من دفاتر عادل الأسطة (13) زكريا محمد: بذور روايته “عصـا الراعـي” في شعره

غير مرة توقفت أمام نثر محمود درويش وأفدت منه في دراسة شعره وذهبت إلى أنه يكتب الفكرة أحياناً شعراً ونثراً، وعندما تجادلت مع فاروق مواسي حول قصيدة «تحت الشبابيك العتيقة»، إن كانت قصيدة قدس، كتبت مطولاً تحت عنوان «إشكالية قصيدة القدس» مفسراً بعض مقاطع القصيدة بما كتبه الشاعر نثراً في «يوميات الحزن العادي».
كتب زكريا محمد أيضاً الشعر والنثر وسئل غير مرة عن هذا، فعرف نفسه بأنه كاتب والكاتب يكتب الشعر والنثر والمقالة ويمكن أن يكون أكثر من ذلك.
في لقاء مبكر معه أجرته وداد البرغوثي، بعد أن أصدر روايته «العين المعتمة» (١٩٩٦) قال إن «الرواية فن كتابي مثل المسرح. الكاتب يمكن أن يكتب بكل الأشكال، والكاتب يستطيع أن يدخل أي باب من أبواب الكتابة. أنا لا أسمي نفسي شاعراً، ولكن أسمي نفسي كاتباً، وإن كان الشعر يغلب على كتاباتي. روايتي يمكن أن أعدها بهذا الشكل أو ذاك ديواناً رابعاً لي، فهي تمتلئ بالشعر، ويمكنني أن أنزع منها مقاطع كثيرة وأن أنشرها كقصائد…. إن الإنسان بوسعه أن يكون كاتباً وشاعراً وباحثاً ومقاتلاً».
وعاد وعزز ما ذهب إليه في مقدمة كتبها لإصدار مختارات شعرية له كان من المفترض أن تصدر له في القاهرة، ولما لم تصدر نشرها في كتابه «الراهب الكوري» (٢٠٠٥) تحت عنوان «الشعر والبندورة» وكتب فيها «أنا أؤمن أن الإنسان بلا حدود. إنه قادر على أن يكون شاعراً ونحاتاً ورساماً وتاجراً وكل شيء. إنه فقط بحاجة إلى الجهد والوقت، وإن استطاعهما استطاع أن يكون ما أراد، وهكذا جربت الرسم والنحت وكتابة المسرح والرواية وقصص الأطفال، لكن الشعر ظل سيدي الأول…».
يقودنا هذا إلى سؤال السلالة في كتاباته وصلة نثره بشعره، فهل يمكن أن أذهب إلى ما ذهبت إليه في أثناء دراسة درويش، وهل يمكن القول إن بذرة رواياته موجودة في شعره؟
هنا أقصر الكتابة على روايته «عصا الراعي» التي أصدرها بعد نشره أربع مجموعات شعرية، وسوف أتتبع فكرتين اثنتين برزتا فيها هما: «الأخ الثاني» و»اللعب» وهما تتكرران في نصوصه الأخرى ومقالاته التي نشرها في الكتب أو في الصحف.
إن فكرة الأخ فكرة محورية في «عصا الراعي» حيث يغيب الأخ الأكبر ويكون على الأخ الذي يليه أن يبحث عنه، وسنعرف من الرواية أنها فكرة قديمة ظهرت في الآداب القديمة بأشكال مختلفة موازية ومعاكسة، وهو ما كتبته في مقال الأحد الماضي.
لم أقرأ أشعار زكريا كلها لأتتبع كتابته عنها كتابة تعاقبية، ولدي من دواوينه ديوان «الجواد يجتاز أسكدار» (١٩٩٤)، وفيه نقرأ قصيدة عنوانها «الأخ الثاني» كتبها في 2/9/1992 ونصها:
«الأخ الثاني
كان ظلك علي/ وكنت وراءك/ وحين سقطت في حفرة الموت/ صرت أنا الأول/ كبش القطيع الذي بلا قرنين / أنا أول الصدفة/ لكنني ثانيا سأظل إلى أبد الآبدين/ أضع الحافر فوق الحافر/ أتبع خطى لا ترى/ في هذا الليل البهيم».
وبعض أسطر القصيدة ترد حرفياً في الرواية «وضع الحافر فوق الحافر».
الدال الثاني هو «اللعب» ويكمن عميقاً في لاوعي زكريا، ولهذا تكرر أيضاً في شعره ومقالاته وفي الرواية.
في «الجواد يجتاز أسكدار» قصيدة عنوانها «البيضة والحجر» وفيها:
« لعبت في صباي بالبيضة والحجر:
كانت البيضة شمسي/ والحجر أنثاي/ وفيما بينهما كان ينقر دوري مصيري/ فيما بعد/ بعد أن طحنت وعجنت وخبزت/ وخرجت ملفوحا بالنار/ صرت ألعب – بالصبر ذاته – لعبة الوردة والبيضة/ والحجر:/ الوردة ذاكرتي/ والحجر منفاي/ والبيضة تقتل على المنضدة أمام عيني/ حتى يزوغ بصري/ وأهوي مثل قتيل على خطوط الأبلكاج الملساء» (6/9/1991). وفي قصيدة «النجم» تلعب الريح في مذود الماشية».
في «عصا الراعي» تكرر دال اللعب تكراراً لافتاً. أمام الحاجز الإسرائيلي «يلعب معك الجنود لعبة الإذلال ويعذبونك بمتعة» وحين يبحث عن أخيه بلا جدوى يتعب من لعب دور الابن الأكبر الذي لم يتقنه أبداً «ذلك أنني لم أتمكن من لعب دور الابن الأول»، والرجل الفضولي الذي التقى به في المقهى «أهو هو أم شيء آخر؟ أيلعب لعبة صغيرة معي أم أن اللعبة أكبر وفيها أكثر من لاعب؟» «وأنه يلعب على موضوع أخي من أجل هدف ما… هذا الرجل يريد أن يدفع بي إلى الجنون». ويلعب السارد مع أبيه لعبة الابن الأكبر، مع أنه الثاني، كما أنه يلعب بالنصوص فقد «خلق الله الإنسان لكي يلعب بحفنة من النصوص. هذه هي اللعبة الكبرى التي رماها لنا فغرقنا فيها»، وكما يلعب بالنصوص تلعب هي به. ويلعب أيضاً على الألوان وعلى الحاضر والماضي و… و..
في سؤاله: كم قصيدة يكتب الشاعر؟ يجيب:
«يحتاج الشاعر إلى سنوات كي يأتي بقصيدة جديدة. سبع سنوات قد تكفي لذلك، وحين يحصل على واحدة فهو يقضي سنوات يلعب بها أو يلعب عليها. إنه مثل أن تحفر بئراً ثم تنضح من مائها إلى أن تجف، فتضطر إلى حفر بئر غيرها. لدى الشاعر خمس قصائد على أبعد تقدير. ما تبقى إنما هو تكرار لهذه القصائد».
قديماً قال شاعر: «ما أرانا نقول إلا معاداً مكروراً» وبعده قال (غوتة): «ليس الشعراء العظام شعراء كباراً لأنهم أتوا بأشياء جديدة، وإنما هم كذلك لأنهم أظهروا الأشياء كما لو أنها تكتب لأول مرة».

المصدر

https://www.al-ayyam.ps/ar_page.php?id=1632035dy372376413Y1632035d

تم النشر بإذن من الكاتب

عن د.عادل الاسطه

شاهد أيضاً

عادل الأسطة يقدِّم قراءةً حول تجربة القائد يحيى السَّنوار.. العمل طابق القول

علي البطة  دعا الدكتور عادل الأسطة الناقد الأدبي وأستاذ الأدب سابقا في جامعة النجاح، جميع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *