غالباً ما اقتصرت التناولات النقدية للقصيدة العربية الحديثة عموماً على تبسيط النصوص، ومطاردة معانيها، ضمن تقسيمات “مدرسية” تقوم على “ثنائيات شعرية”، تحيلنا إلى قراءة بائسة في فهم الشعر ونقده، مبنية على نزعات شكلانية في النظر إلى الفعالية الشعرية ضمن حدود ملامساتها الخارجية، ووظيفتها الاستعمالية. إذ يستغرقها البيان البلاغي القديم والقائم على النظر إلى الشعر كوصفٍ في الكلام لا التأسيس فيه، وبالتالي يصبح القول الشعري في تضاعيف هذه النزعات وقفاً على ثنائية الشكل والمضمون، حيث يعثر الشكل على قيمته من خلال ضبط أوزان الخليل وتفعيلاته، وزخرفة اللغة، وجزالة ألفاظها، ومتانة تراكيبها، ورصانة أسلوبها وعاطفة شاعرها، ويتعرف المضمون على صورته في تصديه “بانفعالات جياشة وفوارة” للقضايا الشمولية، فيتعكز التشكيل الشعري على تحديداته المسبقة هنا بدلاً من الحالة، وعلى المألوف والمعطى والنمط بدلاً من المبتكر والمدهش والمتفرد، فتغدو اللغة الشعرية مجرد وسيلة للإفصاح عن مشاغلات الحواس الخارجية، تقول أكثر مما تكشف، وتنظم أكثر مما تعبر، يلوكها غبار العموميات ويستغرقها الركض خلف الإيقاع الخارجي دون أن تتجاوزه، فتهيمن الذاكرة على حاسة التخييل، والفكرة المسبقة على الحالة الشعرية، وتبنى الصور الشعرية بعين العقل، وتخفت الإضاءات الداخلية للغة، ويعلو الصوت الخارجي على صمت الداخل وتأملاته، فلا يذهب النقد إلى جوهر البناء الشعري ونواظمه الجمالية، بل يكتفي بما هو منجز ليتناسب مع حدود معرفته للشعر ونقده.
من هنا تكتسب تجربة الناقد يوسف سامي اليوسف سماتها الخاصة بها في اختراقها للثنائيات البائسة وتجاوزها لوصفات المديح الجاهل والهجاء الأعمى وحفرها لرؤية ذاتية قوامها ثقافة واسعة وروح رائق مبصر فالشعر لا يقف عند حدود ما يقوله بل مصادره ومكاشفاته الداخلية العميقة متكئاً على معرفة روحانية غاية في النأي والتفحص للنص ودلالاته ومرجعياته. فالرعش والحدس والألطاف والمتعاليات وبرهة الصمت تنتمي بمجملها لقراءات صوفية الطابع ومثالية التوجه في محاولة لاستنكاه لحظة تيقظها وولادتها الداخلية وما تعكسه على مرآة المحسوسات فالقراءة النقدية تتغذى من حالة الكشف في الكتابة لحظة الانفصال والاتصال مع الواقع وفي هذا السياق قوله:
“المزوّد بشيء من الرعوش الصوفية الحدسية، يملك أن يرى النصّ الأدبي من حيث هو نائب لغائب يصرّ على أن لا يغيب. وبسبب هذا الغياب الحاضر على الدوام كان نداء النائيات والمتعاليات، وبسبب الفقدان كان الحنين إلى ما يتعذّر حضوره إذْ ما من وجد إلا حيثما كان فقد، وبغير الوجد تغدو الحياة اعتلافاً بالتبن والزؤان فحسب”.
فهي محايثة ومفارقة للواقع بما يمكن أن نسميه الروح العالية في اختبارها للوجود وعدمه ، ففي عالم الاستهلاك والتصحر الروحي بل عالم التقيح، وفق تعبيره، تمضي الحقيقة على كرسيها المتحرك خارج لجة اليقين والجمال والحب.
2-
خرج اليوسف بتأففه وسمو روحه من مخيم اليرموك مثخنا بأسى يفوق الاستعارة والتشبيه ويفيض على احتمال الجسد فلم تعد النكبة الأولى علامة الذاكرة ومحمولها التاريخي وندبة الروح الماضة إذ سحلت النكبة الجديدة ما تبقى من رعش في الدفقة الكونية الشاهقة حسب توصيفه لنص اعجبه يوماً.
قال لي بعد قراءته لمجموعتي الأولى تنهدات الجفاف يمكنك الآن طباعتها بثقة، وكانت إشادته كفيلة بأن تؤجج حماس الشاب الطالب في الثانوية العامة لحراثة الصخر كي يكون، فمن يعرف الناقد يوسف اليوسف عن قرب يدرك معنى حكم كهذا من رجل تتجاوز نماذجه الجمالية في النقد عتبة الشعرية العربية ، وتضع رهافة الذات الناقدة كوعي جوهري معياري لا يعترف بحدود المعطى والمنجز بل يؤسس لمنهجية خاصة به في عالم النقد الأدبي.
وليس ببعيد بعدها أن يهديني كتبه التي تخبر عن ذائقة مفارقة لاتشبه سوى صاحبها
ربما هي كتابة وشهادة من جيل علمه اليوسف اللغة الانكليزية في المرحلة الإعدادية
قبل أن يعتلي المنصات السياسية والثقافية والعلمية وهو اعتراف بنبل رجل أعطى الكثير الكثير للنقد الأدبي والثقافي الفلسطيني والعربي، فطوبى لذكراه وطوبى للنقد في حضوره.
شاهد أيضاً
قضية دير مار الياس الكرمل: الديني والسياسي (1)
القسم الأول آلاف من الحجاج المسيحيين واتباع الطوائف المسيحية العربية في الوطن يؤمّون دير مار …