في انتظار غودو

” في انتظار غودو”: العبث في موضعه

كأن الإنسان في بحثه عن “المخلّص والفادي” غرق في العبث، عبث السؤال وعبث الانتظار، وحتى عبث التعريف والتصنيف. فمن هو غودو هذا؟ الذي لم يأتِ بعد، وقد لا يأتي، وقد ننتظره للأبد، دون جدوى ” في المعنى الوجودي”..

لكل منا غودو الخاص به، بعضنا يفصله على مقاسه ومقاس همومه، والبعض الآخر ينحته على مقاس أحلامه، والبعض يفضل أن يكون بحجم طموحاته ومشاريعه.. ومع ذلك يبقى غودو لغزاً كبيراً ( في الحقيقة قد يكون لاشيء، قد لا يكون ثمة غودو ننتظره، وربما يكون هذا استنتاج مريح للبعض).

تدور مسرحية صموئيل بيكيت ( 1906- 1989)  “في انتظار غودو”  حول شخصيات هامشية “لامنتمية” غارقة في الذاتية والفردانية والثرثرة  لدرجة “العبث”، ينتظرون غودو على أمل أن يتغير وضعهم الوجودي. يتلاعب بيكيت بمهارة بشخوص مسرحياته مثلما يتلاعب باللغة و المفردات المختلفة بطريقة  رمزية مكثفة  وتهكمية مبدعة، ويضعنا أمام المأزق الي لا حلّ له ، أي، الانتظار. وهل هناك اصعب من الانتظار والترقب؟   لقد بات فلاديمير واستراجون ( الشخصيات الرئيسية في المسرحية)  يعبران عن معنى الفراغ والتأمل السطحي واللاجدوى عند الحديث عن أزمات الإنسان المعاصر ” في المجتمعات الرأسمالية، خاصة فيما يتعلق بتسليع العمل وتنميطه وتشييئه وإفراغ الشأن العام [ السياسي] من محتواه الإنساني “.

لعل غودو مجرد فكرة، فكرة تسلطية تهدف إلى عزل البشر من خلال انغماسهم في ذواتهم مما يسهل السيطرة عليهم، فتاريخ التسلط على البشر- كما يرى نعوم تشومسكي- يسعى لأن يبقي البشر معزولين بما يكفي وبهذا يمكنهم أن يصدقوا و\أو يقبلوا أي شيء مهما كان. وهذا ليس مجرد تأمل فلسفي لتاريخ الهوموسابيينيس الأنثروبولوجي فقط، بل هو جزء من واقعه الاجتماعي\السياسي أيضاً، كما عبّر عنه آلان دونو بقوله أن “التفاهة” ( اقرأها: العبث) بوصفها “ظاهرة جانبية”  باتت “تقنية” من تقنيات الأنظمة السياسية، ذات منظومة وأفكار وخطط قابلة للتطبيق، إنها تشبه “القوقعة اللامعة التي تحوي داخلها يرقات وطحالب التفاهة التي تتناسل في جوف السياسات المهيمنة.”

فيما يلي ترجمة أجزاء من كتاب رونان مكدونالد، المُحاضر في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة ريدينج والمدير السابق لمؤسسة بيكيت الدولية، و الصادر في العام 2006 بعنوان  (مقدمة كامبريدج لصمويل بيكيت The Cambridge Introduction to Samuel Beckett), وتتضمن الترجمة التالية قسمين: القسم الأول يتضمن الفصل الثالث من الكتاب المذكور أعلاه  ( مصدر ترجمة القسم الأول : https://boringbooks.net/2014/04/blog-post_20-2.html) ، أما القسم الثاني فيتضمن الفصل الثاني من الكتاب ( مصدر ترجمة القسم الثاني : https://boringbooks.net/2014/04/blog-post_20-2.html), وكلا القسمين من ترجمة السيد أمير زكي.

في انتظار جودو: القسم الأول

رونان مكدونالد| ترجمة: أمير زكي

المشهد، الفعل (أو عدم وجوده)، لا يمكن عدم ملاحظته: طريق ريفي قفر فيه تل وشجرة، صعلوكان كبيران ينتظران موعدهما مع رجل يدعى جودو، لا يأتي أبدا. البناء المسرحي الفارغ وغير المميز لأولى مسرحيات بيكيت الممثلة أصبح واحدا من الصور الأيقونية ليس فقط في الدراما الحديثة ولكن في القرن العشرين نفسه. معنى المسرحية أقل تأكيدا. واحد من الأسئلة الأولى التي يسألها عادة مشاهدو المسرحية هو من هو (أو ما هو) جودو Godot؟ ربما هو يمثل الله God؟ الصبي الذي يظهر في نهاية كل فصل يزعم أن جودو لديه لحية بيضاء طويلة، مثل بعض التمثيلات المصورة لله في الغرب (أو مثل صورة الطفل عن الله) وأنه يرعى الخراف والجداء. (وفقا للإنجيل، الله سيفصل الصالحين عن الملعونين عن طريق وضع “الخراف” على يمينه، و”الجداء” على يساره (إنجيل متى 25: 32-33).) ولكن في النهاية فجودو يعطي فلاديمير واستراجون إحساسا بالتوجيه والغرض في حياتيهما (حتى لو كان ذلك خاطئا) بطريقة تتوازى مع الاعتقاد الديني. هل المسرحية إذن يمكن أن تكون رمزا للوجود ما بعد الإلهي؟ المسرحية كتبت في ظل الحرب العالمية الثانية، الله/ جودو (God/Godot) يبدو أنه هجر العالم المبتلى بالبربرية والتخريب العظيم والإبادة. غيابه ترك ثغرة تحاول الرغبات والآمال غير المجدية أن تملأها بدون نجاح.

ولكن الحذر مطلوب هنا. أعمال بيكيت دوما تقاوم التفسير الواحد. إجابة بيكيت على سؤال “من هو جودو” كانت دوما “إن كنت أعرف لكنت قلت ذلك في المسرحية”. عندما سأل الممثل البارز رالف ريتشاردسون – فلاديمير المنتظر في أول إنتاج للعرض في لندن – بيكيت إن كان جودو هو الله، أجاب بيكيت إنه لو كان يقصد الله لكان قال الله وليس جودو[1]. اسم جودو يشبه ولكنه في نفس الوقت أكثر من “الله”[i]. من المسلم به أن المسرحية مفعمة بالدلالات الكتابية وتناقش القضايا الأساسية للزمن والرغبة والعادة والمعاناة وهكذا، ليس من المبالغ فيه أن نتعرف على العنصر الديني في المسرحية، وعلى شخصية الله، ولكننا ما زلنا نتحفظ على التعريف التام.

ربما يكون هناك درس عن كيفية قراءة العمل ككل هنا. “في انتظار جودو” ممتلئة بالإيحاءات، ولكنها ليس مختصرة في رسالة رمزية محددة. بيكيت وصفها على أنها “تكافح طوال الوقت لتجنب التحديد”[2]. المسرحية لن تُحدَّد أو تُصنَّف، والمعنى الواضح لن يأتي إلينا، بالضبط مثل جودو الذي لن يأتي لفلاديمير واستراجون. يمكنهما أن يكونا مرتبكين وغير متأكدين من أين هما، وأين كانا، وأين سيذهبان، والجمهور -إن استطردنا – يمكنه أن يشعر بالغرابة وبالموضوعات المتهربة في المسرحية، التي، بينما تدور حول القضايا الفلسفية والدينية، تميل للمحافظة على مسافة، لتجعلنا في حالة تعليق للتفسير.

ربط “في انتظار جودو” بالاستعارة الدينية ربما يلجم بشكل كبير قوتها الموحية، هناك أبعاد فلسفية وسيكولوجية مثلها مثل الأبعاد اللاهوتية في عدم مجيء جودو. من الممكن أن يُرى على أنه يمثل كل أنواع الكفاح، كل الآمال، ميلنا لعيش حياتنا بالحافز تجاه مكسب منتظر. معظم البشر يعيشون في حالة دائمة من الشوق (سواء كان مستواه ضعيف أو قوي)، ومتعلقين بأمل أو رغبة ما تجاه المستقبل: العطلة المرتقبة، العمل المناسب، التقاعد المجزي. وفي الوقت لذي يتحقق الأمل وتشبع الرغبة، يتم التحول إلى موضوع آخر، كما يشرح بيكيت في “بروست”[ii]:

“نحن نشعر بالإحباط من بطلان ذلك الذي نفضل أن نسميه النوال. ولكن ما هو النوال؟ هو إدراك الذات لموضوع رغبتها؟ الذات تموت – ربما العديد من المرات – في طريقها”. (صـ 13-14)

وفقا للفلسفة المتشائمة التي استخدمت في مقال بيكيت المبكر (والمتأثر بشكل كبير بفيلسوف القرن التاسع عشر الألماني آرثر شوبنهاور)، فالذات متجزئة وممتدة خلال الزمن، ومن الأفضل أن نفهمها على أنها سلسلة من الذوات. في اللحظة التي يتم فيها إشباع طموح أو دافع، الرغبة تتحول وتنحرف من أجل نوال متوقع آخر. في النهاية لا يوجد إشباع: “مهما كان الموضوع، فجوعنا إلى الاستحواذ بطبيعته لا يشبع”(17). الحياة بالتالي تصبح توقع مستقبلي غير مجدي لقدوم جودو الذي لا يجيء. نملأ أيامنا بالعادات والروتين في انتظار مجيئه، ونادرا ما نتوقف لنواجه الموقف اليائس الذي نعيش فيه – ندرة وموقوتية الإشباع، الهدم البشع للزمن، حتمية الموت من لحظة الميلاد (“حفار القبور يضع ملقط الجراح” 90-1).

على الأقل هناك ثلاثة ملامح متخلصة من هذه النظرة السوداوية والمتشائمة تجاه الحياة. أولا، هناك مشاعر الرفقة والطيبة بين إستراجون وفلاديمير. ثانيا، المسرحية طريفة جدا، تتضمن تلك الكوميديا البيكيتية المميزة – السوداء، الجريئة، الذكية، المزعجة – التي تملك نفس جذور التراجيديا، أكثر منها تجلب الارتياح الفكاهي ببساطة منها. وكما تشير “نيل” في المسرحية التالية لبيكيت “لعبة النهاية”: لا شيء أطرف من التعاسة”.(20) ثالثا، فالكتابة والبناء المسرحي متوازن بحرص ومصنوع غالبا بجمال. غالبا فالوضع في أعمال بيكيت يكون الشكل – الذي هو دوما متردد ودقيق ومضني – فيه سيمترية ووضوح يلامس أحوال الحياة الفوضوية والبائسة الموصوفة. “في انتظار جودو” ليس فيها الأشكال والنماذج الأقرب لكونها موسيقية الموجودة في “دُرَيمات” dramaticules بيكيت المينيمالية المتأخرة. ولكن الحوار والفعل هنا فيهما دقة وبعض الجمال، يستطيع المرء أن يفترض أنهما يواجهان مادة الموضوع المتشائمة ظاهريا. بدون هذه التقنيات المشذبة والمشحوذة، لم يكن بيكيت ليستطيع أن يتجه بالدراما إلى أرضية الضجر والركود وفي الوقت نفسه يحافظ على الطاقة المسرحية. العديد من المعلقين الآن يعتبرونها أهم مسرحية في القرن العشرين. سواء كانت تستحق أو لا، فإنها العمل الذي بسببه عُرف بيكيت وهي العمل الذي حوَّله – هو الذي كان يبلغ 47 عاما – من روائي غامض وتجريبي نسبيا إلى رمز له أهمية ثقافية عالمية.

السؤال عمن هو أو ما هو جودو ربما يكون سؤال واحد من ضمن العديد من المربكات فيما يتعلق بالمعاني المتضمنة والشروحات المنكرة. إنها مسرحية تظل تحير الطلاب ومحبي المسرح، كما فعلت للعديد من المشاهدين الأوائل، الذين استقبلوها بذهول وعدائية. لماذا لا يستطيع هؤلاء الرجال ترك المكان؟ ما الذي يفصل بين الفصلين؟ لم هناك أوراق على الشجرة في الفصل الثاني ولا توجد في الأول؟ لم يسمح لاكي لنفسه أن يتعرض للإيذاء من قبل بوتسو؟ ما الذي علينا أن نفهمه من الإحالات للصلب ولجنة عدن؟ ربما يكون من المهم أن نضع في أذهاننا أن تشكك الجمهور تشترك فيه الشخصيتان الرئيسيتان:

“إستراجون: لقد جئنا هنا بالأمس.

فلاديمير: آه لا، لقد أخطأت في ذلك.

إستراجون: ماذا فعلنا بالأمس؟

فلاديمير: ماذا فعلنا بالأمس؟

إستراجون: نعم.

فلاديمير: لم… (بغضب) لا شيء يكون أكيدا عندما تقترب منه.” (14)

عدم اليقين اليائس من الذاكرة يتم تدعيمه في الفصل الثاني، فمرة أخرى يحاول إستراجون وفلاديمير بتعثر أن يعرفا إن كانا هنا في اليوم الماضي أم لا. إستراجون – الأقل يقينا والأقل اهتماما بالماضي أكثر من فلاديمير – لا يستطيع أن يتعرف على حذائه في منتصف المسرح. فلاديمير يشعر بالحيرة بسبب الأوراق التي ظهرت على الشجرة. جزئيا فلعلاج هذه الحيرة يعتنقون مبدأ إرشاديا يمكنهما بواسطته أن يكونا متأكدين: “ما الذي نفعله هنا، هذا هو السؤال. ونحن محظوظان في هذا، لأنه صادف أن نعرف الإجابة. نعم، وسط هذا الارتباك العظيم هناك شيء واضح وحيد؛ أننا في انتظار مجيء جودو” (80).

من وجهة نظر الجمهور، أحد تأثيرات نقص التحديد وغياب معنى واضح، هو انتقال الاهتمام إلى السمات الدرامية في المسرحية أكثر من دلالات رسالتها، بناءها أكثر من معناها. من الواضح إنها مسرحية مبتكرة وتجريبية، منفصلة عن تقاليد الدراما المعروفة. فكرة الحبكة منتهية تماما هنا. العلاقة الواضحة بين السبب والنتيجة، تسلسل التفسيرات، العقدة والحل، كلها غير موجودة، كما يمكن أن نتوقع من مسرحية تحمل معرفة محجوبة ليس فقط في الموضوع بل أيضا في الطريقة. فالفصل الثاني كان موحيا في تكراره للأول (إلى جانب الإشارات إلى أن “اليومين” ربما يكونان جزءا من دائرة لا تنتهي) فهو يعقّد العلاقة بين السبب والنتيجة، والتطور من البداية للنهاية، والجمهور انفصل عن المسرحية المصنوعة جيدا تلك التي كان ينتظرها، الحبكة المربوطة بشدة، حيث أن كل خيوط المسرحية مربوطة بدقة من أجل نموذج معقد ومرضي، هذا بعيد عن النموذج المشوه هنا، بالنكات والقصص التي تظل غير منتهية، والمعلومات المخفية باستمرار، والأحداث التي تتم بلا سبب أو صلة واضحين. ممن ولماذا يُضرب استراجون كل ليلة؟ متى حصل الرجلين على موعدهما مع جودو؟ أم أن هذا هو مجرد اختلاق من ذاكرتهما عير الموثوق بها؟ لِم يضرب جودو أحد الصبيين و لا يضرب أخيه؟ لِم خُلّص أحد اللصين وليس الآخر؟ لم لا يأتي جودو؟ نحن أيضا ننتظر بلا جدوى من أجل إجابات واضحة على هذه الأسئلة.

من أجل صناعة مسرح بهذه الحالة كان على بيكيت أن يعيد صياغة كتاب القواعد، أن يسعى من أجل قواعد جديدة للمسرح، لا-درامية أكثر منها درامية، تلك التي ستقاوم التسلسل، والذروة والحل، وتُجَسِّد الضجر واللا فعل والغموض. ومن أجل فهم هذه الطريقة على المرء أن يركز في الجملة الأولى من المسرحية: “لا شيء يمكن فعله” (9). الفعل يفترض ذاتا مستقلة بشكل معقول وعالم سببي مفهوم، وطالما أن الاثنين غير موجودين في مسرحيات بيكيت، فهناك القليل من الفعل على مسرحه. وصف استراجون الشهير للمسرحية الذي يقول فيه “لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، هذا فظيع”. (41) – استخدمه الناقد فيفيان ميرسييه بسخرية في ملاحظته العابرة بأنها المسرحية التي “لا شيء يحدث فيها، مرتين”، وربما تكون هذه أكثر الملاحظات النقدية شيوعا عن “في انتظار جودو”[3].

ولكن من جهة أخرى أليس “الانتظار” نفسه نوعا من الفعل؟ لنكن متأكدين أن فكرة الفعل هنا امتدت لمساحة اعتبرت سابقا غير مؤثرة في المسرح. السكون – الذي يتخلله حوار غير معقول – يستمر في جزء كبير من المسرحية. ولكن، في مواجهة ميرسييه، من الواضح إنها ليست حالة أن لا شيء يحدث هنا. حتى بخلاف دخول بوتسو ولاكي اللذان يجلبان دفعة حيوية للفصلين، مساحة من الحركة والنشاط تحدث: اللعب بالأحذية، تغيير القبعات، البنطلون الذي يسقط، يستمران ويتوقفان. بالإضافة إلى ذلك، فالحوار والتغيرات الجسدية بين الشخصيتين الرئيسيتين تصنع نوعا من النشاط الدرامي. وبالتأكيد فالتفاعل لا يمكن أن ينفصل كلية عن الفعل. نعم هناك العديد من الأشياء التافهة والعادية – السخرية من التلميحات المتعلقة بالعمق الديني والفلسفي – ولكن هناك فعل في المسرحية. ليس فقط الفعل ولكن الكثير من الهزل farce يحدث على المسرح، الوقعات والتصرفات المضحكة التي يمكن أن نربطها بمسرح المنوعات أو الفودفيل (بعض التأثيرات الشائعة والمعروفة التي تستخدمها المسرحية).

الدراما الواقعية تخفي طبيعتها المسرحية والخيالية بجهودها في إعادة إنتاج مظهر العالم “الواقعي”. ولكن “في انتظار جودو” هي مسرح يعلن باستمرار اصطناعه المسرحي. فكرة المسرح واللعب يتحقق في المسرحية في عدد من المستويات. أولا، لدينا العديد من الأداءات الواعية ذاتيا، فكرة أن الحوار بين فلاديمير واستراجون هو نوع من “اللعب”: “تعال يا جوجو، أعد الكرة، ألا تستطيع، من آن لآخر؟”(12). السمة الأدائية تتضح بشكل خاص في الفصل الثاني، عندما “يلعب” الاثنان، من أجل تقضية الوقت كالمعتاد، لعبة “بوتسو” و”لاكي”. هذا العنصر ما وراء المسرحي – وعي المسرحية بنفسها كمسرحية – يرفض تعليق الإنكار Suspension of Disbelief؛ هذا العنصر المركزي في الواقعية على المسرح. إن كان فلاديمير واستراجون يستطيعان أن يكونا بوتسو ولاكي، إذن فكيف نكون متأكدين أن بوتسو ولاكي لا يفعلان الشيء نفسه بالضبط؟ هذا يعرّفنا أن هذه “مسرحية”؛ نحن نعرف بالطبع أنهم يفعلون ذلك – الممثلون يلعبون الأدوار الخمسة وسيفعلون ذلك مرارا وتكرارا حتى نهاية العرض. هناك إيحاءات كثيرة بأن الفصلين هما جزء من دائرة مستمرة، ليس فقط بسبب التشابهات العديدة بين اليومين اللذين من المفترض أن المسرحية تمت فيهما. مع نهاية الفصل الأول، يشير فلاديمير إلى تغير مظهر كل من بوتسو ولاكي، وكأنه واستراجون قد قابلاهما من قبل. مع نهاية الفصل الثاني يتوقع أنهما سيعودان للمكان نفسه مرة أخرى. لذا بطريقة ما، فالتكرار في المسرحية هو إيحاء بأن الأفعال التي تحدث هي أجزاء من دائرة مستمرة، تعيد إنتاج التكرار بالمسرحية، حقيقة أن المسرحية تستمر كل ليلة. حياة معظم الناس تتضمن دائرية وروتين من نوعية ما، سواء كانت عادية كيوم في العمل أو طقوس الاستيقاظ وتناول الطعام والذهاب للسرير. معظمنا يطوّر عادات أو نماذج متكررة من السلوك نتبعها غالبا بغير تفكير حتى تحل كارثة ما أو حدث غير معتاد في الحياة يكسر ذلك. “العادة” كما يقول فلاديمير: “هي مميت عظيم”.(91) لذا ففكرة التكرار تعبر عن جانب معين من الحياة اليومية في قمة عدم رحمتها الدنيوية. على أي حال، ففي الوقت نفسه من الواضح أنها تعكس ما يحدث فعليا في المسرحية: الممثلون يظهرون كل ليلة ليقولوا جُمل قالوها من قبل وسيقولونها من جديد. بهذه الطريقة فـ”في انتظار جودو” تقدم نفسها كقطعة مسرحية متعلقة بالمحاذاة الموضوعية إلى جانب رؤية متشائمة للحياة كعادة وتكرار. إن كافحت الدراما الواقعية التقليدية لتعكس الحياة، إذن فهذه المسرحية على النقيض تظهر كيف تعكس الحياة الدراما.

هناك تقنيات ما بعد مسرحية أخرى في المسرحية تم تضمينها بمهارة في الحدث وفي بناء اللغة. إذن نحن ليس لدينا شخصيات تمضي على المسرح بغض النظر عن الجمهور (كما يحدث، قل في مسرحية بيكيت إليوثيريا، المسرحية البيرانديللية التي كتبها قبل “في انتظار جودو” مباشرة، والتي لم تنشر في حياته ولم تمثل أيضا[iii])، ولكن لدينا العديد من الأفعال بداخل المسرحية التي تستعير اللغة المسرحية بوعي ذاتي. فعلى سبيل المثال، فلاديمير يخرج من المسرح ليستجيب لواحد من النداءات الملحة لمثانته المريضة، والممثلان يتظاهران بمرح بأنهما مشاهدان أيضا للعرض:

“إستراجون: نهاية الممر، على اليسار.

فلاديمير: حافظ على مقعدي.

(يخرج فلاديمير) ” (35)

خلال المسرحية تبدي الشخصيات ملاحظات، غالبا تحقيرية، عن الطريقة التي تسير بها تبدلاتهم: “هذا يصير تافها حقا” يشير فلاديمير بازدراء إلى نقطة بذاتها (68). لدينا أيضا تبدلات فيها وعي ذاتي ملحوظ بشكل أكبر كالآتي:

“فلاديمير: ليلة رائعة تلك التي نقضيها.

إستراجون: لا تُنسى.

فلاديمير: ولم تنته.

إستراجون: من الواضح أنها ليست كذلك.

فلاديمير: إنها مجرد البداية.

إستراجون: هذا بشع.

فلاديمير: أسوأ من البانتومايم.

إستراجون: من السيرك.

فلاديمير: من مسرح الاستعراض.

إستراجون: من السيرك.”

هذا الحوار هو تعليق على نوع من التمثيل المسرحي وصل إليه الصعلوكان من أجل قضاء الوقت بينما ينتظران جودو. ولكن في الوقت نفسه هو يطرح حكما على هذه الحوارات، إنها أيضا تشكل جزء منهما – إنها بالضبط مثل مسرح الاستعراض الذي يبدل نفسه. فوق هذا فهذه الحوارات تتم بسخرية على أنها تهكم على نوع من الحوار المتحذلق من الممكن أن يتم في بار المسرح أثناء الاستراحة. هذا جعل العرض الذي يتم على المسرح بكل التظاهر المتأصل فيه، يصير إلى إطار من التظاهر والاصطناع بالحياة المعاصرة. لذا فمرة أخرى لا يسعى المسرح هنا بسلبية نحو إعادة إنتاج “الحياة الواقعية” كما الحال في الدراما التقليدية، ولكنه بالأحرى يُظهِر كيف أن التظاهر والتكرار في الدراما هي في ذاتها انعكاسات للحياة. إذن فـ “في انتظار جودو” هي مسرحية تقوم بشيء أكثر راديكالية من جلب الواقع ببساطة لعرضه – بل إنها تظهر جوانب أدائية ومسرحية ومكررة لما نطلق عليه الواقع.

كثيرا ما تحمل الجوانب ما بعد المسرحية في المسرحية سمة المحاكاة الساخرة، خاصة عندما تستهدف التقاليد المسرحية المضجرة التي يتم هدمها. لذلك فعلى سبيل المثال محاولة بوتسو في رثاء غروب الشمس تبدو كمحاكاة ساخرة للغة الشعرية أو الشاعرية الطنانة:

“إنها شاحبة ومضيئة كأي سماء في مثل هذه الساعة من اليوم. (صمت) في خطوط العرض تلك. (صمت) عندما يكون الطقس جيدا. (بشاعرية) من ساعة مضت (ينظر إلى ساعته، بأسلوب النثر) بالكاد (بشاعرية) تنسكب من ساعتها (يتردد، بأسلوب النثر) قل من الساعة العاشرة صباحا (بشاعرية) تيارات لا تنتهي من من الأضواء الحمراء والبيضاء تبدأ في فقدان سطوعها، تشحب (إيماءات باليدين تقل بالتدريج) تشحب، تشحب بالتدريج، بالتدريج حتى (صمت درامي، إيماءات كثيرة باليدين التين تتسع المسافة بينهما) بببففف! تنتهي! لتستريح”. (37-8)

ربط الشاعري الطنان بالنثري الواقعي هنا يتم تدعيمه بالحركات المسرحية المتغيرة، التي تقلل بسخرية من مظاهر الرثاء. إذ يدرك بوتسو بمرارة إنه يتهدم هو ذاته بفعل عوامل الزمن والفقدان والانحطاط التي لا يمكن تخفيفها بالفصاحة الشاعرية المناسبة.

هناك حس تكون فيه أي لغة تكافح لتكون مفرطة في التعبير – سواء شاعرية بوتسو أو تفلسف لاكي – مزدراة. “تفكير” لاكي هو سخرية من البلاغة الأكاديمية وأدوات البحث اللاهوتي والفلسفي الصماء:

“يعطي الوجود كما نُطق أمام العامة يعمل لبانشر وواتمان الخاصين بالإله الشخصي كواكواكواكوا بلحية بيضاء كواكواكواكوا بلا زمن بلا امتداد الذي من أعالي الأباثيا الإلهية الآثامبيا الإلهية الآفاثيا الإلهية…”

المناجاة المتظاهرة والأفكار الفلسفية المجردة تماما هي ميكانيزمات تعبيرية فظة لدى بيكيت. المبدأ البيكيتي الأساسي، الذي سيقود إلى تضاؤل “وتنقية” أعظم لعمله كلما كبر في السن، هو لغة تعبيرية ليس موثوقا بها، لأن الشكل والصمت يقبع فيهما التأثير الفني. حتى في وقت مبكر مثل عام 1937، قبل وقت طويل من إلهام ما بعد الحرب الخاص به، عبر بيكيت عن عدم رضاه عن اللغة، ورغبته ليجد تعبيرا في المساحات بين الكلمات. في خطاب شهير إلى آكسل كون، يتحدث عن بحثه عن صنع ثغرات في اللغة: “بشكل أكبر تظهر لغتي بالنسبة لي كالحجاب الذي يجب أن يتمزق للوصول إلى الأشياء (أو اللا شيء) خلفها” (D 172). ليس مفاجئا بالتالي أن اللحظات الأكثر تعبيرا في مسرحياته تتحقق عادة في الوقفات ولحظات الصمت، مشيرا بالتبادل إلى القمع أو الخوف أو الاستباق أو عدم القدرة المخيفة على الإفصاح. هذا الواقع الضاغط للصمت في “في انتظار جودو” يقوم – كما يقول بيكيت – بـ “غمر مسرحيته كالماء الذي يغمر سفينة غارقة”.[4]الكثير مما كان على بيكيت أن يقوله في مسرحياته يقبع فيما هو محذوف، عندما لا تستطيع شخصياته أن تعد الكلمات أو التمثيل لتعطيل الصمت الزاحف، أو تعطيل “الأصوات الميتة” التي تسيطر على فلاديمير واستراجون عندما يتوقفان عن الحديث:

“إستراجون: في الوقت الحالي دعنا نحاول أن نتحدث بهدوء، طالما كنا غير قادرين على البقاء صامتين.

فلاديمير: أنت على حق، نحن لا نتوقف.

إستراجون: بالتالي لن نفكر.

فلاديمير: لدينا هذا العذر.

إستراجون: بالتالي لن نسمع.

فلاديمير: لدينا أسبابنا.

إستراجون: كل الأصوات الميتة.

فلاديمير: تصدر ضجيجا كالأجنحة.

إستراجون: كأوراق الشجر.

فلاديمير: كالرمل.

إستراجون: كأوراق الشجر.

(صمت)

فلاديمير: تتحدث جميعا معا.

إستراجون: كل صوت إلى نفسه.

(صمت)

فلاديمير: يهمسون بالأحرى.

إستراجون: يخشخشون.

فلاديمير: يتمتمون.

إستراجون: يخشخشون.

(…)

فلاديمير: يصدرون ضجيجا كالريش.

إستراجون: كأوراق الشجر.

فلاديمير: كالرماد.

إستراجون: كأوراق الشجر.

(صمت طويل).

فلاديمير: قل شيئا!

إستراجون: أنا أحاول.

(صمت طويل).

فلاديمير: (متألما) قل أي شيء على الإطلاق!

إستراجون: ما الذي نفعله الآن؟

فلاديمير: ننتظر جودو.

إستراجون: آه!

(صمت)” (62-3)

الإيقاعات المقتصدة بهذه الفقرة والمزج الحريص للتكرار والتنويع الممتزج والهسيس الهادئ يضيف تنافرا مُجبِرا بين اللغة وتمزق الشخصيات المذنِب. فلاديمير واستراجون قريبان جدا: يستمعان إلى الأصوات الميتة بينما نستمع نحن إلى الشعر. بالتالي تأتي جمل فلاديمير اليائسة “قل شيئا!” بعد صمت طويل في نهاية المحادثة. لا تعبر الفقرة عن تمزقهما بشكل مباشر، ولكنها بالأحرى تضع يدها على تلك الأصوات الميتة بإيجاز، في الوقفات المؤلمة.

هنا كما في أي مكان آخر في المحادثة سمة غامضة معدة سلفا، تدعم فكرة البُعد المسرحي الأدائي التكراري الواعي ذاتيا في المسرحية. مثلما يقول فلاديمير شيئا فيرد عليه استراجون برد مقرر سلفا (هذا الحقيقي بالفعل طالما يتحدث الممثلان من نص المسرحية المحفوظ). حواراتهما تتكون عادة من مقولات من كلمة أو كلمتين، مُشَكلة بحرص بالتكرار والتنويع، مما يعطيها ميزة شعرية وغريبة تخلخل التفاهة العامية. مع ذلك، الأداء على المسرح يجعل ما لا يقال حاضر كالذي يقال، و لجماله الكامل المضاف، تلك المحاورات المجردة بحرص بالكاد ما تكون كافية لإيقاف الصمت الزاحف والمرعب. هذا هو سبب – كما هو مفترض – أن إستراجون وفلاديمير يائسين تماما من الحفاظ على الحوار حيا، لإيقاف الأصوات الميتة. أو ربما يائسين من أن يحتفظوا بإدراك ما يجلبه الصمت: محاورتهما، مثل الألعاب المنتظرة التي يلعبوها، تشتيت تافه من هدم الزمن وعدم استقرار الرغبة. إنها مجرد “عادة” تحفظهم من الوعي الصادم بحقارتهم وعزلتهم:

“فلاديمير: كل ما أعرفه أن الساعة طويلة تحت هذه الظروف، وتمنعنا من من قضائها بإجراءات – ماذا يمكنني أن أقول – يمكن أن تبدو منطقية من النظرة الأولى، حتى تصير عادة”. 80

مجددا “العادة” هي “مميت عظيم”. إنها تميت المعاناة التي يجلبها الوعي الشديد، والتأمل الشديد في ظروف الوجود. الروتين اليومي، التشتتات المتنوعة للمحادثة والتمثيل، هي أشكال من الحماية الذاتية.

هناك اختلافات واضحة بين الصعلوكين. إستراجون منشغل بالجسمانية، بالجسد، بالأرض. وليس بشكل خال من الدلالة، يميل لأن يجلس أكثر من فلاديمير. هو مهووس بحذائه، بينما فلاديمير عادة ما يتفحص قبعته. فلاديمير يفكر، إستراجون يشعر. في البروفة، يشير بيكيت للاثنين قائلا: “إستراجون على الأرض؛ ينتمي للحجر. فلاديمير هو الضوء؛ يتجه للسماء”.[5]إنه فلاديمير هو من يتساءل عن اللصين المصلوبين إلى جانب “مخلصنا”، هو من يتأمل طبيعة الزمن في نهاية المسرحية. هو من يجيب دوما عن سؤال إستراجون عن الغرض من وقوفهما في هذا المكان:

“إستراجون: دعنا نذهب.

فلاديمير: لا نستطيع

إستراجون: لم لا؟

فلاديمير: نحن ننتظر جودو.

إستراجون: آه!” (78)

إنه فلاديمير من يخاطب الصبي الصغير في نهاية كل فصل، هو من يختبر الرؤى الفلسفية. العديد من المشاهدين يسجلون انطباعا أن الصعلوكين يشبهان اثنين متزوجين من فترة طويلة، يتخاصمان ويتشاجران – “ولكن بالنسبة إليّ!… أين ستكون…؟”؛ “لقد تعبت من إخبارك بذلك”.- وهما يهددان حتى بترك بعضهما. ولكن تحت غضبهما ونفاد صبرها هناك رابطة مقربة، وإدراك لمأزقهما المشترك. “نحن لا نتصرف بشكل سيء، أليس كذلك يا ديدي، بيننا وبين بعض؟” (69) عامة ففلاديمير هو الشخص الحامي في العلاقة؛ إنه هو – كما يذكران – من أنقذ استراجون من الغرق في نهرة الرون منذ عدة سنوات، وهو من يضع معطفه على كتفي إستراجون النائم قبل أن يخطو هنا وهناك محركا ذراعيه ليحافظ على الدفء– في واحدة من أطيب اللحظات في المسرحية. هناك تعزيات قليلة بما يكفي في المسرحية عن تفاهة الأمل والرغبة، ولكن لحظات الطيبة الصغيرة تلك، رغم أنه ربما تكون هشة وغير مجدية، تكشف بقايا مشاعر الرفقة والاحترام الإنساني الخلاصي في مستوى ما.

ولكن إن أدركت المسرحية لحظات الطيبة التي تجلبها المحنة، فهي أيضا تشير إلى الوحشية والسيطرة التي تصف عادة العلاقات الإنسانية. بشكل أكثر وضوحا هذا يحدث في معاملة بوتسو مع لاكي، ولكن حتى مع فلاديمير واستراجون تظهر الرغبة في الاستغلال من آن لآخر. عندما يعاود بوتسو الظهور في الفصل الثاني، يغوى فلاديمير من رؤية عجزه: “هل تعني أنه تحت رحمتنا؟” (78). تضاد السيد-العبد بين بوتسو ولاكي، والاستغلال المادي للأخير من قبل الأول، واضح جدا بحيث يغرى المرء أن يراه كتهكم على نوع من السيطرة الاجتماعية التي يمكن أن يشكو منها الراديكاليون والمصلحون السياسيون. تعامل بوتسو السيء مع لاكي مبالغ فيه، والوحشية غامضة وغير مبررة، تفاصيل وشكلية وتحذلق حواراته مع الصعلوكين تبدو غريبة بشكل مضحك. وعلى الرغم من كل التهذيب الذي يظهره لهم – بالمقارنة بالخلو من الإنسانية التي يُظهرها للعبد البائس – هو واع بالاختلاف بين مرتبته الاجتماعية ومرتبة الصعلوكين: “نعم، سادتي، لا أستطيع أن أمضي طويلا بدون رفقة من أشباهي (يضع نظاراته وينظر لأشباهه) حتى لو كان التشابه غير متطابق” (21). المتشردان أيضا يدركان العلو الاجتماعي حينما يرونه. يُخاطَب بوتسو بـ “سيدي”، بينما يحصل لاكي فقط على “أستاذ” الأقل احتراما. تعبيرات مثل: “يا له من أمر رائع!” أو “رجلي الطيب” تُعرِّف بوتسو كإنجليزي ثري، أو من الممكن أن يكون آنجلو-أيرلندي. جانب آخر من ديناميكية السلطة جدير بالذكر هنا هو لاكي، الذي يقف بوضوح كخادم مقموع أو عبد، وربما يكون أيضا الفنان والرمز الفكري. العلاقة بين بوتسو ولاكي يمكن أن تعرف كظل لعلاقة الطبقات بين مالكي الأرض أو الأغنياء وهؤلاء الذين يزودونهم بالتلهيات الفكرة والاستطيقية: “ولكن بالنسبة لهم كل أفكاري، وكل مشاعري، ستصير سوقية (صمت، بحدة غير طبيعية) الهموم المهنية! (بشكل أهدأ) الجمال، النعمة، الحقيقة الأسمى، أعرف أن كل هذا يتجاوز إدراكي، لذلك ضُربِت بالسوط”[6] (33)

يشير بوتسو في نقطة ما أنه كان من الممكن أن يحل محل لاكي، وأن يحدث العكس، “إن أراد الحظ العكس”(31). إنه استخدام موحي لهذا الكليشيه. كيف يمكن أن “يريد” الحظ” شيئا؟ الحظ بطبيعته خال من الإرادة، وخال من الوعي، خال عمليا حتى من الحتمية العمياء. إن حدث شيء بالصدفة أو الحظ، بالتالي فعل الإرادة لا علاقة له بالأمر. ولكن “في انتظار جودو” هي مسرحية من بدايتها تسعى لكشف “سبب” المعاناة”. أو ربما بدقة أكبر تسعى لمسرحة حال عدم معرفة إجابة هذا السؤال. في النهاية هي تبدأ بالسؤال لِم واحد من اللصين خُلِّص وليس الآخر. على أي أساس تم هذا الاختيار؟ مع نهاية الفصل الأول، نكتشف أن جودو يضرب واحدا من الصبيين ولا يضرب أخيه، ولكن لأي سبب؟ لا يعلم الصبي. التحفظ في خطاب لاكي، التهكم من المحاولات الأكاديمية أو الفلسفية لفهم المعاناة الإنسانية، هل تعني أن البشر يعانون “لأسباب غير معلومة”. هنا صدى آخر لعدم وصول جودو. لا يتلقى فلاديمير إجابة على أسئلته المبدئية عن الصلب. يظل الغموض غير محلول.

ليس كافيا أن نعلن ببساطة أن شخصيات بيكيت معانين “أبرياء”. المشكلة هي بالأحرى أن جريمتهم، مصدر ذنبهم، متهرب. العقاب واللعن يُقدَّمون لأسباب مبهمة كما يبدو. في الثقافة الغربية المصدر المطلق للذنب، والإثم المبدئي هو الخطيئة الأصلية. هذه هي الوصمة التي ولد بها كل شخص في التقليد اليهودي-المسيحي. “في انتظار جودو” كما نرى، تحيل بتلاعب إلى المصدر العدني ولكنها في الوقت نفسه تُفَرِّغه. في وقت مبكر بالمسرحية، يفكر الرفيقان إن كان عليهما أن يتوبا:

“فلاديمير: لنفترض أننا تبنا.

إستراجون: تبنا عن ماذا؟

فلاديمير: أوه… (يتأمل) ليس علينا أن نخوض في التفاصيل.

إستراجون: عن كوننا ولدنا؟

ينطلق فلاديمير في ضحكة عالية يتراجع عنها فورا، يضغط بيده على عانته، ووجهه ملتو!” (11)

من عدة سنوات، في “بروست” أحال بيكيت مرة أخرى إلى خطيئة الميلاد كجزء من تعريف التراجيديا:

“التراجيديا ليست متعلقة بالعدالة الإنسانية. التراجيديا هي تصريح بالتكفير، ولكن ليس التكفير البائس للخرق المدون للترتيب المحلي، الذي ينظمه النصابين للحمقى. الرمز التراجيدي يمثل تكفير عن الخطيئة الأصلية، للخطيئة الأصلية والخالدة… لكوننا ولدنا.” (67)

هذا الجزء ممتلئ بالثقة الفلسفية إلى حد الغرور. التراجيديا الحقيقية أصلية وخالدة وليست متعلقة على الإطلاق بالقضايا “المحلية” مثل العدالة أو التاريخ. هذا الازدراء للفن المدفوع سياسيا في عمل بيكيت النقدي المبكر يبدو أنه سيقوى يد هؤلاء المعلقين الذين يقرأون “في انتظار جودو” على أنها عن الوضع الإنساني العالمي. على أي حال، هناك اختلافات مهمة بين فكرة الميلاد كخطيئة في “بروست” ومعاودتها في “في انتظار جودو”. في المثال الأخير تأكيد الخطيئة الأصلية من المفترض أن “يُكَّفر” (كيف يتم التكفير؟ هذا غير مشروح في “بروست” على الرغم أن من تضمين أن هذا متعلق بشيء عن تطهر التراجيديا! هذا يصبح نكتة. عظم الرغبة تُقطع فورا أولا بضحك فلاديمير ثم بمحاولته المدفوعة بشكواه المؤلمة من مثانته، للتراجع عنها. مجددا “الفكرة الكبيرة” التي يمكن أن تعطينا خيطا مفسرا للمسرحية تتوقف في اللحظة التي تنطق فيها.

هناك بعض من عدم يقين في لهجة “بروست” يفترض صحة عالمية لمقولاته المتشائمة– كازدراء “المحلي” المجرد فوق كل الاعتبارات. “الحياة” نفسها – المشوهة كما هي بالزمن الهدام والرغبة غير المشبعة – متعلقة بالملل، العادة والمعاناة. لوم انحطاط الظرف الإنسان على أي ترتيبات سياسية أو اجتماعية سيكون مكافئا – باستعارة جملة فلاديمير – لأن تلوم حذائك على أخطاء قدميك. من الاستقبال النقدي المبكر لـ “في انتظار جودو”؛ زعم العديد من المعلقين أنها تقول شيئا أساسيا عما يعنيه أن تكون إنسانا. بكلمات أخرى، لا تتعلق المسرحية ببساطة بأناس معينين في لحظة معينة من التاريخ – إنها تقول شيئا عن “الظرف الإنساني” ككل، خارج التاريخ أو السياسة، أو أي موقف اجتماعي خاص.

هذا الانسحاب البادي في “في انتظار جودو” من عالم التعيينات يساعد على دعم النظرة اللا تاريخية. المسرحية مجردة وخالية من الإشارة الجغرافية المعروفة حتى يمكن للمرء أن يغرى لأن يقرأها كنوع من المكان النمطي الذي يمكن أن يحل في أي مكان وزمان. نقص التفاصيل وبساطة السرد تقترح أنه يمكن للمسرحية أن تتعامل مع الحقائق الأساسية. يجب الاعتراف أن هناك إشارات محدودة لأماكن بعينها – إشارة إلى برج إيفل، أو نهر الرون – الذي يكشف عن الأصل الفرنسي الذي كتبت به. إشارة لاكي إلى “الجمجمة في كونيمارا[iv]” تشير إلى جذور بيكيت الأيرلندية (على الرغم من أنها “نورماندي” في الأصل الفرنسي). بشكل مشابه يطلب إستراجون من بوتسو عشرة فرنكات. ولكن في الوقت نفسه هناك جذر حذر في العرض والتمثيل. إن كان اسم إستراجون فيه ملمح فرنسي (يعني نبات الطرخون)، ففلاديمير له وقع أكثر روسية. اسم بوتسو له وقع اسم لمهرج، ولاكي كأنه حيوان منزلي أليف. بمصطلحات ديالكتيكهم، الصعلوكان يتحدثان الإنجليزية بنبرة أيرلندية. بالتالي الإشارات الوطنية تأتي من أجزاء مختلفة ومتنوعة من أوروبا كان بيكيت يألفها. تترك مجموعة المصادر الذي يشجع على فكرة أننا في “كل مكان”. يفكر فلاديمير في نداء بوتسو للمساعدة عندما كان مطروحا في الفصل الثاني: “إلى كل البشرية المخاطبة، الذين صرخاتهم من أجل المساعدة ترن في آذاننا! ولكن في هذا المكان، في هذه اللحظة من الزمن، البشرية كلها هي نحن، سواء أحببنا ذلك أم لا” (79). بعد وقت قصير يشير إستراجون لبوتسو “هو كل البشر” (83) مباشرة بعدما يجيب الأخير على النداء باسمي هابيل وقايين. ربما نذكر الفصل الأول، زعم إستراجون أن اسمه “آدم”، وبالطبع واحدة من أصداء المسرح ذو الشجرة الوحيدة هو جنة عدن. هذا الارتباط بالأصل الأسطوري للبشرية يسمح للمسرحية بأن يتردد صداها مجددا بالأساسي والأصلي والمطلق في العالم. الإجابة بالتالي كموقف ممثل لشخصية المسرح يقدمها إستراجون:

“فلاديمير: لقد حافظنا على موعدنا، وهذه هي نهاية ذلك. نحن لسنا قديسين، ولكننا حافظنا على موعدنا. كم عدد الناس الذين يمكنهم الفخر بهذا القدر؟

إستراجون: بلايين.” (80)

جمل مثل تلك تشجع بشكل أكبر على قراءة المسرحية كنوع من الرمز للظرف الإنساني.

يقول بيكيت لتوم درايفر: “الكلمة المفتاحية في مسرحياتي هي ربما”.[7]من المتناقض أن مسرحية محملة وممتلئة باليقين، وسط عمليات الارتباك والتشوش، تحمل تلك المزاعم الطنانة عن ما هي الأشياء. ولكن مثلما هو الأمر دوما، إن كانت هذه القراءة العالمية مقترحة، فإنها مثل فكرة جودو على أنه الله، فقط واحدة من العديد من الاحتمالات المفسرة، كلها تسهم في التأثير الاستطيقي الكلي. الإحالة العدنية وقحة هنا حتى أنها تتجه لتكون تهكما، متراجعة خلال المبالغة الكوميدية عن أي معنى رمزي يمكن أن تحمله. بالإضافة إلى ذلك، كيف يمكن الثقة في إستراجون؟ تأكيده بأن “البلايين” يحافظون على موعدهم متناقض مع جهله بكل الجوانب الأخرى تقريبا. هو حتى لا يستطيع تذكر ما حدث في اليوم السابق، بالتالي لم علينا أن نأخذ تأكيداته الكاثوليكية بدون نقد؟ هو أقل تفكرا وثقافة من فلاديمير، وغالبا مدفوع بجزرته التالية أو عظم الدجاج. يفكر فلاديمير في الكتاب المقدس، بينا يعجب جوجو ببساطة بالرسوم الأرض المقدسة. من الموحي أن الإحالات لعدن تأتي من جوجو غير المفكر، وأكثر من فلاديمير العقلاني والمتأمل. من هذا المصدر، إحالات الأصول الأسطورية للإنسانية تقال أكثر منها تسخف.

المسرحية ليست قابلة للترجمة إلى سلسلة من الأنساق الفلسفية ولا ببساطة إلى الرؤية المتشائمة للظرف الإنساني. بالضبط مثلما أن بيكيت لا يرتاح لتصنيف “مسرح العبث”. هو أنكر فكرة أن لديه رؤية سلبية منظمة عن الحياة، ولا نظرة كامل يمكن أن يطلق عن طريقها أحكام:

“إن كان التشاؤم حكم إلى مستوى أن الشر يفوق الخير، بالتالي لا يمكن أن اُتَهم بذلك، وأنني بلا رغبة أو عزاء للحكم. يصدف أنني ببساطة اتعامل أكثر مع جانب عن الآخر”[8].

هناك الكثير من عدم اليقين في أعماله، الكثير من الشك والارتباك، كثير على أن يجعل التفسيرات الواضحة تقدم يقينا مناسبا. هذه مسرحية لا يأتي فيها جودو. تخلى بيكيت عن المقولات الفلسفية المجردة لذاته الأصغر سنا، وكما نرى من “فكر” لاكي، أصبح ينظر للفلسفة واللاهوت الأكاديميين بالشك. يشك المرء بأن بيكيت كان غاضبا أن فقرات عن الزمن والعادة في المسرحية كانت تستخدم دوما كمفاتيح تفسيرية. وشعر كما هو واضح أن “النجاح المبكر لـ (في انتظار جودو) كان مبن على عدم الفهم الأساسي، من قبل النقاد والعامة معا المصرين على التفسير بمصطلحات رمزية أو استعارية مسرحية تكافح طوال الوقت بتجنب التحديد”). “في انتظار جودو” كلها عن تجنب التحديد. مثل فلاديمير واستراجون، جمهور ونقاد المسرحية حاضرين لقاء مرجأ دوما.

القسم الثاني

السياقات الثقافية والفكرية لصمويل بيكيت

رونان مكدونالد

ترجمة أمير زكي

المشكلة في محاولة وضع بيكيت ضمن أي تقليد قومي أو ثقافي هو كونه أنكر تلك العلاقات في شبابه، وتحت كل الظروف. هو كان يزدري الفن الذي يعلق نفسه بـ”الحوادث المحلية” أو “الماهيات المحدودة”، ويعتقد بدلا من ذلك أن موضوع الفن الحقيقي هو “المأزق اللا موضوعي للوجود”. خذ عندك مثلا علاقته بأيرلندا. أسماء شخصياته – مورفي، مولوي، مالون – ولهجتهم في الحديث فيها التواء أيرلندي، بينما طبوغرافيا طفولة بيكيت تسيطر على أعماله، إلا أنه كتب معظم أعماله الرئيسية بالفرنسية، قبل أن يترجمها، وقضى معظم حياته بالخارج. بالإضافة إلى ذلك، وكما تؤكد أعماله النقدية المبكرة امتعاضه من الفن المُسيّس فهو ازدرى بشكل كبير القومية الثقافية. هو تأثر بوضوح بأسلافه الأيرلنديين مثل سويفت وييتس وخاصة سينج، ولكن لم يكن لديه وقت كبير لمشروع الإحياء الأيرلندي الذي سيطر على الحياة الثقافية في مدينته الأم حين كان يعيش هناك. في مقالته “الشعر الأيرلندي الحديث” (1934) انتقد “حافظي التحف” الذين يحافظون على الروح الإحيائية عن طريق الكتابة عن الأساطير والقصص الأيرلندية. الفن عند بيكيت لم يكن متعلقا بالزمن، هذا الذي يتضاد تماما مع السياسة والقومية. هو كان يحتفي برسوم جاك ب. ييتس (أخو الشاعر وأحد أبطال بيكيت) بسبب “الغرابة الكاملة وكأنها تقاوم المزج التقليدي للتراث المقدس، قومي أو غيره”. بيكيت بدأ في مقاومة المزج المتعلق بأي سياق ثقافي أو تراث مقدس.

ومع ذلك فهو اختار دوما أن يحمل جواز سفر أيرلنديا. عندما سأله صحفي أيرلندي إن كان إنجليزيا، رد ببساطة: “على العكس”. من الواضح أنه من غير الممكن أن يتقيد ببساطة بتقليد قومي أو أدبي واحد. هو ليس شيئا على وجه الخصوص – ليس كاتبا “أيرلنديا” فحسب، ولا هو “فرنسي” فحسب، هو ليس حداثيا فحسب، ولا ما بعد حداثي فحسب. “الخطر يكمن في أناقة التعريفات”، هكذا يبدأ بيكيت مقاله عن كتاب جويس “عمل قيد التحقيق”. إنه تحذير يوضع جيدا في الاعتبار حين نحاول قراءة عمله، ولكنه ينطبق أيضا على طرحه من أي تقليد أدبي أو فكري محدد. مثله مثل أي كاتب كبير، هو مقاوم للتصنيف. عندما نناقش علاقة بيكيت بأيرلندا علينا أن ننظر إلى العلاقات وليس الانغماسات، والاستخدامات وليس التطابقات. بيكيت تزود من العديد من الآداب القومية – الأيرلندية، الفرنسية، وحتى الألمانية. والواحدة منها لا تستبعد الأخرى. إنه من السذاجة وضيق الأفق أن نضع المتروبوليتاني في مواجهة القومي، كأن الكاتب بإمكانه فقط الانتماء لواحد دون الآخر. جويس نجح في مزج الإثنين وكذلك بيكيت. ولكن على الرغم من مقاومة بيكيت للحوادث والماهيات “المحلية” إلا أن الوريد الأيرلندي في عمله يمتد بعمق، حتى لو لم يكن مرئيا على السطح.

ليس فقط جنسيته، ولكن أيضا طبقته وطائفته داخل المجتمع الأيرلندي يمكنهما أن تكونا قد أثرتا بشكل كبير في تطوره الفكري والجمالي. كما ناقشت في الفصل الأول فالعزلة السياسية التي تربي فيها بيكيت وسط الطبقة المتوسطة البروتستانتية التي تعيش في الضواحي جعلته بشكل ما يميل لازدراء الالتزام الاجتماعي والفن القومي، كما أظهر في ألمانيا في الثلاثينيات امتعاضه من شكاوي بعض زملائه الفنانين من الاضطهاد الفاشستي. وكأنه ليس السياق السياسي فقط بل الاجتماعي ككل منفصل عن الإبداع الفني، الذي يتعامل مع مستوى أعلى وعابر للتاريخ.

يبدو أن وعيه السياسي تحول مع الحرب وما بعده، إذ فقد صوته السردي نغمته المتعالية والمتهكمة. “مولوي والكتابات الأخرى جاءوا إلى ذهني عندما أصبحت واعيا بحمقى، عندها فقط بدأت أكتب عما أشعر به”[1]. في عمله فيما بعد الحرب، وعلى الرغم من أنه أصبح أقل اتصالا بالعالم المعروف، إلا أن المرء يستطيع أن يقول، للمفارقة، أنه أصبح سياسيا أكثر، ومتشكلا أكثر بعلاقات القوة المستغلة، والأوامر التي تصدر من فوق، والسرية والغموض وأوصاف العذاب البشري المحض. بيكيت كانت لديه حساسية شديدة وغير شائعة للوعي بعذابات الكائنات الحساسة، ومن ضمنها الحيوانات. حتى في طفولته كانت تصدمه مشاهد القسوة، تلك التي كانت تسيطر عليه لسنوات بعد ذلك. ولكن فقط لأنه في السنوات الشابة، وجزئيا بسبب تربيته المنعزلة، فهذه النزعة لم تجد لنفسها تعبيرا بالمصطلحات السياسية. ودافعه الأول للاشتراك في المقاومة الفرنسية يبدو أنه كان شخصيا. هو ارتعب من اضطهاد اليهود، ومن ضمنهم أصدقاء له، من قبل القوات النازية التي كانت تحتل باريس. ربما تكون هذه لحظة حاسمة في معرفته أنه حتى لو كانت المعاناة الإنسانية لا يمكن تجنبها، لأنها ببساطة نتيجة لكوننا نعيش، فبالتالي سيكون من غير المسموح بشكل أكبر أن يعذب الناس أناسا آخرون أو يظلمونهم أو يذلونهم. هو بدأ في تنمية ما يمكن أن نطلق عليه حسا سياسيا. رعبه من الظلم، وخاصة التعذيب، أظهر نفسه في حياته اللاحقة في رفضه للوحشية الفرنسية في الجزائر، والنظام العنصري في جنوب أفريقيا (رفض أن يسمح بعرض مسرحياته في المسارح التي تشترط التمييز) والإساءات لحقوق الإنسان خلف الستار الحديدي.

ومع ذلك فهناك تيار يستقبل بيكيت ويراه ليس فقط غير سياسي، ولكنه فريد ومستقل، يقف خارج كل التصنيفات الممكنة وكأنه يعمل في الفراغ. هذا جزئيا يتعلق بقوة أصالة بيكيت، عبقريته في السيطرة، وصناعة شكله الأدبي الخاص به والذي عمل عليه. المشاهد المسرحية العارية، الصور المقفرة، التعامل الظاهر مع الأحوال المبدئية والأولية للخبرة، كلها تدعم الانطباع عن كاتب في عزلة عن اللحظة التاريخية. فمع كل الإصرار الموجود قبل الحرب على الملائمة العالمية وغير الموضوعية للفن، من أجل المميزات المجتثة والتي بلا جذور في عمله، فمن غير المرغوب فيه والمستحيل، لحسن الحظ، بالنسبة للكاتب بأن يفصل نفسه تماما عن سياقه إلى هذا الحد. نقتبس من الفيلسوف شوبنهاور عن دانتي: “مم جاء دانتي بمضمون جحيمه، إن لم يكن من عالمنا الحقيقي؟”[2]. عمل بيكيت غزير بانغماسه المكثف في التشاؤم والمعاناة الإنسانية، ومع ذلك بالجمال الكئيب، والكوميديا المظلمة اللاذعة. هل يعتقد أي أحد فعلا أنه من غير الملائم أو من المصادف أن بيكيت عاش خلال (وفي الحقيقة فحياته متزامنة مع..) أكثر القرون ظلاما ووحشية في التاريخ المعروف؟ حربان عالميتان، فظائع ستالين، هولوكوست هيتلر، قفزة ماو العظيمة الكارثية، الحروب الاستعمارية الوحشية في أفريقيا، والتهديد الممتد بالإبادة الذرية أثناء الحرب الباردة، من المؤكد أن هذه الأشياء تسللت إلى العقل المُستقبل بمستوى ما. كلها ولدت بالتأكيد مناخا مؤثرا داخل أخلاقيات ومظهر الثقافة الغربية ككل، التي لا يمكن أن تكون غير مؤثرة على مخيلة خلاقة لفنان متابع.

مراهقة بيكيت في أيرلندا تزامنت مع الحرب الأنجلو – أيرلندية التي تبعت بالحرب الأهلية الأيرلندية. زار ألمانيا أثناء حكم النظام الفاشي، وكما يظهر فهو اشترك في الكفاح ضد السيطرة النازية على باريس. هذه الأشياء ربما لم يحدث وظهرت على سطح أعمال بيكيت، ولكن أثر ما بعد الصدمة الذي انتشر في قيم وعقائد ومواقف المجتمعات التي عاش فيها والفكر تغلغل وإلى حد ما شكّل عقليته الخلاقة.

دمار ويأس القرن العشرين يمكن استشعارهما في حركات فلسفية وأدبية متشائمة عموما، كالوجودية وأدب العبث الذي رسخ في أوروبا في الأربعينيات والخمسينيات، والذي يتم ضم بيكيت له (على الرغم من أن هذا لا يتم دوما بشكل صحيح). الوجودية تظهر بالعديد من الأقنعة، وربما أكثر من أي حركة فلسفية أخرى، فهي لها صورة شعبية ومبسطة وأحيانا كاريكاتورية. المصطلح عموما يُستخدم للإحالة إلى الحركة الفلسفية المتعلقة بعدد من مفكري ما بعد الحرب الفرنسيين، أساسا جان-بول سارتر وألبير كامو اللذان وضعا الفرد أو الذات كمحور البحث، ورأياها كأساس لفهم طبيعة الوجود الإنساني. المصطلح اشتُق كمضاد لـ”الماهوية”. كما يشتهر عند سارتر فالوجود يسبق الماهية، فلا يوجد مخطط لما نحن عليه أو عن كيف نسلك، ولا سلطة من الله أو أي حقيقة موضوعية تصادق على وجودنا. الذات وحيدة تماما. أولوية الفرد والاختيار الفردي على حساب كل الأنظمة الحتمية المتعلقة بالتحكم الاجتماعي أو البيولوجي تقودنا إلى التأكيد القوي على مبدأ الحرية الفردية. حريتنا لا مهرب منها، وهي جزء جوهري من وحدتنا واغترابنا. من المغري أن ننكرها، أن نتخلص من واقع فعلنا الكامل لدور خارجي (كوات في منزل السيد نوت)[i] أو نظام وهمي لغرض أو إيمان (في انتظار جودو حتى يأتي). ولكن هذه هي خطيئة “الخداع الذاتي” وفشل في تبني وعي أصيل ملائم لحريتنا في الاختيار.

هناك تشابهات محددة بين بعض مبادئ الوجودية وبين أعمال بيكيت – مسرحيته “إليثوريا” (اللفظ اليوناني لكلمة “حرية”) على وجه الخصوص، تحمل بعض التوازيات المثيرة للاهتمام – ولكن من الصعب أن نكون متأكدين كم من هذه التوازيات مضت مع بيكيت إلى نتائج متشابهة خلال طريق مختلف وكم هي المناسبات المعتمدة على نفس التأثرات. الاهتمام المهووس بالأنظمة والحتمية فى العديد من كتابات بيكيت، والفكرة المتكررة، التي يضعها هام في “لعبة النهاية” بأن “هناك شيء يمضي في مداره” يضرب الرفض الوجودي للبناء أو التحكم خارج الوعي الإنساني. إنه ليس من المفاجئ قوله لجيمس نولسون، في حوار حول الوجودية أنه منجذب عقليا أكثر إلى الفكرة الحتمية التي ترى أننا محبوسين في جيناتنا، أو عن طريق تربيتنا، أو عن طريق الظروف الاجتماعية أكثر من الفكرة الوجودية عن الحرية المطلقة[3].

هناك ميل آخر لعلاقة بين الوجودية وبين اعتقادات بيكيت، وهي فكرة “العبث” على الرغم من أن الحذر واجب هنا أيضا. بدون أي أساس، أو أي سبب لوجودنا في العالم، فهناك تيار محدد للفكر الوجودي يرى أن الحياة عبثية، مضطربة، وبلا معنى. نحن نوجد صدفة في العالم، ولا توجد خطة أو هدف لحيواتنا، والسؤال الكبير، الذي سأله ألبير كامو في “أسطورة سيزيف” (1942) هو إن كان سنقدم على الانتحار (ومن الملحوظ أنه ميل كبير في “في انتظار جودو”) تصنيف “أدب العبث” تم صياغته عن طريق مارتن إسلن[ii] ليدل على مجموعة الكتاب المسرحيين الذين يقدمون تعبيرا فنيا لمعتقد العبث الذي شرحه كامو؛ وهو الإحساس بأن الوجود الإنساني تافه وبلا معنى. الكتاب المسرحيون الآخرون الذين يتم ضمهم إلى هذا المخطط منهم يوجين يونسكو، جان جينيه، آرثر آداموف. وجهة النظر العبثية عامة ما يتم إظهارها في الشكل كما في مضمون المسرحيات، وهي من أجل خلق الأحوال الكابوسية تميل إلى تجاهل البناء المنطقي، وتتخلص من الهوية الشخصية والعلاقات المفهومة بين العلة والمعلول.

بيكيت نفسه ولأسباب قوية، رفض تماما أي علاقة له بمسرح العبث، أو بشكل أخص بالافتراضات التي بُني عليها هذا التجميع النقدي، فبالنسبة له فالمصطلح “حُكمي” للغاية، ومتشاءم للغاية:

“أنا لم أقبل أبدا بفكرة مسرح العبث، هذا المبدأ الذي يتضمن حكم قيمي، إنه ليس من الممكن حتى أن تتكلم عن حقيقة، هذا جزء من المعاناة”[4].

مقاومة بيكيت هنا هي جزء من ابتعاده عن الفلسفة والعقلانية، إلى حالة أكثر ارتباكا وتواضعا معرفيا. هو رفض تشاؤم بروست الحاسم، من أجل نظرة مضطربة ومتألمة للعالم، تلك النظرة التي يمكن إظهارها من خلال التعبير الفني أكثر من “التأكيد الوجودي”:

“المرء لا يستطيع أن يتحدث مجددا عن الوجود، المرء عليه فقط أن يتحدث عن الفوضى. عندما يتحدث هايدجر وسارتر عن الفرق بين الوجود والكينونة ربما يكونان على حق، أنا لا أعرف، فلغتهما فلسفية جدا بالنسبة لى”[5].

حقيقي أن بيكيت لم يتدرب كفيلسوف محترف ولكن بداية من انغماسه بعمق خلال التقليد الفلسفي مِمَن قبل السقراطيين ومَن بعدهم، وبداية من أن أعماله، خاصة أعماله المبكرة، مكتظة بالدلالات الفلسفية، فهناك شيء ماكر قليلا في إنكاره. إنه بالأحرى دلالة على عداوته للغة الاستنتاج والفلسفة فيما بعد الحرب، والتي نتذكرها في سخريته في “تفكير” لاكي بـ”في انتظار جودو”. عداء بيكيت اللاحق للفلسفة هو مثل عداء المدخن السابق للتدخين، الممتلئ بأثر انغماسه الأول فيه.

مهما كانت الشكوك في علاقة بيكيت بالوجودية وتشاؤم ما بعد الحرب، ومهما كان القلق الذي يضعه في هذا السياق الفلسفي، فمن المهم أن نلاحظ أن المناخ الذي تخصبت فيه هذه التعبيرات والفلسفات المتشائمة، حيث تجذرت فكرة العبث، كانت مهيأة لاستقبال أعماله. إن كانت روح عصر ما بعد الحرب غير مهيأة لاستقبال تعبيرات العبث، فهل كانت ستصل “في انتظار جودو” إلى هذا النجاح؟

بيكيت كان مخترعا ومُجرّبا عظيما في أي شيء استخدمه. هذا أحد الأسباب التي جعلته يوصف على أنه “الحداثي الأخير”. نداء عزرا باوند الشهير “اجعله جديدا” يعتبر واحدا من النداءات المشجعة في الحركة الحداثية. الحداثة هو مصطلح ينطبق بأثر رجعي على مجموعة كبيرة من التيارات التجريبية والطليعية في الأدب والفنون الأخرى مع بداية القرن العشرين، وهي تضم الرمزية، والدادية، والدورانية، والشكلانية، والتعبيرية، والمستقبلية ومدارس أخرى كثيرة على العد. من الخطير تحديد عناصر مشتركة بين العديد من المذاهب الفنية المختلفة، ولكن خلال التيارات المتنوعة، فالحداثة تميل لمشاركة وعي كثيف عن العالم المعاصر، بدقة كشيء “حديث”، وهو حس غيّر السياقات الثقافية والاجتماعية والعقلية التي تتطلب أشكالا فنية وأدبية جديدة. واقعية القرن التاسع عشر اعتبرت غير قادرة وغير ملائمة على التعبير عن أحوال الحداثة. بيكيت يشير في “بروست” إلى “الخطأ المنفر في الفن الواقعي” – “التعبير البائس للجملة والسطح”، والسوقية الرخيصة لأدب الترميز. الكتاب الحداثيون يميلون لأن يروا أنفسهم كطليعيين، منفصلين عن القيم البرجوازية، ويزعجون قراءهم عن طرق تبني أشكال وأساليب صعبة ومعقدة. في “الشعر الأيرلندي الحديث” بيكيت يقسّم الشعراء ضمن مَن يُظهرون وعيا بـ”الأشياء الجديدة التي حدثت”، أي “الصدع في تعبيرات التواصل”. وبين هؤلاء المتأخرين والتراثيين الذين “يحلقون بعيدا عن الوعي”. كلا من الحس واللهجة يظهران صفات الموقف الحداثي. هذا ليس مفاجئا، طالما أن مرحلة مهمة من نشأة بيكيت الفنية تمت في باريس في دائرة جويس. أكثر روائيين أثرا على بيكيت هما بروست وجويس. “يوليسيس” جويس تعتبر مثالا بارز على الرواية الحداثية، بتجريبها المجهد وأساليبها الأدبية والنظرية، وبحركتها الأسطورية وإحالاتها الكثيفة. “يقظة فينيجان” والتي ساعد فيها بيكيت عمليا جويس ذو العينين الضعيفتين أثناء كتابتها، كانت أكثر مراوغة وصعوبة. بيكيت ذو الثلاثة وعشرين عاما كتب مقالا يدافع فيه عن الرواية ويسجل إعجابه بالانصهار بين الشكل والمضمون ويعلن: “وإذا لم تفهموها سيداتي وآنساتي، فهذا لأنكم متدهورين جدا على فهمها”.

المقال نشر أول مرة في مجلة “ترانزيشن” وهي مجلة أدبية طليعية عنوانها الفرعي “فصلية عالمية عن التجريب الخلاق”، وهي أصبحت منبرا للأدب والفن المضادين للبرجوازية. بالإضافة إلى مقاله عن “عمل قيد التحقق” نشر بيكيت أيضا قصته القصيرة الأولى “افتراض” في هذا العدد[6]. من الصعب أن تكون هناك انطلاقة حداثية أكثر صراحة من هذه في مهنة الأدب. النثر والشعر الذي بدأ في نشره في الثلاثينيات استمر في استخدام العديد من الأساليب المضادة للواقعية وغالبا ما تتجنب تسلسل الأحداث وتتباهى بمميزاتها السردية ومثلها مثل العديد من الأدب الحداثي تظهر ثقافتها للعيان.

لم يعد موجودا في الظل، ولم يوجد ظل في القرن العشرين أكبر من ذلك الذي ألقاه جويس. العديد من المقلدين والتلاميذ ذووا بتأثيره. بيكيت كان واعيا بهذا الخطر (الذي لاحظه في روايته الأولى “حلم جميل لنساء عاديات”، بقوله إنها “نتانة جويس”) وواجه ذلك أولا وفي أعماله المبكرة من خلال السخرية. كما رأينا بالفعل في الفصل الأول، فهو وجد حل أكثر ثباتا عن طريق الانتقال تحديدا إلى الجهة المضادة، بعيدا عن العلم والقدرة الكليين إلى فن العجز والجهل، متخلصا من إحالات ضمير الغائب العارف والصوت السردي نحو سرد لضمير متكلم أكثر باطنية وانفعالية.

الرغبة في التخلي يمكن استشعارها في مسرحياته، وهي من البداية (إذا استثنينا فريق العمل الكبير في إليوثيريا) تبنت بناءً مسرحيا محدودا وغير مزخرف. ولكن ليس فقط أدوات المسرح وفريق العمل تلك التي أهملها بيكيت، وإنما هجر أيضا أعراف الكتابة المسرحية، فكرة أن المسرحية يجب أن يكون لها بداية ووسط ونهاية، فكرة أن الشخصيات يجب أن تكون متماسكة ومقنعة، افتراض أن الفعل والحبكة ضروريان لخلق الطاقة الدرامية. في العالم المتكلم بالإنجليزية، “الصعوبة” والتجريب الحداثيين لم يؤثرا على الدراما بنفس قدر الشعر والرواية، ومن أسباب ذلك أن المسرح لديه متطلباته التجارية الإضافية. هناك عبء أكبر على المسرح ليلائم الذائقة والتوقع العامين، ليقدم ليلة مسلية وترفيهية. المسرح الشعبي، وقبل قدوم السينما والتلفزيون، كان يميل لتقديم الميلودرامات والكوميديات الخفيف. حتى زميل بيكيت بمدرسة بورتورا أوسكار وايلد، وعلى الرغم من أن مسرحياته المعقدة والتي تناسب أكثر من مستوى تخفي أفكارا مخلخلة عن تناقض الهوية، إلا أنه اختار شكلا تقليديا من كوميديا غرف المعيشة، الفودفيل ومسرح المنوعات، مع عروض متنوعة للغناء والرقص والمشاهد الفكاهية التي تتضمن غالبا ثنائيا كوميديا – أسلاف كلا من لوريل وهاردي وفلاديمير واستراجون – كانت هي التسلية الشائعة. مؤسسا الدراما الأوروبية الأدبية الجادة واللذان قدما رؤى اجتماعية ونفسية كانا النرويجي هنريك إبسن (1828-1906) والروسي أنطون تشيكوف (1860-1904). وإبسن كان له تأثيرا كبيرا على جورج برنارد شو (1856-1950)، عملاق المسرح البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين.

بيكيت بالتأكيد ليس أول كاتب مسرحي يشق التقاليد الواقعية أو يلقي الضوء على الطبيعة الخيالية للمسرح. مبكرا في العشرينيات لويجي بيرانديللو كان يكتب مسرحيات تتجنب سهولة الوهم أو الرغبة في إيقاف عدم الإيمان، مع اللحظة التي يشارك فيها المتفرجون المفترضون في الفعل بتقدمهم نحو المسرح، هذا الأسلوب الذي استخدمه بيكيت في “إليوثيريا”. الكاتب المسرحي الماركسي برتولت بريخت (1898 – 1956) مسرحياته اللا واقعية الكثيفة كان لها وجهة نظر سياسية في تقويض أي تحديد بين الجمهور والشخصيات واتجه بدلا من ذلك إلى تأثير الاغتراب الذي سيعلي من الوعي التاريخي وسينتقد التشييء الرأسمالي. بريخت كان واحدا من أبرز الكتاب المسرحيين في عصره ولكن اهتمامه بالسياسة كان بالتأكيد تعليمي جدا وسياسي جدا بالنسبة لبيكيت. بإمكان المرء أن يتخيل عدم رضاه إن كان بريخت قد نجح في طموحه قبل أن يموت بأن يكتب مسرحية مضادة لـ “في انتظار جودو” وفيها كانت ستصلح العلاقة بين بوتسو ولاكي وفقا للنظرة الماركسية للتاريخ[7].

مدى قراءة بيكيت كان واسعا، تشبعه بالفلسفة والدب والدراما والفن والموسيقى الأوروبيين كبير جدا على التلخيص. هو قرأ بشكل في واسع في أربع لغات على الأقل، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. أي قائمة بتأثراته ستتضمن راسين، موليير، سويفت، صمويل جونسون (وعنه، وقبل سنوات الشهرة، كتب مسرحية غير مكتملة بعنوان “الأماني الإنسانية”)، جوته، سينج، بروست، وجويس. وربما علينا أن نذكر بشكل خاص دانتي أليجيرى (1265-1321)، وهو الكاتب الإيطالي لـ”الكوميديا الإلهية” ويمكن القول إنه مصدر إعجاب ممتد من قبل بيكيت. بطل “نخسات أكثر منها رفسات” بيلاكوا شوا، تمت تسميته على اسم الشخصية الكسلانة في “مطهر” دانتي. خلال أعماله ستجد صور ملحوظة يعاد استخدامها من المعاناة مستمدة من عمل دانتي الأبرز. يناسب ذلك أن نسخة بيكيت الدراسية من “الكوميديا الإلهية” ستكون بجانب السرير الذي سيموت عليه في ديسمبر 1989.

هو قرأ الكثير من الفلسفة في بداية الثلاثينيات، وهذا يتضمن من قبل السقراطيين، القديس أوغسطين، ديكارت، والظرفيين، والأسقف باركلي (الذي ألهمه فيلم “فيلم”)، سبينوزا، ليبنيتز، كانط، شوبنهاور، موثنر، وبرجسون. واهتماماته وتأثراته الفنية لم تكن بالتأكيد منحصرة على الكلمة المكتوبة. فولعه بالرسامين الكبار ظل معه خلال حياته وهو كان معجبا بالعديد من الرسامين المحدثين. أصدقاؤه الشخصيين كان من ضمنهم برام و جير فان فيلد، هنري هايدن وأفيجدور أريخا، وهو كان يمتلك رسوما لكل هؤلاء الفنانين. في أيام الفقر في حياته المبكرة، دفع نفسه إلى فقر أفظع ليشتري لوحة لجاك ب. ييتس. هو عازف بيانو بارع ومحب لموسيقى شوبرت وبيتهوفن وشوبان وموتسارت. المميزات البصرية القوية لمسرحه المتأخر والذي يبدو أقرب إلى الرسم والنحت منه إلى المسرح العادي كان بدوره له تأثير عظيم على العديد من الرسامين والفنانين البصريين المحدثين. ولعه بالفن والموسيقى كان أساسيا لسموه بالشكل، والإطار والسيمترية في عمله الأدبي والمسرحي.

…..

هوامش القسم الأول:

[1] في خطاب لناشره الأمريكي بارني روسيت؛ اقتبس في كتاب نولسون “ملعون بالشهرة” Knowlson, Damned to Fame, p.412

[2] Quoted in Graver and Federman, Samuel Beckett: The Critical Heritage, p. 10.

[3] Vivian Mercier, ‘The Uneventful Event’, Irish Times (18 February 1956), p. 9.

[4] Quoted in James Knowlson and Dougald McMillan (eds.), The Theatrical Notebooks of Samuel Beckett, vol. I: Waiting for Godot (London: Faber and Faber, 1994), p. xiv.

[5] Walter Asmus, ‘Beckett Directs Godot’, Theatre Quarterly 5, 19 (September–November 1975), p. 21.

[6] كلمة nook (المترجمة في المتن بالسوط. أ. ز) كلمة غامضة تماما، لا يوجد لها معنى واضح بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، يقال أن بيكيت اصطكها كمواز لكلمة knout (ومعناها بالروسية سوط:)Knowlson and MacMillan, Theatrical Notebooks, vol. I,  pp. 121–2.(

[7] Tom Driver, ‘Beckett by the Madeleine’, Columbia University Forum 4 (Summer, 1961), in Graver and Federman, Samuel Beckett: The Critical Heritage, p. 220.

[8] Letter to Professor Tom Bishop, 1978. Quoted in Dougald McMillan and Martha Fehsenfeld, Beckett in the Theatre: The Author as Practical Playwright and Director, vol. I (London: John Calder, 1988), p. 13.

…..

[i] الإشارة لإضافة ot إلى كلمة God.

[ii] الإشارة إلى دراسة بيكيت عن مارسيل بروست التي نشرت عام 1930.

[iii] هناك عرض للمسرحية تم في طهران عام 2005.

[iv]  Connemara مقاطعة في غرب أيرلندا

….

هوامش القسم الثاني:

[1] Interview with Gabriel d’Aubare`de, in Graver and Federman, Samuel Beckett: The Critical Heritage, p. 217.

[2] Arthur Schopenhauer, The World as Will and Representation, trans. E. F. J. Payne, 2 vols. (New York: Dover, 1966), I: 325

[3] James Knowlson (text) and John Haynes (photographs), Images of Beckett (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), p. 18.

[4] Charles Juliet, ‘Meeting Beckett’, trans. and ed. Suzanne Chamier, TriQuarterly 77 (Winter, 1989–90), p. 17. An extract from Rencontre avec Samuel Beckett (Saint- Clément-la-Rivière: Editions Fata Morgana, 1986).

[5] Interview with Tom Driver, ‘Beckett by the Madeleine’, Columbia University Forum 4 (Summer, 1961), reprinted in Graver and Federman, Samuel Beckett: The Critical Heritage, p. 219.

[6] Transition 16/17 (Spring–Summer, 1929).

[7] Cronin, Samuel Beckett: The Last Modernist, p. 494.

[i] الإشارة لرواية وات Watt لصمويل بيكيت.

[ii] مارتن إسلن Martin Esslin (1918-2002) ناقد وكاتب مسرحي من أصل مجري

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *