تصفية إستعمار العقل

قراءة في كتاب تصفية استعمار العقل

الكاتب : نغوجُي واثيونغو  ( 200 صفحة )

المترجم : سعدي يوسف

القنبلة الثقافية

نغوجي واثيونغو هو كاتب من كينيا، كان يكتب بالإنكليزية ثم اتجه للكتابة بلغة بلاده (كينيا)، وكتابه (تصفية إستعمار العقل) كتاب عظيم يُحلل بعمق معنى الاستعمار. فمن المعروف أن رأس المال الغربي والأميركي الذي يسرق بلدان أفريقيا وأميركا اللاتينية وغيرها من البلدان، هذه البلدان هي تحت تأثير الأسلحة التقليدية والنووية. الاستعمار الذي تقوده أميركا يتقدم إلى شعوب الأرض المناضلة وكل الداعين للسلام والديمقراطية بإنذار: قبول السرقة أو الموت. لكن نغوجي واثيونغو يحكي بعمق وبراعة عن السلاح الأكبر والأخطر الذي أعده الاستعمار وهو (القنبلة الثقافية)، التي تعني إبادة إيمان الشعب بنفسه وإبادة إيمانه بلغته وثقافته وإرثه النضالي ووحدته وقدراته، أي أن القنبلة الثقافية تجعل الشعب ينظر إلى تاريخه باعتباره يباباً لا منجز فيه وتجعلهم يريدون التماهي  مع لغات شعوب أخرى لا مع لغتهم هم. إنها تجعلهم يتماهون مع كل ما هو منحط ورجعي، مع كل تلك القوى التي تحبس ينابيع حياتهم ذاتها. القنبلة الثقافية للاستعمار تزرع شكوكاً جدية بالصواب الأخلاقي للنضال، وإمكانيات الظفر والانتصار يُنظر إليها كأحلام مضحكة بعيدة المنال. ويؤدي معنى “الاستعمار الثقافي” في هذا الصدد إلى التعيين الجوهري لمعنى “الهيمنة الثقافية” عبر وسائط تحكم وسيطرة مختلقة ليس أقلها الإيديولوجية الاستعمارية والتصنيفات الثقافية المرتبطة بها،  وتأطير الشعوب المستعمَرة ضمن المنظور الاستعماري. ومن البديهي التفريق بين الهيمنة الثقافية للمستعمِر وبين “الانتشار الثقافي” في المجتمعات البشرية فالأولى تستند إلى آليات القوة والسيطرة  لفرض نمط ثقافي يحل محل أو يغير الثقافة المحلية ” ثقافة الشعوب الأصلية” والأمثلة هنا أكثر من تحصى ( يحضرني أن أذكر كيف يُمنع على الأطباء الفلسطينيين التحدث باللغة العربية في المشافي الإسرائيلية). أما المقصود بالانتشار الثقافي فهو التلاقح الطبيعي والحر لسكان المعمورة حيث لا يكون الهدف هنا الهيمنة أو التبعية أو المحو والإزالة، وايضاً عن الأمثلة أكثر من أن تعد وتحصى.

إن الاستعمار كي يحقق أهدافه يُصر بطرق عديدة، من التنشئة الاجتماعية لسكان المستعمرات وجعلهم ينبهرون باللغة والأدب للدولة المستعمرة، أي العبادة الخالصة لكل ما هو أجنبي حتى لو كان ميتاً، عبر تعميم المعايير الخاصة بالمجتمع الاستعماري. لذا كان مؤتمر 1962 (كتاب أفارقة يكتبون باللغة الإنكليزية) مجرد اعتراف بالموافقة والفخر بما تم –على مر السنين– من تعليم انتقائي وتلقين شديد أي بما قادنا إلى تقبل المنطق القدري لمركز اللغة الإنكليزية الراسخ في الأدب الإفريقي، كان المنطق المتجسد في الاستعمار وتأثيراته والقنبلة الثقافية قد حقق الانتصار الأكبر حيث شرع المُسيطر عليهم يتغنون بفضائل النظام . وهي هذا الصدد، لابد من الإشارة إلى جهود “فرانز فانون” في رؤيته للعمليات الثقافية المحلية ذات النزعة الإنسانية المناهضة للاستعمار، والتي تتعارض بلا شك مع البروباغاندا التي كانت سائدة آنذاك ( خمسينيات وستينيات القرن الماضي) والتي كانت تبشر بتفوق “العنصر الأوروبي الأبيض”

المؤسف أن انبعاث الثقافات الإفريقية يكمن في لغات أوروبية ذات طغيان معرفي وثقافي (خاصة الإنكليزية والفرنسية)، اللغة الإنكليزية بالنسبة للبريطانيين حاملة لثقافتهم، لكنها ليست كذلك بالنسبة للأفارقة، أدرك الاستعمار ذلك فالسيطرة الإقتصادية والسياسية لا يُمكن أن تكون مؤثرة بدون السيطرة الذهنية، السيطرة على ثقافة شعب هي السيطرة على الأدوات التي يعرفون بها هويتهم . وثمة تعبير (خذوهم صغاراً) أي التأثير على الأطفال الأفارقة تجعل الطفل (والإفريقي) يرى نفسه من خارج نفسه كما لو أن نفسه نفس أخرى، ولا يهم إن كان الأدب المستورد يحمل أعظم التراث الإنساني في أفضل ما كتبه شكسبير وغوته، بلزاك، تولستوي، غوركي، ديكنز.. إلخ. المهم أن يؤمن الإفريقي (والأطفال خاصة) أن أوروبا تاريخها وثقافتها هي مركز الكون، أما اللغات الوطنية الكثيرة للأفارقة فارتبطت بالمهانة والحطة والبربرية ، وبطء التفكير ، والغباء الصارخ وعدم الفهم .

يطرح نغوجي واثيونغو سؤالاً بالغ الأهمية: ما الفرق بين كاتب يقول إفريقيا لا بد لها من الاستعمار، وبين كاتب يقول لا بد من اللغات الأوروبية للأفارقة ؟ في كينيا سجن البريطانيون الكاتب الكيني (جاكارا واو انجو) عشر سنوات (من 1952إلى 1962) بسبب كتابته باللغة الكينية الكيكويو، كتابته هي يوميات إحتفظ بها في السجن السياسي، فالمبدع الإفريقي محروم من استعمال لغته ومنقطع عن التواصل العميق الإنساني مع شعبه، وكل المدائح للأدب الإفريقي تكون للأدباء الذين يكتبون بلغة المستعمر، كل هذه المدائح سوف تذهب إلى الكولونيالية، وحين أدركت الدول المستعمرة أنه لم يعد باستطاعتها أن تجعل محكوميتها عبيداً حولتهم إلى مثقفين طائفيين. لكن الكاتب (جاكارا واوانجو) وجد دار نشر (دار هانيمان) نشرت كتابه بلغة كينيا (الكيكويو) ونال سنة 1984 جائزة نوما. إن كتابته بلغة وطنه كينيا كانت ككيان مليء بالقوة والإبداع والتعبير عن شعبه خاصة الفلاحون والعمال الناطقون باللغات الأوروبية، كانوا محشوين بعقلية متذبذبة، وتأمل ذاتي مراوغ، وبوضع بشري يُعاني من أسى وجودي .

وفي عام 1981 قام (ألبير جيرار) في كتابه –آداب اللغة الإفريقية– ضمن خلود اللغات الإفريقية في الطباعة رغم الضغوط الخارجية لخنقها. لكن هيغل في كتابه (فلسفة التاريخ) الذي صدر في نيويورك في العام 1965، وفي الصفحات من ( 9 إلى 91 ) يكشف عن نفسه، كأنه هتلر، الذكاء للقرن التاسع عشر ففي محاضرته فلسفة التاريخ يقدم مشروعية عقلية وفلسفية وتاريخية لكل الأسس والممارسات العنصرية الأوروبية على إفريقيا. وقد حرم إفريقيا حتى من جغرافيتها حيث لا تتفق الجغرافيا مع الأسطورة، وهكذا صار الشمال الإفريقي جزءاً من أوروبا. مؤسف هذا التفكير لدى فيلسوف عظيم كهيغل. لكنه أيد الكولونيالية التي تضمنت خطتين للسيطرة على البلدان والشعوب المُستعمرة وهي التدمير أو الحط المُتعمد لثقافة شعب، لفنه، لرقصاته، لديانته، لجغرافيته، لتعليمه، لأدبه. ومن جهة أخرى الإعلاء الواعي من شأن لغة المستعمر أي أن تحكم لغات الدول الاستعمارية لغة شعب أسير الدولة المستعمرة. أي التحكم الذهني للمُستعمر. وصار تعليم الطفل الإفريقي الذي تحول إلى طفل كولونيالي يحكي بلغة المستعمر باعتبارها اللغة الوحيدة الحاملة للثقافة والحضارة. لكن نغوجي واثيونغو الذي كتب رواية (شيطان على الصليب) بلغة الكيكويو أي لغة وطنه كينيا ويحكي عن معاناة شعبه قال فيما بعد بكل وضوح إنه بالرغم من اللغة الكولونيالية التي فُرضت عليه إلا أنه لو مُنح الخيار لاختار اللغة الفرنسية قال: نحن نعبر عن أنقسنا باللغة الفرنسية لأن الفرنسية لغة كونية اما الهالة التي تحيط بلغتنا الإفريقية هي بطبيعتها مجرد نسغ ودم . أما الكلمات الفرنسية فإنها تُرسل آلاف الأشعة مثل قطع الماس. بعد هذا التصريح كوفئ سنغور بتطويبه في مكان مُشرف في الأكاديمية الفرنسية. ثمة كتاب أفارقة عظماء مثل شينوا أتشيبي وروايته (فتيات في الحرب) حيث بين كيف تم توريط بلدان أفريقية في حروب أهلية وقبلية، كذلك كتاب (معذبون في الأرض) لفرانز فانون . كتاب تحرروا من تأثير الكولونيالية، ومن القنبلة الثقافية وأبدعوا في الكتابة عن معاناة شعوبهم. وإذا كانت أغنية الأمس: دع البرجوازي يمسك بالعنان، فإن أغنية اليوم: دع العامل يٌمسك بالعنان .

والقول الرائع للكاتب الإفريقي أوبي والي: لا يُمكن أن يُكتب الأدب الإفريقي إلا باللغات الإفريقية أي لغات العمال والفلاحين الأفارقة والقطيعة الثورية مع النيو كولونيالية .

من الصعب الإحاطة الكاملة بكتاب عظيم مثل كتاب نغوجي واثيونغو (تصفية إستعمار العقل)، نظراً لأهمية محتواه ومكانته في تبيان أساليب الاستعمار في السيطرة على بلدان وشعوب العالم عن طريق القنبلة الثقافية التي تحدث عنها الكتاب باستفاضة.

أخيراً اللغويون الأفارقة كانوا أكثر تقدمية في نظرتهم إلى موضوع اللغة ممن يقابلونهم في الأدب الإبداعي والباحث الراحل (دافيد ديوب) من السنغال وأوبي والي من نيجيريا وغيرهم كثر. من المهم أن نعرف أنه كان في مختلف أجزاء إفريقيا وعلى مر السنين كتاب كتبوا وظلوا يكتبون بلغات إفريقية. ولا بد من الإشادة بالترجمة الإبداعية الرائعة لسعدي يوسف .

عن هيفاء بيطار

شاهد أيضاً

موضوع السجن في الأدب الفلسطيني قبل العام 1948

في التاسع والعاشر من الشهر الجاري، قدمت ورقة في مؤتمر الرواية في جامعة اليرموك الذي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *