يقول اسماعيل الرفاعي، المولود بمدينة الميادين في سوريا عام 1967: «مشروعي الفني التشكيلي التعبيري ارتبط بعلاقتي بأمي، وكانت النقلة النوعية فيه بعد وفاتها، حيث انتقلت من التعبير إلى التجريد، ورسمت مجموعة كبيرة من الأعمال المرتبطة بالمكان الذي نشأت فيه، حارتي ونهر الفرات والبيوت الطينية، والكثير من الوجوه التي كانت غائبة، حضرت بقوة في أعمالي، وكأن الأمر استعادة لحياة مفتقدة».
من الطفولة إلى ذاكرة المكان إلى وجوه مفتقدة، هذا الرفاعي بأية ريشة يدوّن طقوسه؟ وبأي ماء يخلط تداعيات ألوانه؟
إنها ذكريات الفرات .. إنها ماء يقظته..
يختال الرفاعي التقصي حقيقته والتأمل حلماً ما.. يستيقظ مع ماء يقظته ويخلط على الجداريات نداه المحايد، فتصير للأجساد شفافية طباشيرية أو نمشاً صخرياً يمنح لشخوصه الخاصة إيماءاتها السرية .. ويبقى الغامق راكداً في العمق.. لايتهم الغامق الرفاعي بالسوداوية، لكنه يشي بأن ثمة وجعاً عتيقاً لم يندمل بعد.. فهل للأسْود تدرجاته؟
ظلال الألوان
إنه الغامق إذن يمنح للضوء تداعياته وللأبيض نصاعته الخاصة، فيجول الرفاعي في تبايناته، كأنه ملك الألوان في لونين ..انهما ألوان كل الكائنات.. وهكذا يموج الأزرق الغامق كي يخرج من خضمه زبداً ابيض الوشم وتصير الحكاية وشاية من همس ولمس ودهشة.. كيف يمكن لهذا المأخوذ بطفولة تعبة أن يجعل من خجل امرأة ألف إيماءة ورواية…؟
لماذا لا يخرج الرفاعي من رحم أمه وماء يقظته؟
انه ابن النهايات، لا مدارات لكوكبه ولا نرجس لغروره .. الرفاعي المأخوذ بفراته يحسب أن كل الخرير حرير، وكل المياه زرقته، وكل زرقة هواء للنهر.. يزعم أن الشجر ريشته ويموج بشال أمه وصلصال طفولته، لا ضفاف لعبثه
ولا غرق في أعماقه.. أي الألوان تؤطره وأي المراسي تهديه؟ لا جنائز في ظلاله، ولا طباشير لشواهده، حفيف القصب موسيقاه وخيمته غيمة من ريح لا ترتادها الآلهة، ولا فيها الموت يستريح.
سفوح الطين
الرفاعي الكاتب لم تعد تستوعبه القصة أو النص فراح يبحث عن روايته الخاصة على سفوح الطين البعيدة ليشيّد جداريات لضفافه.. ابن الفرات يفيض.. فتموج الأجساد في جدارياته متراصة بدفء قلق متداعية كما تتردد ألوان الصوت، إنه صدى التشكيل، إنه النهر، حفيف القصب، ركض الطفولة، سباق الضفتين نحو المصبات، إنها المراوحة نحو الحنين الخفي وصلصال التخييل والتبجيل.. إنه الرفاعي يرسم صداه.
تختلط عند الرفاعي كل المدارس والتجارب فللتشخيص تجسيد وللغياب حضور وللنحت تجلٍّ وللتجريد معانيه ومفرداته الخاصة.. وللون حكاياته القلقة وللوحة حزنها الخاص.. لا متسع للفرح في حياة شخوصه، ابن الفرات يعيد للجسد خلقه من جديد، ويمنح للغرابة ألفة الأسئلة.. كيف تعشق وجوهه الغريبة؟ هل للغرابة جمال ما؟ هي لعبة الملامح إذن.. وهل ثمة عالم آخر يشبهنا؟
يفكر الرفاعي مع شخوصه، وبصمت مريب يبوح الجسد عن أفكاره تشكيلياً.. الرفاعي الإيحائي يكشف عما يفكر به الجسد إيمائياً بتآمر لذيذ مفعم بنعناع اللون اليابس.. هكذا بكل بساطة، امرأة يحكي جسدها عن شهوتها بعيداً عن التعري، وأخرى عن نميمتها بعيداً عن الفجور، وآخر عن دهشته ورغبته بالبوح الموارب للتصوّف.. فتتكئ لوحات الرفاعي على طباشير بعضها البعض، وتتسلق الجداريات فضاءات المساحات، وتوالي الشخوص وتراص المسافات لا يبدد سطوة الوحشة.
كيف ولماذا يستطيع ابن الفرات أن يمنح الجمال لرأس قُدّ من صخر، من حجر ينام بحضن امرأة؟ كيف يمسح الطباشير أطر الأمكنة، ويحول الأسئلة لمآس ٍ وحكايات وتحولات مشهدية تروي لكل متابع لمسرحها سراً ما، عن علاقته بما يدور في فضاء اللوحة.. وعلاقته الخفية بصمغ ما يحاول أن يبوح به الرفاعي.
رسم الكتابة
الرفاعي يرسم ما يكتب، ويكتب ما يرسم، لكنه خارج نصه وخارج مألوفه. مألوف الرفاعي هو مألوفنا، لكن هذا الخالق الطباشيري يعيد تشكيل شخوصه من حيث جنسها البشري بعيداً عن اموميتنا أو ذكوريتنا. يوحد الرفاعي كل الملامح ويفرقها بمسحة إلهية من ريشة تعطي للإنسان معناه الحقيقي. إنه مجرد إنسان وحسب.
لا تحكي أجساد الرفاعي عن أي رغبة فجة، بل تحكي عن تحولاتها ضمن مسارات يقرأها التأويل.. كيفما تشاء اللوحة تبتعد عن أطرها. لا تؤطر الرفاعي أية مفاهيم غير الحياة والموت. لكن تبقى أمه حاضرة في كل تشكيلات الوجود.. ووجوده ووجدانياته.. وربما في صلواته الخاصة. وحتى لو خرج الرفاعي من رحم أمه.. التمعن العميق في لوحاته سيجعلك تهجس معه في البحث عن مشيمة ما.
تصور حدْسي
لا يحكي الرفاعي عن أية فكرة يمكن أن تُقال. اللوحة تصور حدْسي قائم بذاته. لكن للرفاعي وطن مسلوب وذكريات فرات وقصب وطين، وحنين وغصّات وغربة واغتراب وحرية وقضبان، وللرفاعي رواياته الطفولية الطباشيرية الخاصة، سوف تحكيها يوماً ما كلّ لوحاته مرحلة واحدة..
في إحدى لوحاته يرسم الرفاعي بعداً ثالثاً لجسد ما لكن المفارقة أن أمراته تكون داخل سجن شاحب.. كيف يكون السجن شاحباً بأبعاد مفتوحة المدى والصدى؟ كيف يعيد الرفاعي للتأويلات مسارات جديدة.. هل للحرية سجن من فضاء شاحب الغمقة؟ هنا تكمن الدهشة.. إنه خارج نصه لوناً وبعداً وإيحاءً.
وفي تشييعه الأخير لمسيحه، يتقصى الرفاعي نسغ الثالوث المقدس، لكنه يترك باب اللابشرية موارباً.. نساء يشيّعن مسيحه إلى موت جديد من طقس ورقص وصمت وايماءات جنائزية محيرة، عصية على التخييل، ودون صليب ينزّ أسلاكاً شائكة، أو تراتيل مبحوحة الصدى.. أنه التداعي لعشائه الرباني.. ولكن ليس العشاء الأخير.
الرفاعي العاري تماماً إلا من الدهشة.. لا توحي أية ملامح لأجساده المتداخلة بالسخرية أو بالشهوة. وهل ثمة فارق بينهما؟ الرفاعي الطباشيري في داخله حيز جنائزي يمنح للموت والحياة معانٍ محايدة تجسد لحظة تماهيها، مسارح أسئلة..
المصدر
تم النشر بإذن من الكاتب