صَدَف أن كانت مارّة من هناك. علماً أنه في تلك الاثناء قام أبو خطاب، وفريق الانضباط في الهيئة، باستحداث مستوصف “ميداني” جعل من مركز الإعاشة، قرب مقهى فلسطين، مقرّاً له. وكان قد وضع معدّاته وتجهيزاته المطلوبة قبل أن تختطفه جبهة النصرة ويستشهد على يد جلاوزتها الأوغاد.
……
1- ترقين قيد للإعفاء من الخدمة الالزامية.
2- المقصود بالمجموعات الفلسطينية المسلحة جميع الفصائل الفلسطينية التابعة للنظام وهي: الجبهة الشعبية القيادة العامة، وفتح الانتفاضة، وجبهة النضال- جناح خالد عبد المجيد، وجبهة التحرير الفلسطينية-جناح علي عزيز، وحزب الشعب الفلسطيني(مصطفى الهرش)
3-والحجّة جاهزة: حتى لا يستفيد المسلحون! مع العلم أن المسلحين لديهم أقنيتهم الخاصة والمتعددة التي يتزودون منها بكل ما يحتاجون من طعام وشراب وذخيرة..
4- المقصود بالآخرين هنا “خلية الأزمة” ، التي شكلها الرئيس أبو مازن عند اندلاع الثورة السورية، وهي مكوّنة من: الأستاذ (المرحوم) محمود الخالدي السفير الفلسطيني بدمشق، والدكتور سمير الرفاعي عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، والدكتور طلال ناجي الأمين العام المساعد في الجبهة الشعبية – القيادة العامة،
بالإضافة إلى أمناء أقاليم الفصائل الفلسطينية بدمشق.
5- من بين أعضاء الهيئة الوطنية الذين حضروا اللقاء: أبو ـحمد هواري، أبو محمد سليم، محمود يونس، علي العبدو، يحيى عشماوي، أبو ربيع زكريا، أبو الجاسم قواريط، أبو خطاب وأنا.
6- ابو صياح فرامة احد الجهاديين الاسلاميين اعتقله الأمن العسكري عند عودته من العراق واطلق سراحه من سجن صيدنايا اواسط عام 2011 اسمه الحقيقي عبدالله طيارة واحد من مسلحي المعارضة في بلدة يلدا كان لديه محل تصليح دراجات هوائية. أصبح لاحقا امير تنظيم داعش في المنطقة الجنوبية.
7- اختطف الجبالي بنفس اليوم الذي اختطف فيه أبو خطاب، واستشهدا معاً على يد رعاع جبهة النصرة. فمن لم يقتله النظام قَتَلته جبهة النصرة أو داعش!