إعداد محمود أبو حامد
وُلد السيّاب يوم 25 ديسمبر 1926 ورحل 24 ديسمبر 1964
بدر شاكر السيّاب .. الشاعر الذي لم ينصفه الحب
كان لوفاة والدته أعمق الأثر في حياته
من أقواله:«الكابوس الأحمر» نسف كل أسس الشعر ومواضيعه.
ولد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في قرية جيكور، 24 ديسمبر 1926، وهي قرية صغيرة تابعة لقضاء أبي الخصيب في محافظة البصرة، وكان عدد سكانها في ذلك الوقت لايزيد عن 500 نسمة، وبيوتها بسيطة مبنية من طابوق اللبن، لكن تحيط بها مساحات خضراء وبساتين وارفة الظلال تنتشر فيها الفاكهة بأنواعها، وأشجار نخيل و أنهار صغيرة تأخذ مياهها من شط العرب، وحين يرتفع المد تملأ الجداول بمائها… وكان جوها الشاعري الخلاب أحد ممهدات طاقة السياب الشعرية وذكرياته المبكرة فيها التي ظلت حتى أخريات حياته تمدّ شعره بالحياة والحيوية وصور الطفولة.
وفاة والدته
فقد السياب والدته عام 1932 ولم يتجاوز السادسة بعد، وكان لوفاة أمه أعمق الأثر في حياته، وأمتد تأثير فقدها إلى أغلب شعره؛ فنقرأ مثلاً من قصيدته المشهورة «أنشودة المطر».
تثاءبَ المساءُ والغيومُ ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال:
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه – التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: «بعد غدٍ تعود»
لا بدّ أنْ تعود
واستمرت محنته العاطفية التي بقيت ملتهبة الجراح حتى بعد زواجه، وبقي جريح الحب باحثاً عمن تبادله الحب، فرغم علاقاته التي تنوعت ما بين حب المراهقة مع الراعية هالة، إلى لبيبة التي كبرته بسبع سنوات في دار المعلمين إلى الشاعرة لميعة عباس التي كانت تصغره بثلاث سنوات ودرست معه في دار المعلمين لكن بمرحلة مختلفة وقسم آخر، وليلى الممرضة والصحفية البلجيكية لوك التي كانت مهتمة بترجمة قصائده إلى الفرنسية وقد فعلت ذلك، إلا أنه لم يجد من تبادله هذا الحب الذي كان يحلم به أو يستحقه، الأمر الذي يعود لأسباب متعددة منها ما يخص هيئة السياب وشكله وهو ما أثر فيه نفسيا إذ كان يرى نفسه دميماً، ومنها ما يعود إلى أسباب مادية وطبقية، وهو الذي عانى ما عاناه من الفاقة وقلة ذات اليد والشح أو أن مشاعر الحب كانت استجدائية كما في حالة لوك التي اعترفت له أنها تحب شخصا آخر.
بينه وبين الحب
بعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي ومواضيعه الكلاسيكية وهو الذي تأثر بالشاعر أبي تمام، قبل أن يشهد شعره الثورة على الكلاسيكية واللحاق بالرومانطيقية والحداثة فيما بعد.
في عام 1943 التحق بدر بدار المعلمين في بغداد، واختار قسم اللغة العربية، وسكن القسم الداخلي، وتعد هذه المرحلة التي بزغ فيها نجم السياب الشعري، وكذلك أظهرت ميول السياب الشيوعية المعادية للرأسمالية، وفي هذا المعهد وقع في شراك فتاة من طبقة الغنية وأحبها بدر إلا أنها كان يبدو أنها غير جادة في علاقتها ببدر بسبب فرق المكانة الاجتماعية بينهما إذ يقول:
بيني وبين الحب قفر بعيد
من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد
شتان بين الطين والكوكبِ
بالرغم من نتائجه الجيدة في الموسم الدراسي 1944-1945 إلا أن السياب ترك قسم اللغة العربية متحولا إلى قسم اللغة الإنجليزية اعتقاداً منه أن قسم اللغة العربية لن يقدم له أكثر مما قدم وأن عليه البحث عن تجارب ومصادر جديدة ينهل منها، وكان له ما أراد فتعرف على الشعراء الإنجليز الرومانطيقين أمثال ورودزورث وكيتس، وتعرف على ت. س. إليوت الذي تأثر به وقصيدته الأرض اليباب، وساعدته الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية العمل في الترجمة سواء في الصحف أو المجلات.
استمرت الأوضاع السياسية في العراق تلقي بظلالها على حياة السياب، فبعد أن هددت المعارضة مقاطعة الانتخابات في عام 1952، واجتاحت المظاهرات العاصمة الأمر الذي أدى لتدخل الجيش لإعادة الأمن، وكان بدر ضمن المشاركين في المظاهرات، التي لحقتها حملة اعتقالات، اعتقل فيها عدد من أصدقائه فخاف بدر أن يتم اعتقاله أيضا فهرب إلى البصرة. وضع بدر لم يستقر بعد أن قضى بعض الوقت في المحمّرة وسافر بجواز سفر إيراني الذي ساعده بالحصول عليه علاقاته بحزب توده الشيوعي الإيراني إلى الكويت. وكان وضعه في الكويت سيئا، حيث كان يستحوذ عليه الحنين إلى العراق، وما أصابه من فاقة وانعدام المال، الحال الذي صوره أشجى تصويرا في قصيدته “غريب على الخليج”.
عاد السياب إلى العراق بعد سنة من التشرد وحياة اللجوء الصعبة، ومن ثم تزوج عام 1955 امرأة قريبة له هي إقبال طه العبد الجليل، هذا الزواج الذي لم يحمل كثيراً مما توقعه وتمناه بدر في حياته، إذ ينصح بعد سنوات من زواجه صديقه مؤيد العبد الواحد قائلا: (( يا مؤيد، نصيحتي إليك إذا ما أردت الإقدام على الزواج أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكي تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه، حاول وحاول يا مؤيد ولا ترتكب الخطأ الذي وقعت فيه، إنها لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني إحساساتي ومشاعري، إنها تعيش في عالم غير العالم الذي أعيش فيه، لأنها تجهل ما هو الإنسان البائس الذي يحرق نفسه من أجل الغاية التي يطمح إلى تحقيقها هذا الإنسان الذي يسمونه الشاعر..)).
المرحلة الأخيرة
المرحلة الأخيرة من حياته لا سيما السنوات الثلاث الأخيرة كانت من المراحل العصيبة والتعيسة لبدر إذ كانت أعراض الشلل بادية عليه إذ أصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أن لديه مرض في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ والذي يتردّى يوما بعد آخر مشاكل مادية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثلاث (غيداء وغيلان وآلاء)، ووصل الحال إلى أقصى درجات السوء في نيسان سنة 1964 إذ انتهت المدة المسموح بها من الإجازات المرضية والإجازات العادية وكذلك الإجازات المرضية بنصف راتب التي يسمح بها قانون عمله في مصلحة الموانئ العراقية في البصرة. وبدأت بعدها إجازة من مئة وثمانين يوما بدون راتب. في هذه الفترة وبترتيب من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي الذي كان له ما أراد، وسافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964 لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جداً أعجزته عن الحركة. وبقي السياب في المشفى حتى وفاته في الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964 ، ونقل جثمانه إلى البصرة، ودفن في مقبرة الحسن البصري. وهكذا ولد السياب 24 ديسمبر 1926ومات 25 ديسمبر 1964.
«كنتُ شيوعياً»
لقد استطاع السياب أن يفجّر ينابيع الإبداع ويجعل الشعر العربي يواكب الأحداث التي مرت بها الأمة العربيّة، وينقل الشعر إلى آفاق أخرى بفضل ما يمتلكه من مواهب وقدرات شعرية فذة، ولكن ألم تواكب هذه التجربة إي كتابات نثرية؟
يسلط بعض النقاد الضوء على كتابات السياب النثرية، ويرون فيها إغناءً ودعماً لتجربته الشعرية، وإن كانت في مجملها مقدمات لأحد دواوينه أو دواوين شعراء آخرين، ورسائل تبادلها مع أدباء عصره، ومقالات وحوارات وسجالات شارك بها في بعض المؤتمرات، بما في ذلك مؤتمر روما، الذي انعقد سنة 1961. وأكثر من هذا، كتب الشاعر ما يشبه اعترافات عن واحدة من أصعب مراحل تجربته، عنونها بـ«كنتُ شيوعياً». فإلى جانب رسائله التي صدرت في سنوات متفرقة بعد مماته، ظهر للسياب هذا الكتاب عام 2007، وهو مجموعة أوراق نشرها في جريدة «الحرية» البغدادية عام 1959. وتشكل هذه الاعترافات في حد ذاتها- أيا كان السياق الذي أنتجت فيه- وثيقة من وثائق حياة السياب الأكثر وضوحًا، لأنها تحوي شذرات من يومياته بخط يده، وهي تزداد أهمية حتى في علاقته بالسياسة والسياسي. ومما يذكره السياب في علاقة الحزب الشيوعي بالشعر والشعراء، أن «الكابوس الأحمر» الذي ساد العراق منذ قيام الثورة، نسف كل أسس الشعر ومواضيعه. ويتساءل: “أين هي الشاعرة العربية العظيمة الآنسة نازك الملائكة؟” فيما يغمز إلى عبد الوهاب البياتي بقوله: “صرنا نقرأ عشرين قصيدة من برلين و51 قصيدة وسواهما من الدواوين الحمراء السخيفة ” .
برنامجه التأسيسي
وفي المقدمة التي كتبها لديوانه «أساطير»، الثاني بعد ديوان «أزهار ذابلة» الذي بشر بحركة الشعر الحُر، ورغم قصر هذه المقدمة، كثف بدر شاكر السياب وعيه التنظيري، ووعى أهمية ما هو مقبل عليه، إذ ناقش فيها أبرز الملامح الجديدة التي تطبع القصيدة الحديثة، التي يمثلها ويسعى من خلالها إلى إحداث التغيير المنشود في الشعر العربي، ومن ثمة الخروج من النمطية السائدة إلى أفق الحداثة الناشئة.
وفي سياق تلك المقدمة، التداولي بالأحرى، يرسم السياب برنامجه الشعري في بدايات بحثه عن هوية جديدة إيقاعياً وثيماتياً وبنائياً، بعد أن يكون قد شرع في تخليص قصيدته من مؤثرات المناخ الرومانسي الطاغي، وهيأ ذائقة التلقي لاستقباله. وفي ذلك، فإن هناك ثلاثة أبعاد يعبر عنها هذا البرنامج التأسيسي، لها علاقة بالنزوع السيرذاتي، التفرد والغموض والرغبة في معنى مبحوث عنه.
يرسم السياب برنامجه الشعري في بدايات بحثه عن هوية جديدة إيقاعياً وثيماتيا وبنائياً، بعد أن يكون قد شرع في تخليص قصيدته من مؤثرات المناخ الرومانسي الطاغي، وهيأ ذائقة التلقي لاستقباله.
فمن جهة أولى، يؤكد على خاصية التفرد، ليس بالنسبة إلى وعي الشاعر الحديث بها، بل في علاقتها المتوترة بالمتلقي، وكأن السياب يريد من الأخير التحرر من جهاز القراءة القديم، والارتقاء بذائقته الفنية إلى ما تُمثله القصيدة الحديثة من إمكانات تعبيرية وشعورية خاصة من جهة، ويريد من جهة أخرى أن يرفع سقف انتظاراته بالقياس إلى مضمرات شعريته الذاتية.
ثُم يتطرق إلى مسألة الغموض، الذي لجأ إليه اضطراراً، وبرره بالتكتم والشعور بالحرج وعدم البوح بكل شيء، وهو ما سيوجه مشروعه نحو الخطاب الرمزي والتباساته (رموز، أقنعة، حكايات خرافية..)، وينعكس من ثمة على أفق كتابته السيرذاتي، إذ كان على وعي بالرمز والرمزية مبكرًا؛ منذ أن اطلع على كتاب فريزر «الغصن الذهبي»، الذي ترجمه جبرا إبراهيم جبرا، ومنذ أن كثف قراءاته لرواد الشعر الرمزي الأورزبي (إليوت، سيتويل..). يقول السياب: «وهناك شيء من الغموض في بعض القصائد» ولكنني لست شاعراً رمزياً وقد كنت مدفوعًا إلى أن أغشي بعض قصائدي بضباب خفيف، وذلك لأنني كنت مُتكتمًا، لا أريد أن يعرف الناس كل شيء عن حبي الذي كانت كل قصائد هذا الديوان صدىً له، وكثيراً ما مزقتُ بعض القصائد التي كانت تشير إلى شيء تأبى هي أن يعرفه الناس». وربما لهذا الأمر علاقة بما كان يجمع الشاعر بلميعة عباس عمارة، التي رفضت أن يشير إليها مباشرة في شعره، فما كان منه إلا أن مزق بعض القصائد التي فيها شيء تأبى هي أن يعرفه الناس عن علاقتهما من جهة، ومن جهة أخرى كان عليه أن يغلف قصائد حبه هذه بضباب خفيف وغموض. ففي إحدى رسائله التي كتبها إلى خالد الشواف، التي يرجح أن يعود تأريخها إلى صيف 1946، ينعت السياب الغموض في شعره بـ«العقدة المسحورة التي أوجدتها يد العاطفة، في ساعة جنون، إذا انحلتْ فَقَد الطلسم ما كان يحمل من تمتمات عبقر».
وعدا الشعور بالحرج، لم يغفل أن يورد تفصيلةً مهمة تحمل القارئ على التعاطف معه، إذ قال: «فقدت أمي وما زلت طفلًا صغيرًا، فنشأت محرومًا من عطف المرأة وحنانها. وكانت حياتي، وما تزال كلها، بحثًا عمن تسد هذا الفراغ». وقد بقي السياب، طوال عقد الخمسينيات، يشعر بهذا الفراغ رغم زواجه، وبنفسه «رئة تتمزق» وقواه يتأكلها المرض، فيما كانت قصيدته تمتلئ بالرموز والأقنعة والوجوه الأسطورية، التي يحلم عبرها بالعود الأبدي، كأنها تعويض له عن ذلك الفراغ وقسوته في النفس والواقع معًا. وفي هذا السياق، لا نجد دارساً تناول شعر السياب لا يشير إلى أنه عقد العلاقة، في أعلى ما لها من المراتب الشعرية، بين «أبدية الرمز» الأسطوري، على نحو خاص، وحركية الحياة المندفعة بفعل الإنسان الحامل مصيره أنى اتجه، أو توجه»، على حد تعبير ماجد صالح السامرائي.
الأسطورة الشخصية
اصطبغت تجربة السياب الشعرية، على غنى مصادرها وتنوع منحنياتها، بكل هذا المزيج المتنافر، وارتقت تعبيرياً في مرحلتها الأخيرة إلى ما نصطلح عليه بـ«شخصنة الأسطورة»، إذ كانت أنا الشاعر منشغلة بخلق الأسطورة ونحت عوالمها الشخصية، ولم يكن وعي النهاية الحتمية الضاغط عليه بمنأى عما يكتبه ويتخيله، فانعكس ذلك على السجل التعبيري الذي طبعته حالات الأنا الذاتية بين الغناء والتفجع. فلم يكن بين الشاعر وما يحلم به إلا ما بين الأسطورة وظلالها من رماد الرمز وكثافة المعنى، ولاسيما أثناء «تجربة المرض» الذي فُجِع به وواجهَهُ بصبر أيوب.
وهكذا اعتكف مُبكرًا على الرمز الشخصي، وجعل له مدلولًا ذاتياً يعبر من خلاله عن معاناته التي واجهها في الحياة، ويداري به شقوته في الحاضر وعدم رضاه، مع ما كان يصاحب هذا الرمز من تناقضات، تترجح بين أضداد الصور، وتنم عن «هذيانات» المرض، بعضها يعود به إلى الطفولة والأم وجيكور وبويب، وثانيها يشده إلى شبح الموت وقوى الشر وهاوية العدم. بيد أن هذا الرمز الذي يصدر عن أنا الشاعر ويتلون برؤيا تراجيدية في وعيها بالتاريخ، كان في حقيقة الأمر يُعوض عن فراغ الشخص الواقعي لهذا الأنا في أواخر حياته، المفجوع بأثر المرض الجارف؛ فينقل التجربة الذاتية إلى تخوم اللاتشخصن، الذي يعبر عن تقلبات صميم الأنا الداخلي، إلى حد التشكيك في مدى تمثيله بوضوح لحياة الشاعر نفسه. لكن بدون افتراض غياب «الصدق التعبيري» لديه، فقد كانت تتردد، في كثير من المرات، صور الماضي وذكريات الذات والمعيش، التي كانت تُداخل وظيفية الرمز وتُخفف من تجريديته. بعبارة أخرى، يمكن القول إن السياب وإنْ كان يصر على التأريخ لقصائده، وكان ضمير المتكلم يهيمن عليها، فهو بميله إلى الرمز واستخذام الأسطورة، بدا كأنه يضع نفسه على مسافة واعية ومتوترة، تسمح له بالسخرية من ذاته، والحد من زخمها العاطفي كما عُرف به في مرحلته الرومانسية. وبالتدريج، أخذ يطفو على قصائده نوعٌ من التوازي بين حياة الشاعر وشعره، الذي ينعكس في أشكالٍ متنوعة من التعالق المباشر والضمني، بالنظر إلى خصوبة ثقافته وعالمه التخييلي وطول نفسه الملحمي، وهو ما كان ـ بتعبير صلاح فضل- «يباعد بينه وبين الطابع الغنائي السهل المنبثق من قرب الشعر من أحداث الحياة».
تمثل «أنشودة المطر» (1960) لسان حال هذا الطور من التجربة السيابية، الذي أخذ يقطع مع الحساسية الرومانسية، وينفتح على السرد وينخرط أكثر في الوعي بحداثة العمل الشعري المفتوح، الذي وسم قصائده الذاتية.
السيرة الشعرية
في بحث السياب عن كتابة سيرته شعراً، ثمة قصائد تواكب مراحل حياته القصيرة بوضوح ، في حين تمثل «أنشودة المطر» (1960) لسان حال هذا الطور من التجربة السيابية، الذي أخذ يقطع مع الحساسية الرومانسية، وينفتح على السرد وينخرط أكثر في الوعي بحداثة العمل الشعري المفتوح، الذي وسم قصائده الذاتية، لكن ديوانيه «المعبد الغريق» (1962) و«منزل الأقنان» (1963) هما اللذان يُدشنان، بوضوح، طَوْراً سيرذاتياً تزامن مع عودة الشاعر إلى جيكور، بعد خيبة أمله من رؤى المدينة، ومع تجربة المرض بما فيها من تألم ذاتي وشكوى مباشرة واقتيات على تداعيات الذكرى، وقد تخففت تجليات الرمز والأسطورة من بعدها الجماعي لتُعبر عن العذاب الفردي، الذي ابتلي به الشاعر، وتنقل العادي والمهمش إلى جوهر الخطاب، في ما هي تنزع ببنية القصيدة في توالي مقاطعها المرقمة أو المتوازية إلى السرد، الذي ينجز البعد الدرامي للخطاب ويواكبه. وقد شكل هذا الطور بعدًا آخر في تجربة الشاعر، بحيث «انفتحت فيها قصيدته على زمنين: زمن الحلم الذاهب متمثلًا بالماضي المستعاد، وزمن المعاناة حيث الألم الجسدي والوجع الروحي.
ففي قصائد دالة مثل «الأم والطفلة الضائعة»، «سفر أيوب»، «رحل النهار»، «الوصية»، «شباك وفيقة» وغيرها، إنما كانت تُشكل، بنسب رمزية متفاوتة، مراجع لحياة السياب وطفولته الماضية وتاريخ مشرط الداء اللعين الذي كان ينخر جسده من جهة. ولهذا السبب، ربما، آثر السياب في هذه المرحلة أسطورة «عوليس» أو «أوديسيوس» بطل الأوديسة الذي ضل طريقه إلى وطنه، وهو على ظهر سفينة في عرض البحر بقدر ما ضلها هو في مستشفيات لندن وبيروت والكويت. وفي مكان آخر، كانت هذه القصائد تعمل على بلورة «الأسطورة الشخصية» لأنا الشاعر، بعد أن تحول كثيرٌ من ذكرياته وأطوار حياته إلى رموزٍ كُليةٍ (بويب، غيلان، جيكور، وفيقة) ظهرت من خلال آليات اشتغالها أقل تجريداً وأكثر شفافيةً، لأنه «ارتفع بحياته الشخصية إلى مستوى الأسطورة، حتى صار الشاعر والرمز، في فترته المأساوية خاصة، شيئاً واحداً لا يمكن تجزئته»، وهو ما يُمثل «تلاحماً نادراً بين شعره وحياته» .
وباصطلاحات فيليب لوجون، تشكل النوستالجيا، أو «القيمة في الماضي من أجل العثور عليها»، أبرز الحوافز التي دفعت الشاعر إلى كتابة سيرته شعراً، وبالتالي عملت على تخييلها ليس فقط في عمر الشاعر الفيزيقي الذي توقف في يوم (24 ديسمبر/كانون الأول)، بل في كل أزمنة تلقي قصيدته، وذلك بعد أن يصير ذلك الماضي ضَرْباً من الفردوس المحلوم به والآتي من المستقبل.
نازك والسياب
لقد دار بين السياب ونازك الملائكة جدل كبير حول ريادة الكتابة الشعرية الجديدة، وأيهما أسبق في تقديم هذا النهج الشعري، حيث ظهرت أول قصيدة لنازك في هذا اللون سنة 1947 بعنوان «الكوليرا»، وفي نفس التوقيت تقريباً ظهرت قصيدة «هل كان حياً» للسياب.
يقول بدر شاكر السياب في مقدمة ديوانه «أساطير»، إن أول تجربة له من هذا القبيل كانت في قصيدة «هل كان حياً» من ديوان أزهار ذابلة، وقد صادف هذا النوع من الموسيقى قبولاً عند كثير من الشعراء الشباب، وتقول نازك الملائكة في كتابها قضايا الشعر المعاصر: إن بداية حركة الشعر الحر 1947 في العراق، بل من بغداد، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر هي قصيدتي «الكوليرا» وقد نشرت في بيروت، ووصلت نسخها إلى بغداد في أول ديسمبر/كانون الأول 1947، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب «أزهار ذابلة» وفيه قصيدة حرة الوزن.
وللرد على السؤال القديم الجديد: من هو رائد الحداثة في الشعر الحر السياب أم نازك الملائكة؟ يستعرض الكاتب العراقي جاسم المطير في كتابه ( مراجيح الناثر بدر شاكر السياب ) الآراء المتناقضة حول هذا الموضوع، ويرى إن بعضهم يقول : إنّ أول حركة في الشعر الحر كانت في بغداد عام 1947 على يد نازك الملائكة في ديوانها «عاشقة الليل» أو قصيدتها «الكوليرا» أو في ديوانها «شظايا ورماد» عام 1949. معارضو هذا الرأي يقولون إنّ الأول بدر شاكر السياب في «أزهار ذابلة» وهو ديوانه المنشور عام 1947… كما يشير الكاتب إلى أن الدافع الأساسي، الذي حفزه على جمع مقالاته في كتابه الوجيز هو محاولة كشف (البيئة المحيطة) بالشاعر بدر شاكر السياب، وتشخيص بعض عناصرها وتوضيحها، بجلاء، أمام القراء. ويقصد المؤلف (البيئة السياسية) التي أحاطت ببعض جوانب حياة الشاعر السياب جاعلة منها مراجيح غير متوازنة، ألحقت الأذى بوضعه الشخصي وأساءت كثيراً إلى وضعه السياسي. وقد كان لتلك المراجيح وآلياتها أثرٌ كبيرٌ على تاريخه، حيث تلك مراجيحه حرّكته بين خير الشعر وشر السياسة. كما يؤكد المؤلف على أنَّ (الانتهازية الشعرية) لا تفعل شيئاً بمجهوداتها غير تكرار بعض الحوادث عن الشاعر العراقي المجدد لأصول الشعر العربي. إنها حكايات مقتبسة من فولكلور شناشيل ابنة الجلبي أو من قصيدة أنشودة المطر، أو من أساطير متعددة عن ولادة الشاعر (1926) في قرية جيكور في البصرة أو دراسته اللغتين العربية والإنكليزية في كلية التربية في بغداد أو وفاته (ت 1964) في الكويت.
الانعزالية
ويشير المطير الى أن السياب كان قد بذل جهداً كبيراً في حياته من أجل أن ترتقي القصيدة الشعرية العربية إلى مستوى أكثر تطوراً، وأكثر تنظيماً، وأكثر مواكبة للقصيدة العالمية. صحيح أن بعضهم أحب السياب وبعضهم دفع عنه كل سوء، لكن ذلك لم يخلُ من حقيقة وجود مَنْ أوقع على السياب بلوى وأزمات واتهامات. على الرغم من سلوكية السياب الانعزالية، كان أدباء البصرة يراعون خصوصيته الثقافية والعملية والشخصية وحبه لهذه الخصوصية، بانزوائه في قريته الصغيرة (جيكور). ربما تلك الانعزالية تفسّر تزايد اهتمامه بالأساطير كعنصر من عناصر ذكائه الشعري، وتكامل قدراته وخططه في بناء قصائده بشكل إيجابي خلاّق، ورفع مستوى التفاعل بين الأسطورة والشعر، حيث شهدتْ مدينة البصرة في جنوب العراق أواخر الأربعينيات من القرن العشرين وأوائل الخمسينيات بصفة خاصة، كما يورد المؤلف، أنماطاً من الفعل الساخن، النابض بالحيوية على صعيد الأندية الكبيرة والصغيرة والتجمعات الثقافية، بين الموهوبين من جيلين أدبيين، تلك التجمعات ضمّتْ أعلاماً أكفاء أمثال، الشاعر كاظم حسن، الشاعر الباحث رزوق فرج رزوق، الكاتب المؤرخ فيصل السامر، الناقد كمال الجبوري، الروائي مرتضى الشيخ حسين. أسماء أخرى أمثال زكي الجابر، سعدي يوسف، محمد الجواهري، محمد سعيد الصكار، صالح الشايجي، مقبل الرماح، وغيرهم من الكتاب والنقاد والشعراء.
نقطة سوداء
ويعود المطير إلى توجيه بعض الانتقادات للسياب ولشعراء عراقيين آخرين، حيث كانت مذكراته (السياب) الحزبية – السياسية، مقالات ذات صبغة عاطفية، غاضبة، سريعة، انتقامية، ثأرية، لا تحمل وضوح الفلاسفة والعلماء. كما يؤكد المطير بأن السياب كان قد هاجم الحزب الشيوعي العراقي، من أجل منحه الريادة في الشعر الحر وأسبقيته على نازك الملائكة وعلى عبد الوهاب البياتي، ربما ظن أن عدم منحه هذه الهوية كان بتوجيه من الحزب. على الرغم من أن الثلاثة السياب ونازك الملائكة والبياتي في ديوان «أباريق مهشمة» لهم دور مهم في ناحية التجديد الشعري.
وينتقل الكاتب إلى الحديث عن ثلاثة شعراء مدّاحين، الجواهري والسيّاب وعبد الرزاق عبد الواحد، فالجواهري مدح الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله، ولكنه عاد في ما بعد وتراجع عن مديحه هذا وعدّه نقطة سوداء في ساحة شعره البيضاء. والثاني السيّاب مدح الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963 بقصيدة «أغثني يا زعيمي»، وعندما جاء الانقلابيون إلى الحكم في بغداد وأعدموا عبد الكريم قاسم انقلب السيّاب على الزعيم وناصر البعثيين الذين سرعان ما تخلى عنهم، لأنهم لم يقدموا له الأموال.
أَمَّا الشاعر الثالث فهو عبد الرزاق عبد الواحد (شاعر صدّام حسين) حيث يؤكد المطير على أن شِعر عبد الواحد أوجد لشاعره فلسفة خاصة طالما لم يكن مفلساً مثل بدر شاكر السيّاب، أو محتاجاً للمال كالجواهري. ولم يغيّر عبد الرزاق عبد الواحد قناعاته تجاه صدّام حسين حتى وفاته. ويقول المطير: «بأن السياب برهن خلال عمره القصير (38) عاماً أنه ليس شخصية فكرية- نضالية إلاّ بحدود».
السمات الشعرية
بدأ السيّاب بواكيره الشعرية عندما كان شاباً صغيراً، فبدأ بنظم الشعر باللهجة العراقية الدارجة، ثم تحوّل إلى الشعر الفصيح محتذياً بشعراء المدرسة الرومانسية، إلّا أنّ شعره لم يتميّز بشئ جديدٍ في تلك المرحلة، ولم يتّفرد بشيء لا سيّما في بناء القصيدة، وقد أنتج حينها ديوان (أزهار ذابلة)، وديوان (أساطير)، وعند نهاية الحرب العالمية الثانية ومع دخول ثقاقات مختلفة إلى البلاد بدأ السيّاب مرحلةً جديدةً من شعره امتازت بغزارة الإنتاج، حيث وضع عدة دواويين شعرية أهمها: (أنشودة المطر) و(المعبد الغريق)، و(منزل الأقنان)، و(شناشيل ابنة الجلبي)، وفي تلك المرحلة بدأ ينأى بشعره عن منحنى الشعر التقليدي القديم، ويسعى لبناء أنماط جديدة للقصيدة، فأصبح في مقدمة الشعراء المجدّدين في الشعر العربي الحديث، وفي نهاية الأربعينيات وضع أول قصيدةٍ له بأسلوبٍ جديدٍ من حيث الوزن والقافية افتتح بها مشروعه الحداثي وهي قصيدة (هل كان حباً).
استخدام تعابير جديدة:
إنّ للسياب رؤيةٌ حول التعابير التي ينبغي للشاعر الحديث استخدامها في نصوصه الشعرية عبَّر عنها في قوله: “إنّ الشاعر الحديث مطالب بخلق تعابير جديدةٍ، إنّ عليه أن ينحت لا أن يرصف الأجر القديم”، وقد اتّسم شعر السيّاب باستخدامه للتعابير الجديدة، وذلك كما في قصيدته (ابن الشهيد) حيث قال:
يا ليتني ما زلتُ في لعبي
في ريف جيكور الذي لا يميلُ
عنه الربيع الأبيض الأخضر
السّهل يندى و الرّبى تُزهرُ
ويُطفئ الأحلام في مُقلتي
كأنها مِنفضة للرمادْ
همس كشوكٍ مسّ من جبهتي
يُنذر بالسارين فوق الجيادْ
إذ يُلاحظ في المثال السابق التحام التراكيب اللغوية، وترابطها وانصياعها للفكرة ودلالاتها، وهذا ما تتّسم به معظم النصوص الشعرية عند السيّاب الذي كان مهتماً بسبر أغوار القديم لغةً وأسلوباً منذ بداياته.
استخدام الألفاظ المضعفة:
كثُرت الألفاظ المضعّفة في نصوص السيّاب الشعرية، والتي أضفت على النص سمات موسيقية وأخرى دلاليّة، ومثال على تلك الألفاظ (هسهسة، وغمغمة) اللتين جاءتا في قصيدته (أطفال وأسلحة)، وهذه بعضٌ من أبياتها:
عصافير؟ أم صبيةٌ تمرح
عليها سناً من غدٍ يلمح؟
وأقدامها العارية
مُحارٌ يُصلصل في ساقية
لأذيالهم رفة الشمال
سرت عبر حقلٍ من السَنبل
وهسهسٌة الخبز في يوم عيدْ
وغمغمة الأم باسم الوليدْ
تناغيه في يومه الأول
استخدام الألفاظ العامية والشعبية:
أكثر السيّاب في شعره من استخدام الألفاظ العامية -العراقية الدارجة- بعد أن طوّعها مبرزاً جمالياتها في إيصال فكرته ومشاعره للمتلقي، ومن هذه الألفاظ: ( كوخ، شناشيل، مجداف، تنور، دندنة…إلخ).
استخدام الألفاظ المكانية:
انتشرت ألفاظ المكان في قصائد السيّاب مثل: ( البيت، النافذة، الجدار، النهر، المدينة، جيكور، بويب..إلخ) ومثال على تلك الألفاط ما جاء في قصيدته (أفياء جيكور) حيث قال:
جيكور، جيكور ياحقلاً من النور
ثم قال:
جيكور مسّي جبيني
فهو ملتهب
مسّيه بالسَّعِف
والسنبل الترف
الصورة الفنيّة:
يمكن تعريف الصورة الفنية بأنّها مقدرة المبدع على إنتاج صورةٍ بيانيةٍ أو بلاغيةٍ تعبّرعن الهيئة الحسيّة والشعورية بالربط بين شبيهين أو شكلين، ويرى السيّاب الصورة الفنية على أنّها “نسخة جمالية تَستحضر فيها لغة الإبداع الهيئتين الحسيّة والشعورية للأجسام أو المعاني، بصياغة جديدة تمليها موهبة المبدع وتجربته وفق تعادليّة فنية بين طرفين هما المجاز والحقيقة” كما قال، وقد امتلأ شعره بالصور الفنيّة المختلفة، إذ اتّخذ منها وسيلةً للتعبير عن أفكاره وعواطفه، والتي من أهم ميزاتها : استخدامه للمجاز بكثرة كما في النص الآتي حيث استخدم الاستعارة، فاستعار خاصية الهمس من الإنسان إلى سعف النخيل:
في ليلة قمراء سكرى بالأغاني، في الجنوب نقرالدرابك من بعيد
يتهامس السعف الثقيل به، ويصمت من جديد
الاستعانة بالقصص الأسطورية:
سبق السيّاب شعراء جيله في اكتشاف قيمة الأسطورة في إثراء النص الشعري من الناحية الفنية والفكرية، فشغلت الأسطورة حيزاً كبيراً في قصائده إذ جعلها رموزاً في أشعاره، وهي رموز تعود لحضاراتٍ مختلفةٍ كالحضارة البابلية، والأشورية، والرومانية، واليونانية، والفرعونية، والعربية الشعبية، ومن هذه الرموز ما هو حقيقي وما هو خرافي، مثل: (المسيح، السندباد، أيوب، أوديب، عشتار، تمور..إلخ)، ويجدر القول أنّ كثرة استخدام السيّاب للأسطورة أضفى على قصائده جمالاً وإبداعاً رغم الغموض الذي أحاط بها، ومن الأمثلة على استخدام السيّاب للأسطورة قوله في قصيدة (غريبٌ على الخليج):
غنيت تربتك الحبيبة
وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه
المستوى الدلاليّ:
خلّف السيّاب وراءه إرثاً شعرياً غزيراً مبنىً ومعنىً رغم قِصَرعمره، ورغم مصاعب حياته، لا سيّما يُتمه وحرمانه من حنان أمّه وعطفها وهو لازال في الرابعة من عمره، إضافةً إلى مرضه وفقره، وفي هذا دلالة على عبقريته الفذّة وعلى سعة ثقافته، وقد كان لتلك الظروف التي عاشها السيّاب أثراً كبيراً في شعره، فقد جسّد حياته في ذلك الشعر بآلامها الجسدية والنفسية، وأنتج قصائد كوّنتها تجربته الذاتية تعددت موضوعاتها الشعرية بشكلٍ كبيرٍ جداً، وامتلأت بذكر ألفاظ الشقاء: (كالموت، والمنيّة، والرّدى، والوصيّة، والحزن، والغربة) وما إلى ذلك من ألفاظٍ كئيبةٍ، أمّا عن أهم الموضوعات في شعر السيّاب فهي:
الحب والشقاء:
ممّا لا شك فيه أن فقدان الأم هو فقدانٌ لأعظم حبٍ في الوجود، والسيّاب قال معبراً عن فقدانه لهذا الحب في قصيدته (الباب تقرعه الرياح):
هي روحُ أمي هزّها الحب العميق
حبّ الأمومةِ فهي تبكي
آه يا ولدي البعيد عن الديارْ
ويلاه كيفَ تعودُ وحدك لا دليلْ و لا رفيقْ
أماه ليتكِ لم تغيبي خلفَ سور من حجارْ
لا بابٌ فيه لكي أدقّ و لا نوافذٌ في الجدارْ
الغزل:
شغلّ الغزل جزءًا كبيراً من ديوان السيّاب، ولعلَّ السبب في ذلك تعطّشه لحنان الأمومة الذي حُرم منه في صغره، فقال مرّة متغزلاً في زميلاته اللواتي كنّ يستعرنّ ديوانه الشعريّ ليقرأنّه:
ديوانُ شعرٍ ملؤهُ غزلُ
بينَ العذارى راحَ ينتَقِلُ
أنفاسيَ الحرّى تهيمُ على
صفحاتهِ، والحبّ ُ والأملُ
الشعر الوطني:
أدى فقدان السيّاب لأمه ثم لأبيه وجدته، بالإضافة إلى فقره ومرضه إلى شعوره بالغربة وهو في أحضان وطنه العراق، وازداد هذا الشعور وتعمّق في وجدانه بعد رحيله عنه وتنقّله بين الدول بسبب ظروفه السياسية والصحية، فعبّر عن ذلك في قصيدته (لأنّي غريب) وقال:
لأنّي غريبْ
لأنّ العراق الحبيبْ
بعيدٌ وأني هنا في اشتياقْ
إليه إليها أنادي : عراقْ
الموت:
كَثُر ذكر الموت في قصائد السيّاب الأخيرة حتى طغى على ذكر الحب، فها هو في قصيدته (دار جدي) يتحسّر على حياته ويتباكى على أجله الذي دنا، فأنشد قائلاً:
أهكذا السنون تذهب
أهكذا الحياة تنضب؟
أحسُّ أنني أذوب أتعب
أموت كالشجر.
وقال في قصيدة أخرى متمنياً الموت بسبب شدة آلامه:
منطرحاً أصيح..أنهش الحجار
أريدُ الموت يا إله
ثلاثة محاور:
يدور شعر السيّاب من حيث المضمون حول ثلاثة محاورٍ وهي كما يأتي: الزمكان لعب مفهوم الزمكان -الزمان المكانيّ- دوراً كبيراً في شعر السيّاب، وقد تجلّى إبداع السيّاب في وعيه بزمانه ومكانه من خلال تجربته الإنسانية بشكل عام والذاتية بشكل خاص، وقد ارتبط المكان والزمان عند الشاعر ببعضهما وشكّلا جزءاً مركزيّاً من البناء النفسي والعاطفي لديه، فإحساسه بالمكان ولّد عنده إحساسه بالزمان، إذ تمثلت في شعره الأزمنة على شكل شخوصٍ وأشياء مكانية، وكان تركيزه منصباً على الزمكان الأسطوري الخيالي هروباً من الواقع، أمّا المكان الذي ارتبط به شاعرنا وكان له حضوراً قوياً في شعره، فهو قريته التي نشأ بها، والتي هي بالنسبة له أكبر بكثيرٍ من كونها رقعةً جفرافيةً، حيث استطاع عن طريقها إثارة الكثير من المعاني، وتشكيل نصوص شعرية كثيفة ذات دلالةٍ زمانيةٍ ومكانيةٍ اتّسمت بصدق العاطفة، وعمق انتماء الشاعر لقريته ومسقط رأسه جيكور.
يحنّ السيّاب إلى جيكور كمكان ارتبط في ذهنة بزمنٍ سعيدٍ حيث طفولته وأيام صباه، فيستدعي ذكرياته فيها لأن آلام الحاضر وهمومه أثقلتا كاهله وبعثتا في أعماقه الشوق والحنين إلی ذلك الزمن، فيحاول الشاعر الهروب من حاضره ملتمساً الراحة حتى وإن كانت في الخيال، وحين يستدعي السيّاب جيكورالمكان يستدعي الزمن أيضاً، إذ لا يمكن إلأ أن يستدعيهما معاً، لأنّ ذكرياته ليست مرتبطة بالمكان وحده بل بالزمان أيضاً، فجيكورالمكان دون الزمان مُقفرةٌ، ويصف السيّاب في قصدية له جيكورعند عودته ورؤيته لها وقد غيرتها عوامل الزمن، وحولت بيت جده إلى مكان خاوٍ لا حياة فيه، وهو إذ يصف ذلك إنما يصف حزنه لرؤية المكان الذي احتضن ماضيه قد غيّر ملامحه الزمان،
فيقول:
وحين تقفر البيوت من بناتها
وساكنيها، من أغانيها ومن شكاتها
نحسّ كيف يسحق الزمان إذ يدور
الرمز والأسطورة:
الرمز يُعدّ السيّاب أكثر الشعراء العراقيين توظيفاً للرمز والأسطورة في نصوصه الشعرية، وذلك بسبب معاناته الجسدية والنفسية، وبسبب أحوال العراق السياسية، متبعاً بذلك أسلوب أبي تمام وإديث ستويل، وهذا ما أخبر به السيّاب نفسه حيث قال: “أغلـب قـصائدي هـي مـزيج مــن طريقـة أبـي تمـام، وطريقـة ايـديث سـتويل: إدخـال عنـصر الثقافـة والاســتعانة بالأساطير والتأريخ والتضمين في كتابة الـشعر”، وقد طوّر السياب المذهب الرمزي بأسلوبه المتفرد، فابتدع رموزاً شخصيةً، وأقنعةً شعريةً تََخفّى خلف شخوصها ليستطيع أن يمرّرعبرها أفكاره وآماله، واتكأ عليها في التعبيرعن معاناته الشخصية وعن معاناة وطنه، فاستطاع بواستطها التقريب بين الرمز والواقع، وقد وسمت هذه الرموز شعره بالأصالة، وأضفت عليه جمالاً وسحراً نادرين.
لقد كثُرت الرموز في شعر السيّاب وتنوعت وتشعبت، ولكن من أهم الصور الرمزية ظهوراً في شعره (المرأة) التي شغلت جزءاً كبيراً من أشعاره، وشكّلت الكثير من الإيحاءات والدلالات المختلفة، ومن تلك الصور الرمزية مثلاً: المطر في قصيدة (المطر) الذي يرمز إلى الأم والحبيبة وإلى أرض العراق، (وجميلة) التي ترمز إلى النضال والكفاح والتضحية في قصيدة (جميلة بوحيرد)، أمّا (إقبال) في قصيدة (الوصية) فهي رمز لجيكور، واستطاع السيّاب من خلال استخدامه للرمز أن يعبّر عن خلجات نفسه، فمزج بين الرمز ومعاناته الشخصية كي يستطيع مواجهة آلامه، وجسّد هموم الإنسان وأحلامه مستعيناً بكل ما في الرمز من دلالات جمالية وطاقات إيحائية، وقد لجأ إلى التخفي وراء الرمز ليستطيع محاربة قوى الفساد التي ليس من الممكن محاربتها بشكل مباشر، فوجد في الرمز ملاذاً آمناً استطاع عن طريقه تجاوز عالم الوعي إلى اللاوعي هروباً من الواقع المضطرب.
والاغتراب يتّضح من خلال دراسة النص الشعري للسياب والولوج في أعماقه تحليلاً أنّه عانى من حالات عدّة من الاغتراب، ويُعد ّاغتراب الإنسان المكاني والروحي بكل ما يحمل من شمولية في المعنى من أهم ما يميِّزالمضمون الإنساني لإنتاج الشاعر، وقد امتلأت نصوص السياب الشعرية بمفرداتٍ عبّر بها عن شعوره بالاغتراب أظهرت بشكلٍ جليّ معانانته وآلامه، ومن هذه الألفاظ: (الوحيد، الطريد، الشريد، الغريب، الحزين، القبر..إلخ)، وما إلى ذلك من مفردات جسّدت معاني الغربة عند السيّاب وشكلّت جوهر شعره، وأظهرت براعته في التعبير عن أوجاعها، وقد ارتبط شعوره بالاغتراب بفقدانه لأمه وأبيه وجدته، إذ كان هذا أول وأكبر اغترابٍ له في حياته، لكنّه ظل دفيناً في نفسه واستر في التعاظُم، لا سيمّا في ظل تردّي أحوال الواقع الذي كان يعيش فيه بما في ذلك صراع القيم بين الحاضر والماضي. وصف السيّاب شعوره بالاغتراب بابداعٍ في نصوصه الشعرية، وصوّره كما لم يصوره شاعرٌ في عصره، ومن ذلك النص الآتي حيث وصف فيه حنينه إلى أمه في ليالي الخريف الطويلة:
في ليالي الخريفِ الطِّوال
آهِ لو تَعلمِين
كيف يَطغى عليَّ الأسى والمِلال؟!
في ضلوعي ظلامُ القُبورِ السجين
في ضلوعي يصيح الرَّدَى
بالتراب الذي كان أمي: «غدًا
سوف يأتي، فلا تُقلقي بالنحيب
عالمَ الموتِ، حيث السكونُ الرهيب.