لا يعرف العسكر العودة خائبين؛ تأتيهم الأوامر لاعتقال أحد المتهمين بتعكير صفو الحاكم، فيقتحمون منزله فجراً، وحين لا يجدونه، لا يردعهم شيء عن خطف شقيقه المصاب بشلل الأطفال، واتخاذه رهينةً إلى حين العثور عليه أو تسليم نفسه لهم. تلك ليست من القصص الخيالية التي تُحكى للتندر أو الإثارة، بل هي حقيقة لا تستطيع تصديقها إلا حين تعلم أن العسكر ذاتهم قد أعدموا الرهينة حين لم يجدوا الأخ المتواري عن الأنظار. مع هذه الحالة وحدها، يمكن لكلِّ مشكّكٍ أن يتأكد من أن حجم الفاجعة التي يعيشها الشعب المصري، وشعوب عربية كثيرة، عصية عن الإحاطة بها، وإنها من الضخامة بحيث لا تتسع لها كتبٌ تريد توصيفها، الفاجعة التي كرّسها حكام يتخذون الأوطان والمواطنين رهينة لديهم.
لم يتعدَّ ذنب الشاب المصري المقعد، عمرو محمد السيد سلمان، سوى أنه كان ثمرة واقعةِ سقوطه من رحم أمه على هذه الأرض المفجوعة وليس غيرها، الأرض المبتلية بحكامٍ لا ينظرون إلى كل وليدٍ يرى النور عليها سوى أنه عبءٌ ثقيل عليهم، سيبقى يقض مضاجعهم إلى أن يشبَّ ويتأكدوا من مدى تشكيله تهديداً لحكمهم، أو جعله طينةً طيِّعةً يمكن لهم تدجينها وإرساله ليكون برغيّاً في آلة قمعهم وتسلطهم. هذه هي الشخصية الاعتبارية في معظم بلداننا العربية، هذا هو شكلها وكيانها؛ فإما أنك عنصر أمنٍ تُنفذ أوامر المستبدين بالانقضاض على أهلك بمجرد الشبهة، أو أنك متهم دائمٌ، ومعتقلٌ مؤجَّلٌ، ليس من الضروري أن تثبت عليك التهمة لتنال عقوبتك. وأي عقوبة هي الإعدام تلك التي نالها هذا الشاب، فقط لأن العسس لم يجدوا أخاه فهان عليهم عودتهم خائبين! يريدون لملف حادثة اقتحام مركز شرطة كرداسة التي وقعت سنة 2013، أن يُقفل، ولا يُقفل الملف إلا إذا لاقى الجناة القصاص، أي جناةٍ، لا فرق إن كانوا في مكان الحادثة يومها، أو أنهم لم يفكروا بالذهاب بسبب شلل طرفهم السفلي، أو عمرهم الكبير فلم يسجل لهم حضور هناك.
وبهذه الخفة تنفذ السلطات المصرية حكم الإعدام بشابٍّ مشلول بريء، ورجل هرمٍ تجاوز الثمانين من عمره، على الرغم من أن القانون المصري يمنع إعدام من هم فوق الثمانين فلم يشفع له سنَّه، ولم يشفع لعمرو شلله وبراءته بسبب غيابه عن مكان الواقعة. كما لم يشفع حلول شهر رمضان لهما ولبقية الذين نُفذ فيهم حكم الإعدام، وعددهم جميعاً 17 شخصاً، فنفذت وزارة الداخلية الحكم، صبيحة 26 أبريل/ نيسان الماضي، على خلفية الاتهام باقتحام ذلك المركز، مع العلم أن القانون المصري يمنع تنفيذ الإعدامات خلال الأعياد الدينية والرسمية. وليست الغرابة في تنفيذ حكم إعدام جماعي هي ما استدعت كتابة هذه الكلمات، إذ اعتاد العالم على تنفيذ السلطات المصرية أحكام إعدام جماعية، هي بمثابة مجازر بمعارضي نظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ممن تجرأوا على حكمه منذ لحظة تنفيذه انقلابه على الرئيس الراحل، محمد مرسي، حتى هذا اليوم. بل تأتي الغرابة من استمرار السلطات المصرية في إبداعاتها بمعاقبة الشعب المصري، والانتقام منه، آخر هذه الإبداعات اتخاذ أحد الشبان رهينة إلى حين تسليم شقيقه نفسه لها، وحين لم يفعل الشقيق ذلك، لا تجد ضيراً بالحكم على الرهينة بالإعدام بدلاً من أخيه.
وتذكِّر هذه الواقعة بتصرفٍ لجأ إليه النظام المصري سنة 2016، حين قتلت قواته (بفهلويةٍ) خمسة أشخاص كانوا يستقلون حافلة صغيرة، وقدمتهم على أنهم قتلة الصحافي الإيطالي المختطف في مصر، جوليو ريجيني، مدعيةً أن القتل جرى على إثر تبادل إطلاق نار. غير أن السلطات الإيطالية لم تهتم لهذه الحادثة، واستمرت بمطالبة السلطات المصرية بتسليمها الجناة، وحددتهم من ضباط الأمن المصري وليس سواهم. يومها تساءل الجميع، من هم إذا الأشخاص الذين سبحوا بدمائهم في الحافلة وأراد النظام تقديمهم قرابين، محاولة منه إقفال ملف ريجيني الذي لم يقفل حتى اليوم.
بعد ظهور ثورات الربيع العربي في عدد من الدول العربية، سنة 2010، أصبح عادياً مشهد اتخاذ الأب أو الأم أو الأخوة أو الزوج أو الزوجة والأبنة والأبن رهائن لدى أدوات القمع في تلك الدول، من أجل الضغط على ذويهم المطلوبين لتسليم أنفسهم. وكان يجري إيقاع السجن والتعذيب بحق الرهائن الأبرياء، كما لو كانوا هم المتهمين، وفق البرامج المتبعة لتعذيب المعتقلين من دون أي استثناء أو نقصان. واعتادت الشعوب العربية على حقيقة اتخاذها رهينة لدى حكامها عبر اختطاف مستقبلها من خلال تأجيل كل مشاريع التنمية والتحديث، وتكسير أحلام تحقيق الديمقراطية، وعبر حرمان الشعب من تجريب طعم انتخابات حرةٍ ونزيهةٍ الذي تجربه شعوب أخرى بشكلٍ ميكانيكيٍّ. وكذلك عبر الاستمرار في تعطيل العمل بالدساتير وتكبيل القوانين وتحويرها وفرض قوانين الطوارئ وإعلان الأحكام العرفية، ليضمنوا إسكات صوت الشعب إلى الأبد.
ولا يخفى على الأنظمة في هذا الإطار الحرص على ضمان عيش المواطن في ظل الفاقة والعوز الدائمين، العوز للغذاء والكساء والماء والكهرباء وكل تلك المتطلبات التي تحافظ على إنسانية الإنسان، فيصبح لا مبالياً وعاجزاً عن أي فعل مجتمعي أو تغييري، جل همه تأمين رغيف الخبز يوماً بيوم، والبحث عن سبل الهروب من الظلم. لذلك يبقى المواطن العربي، منذ لحظة تفتُّحِ وعيه، فريسة حلم مغادرة بلاده هرباً من الخوف اليومي المخيم على حياته والمهدد حريته في أي فعل يقوم به، ليأمن من بطش عسسها في بلدان تحفظ كرامته.
ولكن، إلى متى سيبقى حال هذه البلدان وشعوبها على هذه الشاكلة، من دون أي أمل في تغييرٍ يُبقي لدى الشعوب خيوطاً تتمسك عبرها بالحياة، بدلاً من الإحباط والتعاسة التي تظلل حياة الجميع؟ من الواضح أن أنظمة قدمت الأوطان والشعوب لتكون رهينة بيد الأقطاب والقوى الدولية، لا يرجى منها فك أسر هذه الشعوب. ومن الواضح أيضاً، أن سياسة العقاب الجماعي والمجازر والاعتقال والتغييب والقتل في الشوارع، ستستمر لدى هؤلاء الحكام لكيلا ينساها الناس، من أجل ضمان تجذَّر الخوف في نفوسهم فيرتدعون ويرتضون بالأمر الواقع، وتخمد في أعماقهم الأشواق للحرية.
* * *