من شارون إلى شارون: منظومة التخطيط المكاني والفصل في إسرائيل / فلسطين

أورين يفتحئيل

ترجمة محمود الصباغ

استهلال

تكتسب هذه المقالة المطولة أهميتها الخاصة لأنها تأتي من “داخل البيت” فالكاتب “أورين يفتحئيل”، أكاديمي إسرائيلي (وُلد في حيفا) يعمل أستاذاً في قسم الجغرافيا والتنمية البيئية في جامعة ين غوريون/ بئر السبع. ويعرف بدراساته وبحوثه المعمقة حول قضايا الجغرافية السياسية والنظرية السياسية والنقدية والاستيطان والتخطيط العمراني في إسرائيل/ فلسطين، والموضوعات النقدية المتعلقة بفهم المشهد المكاني الاستعماري؛ وتحفل مقالاته المتعددة بالملاحظات النقدية للسياسات الإسرائيلية، لا سيما ما يتعلق منها بقضايا الأرض والسكان والعمران، ومفهوم الدولة “الإثنوقراطية” والأبارتيد والتخطيط المكاني مسترشداً بالمقاربات الغرامشية وما بعد الكولونيالية في معظم ما يكتب.

يناقش يفتحئيل-من خلال الالتزام برؤية نقدية عميقة- الديناميات الاستعمارية الإسرائيلية ومشروعها الاستيطاني للأرض الفلسطينية بما ينعكس بقوة على السياسات الحضرية والتخطيط المكاني للدولة وتأثيرات ذلك على التجمعات السكانية الفلسطينية داخل بنية الدولة القائمة حالياً بين النهر والبحر. وإذ يدعو يفتحئيل إلى فهم أعمق للعلاقة بين التخطيط المكاني والسياسات المكانية وتشكيل الفضاء المجتمعي، فهو يرى أن الخطوط العريضة لهذا التخطيط المكاني قد تأثر بدرجة كبيرة -وما زال- بشخصيتين بارزتين هما أرييه شارون وأريئيل شارون؛ الأول مهندس معماري واكب السنوات الأولى من عمر الدولة والثاني شخصية سياسية قادمة من مؤسسة الجيش, أدى كلاهما دوراً بارزاً على الجغرافية السياسية والبشرية والعسكرية والقانونية في البلاد. وذلك ضمن ما يدعوها يفتحئيل في المقال استراتيجية المبادئ التوجيهية للتخطيط المكاني التي شكلت الركيزة الأساسية للمنظومة “الإثنوقراطية” الإسرائيلية.

ونظراً لكونه إسرائيلياً ويعمل في مؤسسة أكاديمية حكومية، فهو يستبق أي هجوم متوقع عليه بقوله إن سجاله عن التخطيط المكاني الإسرائيلي حسبما كرسه “الشارونين” ومآلاته الاستعمارية والعنصرية وعدم المساواة والتمييز، لا يتحدد بحجة أخلاقية فحسب؛ بل هو في أساسه “حجة مهنية وسياسية بآن معاً”؛ وهو ينظر إلى جهده في هذا السياق بصفته جزءً من جهود أخرى تسلط الضوء على الجوانب السلبية لسياسات التخطيط المكاني الإسرائيلي وانعكاسها المباشر على العلاقات بين مجتمعي اليهود والفلسطينيين في البلاد.. فما يدعوه في المقالة بـ “الفصل العنصري/ الأبارتيد الزاحف” واستراتيجيات تخطيط الحيز العام ومحو المشهد المكاني الفلسطيني -إن لم يكن إعدامه- على مدار عقود قد أسهمت جميعها في تعزيز الهيمنة الإثنية [وهي هنا اليهودية] وإزالة بقايا المجتمع العربي  ؛ ومن هنا أتت دعوته في نهاية المقالة إلى العمل على تحقيق المصالحة الإثنية “الصادقة” بالعمل على “تصحيح الأخطاء التاريخية” لتحقيق المساواة والعدالة والإنصاف في توزيع موارد الدولة.

من الناحية النظرية؛ قدم يفتحئيل مفاتيح عمله عبر تثبيته مصطلحاته الخاصة بالعمل من خلال استعراضه لتعريف بعض المفاهيم ذات الصلة بمادة الموضوع؛ وهو يؤكد بطريقة واضحة على الطبيعة الاستعمارية للحركة الصهيونية ويرى أنها  تختلف، بهذه الدرجة أو تلك، عن معظم الحركات الاستعمارية، لأنها تطورت كـ “حركة تحرر” هدفها المركزي إقامة “وطن قومي لمجموعة  متفرقة ومضطهدة من المجتمعات اليهودية” وبالدرجة الأولى يهود أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثاني بالتركيز على الوطن الأسطوري للشعب اليهودي، أي أرض إسرائيل، كوجهة لـ “العودة” اليهودية و”الهجرة” والاستيطان. وتعزز الطابع الأولي للصهيونية بصفتها ملاذاً آمناً لليهود مع استيعاب جماهير اليهود الذين طُردوا من معظم دول الشرق الأوسط. وقد عملت مزايا الصهيونية هذه على تحويلها إلى ظاهرة استعمارية معقدة ومتعددة الأوجه.

ورغم وضوح  هذا الطرح إلا أن الحلول التي يقترحها ما زالت قاصرة عن تقديم إجابات عملية نهائية لحل المسألة الفلسطينية بما يضمن الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب “العربي” في فلسطين بين النهر والبحر. ولعل هذا هو مأزق معظم الكتاب الإسرائيليين الذين يؤطرون الصهيونية بصفتها “حركة تحرر وطني” متجاهلين السياق الفلسطيني الذي يعتبر الصهيونية حركة استعمارية توسعية استيطانية عنصرية هجرت الشعب واحتلت الأرض ومحت الذاكرة واستولت على الموارد والثروات الوطنية… إلخ

تؤكد المقالة على أن الجذور العميقة البنيوية في استراتيجية التخطيط المكاني الإسرائيلي لا تتعلق فقط بالمدة التي يغطيها النص؛ بل تمتد إلى سابقة بكثير لقيام إسرائيل، ولكن بسبب الالتزام المنهجي للعمل لم يركز النص كثيراً على السابقة للعام 1948 وتشعباتها المحلية والإقليمية والدولية.

….

من شارون إلى شارون: نظام التخطيط المكاني والفصل في إسرائيل / فلسطين

كلمات مفتاحية

يحظى تاريخ التخطيط المكاني الإسرائيلي بوجود شخصيتين أثرتا فيه أكثر من تأثير أي شخصية أخرى؛ وهما : أرييه شارون وأرييل شارون، فطبع كل منهما -على حدة-  بطابعه الخاص الجغرافيا السياسية والعسكرية والقانونية لإسرائيل / فلسطين. ورغم وجود العديد من الاختلافات السياسية البارزة بينهما، إلا أنهما قادا التخطيط الإسرائيلي لتعزيز وتعميم استراتيجية مكانية مماثلة على مدى السنوات الستين الماضية، تتلخص بالاختصار SEEC [الحروف الأولى باللغة الإنكليزية لكلمات: استيطان/ أمن  Settlement/ Security، توسع /أنثنة  Expansion, Ethnicization، سيطرة/تجارة Control/Commercialization]. وقدمت هذه الاستراتيجية إطاراً شاملاً لخطط تهويد إسرائيل / فلسطين المتنازع عليها. وسوف نستخدم هنا لغرض الدراسة  المقاربات المنهجية (ما بعد) الكولونيالية ومنهج كل من لوفيفر وغرامشي لتصور التخطيط بصفته وسيطاً بين القوى المهيمنة والمضطهَدة في سياق عملية مجتمعية متواصلة لإنتاج الفضاء المكاني، كما سوف نجد أن استراتيجية هذه المبادئ التوجيهية SEEC لم تكن مجرد دليل تسترشد به السياسات المكانية، أو عنصر مهم في مشروع التحرير اليهودي، ولكنها كانت أساساً حاسماً لبلورة وتأسيس نظام جديد يعيد تشكيل وصياغة كل من الفضاء والمجتمع وتحديد العناصر الرئيسة للمواطنة، مثل الملكية، والتنقل، والحقوق، والسلطة. ومن ثم، فقد شكّلت استراتيجية التخطيط الشارونية دعامة مركزية في النظام الإثنوقراطي لإسرائيل، بمنحها الشرعية المهنية للجغرافيا المخططة  “المنفصلة وغير المتكافئة”. وقد أصبح هذا الإجراء جزءً من البنية التحتية لعملية “الفصل العنصري الزاحف”  التي بدأت تتضح معالمها في إسرائيل / فلسطين.

المقدمة

– أتيت إلى هنا -إلى هذا المكان- في نيّة بريئة وصادقة  لأعيش في مستوطنة جماعية، متجانسة… ونعم؛ مستوطنة يهودية أيضاً. لم أكن أرغب، ولم أسعَ إلى دفع أي شخص بعيداً عن هنا، بل كانت رغبتي في أن أعيش مع أناس مثلي، يشبهونني. ومن المؤكد لكم لو أن عربياً واحداً فقط انتقل إلى العيش هنا؛ فسوف يتبعه آخرون بلا شك، وهذا يعني أننا سنفقد مجتمعنا وهدفنا في المجيء إلى هذا المكان الرائع… يؤسفني هذا الكلام، يؤسفني حقا أن أقول هذا، ولكن لا يمكننا، في هذه المرحلة، قبول العرب  في مستوطنتنا [بنينا من سكان مستوطنة ركيفيت  Rakefet [قرب سخينين في الجليل الأدنى] في الرد على التماس ضد استبعاد إقامة العرب في المستوطنة، 2010](1).

– أين يمكنني العيش؟ في قريتي المتداعية (التي يسميها الجميع غيتو أو حي فقير) التي فقدت معظم أراضيها ولا تزال “غير معترف بها”؟ أم أسكن في قرية عربية مختلفة متداعية هي الأخرى؟ أم في المدن الصغيرة التي لا توجد بها قطع أرض شاغرة؟ أم مع اليهود؟ أو ربما في  الكيبوتسات المغلقة؟ أم في عراد أو بئر السبع أو ديمونا، حيث لا توجد مدارس عربية، ولا حتى مسجد؟ أنا مواطن من الدرجة الثالثة، كما لو كنت  في السجن [زي أهلي، وزي ولادي]. [عطية، مقيم في قرية بدوية غير معترف بها، لجنة غولدبرغ، 2008](2).

تلخص هذه الاقتباسات جانبين من جوانب الفصل المكاني الذي أصبح يمثل جزءً طبيعياً [أو طبيعة ثانية] من المساحات السكنية في إسرائيل / فلسطين، بالإضافة إلى ذلك يؤشر كلام بنينا وعطية، في أحد مستوياته، إلى قضايا محض محلية للغاية، من حيث ملامسته، في مستوى آخر، لأساس مركزي يؤثر من خلاله التخطيط بشكل مباشر على طبيعة النظام والمجتمع والعلاقات الإثنية. وتتناقض عبارات نينا وعطية بشكل صارخ ما بين وضعية شخص يهودي مقيم في مستوطنة مجتمعية [يهودية] مزدهرة (أي مجتمع حضري لأفراد الطبقة الوسطى [اليهود] الذين يعيشون في تجمعات خارج  المدن والمناطق العمرانية المكتظة)، مع وضعية ساكن عربي بدوي من قرية فقيرة غير معترف بها. ورغم هذا التناقض، إلا أن كلامهما يوضح أيضاً الصلة أو العلاقة البنيوية بين الفضاء والسلطة التي تظهر بالطرق التي تخلق بها الجغرافيا “حزماً مغايرة” من المواطنة.

وبالنظر إلى ما سبق سوف نقوم بدراسة هذه الصلات البنيوية بتحليل تأثيرات التخطيط المكاني على النظام القائم في إسرائيل / فلسطين منذ العام 1948، مع التركيز على الأنشطة التخطيطية لاثنين من أكثر صانعي الفضاء المكاني في تلك الفترة، ونقصد بالطبع: أرييه شارون وآرييل شارون.

ويُنظر إلى التخطيط هنا بصفته وسيطاً بين السلطة والفضاء؛ وبصفته حيزاً تُترجم فيه مبادئ النظام إلى خطط ومؤسسات وخطاب وتغيير مكاني. ولكن عملية التخطيط هذه لا تسير في اتجاه واحد، بل تصبح ساحة للترجمة المتبادلة، تتحول فيها أساسيات النظام إلى مبادئ تخطيط وأنماط تنمية مكانية، وهذه بدورها تترجم “مرة أخرى”، أي،  تتحول لتصبح بيئة مؤسسية ونظامية. وعلى هذا، تعمل شبكة وثائق التخطيط والخطابات والقوانين والممارسات الكثيفة كموقع يضفي الطابع المؤسساتي على نظم السلطة وتطبيعها وشرعنتها (الشكل1). مما يمنح التخطيط القدرة على توفير ساحة رئيسة لتحليل علاقته، أي التخطيط، بالنظام القائم في إسرائيل / فلسطين.

وأثناء استعراضنا للفضاء المكاني والفصل في إسرائيل/ فلسطين؛ سوف نؤكد على أهمية العلاقة بين الفضاء والسلطة، ونضيء على تأثير الديناميات المكانية ودورها في تشكيل بنية النظام وصياغة مفهوم المواطنة؛ وتشمل هذه “الديناميات المكانية” الإنتاج المستمر لسياسات الأراضي والتخطيط والإسكان، وتعيين الحدود، والهجرة، والاستيطان، والتنمية، والتنقل/ الحركة، وإمكانية الوصول، وطيف كامل من التقنيات المكانية الحكومية. وأزعم -من خلال عرض رؤيتي الخاصة- أن الأوضاع والبيئات المكانية والتخطيطية التي أوجدتها السياسات الإسرائيلية تحت قيادة أرييه شارون وأرييل شارون قد تحولت إلى مبادئ  عمل ناظمة مستدامة للنظام.

شكل رقم (1) ديناميات السلطة والفضاء المكاني والنظام

وقد أضفت هذه الديناميات الطابع المؤسسي على منظومة الاستعمار الإثني المستمر الذي يؤطر الآليات الحالية لمنظومة  “الفصل العنصري [الأبارتيد] الزاحف”، حيث تستند البيئات والأوساط المكانية السياسية إلى مبدأ “الفصل وغير المتكافئ”. وفي مثل هذه الظروف، يحرك التخطيط المكاني عمليات تمييز سياسي بنيوي طويل الأمد بين السكان على أساس أصلهم الإثني.

وسوف نحدد -بإيجاز- الخيوط التي تنسج  قماشة الفترات المختلفة معاً لتشكيل الفضاء في إسرائيل / فلسطين، ونشير بشكل تخطيطي إلى عصر شارون الأول “أرييه شارون” الذي ترأس مشروع إعداد أول خطة وطنية رئيسة لإسرائيل، ووضع عقيدة تخطيط ذات أهمية تاريخية عميقة، وكذلك إلى عصر شارون الثاني “أريئيل شارون” الذي صاغ، من خلال قيادته، الكثير من بنى التخطيط الإسرائيلي من سبعينيات القرن الماضي إلى السنوات الأولى من العقد الأول من القرن الحالي.

كانت هناك، بالطبع، اختلافات كبيرة بين الشارونين: فقد مثّلا -ظاهرياً-وجهات نظر سياسية متعارضة (الأول كان مرتبطاً بحزب مبام اليساري، والثاني ارتبط بالدرجة الأولى بحزب الليكود اليميني)، ومارس كل منهما نشاطه في سياقات جيوسياسية وتاريخية مختلفة. علاوة على أن “شارون الأول” كان في الحقيقة مخططاً مهنياً محترفاً نظراً لطبيعة تخصصه وعمله كمهندس معماري؛ في حين كان “شارون الثاني” جنرالاً عسكريا وشخصية سياسية. ولكن، على الرغم من هذه الاختلافات البارزة، ثمة هناك أوجه تشابه قوية بين النماذج المكانية التي وضعاها، واستمرار دعم رؤيتهما حول التخطيط المكاني في إسرائيل كعنصر قوة واستقرار للنظام.

وسأعرض، بصورة أساسية، حجة مفاهيمية دون الخوض في تحليلات تاريخية وإدارية وجغرافية مفصّلة، والتي يتم عرضها في أماكن أخرى(3). وسوف أربط التخطيط مع مجاميع  معرفية أخرى، مثل العلوم السياسية والتاريخ والنظرية الاجتماعية، بما يعني -بطريقة ما – فتح  و/ أو تحفيز النقاش في التأثيرات العميقة للتخطيط الإسرائيلي.

يسترشد التحليل هنا، من الناحية النظرية، بمقاربات (ما بعد الكولونيالية) وأفكار كل من غرامشي ولوفيفر، لجهة تفكيك ودحض “الهيمنة- الحقيقة” التي تقدمها الأنظمة والجماعات القوية كجزء من “النظام الطبيعي للأشياء”. وكما أظهر غرامشي، فإن هذه “الحقيقة- الهيمنة” تستفيد على الدوام من خطاب” التنمية المجتمع برمته”، ولكنها في الواقع تسهّل نقل السلطة والموارد إلى شرائح طبقية وثقافية ضيقة. وهذا يؤطر ما يطلق عليه غرامشي “الواقع  العنيد” الذي يرفض الانصياع إلى خطاب تبييض الجماعات المهيمنة (Gramsci, 1971, 2004; see also Lustick, 1996)

كما سوف أتبنى، بالأحرى أعتمد على مقاربة لوفيفر النقدية من حيث صلتها بالنزعة القومية كإطار يدمج عملية إضفاء الطابع المؤسسي والتخطيط والعنف الضمني “أثناء إنتاج الفضاء المكاني”. إذ تقدم كتابات لوفيفر المتنوعة “التخطيط” بصفته نشاطاً يخفي، استراتيجياً، التناقض البنيوي في الهيمنة السياسية الرأسمالية، وحسب لوفيفر، يقدم التخطيط (باعتماده خطاباً تصحيحياً وتنظيمياً) رابطاً محورياً لشرعنة العلاقات الرأسمالية والاستغلالية (2009: 35-37). وباعتماد هذه الزوايا، ينضم جهد هذا البحث إلى جهود موجة صغيرة -لكنها متنامية- من الأعمال النقدية التي تتحرى استخدام التخطيط المكاني كأداة للسيطرة والتنظيم وإخضاع جماعات الأقليات، التي غالباً ما يطلق عليها “الجانب المظلم” للتخطيط (Fenster, 2002; Flyvbjerg, 2000; Huxley, 1994; Marcuse, 1997; Thomas, 2008; Watson, 2006; Wilson, 1991; Yiftachel, 1998).

كما نستلهم أيضاً أفكارَ وأعمالَ عدد من المفكرين النقديين في مجالات أخرى مثل الدراسات الحضرية والتخطيط والجغرافيا القانونية، الذين يركزون على العمليات الديناميكية للتوسع والاستيلاء؛ حيث يصبح التخطيط المكاني في مثل هذه السياقات أداة لإرساء أنماط العلاقة الإثنوقراطية والاستعمارية وإضفاء الطابع المؤسسي عليها وتطبيعها، بالدرجة الأولى بين النخبة أو بين الجماعات المستوطِنة والمستعمِرة التوسعية، والجماعات الضعيفة والأقليات والسكان الأصليين (Blomley, 2003; Kedar, 2003; King, 2002; Njoh, 2002, 2007; Perara, 1998, 2002). ومع ذلك، لا نسعى هنا إلى تقديم رؤية نقدية بحتة، وإنما الإسهام أيضاً في عملية التحول.

لذلك، آمل أن أقود القارئ إلى تفهم وجوب تغيير النماذج المكانية التي ابتكرها أرييه شارون وأريئيل شارون من أجل التقدم نحو مصالحة ما بعد كولونيالية، حيث يمكن لليهود والعرب جني فوائد التخطيط الفعال والعادل والديمقراطي لتشكيل الفضاءات والحيز والمساحات في إسرائيل وفلسطين مستقبلاً.

وسأبدأ بعدد من التعاريف.

-“النظام” هو منظومة قانونية مؤسساتية تترجم منطق السلطة في إقليم معين إلى نظام حكم وآليات تخلق أطر تنظيمية طويلة الأمد وعلاقات اجتماعية دائمة.

-“التخطيط” هو تشكيل ومحتوى وتطبيق السياسة المكانية.

-العملية “الاستعمارية” وتدل على الاحتلال الجماعي المنظم لأراضٍ وموارد مجموعة أو بلد آخر مع إضفاء الطابع المؤسسي على مبدأ خضوع الضعيف إلى القوي. يمكن أن يكون الاستعمار “خارجياً”، يتعدى حدود السيادة، ولكنه يمكن أن يكون “داخلياً” أيضاً فيؤثر على المناطق الحدودية الداخلية. وللاستعمار الداخلي أهمية خاصة هنا، وهو ينطوي على تبني نماذج تهجير واستغلال وتمييز  وتهميش ضد الأقليات في المناطق الحدودية بذريعة تنمية الأراضي. وتكون العلاقة بين المستوطِنين والمطورين والسكان المحليين في المنطقة مماثلة للعلاقة الاستعمارية بين الشعوب والدول. وتنتج المستعمَرة الداخلية الموارد والسلطة للمقربين من الحكومة، وتبتعد عموماً عن السكان الأصليين المغايرين في هويتهم الإثنية أو الدينية أو العرقية*.

-“الإثنوقراطية” نظام تقوم فيه مجموعة إثنية – قومية مهيمنة بتأمين الجهاز السياسي واستغلاله لتعزيز مصالحها السياسية والمادية والهُوياتية. ويتم هذا عادةً عبر تقنيات ديموقراطية جزئية.

– “الفصل العنصري [الأبارتيد]” هو النظام الذي يقوم على مبدأ  الفصل القسري وعدم المساواة الرسمية بين الجماعات على أساس الهُوية الجماعية لها(4).

وينظر التحليل هنا إلى الديناميات الجغرافية الإثنية لإسرائيل / فلسطين بصفتها قوة مركزية، ولا سيما إطارها الفوقي الذي يشكل هذه الجغرافيا “تهويد الفضاء”. هذه القوة -في الحقيقة- مغفلة الذكر في التحليلات السياسية أو الجغرافية لإسرائيل من قبل معظم التوصيفات والسرديات السائدة، على الرغم من أنها تشكل بنية تحتية قوية للنظام. وبعبارة أخرى، يشكل التهويد الطريقة التي تُترجم بها علاقات القوة والسلطة إلى أوضاع وبيئات مؤسسية وقانونية ومكانية، وبالتالي إلى واقع عميق ومستمر. وقد أسهم التخطيط الإسرائيلي، بقيادة أرييه شارون وأريئيل شارون، إسهاماً كبيراً في هذه العملية؛ فعملية التهويد هي عملية استعمارية في جوهرها، حيث تستولي جماعة واحدة على فضاء كان تمتلكه جماعة أخرى، أو تسيطر عليه أو تسكنه، فتنقل لنفسها، أي الجماعة المستولية، معظم أراضي وموارد الجماعة الأخرى.

غير أن الصهيونية الاستعمارية تختلف إلى حد ما عن معظم الحركات الاستعمارية، لأنها تطورت كحركة تحرر مع إنشاء وطن قومي لمجموعة  متفرقة  ومضطهدة من المجتمعات اليهودية. وقد حدث هذا في البداية تحت وقع أوضاع قمع واضطهاد وتدمير ليهود أوروبا وبالتركيز على الوطن الأسطوري للشعب اليهودي، أي أرض إسرائيل، كوجهة لـ “العودة” اليهودية و”الهجرة” والاستيطان. وتعزز الطابع الأولي للصهيونية بصفتها ملاذاً آمناً لليهود مع استيعاب جماهير اليهود الذين طُردوا من معظم دول الشرق الأوسط.  وقد عملت مزايا الصهيونية هذه على تحويلها إلى ظاهرة استعمارية معقدة ومتعددة الأوجه.

ويمكننا تمييز عدد من المراحل التاريخية الرئيسة في الكولونيالية اليهودية، بخصائص تاريخية ونضالية وأخلاقية مختلفة؛ تبدأ بمرحلة “استعمار اللاجئين” الفارين والهاربين من أوروبا؛ ثم  تحولت إلى استعمار عسكري في العام 1948 جرى فيها تطهير إثني (النكبة الفلسطينية) واستقلال إسرائيل؛ ثم مرحلة “الاستعمار الداخلي” حتى العام 1967؛ وبعد ذلك مرحلة الاستعمار السياسي المشبع بنزعة قومية متنامية آخذة في التوسع وتحطيم الحدود، وترتبط على نحو متزايد بالسرديات الدينية المسيانية. ومنذ منتصف التسعينيات، دخل الاستعمار مرحلة خامسة من “التوطيد القمعي” الذي يدمج تنازلات إقليمية جزئية مع علاقات مكانية جديدة، استناداً إلى عزل عميق للفلسطينيين في جيوب مكانية محددة**  (لمزيد من التفاصيل، انظر Yiftachel, 2006: Ch. 4؛ انظر أيضاً Khamaissi, 2003; Masalha, 2000).

ويغطي إطار التحليل هنا المساحة الكاملة للاستيطان اليهودي الإسرائيلي، من النهر إلى البحر. وأي تحليل آخر لهذه المساحة ولهذا “الحيز المكاني” بصياغة النظام الإسرائيلي سيكون ناقصاً ويفتقر إلى المصداقية. ليس فقط لأن إسرائيل كانت تحكم الفضاء والمساحة ما بين النهر والبحر لأكثر من 40 عاماً، ولا لأنها تتمتع، بعد اتفاقات أوسلو، بسيادة رسمية (وإن كانت مؤقتة) على الغالبية العظمى من مساحة الضفة الغربية، ولكن أيضاً لأن نحو نصف مليون إسرائيلي الذين هم جزء عضوي لا يتجزأ من المجتمع اليهودي-الإسرائيلي استوطنوا في يهودا والسامرة وغزة، مما وسع، بالتالي، الفضاء الإسرائيلي. وتواصل إسرائيل في ذات الوقت، السيطرة على الجيوب الفلسطينية وتقيدها بشكل مباشر أو غير مباشر – في غزة والضفة الغربية وبمزيد من الحذر داخل إسرائيل ذاتها. لقد حدد التخطيط الاستيطاني بشكل منهجي تصميم الحيز الفلسطيني وأثر على العلاقات الإثنية على جانبي الخط الأخضر.

ولا يمنع هذا من القول بعدم مطابقة سيطرة الجغرافيا السياسية في جميع المناطق بصرف النظر عن المنطق الإثنوقراطي المشارك في تنفيذ هذه السيطرة. ويستخدم النظام مجموعة من التقنيات المكانية التي صاغتها مجالات السلطة المتنوعة ذات الصلة بالتوازي مع الظروف الجيوسياسية. وهناك عدد من الأمثلة ستوضح ذلك:

أ). يعد قطاع غزة جيباً صغيراً يعاني من القمع والحصار والتمييز عن بقية الأراضي المحتلة في الضفة الغربية.

ب). تحظى القدس اليهودية باهتمام خاص يؤثر على مدى واتجاه التوسع اليهودي والجيوب الفلسطينية والمناطق المعزولة الأشبه بالغيتوات التي أقيمت داخلها، في حين يستفيد سكانها العرب جزئياً من “مزايا” السكان للمقيمين.

ج). قُسمت مدينة الخليل [ثاني مدينة في الأراضي يستوطنون فيها اليهود] إلى قسمين في اتفاق دولي.

د). أصبحت بئر السبع مساحة حضرية ميتروبوليتانية يعيش فيها مجموعة عربية كبيرة ومستبعدة جزئياً في “قرى غير معترف بها” محرومة من الخدمات الأساسية  و”مخفية” عن أعين المخططين.

هـ). تعد مناطق بيتار عيليت، ماتيتياهو وإيمانويل أمثلة على المدن الحريدية (يهودية متشددة) البعيدة عن المركز؛ واستيطانهم ، أي الحريديم، في الأراضي يربطهم مع مدنهم  بهُوية هامشية واستعمارية.

ز). تظهر في الجليل والمناطق الشرقية من سهل شارون “تجمعات الضواحي المجتمعية” اليهودية التي تطل على بلدات وقرى عربية كبيرة وتقسم الفضاء بينها بشكل حاد.

ويكتسي التحليل المقترح أهمية خاصة الآن في النقب والجليل والضفة الغربية، حيث يتواصل الاستعمار الداخلي الواسع النطاق والمكثف وتتجدد، بالأحرى تتعزز الحدود الإثنية يومياً. بالإضافة إلى ذلك، تشهد العديد من المناطق في وسط البلاد عمليات مماثلة (وإن كانت أقل كثافة)، عن طريق إنشاء “أحياء مجتمعية” (التي تستخدم لجان الاختيار لتحري سكانها، مثلها مثل “المجتمعات المحلية”) ، وخصخصة الأراضي وإنشاء مشاريع إسكان انتقائية، أو عزل فعلي للسكان العرب -على سبيل المثال- في يافا والرملة واللد. ومن المحتمل مستقبلاً أن يؤدي الاتفاق السياسي إلى تقسيم الأراضي السيادية  الفلسطينية و “إسرائيل بحدودها المعترف بها”، مما سيزيل تلك المناطق من التحليل، ولكن حتى ذلك الحين، تشكل هذه المناطق وإدارتها جانبا مهماً من نظام التخطيط الإسرائيلي.

كما تطور، منذ أوائل التسعينيات، اتجاه جديد للمشروع الجيوسياسي الإسرائيلي، ليصل بذلك إلى مرحلة خامسة جديدة، وصفتها بـ “التوطيد القمعي”، وتتمثل في توقف التوسع الإسرائيلي، بل تقوم الدولة حتى بتنفيذ انسحابات جزئية بينما تعيد تنظيمها للفضاء. ولا يشير نهاية التوسع الإسرائيلي  إلى المصالحة الإثنية القومية، حيث لا تزال تغذيها الاعتبارات الإثنوقراطية للسيطرة اليهودية على الفضاء من النهر  إلى البحر. وسوف تحول هذه الديناميكية الإثنوقراطية من الانتشار الأفقي إلى الانتشار العمودي؛ حيث تتصاعد وتتكثف عمليات الفصل والسيطرة في المناطق المتبقية تحت الحكم اليهودي (Yiftachel, 2006: Ch.3).

ويمكن -ضمن هذا السياق الجيوسياسي- تحديد مجموعة من المبادئ التوجيهية باعتبارها جوهر الاستراتيجية المكانية التي يقودها الشارونين. حيث تتحد هذه المبادئ لرسم “العمود الفقري” للمستقبل المكاني الجماعي حول الاختصار SEEC  لهذه المبادئ التوجيهية كما يلي:

  • الاستيطان – مكاثرة الاستيطان اليهودي وتوفير الأمن للفضاء اليهودي.
  • التوسع – السعي المستمر نحو الحدود حيث يمكن الاستيلاء على أراض جديدة .
  • الإثنية – نقل الحيز إلى أيدي اليهود مع حصر الفلسطينيين في جيوب منفصلة.
  • السيطرة – إبقاء الحيز تحت رقابة وسيطرة النخب السياسية والعسكرية والاقتصادية.
  • التجارة والتسويق بتحويل ما سبق إلى سلعة من خلال الخصخصة وإلغاء القيود والضوابط.

ليست هذه المبادئ مستمدة من وثيقة، ولكن من تحليل مجموعة كاملة من المبادرات السياسية الإسرائيلية في تطوير الفضاء حول الأنشطة الاستيطانية الجارية (الشكل2)

ويبين التحليل أن ديناميكية المبادئ التوجيهية أدت مع مرور الوقت إلى “الفصل العنصري [الأبارتيد] الزاحف”، وبعبارة أخرى، ترسيخ ومأسسة حالة  “الانفصال وعدم المساواة” على أسس الانتماء الإثني. وقد خلق هذا الشكل من التنمية المكانية أيضاً أنماطاً عميقة من الاضطرابات والمعارضة بين الجماعات الهامشية، وسمح في ذات الوقت بتحرير وتسويق الفضاءات “المفضلة”.

شكل رقم (2) عدد المستوطنات اليهودية في إسرائيل/ فلسطين من 1870 حتى العام 2006

فإذا كان الأمر كذلك، فقد ساعدت التنمية المكانية في إطار إنجازات “أرييه شارون وأريئيل شارون” في تقسيم وتصفيف المجتمع، ووجهت ضربة قوية إلى المبادئ الديمقراطية. صحيحاً أن جذور هذه الاستراتيجية المكانية كانت موجودة قبل عقود من ظهور كلتا الشخصيتين على الساحة، أي منذ بداية حركة الكيبوتس. ولكن عملهما كان مهماً لدورهما في مأسسة المبادئ التوجيهية SEEC -من خلال الجهاز القوي للدولة- وبالتالي ترجما مبادئ التخطيط المكاني إلى مبادئ للنظام.

ويوضح مثالان حديثان على مركزية استراتيجية هذه المبادئ التوجيهية بالنسبة للنظام الإسرائيلي حتى يومنا هذا.

– أولاً، خلال نقاش عام عاصف في صيف العام 2009  لتشريع إصلاح نظام الأراضي، أدرج -لأول مرة- قسماً خاصاً في قانون أراضي إسرائيل يسمح صراحة بوجود لجان الاختيار في المجتمعات السكنية. وتنص المادة 104 (القسم الفرعي 20) من القانون المعدل على ما يلي: “سيكون منح الملكية من قبل السلطة، في ممتلكات تقع ضمن مستوطنة مجتمعية… مشروطاً بموافقة المستوطنة المجتمعية، أو الوكالة اليهودية لإسرائيل، أو المنظمة الصهيونية العالمية، حسب الاقتضاء.

-ثانيا، يظهر ضمان الهُوية اليهودية للفضاء الاستيطاني في أحد الأقسام المركزية لمشروع مسودة الدستور الإسرائيلي الذي يناقشه الكنيست حالياً، ويسمح بمصادرة وتملك الأراضي حصراً للمستوطنات حيثما توجد “مجتمعات متميزة”(5). بكلام آخر، وعلى عكس ما هو مقبول في بلدان ديمقراطية أخرى، حيث تكفل المواطنة حرية الحركة والتنقل والإقامة في كامل المساحة السيادية، تسعى إسرائيل إلى تثبيت القدرة في دستورها على تنظيم الفضاء بواسطة مجموعة الأغلبية؛ ومنع مجموعات الأقليات من الإقامة في ذلك الفضاء. وقد أصبحت هذه العنصرية المكانية أمراً مسلماً به في إسرائيل اليوم، وذلك بفضل 60 عاماً من التخطيط الذي رسّخ شرعية هذه القاعدة التمييزية.

ومن المهم في هذه المرحلة توضيح هذه المقولات والاعتراف بأن إنتاج الفضاء في إسرائيل أسفر عن العديد من المساهمات الإيجابية المهمة، خاصة فيما يتعلق بتعزيز المجتمع والاقتصاد اليهودي في إسرائيل. لطالما كان المشروع الصهيوني يرى في السيطرة على الأرض وما يترافق معها من عمليات تخطيط وتطوير، قضية مركزية في تعزيز السيادة اليهودية. ولا يغيب عن بالنا أن الصهيونية كانت تتألف أساساً من مهاجرين ولاجئين أجبروا على الفرار من أوروبا المعادية للسامية قبل وبعد المحرقة، ومن ثم من دول الشرق الأوسط القمعية والاتحاد السوفيتي المنهار. في الواقع، دفع اليهود دفعاً إلى وطنهم الأسطوري الذي أسهم التخطيط الإسرائيلي في خلقه -بلا شك-.

ساعد التخطيط المكاني في المجتمع اليهودي الإسرائيلي الفئات الضعيفة من السكان أيضاَ، وكذلك المناطق الجغرافية والإثنية الطرفية، كما أسس، في السنوات الأخيرة، أشكالًا أكثر ديمقراطية من عمليات صنع القرار، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني النشطة والمؤثرة (Alterman and Han, 2004). كما ينبغي ملاحظة أن السياسة المكانية الإسرائيلية كانت نشطة في سياق تاريخي سياسي يشمل بيئة عربية عدائية في بعض الأحيان فضلاً عن موجات من العنف والإرهاب. وقد خضعت جوانب التخطيط  للعديد من التحليلات التقليدية، سواء كانت أكاديمية أو ضمن المجتمع الإسرائيلي ذاته، بينما لم يحاول الكثير العمل على تحليل بنيوية نقدي  كالذي نقدمه هنا.

الشارونين

كما ذُكر في بداية هذا الاستعراض، يعود الفضل الأساسي في صنع الفضاء المتفرق والمنفصل إلى أرييه شارون وأريئيل شارون (لا يمتان لبعض بصلة قرابة)، اللذان قادا صياغة الرؤية التخطيطية-الجغرافية-السياسية وترجمتها إلى لغة التنمية والاستيطان والفضاء.

كان أرييه شارون مهندساً ومخططاً مرموقاً هاجر إلى إسرائيل في عشرينيات القرن الماضي. وأحد مؤسسي كيبوتس غان شموئيل. عاد لاحقاً إلى أوروبا للدراسة في باوهاوس الشهيرة في ألمانيا، وبعد عودته إلى إسرائيل أصبح أحد رواد التخطيط الحديث في الييشوف اليهودي (المجتمع اليهودي قبل الدولة).

وقد وصل إلى ذروة مسيرته المهنية خلال سنوات تأسيس الدولة، عندما عينه مكتب رئيس الوزراء لقيادة فريق من الخبراء المتخصصين لوضع خطة وطنية لدولة إسرائيل الفتية بين عامي 1949-1952. ولا تزل تُعرف الخطة، التي نُشرت في العام 1951، باسم خطة شارون على نطاق واسع. كان لعمل أرييه شارون الدور المحوري في وضع الأسس التاريخية والمؤسسية والمهنية لهيمنة التخطيط الإسرائيلي، وشكلت خطته جزءً كبيراً من البنية التحتية المكانية لبرنامج بناء الأمة الصهيونية. استقال أرييه شارون، في العام 1952، من فريق التخطيط في مكتب رئيس الوزراء احتجاجاً على ما اعتبره التنفيذ الجزئي، والمشوه في رأيه، لخطته وعاد إلى العمل في القطاع الخاص حيث خطط العديد من المشاريع المعمارية، معظمها في إسرائيل وأفريقيا.

أما أريئيل شارون، المعروف -بالطبع- كقائد عسكري ورجب سياسي أصبح رئيساً لوزراء إسرائيل في أوائل العقد الأول من القرن الماضي، فقد كان أيضاً مخططاً مكانياً مؤثراً للغاية منذ أن كان جنرالًا، عندما غيّر وجه مخيمات اللاجئين في غزة إلى ظروف أفضل للسيطرة الإسرائيلية. وشملت أنشطة أرييل شارون سلسلة من المبادرات والمساعي التخطيطية التي لم تتركز في وثيقة واحدة، ولكنها تسببت في سلسلة من التغييرات المكانية المهمة (Weizman, 2006). كان أريئيل شارون في نواحي كثيرة الشخصية الرائدة الرئيسة التي دفعت بالاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما كان وراء خطة إنشاء المستوطنات على التلال (متسفيم mitzpim) في الجليل، وكذلك خطة  كوخافيم Kochavim [الكواكب] على طول الخط الأخضر في وسط البلاد.

بدأ أريئيل شارون في تسعينيات القرن الماضي، في تعزيز سياسة خصخصة الأراضي في إسرائيل، وبصفته رئيساً للوزراء، كان مسؤولًا عن فك الارتباط الذي تم فيه إخلاء وتدمير 21 مستوطنة يهودية، معظمها في غزة. وقاد في ذات الوقت مشروع “الجدار الأمني” (السياج والجدار) ومواصلة الاستيطان المتسارع في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وكان أيضاً وراء خطة التجميع القسري للبلدات البدوية في النقب وإنشاء مزارع يهودية خاصة في الجنوب.

وهكذا، كان شارون الثاني نشطاً في سياق جيوسياسي مختلف عن سياق شارون الأول، حيث كانت الأمة الصهيونية قد أُنشئت -بالفعل- في بلد معترف به، وكانت الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت سيطرتها، ويستوطنها مئات الآلاف من اليهود.

تسرب منطق المبادئ التوجيهية والأدوات الناشئة من الاستراتيجية التي قادها أرييه شارون وأريئيل شارون إلى العديد من المجالات الأخرى غير التخطيطية في الحياة الاجتماعية، مثل التوظيف ونظم التعليم واللغة والثقافة الشعبية وسوق العقارات والاتصالات؛ علماً أن هذه المبادئ تظهر في تلك المجالات بشكل مختلف قليلاً، لكن مبادئ الاستيطان والتهويد والتقييد والفصل ومؤخراً أيضاً التسويق والخصخصة، تظهر باستمرار بصفتها نقاطاً مرجعيةً في الخطاب العام كمفتاح لتشكيل المجتمع؛ مما يدفع بهذه المبادئ لخلق حدود إثنية واجتماعية يومية تنشأ من الرؤية التي تبثها الفضاءات الشارونية، كما هو موضح أدناه.

يمثل أرييه شارون وأريئيل شارون غيض من فيض منهجية الهيمنة المكانية القوية وذات الأوجه المتعددة، والتي تشمل القوات المسلحة، وإنشاء الأراضي وآليات التخطيط ومجموعة متنوعة من المؤسسات والشركات المالية ورجال الأعمال وتنظيم المشاريع. وهذا ما يجعلهما جديرين بدورهما القيادي كمحركين، بالأحرى محفزين لرؤية تخطيطية. وكما ذكرنا سابقاً، كانت هناك ثمة اختلافات جوهرية بينهما – اختلافات سياسية بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى الاختلافات في موقفهما العام. كانت أنشطة أرييه شارون مهنية في المقام الأول، في حين تحول أريئيل شارون من جنرال إلى زعيمٍ سياسي.

اقتصر نشاط أرييه شارون -الذي يعرف بكونه شخصية يسارية- على الفضاء داخل حدود سيادة إسرائيل، في حين خرق أريئيل شارون تلك الحدود وقاد سلسلة من الأنشطة التي تحيد عن القانون الدولي. ورغم هذه الاختلافات، قاد كلاهما استراتيجية مكانية-استعمارية متشابهة للغاية لتهويد الفضاء بالتوازي مع تشكيل منظومة تنمية حديثة وجيدة التخطيط، وساعدا في ذات الوقت على نزع الطابع العربي عن الفضاء بشكل واسع من خلال محو الماضي الفلسطيني ونقل الموارد والسيطرة من الأيدي العربية إلى أيدٍ يهودية كلما كان ذلك ممكناً.

شارون الأول

تم نشر أول خطة وطنية رئيسة بقيادة أرييه شارون في العام 1951 تحت عنوان “الخطة المادية لإسرائيل”، التي سرعان ما أصبحت مدماكاً مهماً وأساسياً لتأسيس النظام الإثنوقراطي الإسرائيلي، حيث قدمت الخطة بتفصيل عملية تهويد البلاد وأضفت على استيطان وتطوير المناطق الحدودية الداخلية طابعه المؤسسي ومنحته الشرعية السياسية. نُفذت الخطة بشكل أساسي في الخمسينيات والستينيات، وأدت إلى إنشاء أكثر من 400 مستوطنة ريفية يهودية وحوالي 30 مدينة جديدة أو مجددة. سعت العقيدة التي طورها أرييه شارون إلى تحقيق أهداف إقليمية وسياسية وأمنية من خلال سياسة مكانية وضعت على رأس قائمة أجندتها استيطان الأرض والعمل عليها إلى جانب تحديث نظم الاستيطان. ولتحقيق ذلك، استفادت هذه العقيدة من المقاربة المكانية المتعلقة بمسألة “التوزيع أو التشتت”، التي تدعو لبناء “أكبر عدد من المستوطنات في أكبر مساحة”، وإعطاء الأولوية لإنشاء مستوطنات جديدة مقابل دعم المستوطنات القائمة وتفضيل البناء الجديد إزاء الترميم أو الحفاظ على تقاليد البناء.

صمم أرييه شارون الفضاء لتستوعب إسرائيل 2.65 مليون نسمة وهو هدف تم تحقيقه في وقت مبكر من العام 1966؛ في إطار تكون فيه الأسبقية للمصلحة العامة على التفضيلات الخاصة (Shachar, 1998).

أعدت الخطة الوطنية التي نشرها أرييه شارون تحت الرعاية المباشرة لدافيد بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل، الذي رآها جزءً لا  ينفصم من عملية فرض الحكم اليهودي على المناطق المتنازع عليها؛ وجزءً من مشروع بناء الأمة الصهيونية. وسنرى بعد قليل أن هذا التصور يتخلل على الدوام أنشطة شارون الثاني.

وضع بن غوريون فريق التخطيط تحت إشراف مكتب رئيس الوزراء ومنحه موارد واسعة لإعداد وتنفيذ الخطة نظراً لأهميتها الاستراتيجية التي أعطيت لها في تلك الفترة؛ أي السنوات الأولى من تأسيس الدولة، ويمكن رؤية نهج الدفاع المكاني لبن غوريون بوضوح في خطاب له يعود للعام 1948: “لن يقتصر أمن الدولة على القوات المسلحة. بل إن أساليبنا في الاستيطان هي ما سوف تحدد أمن الدولة بما لا تقل أهمية عن إنشاء الجيش. وحدها المستوطنات الزراعية الكثيفة على طول الحدود -سلسلة من المزارع في الشمال، وعلى الساحل، وعلى طول نهر الأردن، وفي النقب- ستعمل كدرع موثوق لأمن البلاد من الهجمات الخارجية. ليست الحصون الحجرية الصامتة، ولكن الجدار البشري الحي؛ العامل والمنتج -الجدار الوحيد الذي لا يتراجع ولا يتضرر من القوة النارية للعدو- يمكنه حماية حدود بلدنا (مقتبساً من Tzfadia, 2009b:47).

ترجم فريق المخططين، بقيادة أرييه شارون، هذا الموقف الاستراتيجي إلى أدوات عملية، وتبنوا طريقة تطوير المناطق استلهمت تأثيرات مباشرة وغير مباشرة من التصورات الأوروبية، بما في ذلك نظرية المكان المركزي Central Place للجغرافي الألماني والتر كريستالر ومفهوم المدن الحدائقية garden cities التي طورها المفكر البريطاني إبينيزر هاورد.

قسمت الخطة البلاد إلى 27 منطقة إنمائية لتطوير الاستقلال الاقتصادي. كانت الخطة رمزاً للتخطيط المركزي “من الأعلى” بطريقة شبه بلشفية” (Efrat, 2005)، حيث حددت الأحجام والمواقع الدقيقة لمئات المستوطنات، من بينها عشرات المدن الجديدة (دعيت فيما بعد بـ “مدن التطوير”)، وتعريف بئر السبع بصفتها عاصمة النقب، مركزاً للتنمية المكثفة. كما طورت الخطة أنظمة البنية التحتية الوطنية، بما في ذلك التخطيط الواسع للمياه، الذي أصبح أساس إنشاء الناقل الوطني للمياه وكذلك مراكز التطوير والتوظيف، بما في ذلك ميناء أشدود، ومعظم محميات إسرائيل الطبيعية والمواقع الطبيعية والمتنزهات الوطنية .

يظهر هدفا أرييه شارون الرئيسين -التخطيط الموجه وهرمية توزيع الاستيطان- بوضوح في بداية الخطة: “ينبغي استناد جميع عمليات التخطيط العمراني التي تحدد الاستخدام المقصود للمناطق في البلاد وتشكل صورتها المكانية إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وأمنية قومية. والشرط الأول لنجاحها هو تنظيم هذه العوامل وتنسيقها وتكاملها في إطار تخطيط يجب بعملية التنمية من تتبعه (Sharon, 1951:5). وسوف يؤدي غياب هذه السياسة، إلى أن تقوم القوة الاقتصادية الطبيعية بتوجيه السكان على المسار الأقل مقاومة للمراكز الكبيرة القائمة، مما يتسبب في شغور الأرض من السكان ومن النشاط التجاري (Sharon, 1951:8).

حددت الخطة مبادئ التوسع السكاني، مع التركيز على تطوير الحدود واستيعاب الهجرة اليهودية. وحاولت تصحيح ما وصفته بـ “التشويه الاستعماري”؛ أي تركيز السكان في ثلاث مدن كبيرة، حيث كان 82% من السكان في ذلك الوقت يعيشون على طول الشريط الساحلي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا “التشويه” و “الفراغ” في الأطراف ناجم -بالطبع- عن طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين خلال حرب الاستقلال، والتدمير المنهجي لأكثر من 400 قرية زراعية، ومنع عودة سكانها إلى داخل حدود إسرائيل (النكبة الفلسطينية). وبعبارة أخرى، كانت إسرائيل هي السبب في خلق هذا “التشويه” الجغرافي، التي سعت الآن إلى  “تصحيحه” بخطة أرييه شارون التي تتجاهل تماماً، إلى جانب تفسيراتها العديدة، هذه الأسباب المكانية والتاريخية.

في هذا السياق، يُظهر الشكل 3 ثلاث خرائط تمثيلية من خطة أرييه شارون. ونلاحظ فيها، على سبيل المثال، غياب التجمعات الفلسطينية التي بقيت في إسرائيل حتى على الخريطة التي تصف المواقع الحالية في إسرائيل.

شكل رقم ( 3أ) مخطط بيت شان ( على أنقاض مدينة بيسان)

شكل رقم ( 3ب) مخطط مغدال غاد “أشكلون” (على أنقاض مدينة المجدل)

بالإضافة إلى ذلك، تم تخطيط، أحياناً، لمدن يهودية جديدة في مكان المدن الفلسطينية المدمرة، فأدرجت المدينة الجديدة على الخريطة فوق المدينة القديمة، في عملية محو وتدمير واستبدال واضحة(شكل 3). ولا تبدو هذه العملية عرضية أو طارئة بالطبع؛ بل هي تشهد على الطابع الإثنوقراطي للتخطيط الإسرائيلي في ذلك الوقت. وقد سعت الخطة إلى إصلاح “التشويه” من خلال تسريع الاستيطان اليهودي وفقاً لنظام تأسيس مناطق تحيط بالمدن المركزية، خاصة في الشمال، وفي الجنوب في سهل شفيلة، وفي ممر القدس، وفي النقب.

شكل رقم ( 3ج) توزع الكثافة السكانية في العام  1951

كان للخطة الوطنية الرئيسة، ووجودها في مكتب رئيس الوزراء، تداعيات هائلة على التخطيط المكاني؛ وهو ما أسهم في خلق ثقافة كاملة من التخطيط والاستيطان، تجلت -على سبيل المثال- في تطوير لغة مهنية-سياسية يمكن مشاهدتها في التعابير العبرية الحديثة التالية:

  • Hityashvut ؛ أي “المستوطنة” وتعني المواقع السكنية المحلية اليهودية حصراً
  • Hityashvut Ovedet؛أي “مستوطنة عمل” وتعني مستوطنات يهودية من أنواع معينة.
  • Hagshama ؛ أي “الوفاء / التحقيق” وتعني مستوطنة يهودية طرفية
  • Plisha l’Karkaot HaMedina؛ أي “غزو أراضي الدولة” وتعني في الغالب محاولات العرب للاستيطان
  • Pizur Ochlusiya؛ أي “تشتت السكان” وتعني تشتت السكان اليهود.
  • Pituach HaGalil vehaNegev؛ أي “تطوير الجليل والنقب” وتعني إنشاء مستوطنات يهودية ونقل الموارد إلى مناطق طرفية يهودي.
  • Ochlusiya Chazaka؛ أي ” السكان الأقوياء” وتعني عموماً اليهود المتعلمين.

الأهم من ذلك تحديد شارون الأول -على الأقل- بشكل معلن، بمنهج المدرسة الاشتراكية للتخطيط، بسبب تبنيه نظريات ونماذج بريطانية وألمانية وروسية، بالإضافة إلى خطاب العدالة التاريخية والاجتماعية، كما اعتمد أرييه شارون، من ناحية أخرى، نماذج من العالم الغربي، مثل استراتيجية المدينة الحدائقية، وتوازن المناطق الجغرافية، واللامركزية، وتطوير المناطق الهامشية الطرفية، وقيود النمو المفروضة على المدن الكبيرة. وتُعد فترة الأربعينيات والخمسينيات “العصر الذهبي” للتخطيط في جميع أنحاء العالم، لا سيما نتيجة للتنمية الكبرى واسعة النطاق  لفترة ما بعد الحرب واعتماد النهج الكينزي، الذي يرى الدولة عاملاً مستنيراً لتشكيل المجتمع والاقتصاد. وقد تلقى أرييه شارون الكثير من الثناء وأشاد به العديد من المخططين والنقاد والباحثين نتيجة تبنيه النظريات الاشتراكية الغربية؛ بالإضافة إلى علاقته باليسار الصهيوني (انظر على سبيل المثال، Carmon, 1998; E. Efrat, 1998; Z. Efrat, 2005; Hershkowitz, 2008; Mazor, 1997; Shachar, 1998).

بيد أن هذا التوصيف قد يتسبب ببعض الإرباك. إذ يبدو أن النظريات استوردت إلى إسرائيل وكأنها “قذائف” مجوفة أفرغت من مضمونها الاشتراكي والديمقراطي؛ ويبدو كما لو أن تبني هذه النماذج لم يكن من أجل تطوير حقيقي للمنطقة لفائدة سكانها، كما كان مقصوداً منها في الأصل، وإنما للمساعدة في عملية تهويد المناطق التي سكنها أو زرعها الفلسطينيون سابقاً. بعبارة أخرى، استخدمت خطة أرييه شارون التخطيط والخطاب الاشتراكي لتفريخ وتشريع التحول السكاني القسري لمصلحة اليهود على حساب العرب في المناطق المتنازع عليها.

بالإضافة إلى ذلك، وخلافاً للنماذج الأوروبية المستوردة، كان اليهود الذين استوطنوا واستقروا في المناطق الحدودية هم في الغالب مهاجرون أو لاجئون معدمون أتوا من العالم الإسلامي، لتصبح عملية الاستيطان، بالتالي، شكلاً من أشكال التهميش المخطط والمقصود، وليس شكل من أشكال التحرير أو التطوير والتحديث، كما ادعت خطة شارون في العام 1951، مما تسبب في إقصاء واستبعاد وعزل أعداد غفيرة من السكان عن المراكز الجغرافية والاجتماعية الإسرائيلية(Shenhav, 2003; Yiftachel and Tzfadia, 2008).

وكما تم التنويه في مكان آخر، أُسّسَ هذا النظام المكاني بواسطة الفصل الأولي بين أنواع المستوطنات اليهودية، خاصة بين المستوطنين الأوروبيين (الأشكناز) والمستوطنين الشرقيين (المزراحيم) الذين تم تعيينهم بشكل كبير في مواقع مختلفة. ثم جرت المحافظة عليه من خلال مؤسسة رئيسة في نظام التخطيط الإسرائيلي مرتبطة مباشرة بطبيعة فضاء مبادئ التوجيه الشاروني؛ أي لجنة الاختيار والقبول (Va’adat Kabala) العاملة في مئات المستوطنات اليهودية لفحص وتحري المقيمين المحتملين والتأكد من أن الأشخاص “المناسبين” فقط هم الذين يمكنهم السكن في المنطقة المعنية. وغني عن القول إن هذا تسبب في فصل عميق ليس بين العرب واليهود فحسب، ولكن أيضاً في أنماط متميزة من الفصل بين أجيال من شرائح الإثنية اليهودية (Blank, 2006; Ziv and Shamir, 2003).

مقابل هذه “الشرائح أو العوامل” من السياق الإسرائيلي / الفلسطيني والتمكين المؤسسي الإسرائيلي، عمل استيراد نماذج التخطيط من أوروبا على شرعنة هذه الخطط بصفتها “حديثة” و”متقدمة” التي خلقت في الواقع مورفولوجيا الاستعمار الداخلي ومنحت الشرعية لاستراتيجية المبادئ التوجيهية المذكورة أعلاه بالإضافة إلى كل ما يترتب عليها من تبعات.

شارون الثاني

بنى أريئيل شارون أنشطته التخطيطية السياسية على المقاربة المكانية لأرييه شارون، وعمّقه على مر السنين من خلال تحويل قوة الجيش وقوى السوق إلى أدوات مكثفة لتعزيز عمليات الاستعمار الاستيطاني الداخلي والخارجي، الذي خلق خريطة جغرافية محل نزاع شديد في إسرائيل / فلسطين (الشكل 4).

وتظهر هذه الخريطة فعالية تهويد الفضاء والمساحات: فالفلسطينيون، الذين يمثلون الآن 46% من السكان في المنطقة بين النهر والبحر؛ اقتصر وجودهم ضمن جيوب منفصلة لا تغطي أكثر من 14% من تلك المنطقة. أما داخل خط الأخضر فالوضع أكثر وضوحاً: يشكل الفلسطينيون 18% من المواطنين الإسرائيليين، لكنهم يسيطرون على مساحة تقل عن 3%؛ وهم في الواقع ممنوعون من الاستيطان في حوالي 80% من المنطقة التي هي بلدهم(6). ووجب القول هنا أن الوضع قبل العام 1948 كان مختلفاً تماماً، فقد كان اليهود يملكون ما يعادل 1.4 مليون دونم فقط؛ أو 7% من أراضي فلسطين الانتدابية، بينما كان في حوزة الفلسطينيين خمسة أضعاف هذه المساحة (Fischbach, 2003). وعكست عملية التهويد، من نواحٍ كثيرة، نظام السيطرة على الأراضي الذي كان موجوداً قبل العام 1948، من خلال تجريد الفلسطينيين الجماعي من أراضيهم  عبر الممارسة الفعلية والعملية للمبادئ  التوجيهية  لخطة “الشارونين” التي عملت على تنفيذ عمليات طرد واسعة للفلسطينيين.

جدير بالملاحظة إن إرث شارون الثاني أكثر تعقيداً بمرات مما تركه شارون الأول لأنه عمّق وعدّل عناصر ثلاثة من عناصر استراتيجية المبادئ التوجيهية آنفة الذكر: جغرافية المستوطنات، وأمن الفضاء المكاني وعسكرته؛ والخصخصة التجارية. دفع نموذج شارون الأول على خلق “مورفولوجيا استيطانية متناثرة” للفضاء اليهودي بالتوسع الكبير في الاستيطان والفصل الإثني. وعمّق شارون الثاني هذه العملية بالاستيطان ليس فقط في المناطق الشاغرة، بل بتوسيعه في قلب المناطق العربية المأهولة على جانبي خط الأخضر، كما أضاف بعداً عمودياً إلى هذه المورفولوجيا -هدف توطين اليهود “فوق” العرب (Azoulay and Ophir, 2008; Efrat, 2002; Gordon, 2008; Weizman, 2007). بإيجاز؛ خُلق نوع من الاستمرارية المكانية الإثنية التي تؤكد على التجانس في الفضاء اليهودي على جانبي خط الأخضر، من خلال تحويل المورفولوجية المتناثرة إلى تضاريس ثلاثية الأبعاد، مثل المستوطنات على التلال في الجليل والمستوطنات في الضفة الغربية.

وأدت هذه العمليات إلى توغل جغرافي قسري للمجاميع الآخذة في النمو والتوسع [أي المجاميع اليهودية] ضمن الفضاء الآخذ في التقلص للمجموعة الأصلية [أي المجموعة السكانية الفلسطينية الأصلية]، مع استمرار الحفاظ على الفصل الإثني. وحدث ذلك أساساً في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، عندما نقل التخطيط تركيزه إلى الأراضي المحتلة بإنشاء حوالي 140 مستوطنة “قانونية” -وفي وقت لاحق- حوالي 100 “بؤرة استيطانية” (مستوطنات دون موافقة تخطيطية)(7). مما أدى إلى تسارع عمليات الاستعمار الخارجي على نطاق واسع، حيث أدى التخطيط الاستيطاني إلى زيادة حدة الطابع “العنصري/ العرقي” للمجموعات الإثنية، ووضع حدود الهُوية بينها بمنطق تاريخي-بيولوجي من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تجاوزه. كما أدى الاستيطان الكثيف للأرض، الذي خطط له أرييل شارون، إلى خلق أساس مكاني-إثني وقانوني للفصل العنصري/ الأبارتيد، حيث تتأسس هرمية واضحة بين الفضاءات الإثنية المنفصلة تماماً. وأصبح الخطاب الديني الداعم للاستعمار في تلك المدة أقوى وأشد وتيرة؛ حيث ربطت المستوطنات اليهودية بالمواقع الكتابية المتناثرة في أنحاء الضفة الغربية، مع إضفاء طابع القادسة على مفهوم “أرض إسرائيل الكاملة” كأرض وعد حصري لليهود. جدير بالملاحظة -في هذا الصدد- المكانة المركزية للخطاب الديني المعارض للاستعمار في الخطاب الفلسطيني أيضاً  آنذاك وتأكيده على أهمية فلسطين  بصفتها أرض وقف إسلامي، ويرسم القدس عاصمة فلسطينية مستقبلية، وكذلك مركز مقدس للعالم الإسلامي، يقع حالياً بأيدي “الكفار اليهود”.

شكل رقم (4) الجغرافيا الإثنية في إسرائيل/ فلسطين 2009

وجد الزخم الاستيطاني الذي عين الحدود الإثنية تعبيراً له، في تأثير وتشجيع أريئيل شارون، داخل الخط الأخضر أيضاً. وهذا ما حدث من خلال مشروع “تهويد الجليل” في أواخر السبعينيات، حيث أنشأت 60 مستوطنة على التلال؛ بالتوازي مع إنشاء 20 مستوطنة صغيرة في النقب في ذلك الوقت، بعضها على أراضٍ يطالب بملكيتها السكان العرب المحليون، وفي السنوات الأخيرة أنشأت حوالي 50 “مزرعة خاصة” هناك. وهكذا “انتشر” مئات الآلاف من اليهود في قلب المناطق العربية، مما خلق وجوداً واضحاً “منفصلاً وغير متساوٍ” في النقب والجليل. وهنا يمكننا اكتشاف العمل الفعلي للاستعمار الكلاسيكي الذي يخلق بيئات مستدامة من الفصل العنصري/ العرقي وعدم المساواة، مما يحفز ويثير الاحتكاك عمداً.

أما العنصر الثاني الذي تقدم به أريئيل شارون كان “إضفاء الطابع الأمني على التخطيط”.

فاستناداً إلى  العبارة الشهيرة لكارل فون كلاوزفيتز “الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، تصبح في الفضاء الشاروني: “التخطيط هو استمرار للحرب بوسائل أخرى”. وتبدأ عملية التوسع والهيمنة عموماً بالاحتلال العسكري، لكنها لا تنتهي عند هذا الحد؛ بل تستمر عن طريق مأسسة الترتيب الجغرافي الإقليمي الجديد ووضع التخطيط كأساس مركزي للتنظيم والمقايسة والسيطرة، وغالباً ما تستغل الأسباب الأمنية لشرعنة البيئة المكانية غير المتكافئة. وقد أصبح الأمن في عهد شارون الثاني ركيزة من ركائز مشروع التخطيط الإسرائيلي، مما يوفر منطقاً عميقاً لاستراتيجياته المكانية، حيث غالباً ما يتبع التحصين المدني مدة السيطرة العسكرية الأولية (Weizman, 2006).

وفي الواقع،، استلهمت الاعتبارات التخطيطية العديدة أفكارها في كلتا الفترتين، وخاصة الثانية، من التفكير الأمني العسكري، كما يتضح  من الخطاب التخطيطي الذي يتضمن عبارات متكررة مثل: “الحدود”، “التهديدات (الديمغرافية أو المكانية)”، “المناطق العازلة”، “الأسافين”، “السيطرة على الشرايين الرئيسية (المواصلات)”، “النقاط الاستراتيجية”، “حماية الأراضي القومية”، “الغزو والاستيلاء”، “الاختراق” و”البؤر الاستيطانية” (للتفاصيل، انظر، Tzfadia, 2009a). ويكون استخدام هذه اللغة واضحاً تماماً في معظم الخطط المتعلقة بالمناطق الحدودية،، فضلاً عن التعاون النشط بين السلطات التخطيطية والجهاز العسكري(8). وبالتالي، أصبح التخطيط جزءً من النظام العسكري، سواء في أشكاله الواضحة أو المستترة. فعلى سبيل المثال، أكثر من 40% من الأراضي في إسرائيل اليوم هي قيد الاستخدام المباشر من قبل مؤسسة الجيش (Oren and Regev, 2008). كما تشرف  الحكومة العسكرية (من خلال “إدارتها المدنية”) على جميع الأنشطة التخطيطية في المنطقة ج/ C من الضفة الغربية، وقد وضع مجلس الأمن القومي استراتيجية التخطيط الحكومي الحالية للتعامل مع البدو في النقب.

وبشكل أكثر دقة، يجري تعزيز عسكرة التخطيط بشبكات غنية ومتنوعة من الروابط بين القوات الأمنية وسلطات التخطيط – على سبيل المثال، مشاركة العديد من الضباط العسكريين في مجالس التخطيط؛ والخطاب العام الذي يربط على نحو متواصل الفضاء بالمخاوف الأمنية؛ والمراقبة المستمرة للأماكن العامة (مثل الحدائق، ومراكز التسوق، والمباني الإدارية، والحرم الجامعي، والمصانع) بواسطة شركات الأمن بشكل أساسي؛ وإخضاع لوائح التخطيط لـ “الاحتياجات الأمنية” التي تحددها مؤسسة الدفاع، دون أي نظام كبير من الضوابط والتوازنات. وتكون المؤسسة المركزية المسؤولة عن ترجمة هذه الاعتبارات العسكرية إلى خطط مكانية تتألف من “لجان المنشآت الأمنية” الموجودة في كل منطقة إسرائيلية. وتتألف هذه اللجان بموجب القسم 6 من قانون التخطيط والبناء الإسرائيلي، من ثلاثة أشخاص اثنين منهم يمثلان الأجهزة الأمنية والثالث يتبع لجان التخطيط في المنطقة المعنية، وتتمتع هذه اللجان الثلاثية بسلطة قانونية تخولها اتخاذ قرارات تخطيط كبيرة حول “المنشآت العسكرية” بالمعنى الأوسع، ويمتاز عملها بالسرية التامة. ولا تكن خاضعة لمراقبة عامة ولا لأي اشتراطات من طبيعة تنسيقية محددة لعملية التخطيط المدني المفتوح (Oren and Regev, 2008). ولكن هناك قوى أخرى تعمل على الفضاء الإسرائيلي / الفلسطيني بجانب العسكرة.

وما إن وصلنا إلى نهاية عقد التسعينيات من العقد الماضي حتى انتهت مقاربة أريئيل شارون التخطيطية إلى تشعب استراتيجي. ومنذ ذلك الحين، استمرت على نحو متوازٍ في فرعين نموذجيين (الشكل 5).

يمكن وصف الأول بأنه “تسويق تجاري قومي” لموارد الأراضي وإخضاع التخطيط لاعتبارات وأرباح مجموعات المستثمرين المحليين من الطبقة الوسطى في الضواحي. بينما يشير الثاني إلى رأس المال الريادي -الإسرائيلي أو الدولي- للتطوير والاستثمارات العقارية كبيرة الحجم. وأدت هذه الاستراتيجية إلى اعتماد أجندة للتحول الحضري، والخصخصة، والتكثيف العمراني في المناطق الحضرية، وهو ما فتىء يواظب عليه النظام التخطيطي منذ تلك السنوات. وتؤكد هذه الأجندة على الجانب الطبقي لتأثير تخطيط أرييل شارون، حيث عمل هذا الأخير على تعزيز الضواحي والترويج لها وخصخصة الأراضي في المناطق الريفية قرب المدن -جنباً إلى جنب- مع تحقيق “الأهداف القومية” مثل انتشار المستوطنات اليهودية في يهودا والسامرة وغزة؛ واستيعاب الموجة الضخمة من الهجرة من الاتحاد السوفياتي وإثيوبيا- كان أريئيل شارون يشجع الخصخصة وتكثيف العمران في الضواحي في المناطق الريفية القريبة من المدن. وسوف تنقل هذه العملية موارد عامة كبيرة بشكل أساسي إلى فئات أكثر استقراراً داخل المجتمع، أي أولئك الذين سيطروا على موارد الأراضي منذ الخمسينيات، والمقصود طبعاً اليهود الأشكناز (انظر، Kedar and Yiftachel, 2006).

قاد شارون الثاني -في ذات الوقت- العمل لبناء عشرات الآلاف من وحدات السكن في الضواحي البعيدة لاستيعاب موجة الهجرة، ومنح ضمانات حكومية سخية للمطورين. وهكذا، أبعد شارون أفواج المهاجرين القادمين من الاتحاد السوفيتي (“الروس”) عن مراكز القوة والموارد في المجتمع الإسرائيلي بطريقة مماثلة لما حصل عند تأسيس مدن التطوير في الخمسينيات. مما يعني مواصلته التأكيد على الأجندة التي بدأها شارون الأول، حيث يجد المهاجرون المحرومون أنفسهم في الأطراف، مع قليل من الأمل في الهروب من وضعهم المهمش. أطلق على هذا التطور في أماكن أخرى تسمية “عملية الجبهة الأمامية”، حيث تقوم الدولة بتعبئة الموارد والسكان لفائدة الأطراف من خلال بنائها كحدود قومية مجيدة. غير أنها ما أن تصبح يهودية حتى تتخلى الدولة -عادةً- عن هذه الحدود سواء لجهة الاستثمار أو الأولوية، مما يخلق ظروفًا هامشية جغرافية واجتماعية واقتصادية (Yiftachel and Tzfadia, 2008؛ انظر أيضاً، Hasson, 1991). كما منح أريئيل شارون أيضاً من خلال هذه العملية امتيازات كبيرة لملاك الأراضي والمطورين، بتسهيل فرص تطوير وحدات سكنية صغيرة ورخيصة بسرعة وبمخاطر مالية تقريباً.

شكل رقم (5) مفهوم الفضاء الشاروني : الاستمرارية والتغيير في استراتيجيات المبادئ التوجيهية

بدأت الدولة أيضاً ما بين 1991 -1996، عملية تخطيط سريعة للتنمية في المناطق الطرفية، حيث تجاوزت المشروعات السكنية الجديدة العديد من اللوائح والقيود التخطيطية (Tzfadia and Yiftachel, 2004). مما أسهم كثيراً في تقديم مكانة رأس المال في عملية التخطيط، بينما خلقت فجوات طبقية اجتماعية -غير مسبوقة- في المجتمع الإسرائيلي (Adva Center for Social Equality, 2009).

اتجه الفرع الثاني من استراتيجيات أريئيل شارون المكانية في اتجاه مختلف، وإن كان بطريقة أولية وجزئية. وأشير هنا إلى التوطيد المكاني الصهيوني والانسحاب الجزئي الذي قاده في نهاية حكمه. كانت التحركات المكانية هي فك الارتباط مع غزة في العام 2005 وبناء الجدار الأمني (الجدار، الحاجز) بين 2003 – 2007.

وللمرة الأولى، أخلت إسرائيل ودمرت المستوطنات اليهودية، بالإضافة إلى إنشاء حاجز بري دفاعي ضخم، داخل أرض إسرائيل (أي إسرائيل / فلسطين). بالإضافة إلى ذلك، اعترفت إسرائيل، في إطار صراعها مع البدو في الجنوب، بعشرة تجمعات عربية كانت قد حاولت طردهم منها على مر السنين. وتؤكد هذه التحركات على دور التخطيط في الانتقال إلى مرحلة التوحيد والتوطيد القمعي الحالية في الجغرافيا السياسية. ومن المحتمل لهذه العملية ذات الأهمية الكبيرة أن تتعارض -بالفعل- مع الزخم الاستعماري. ومن الواضح في هذه المرحلة أنها لا تبشر بتغيير بنيوي، بل بتغيير في التكتيك، لعدم مصاحبتها أي تحول إيديولوجي أو خلق أجندة تصالحية صادقة. وكما لاحظنا، فقد خلق الانكماش الجزئي “إثنوقراطية عمودية” في ظل هيمنة جيوسياسية يهودية راسخة؛ وسوف تعيد هذه الإثنية العمودية تنظيم المناطق اليهودية في البلاد مع مواصلة حصار وإضعاف التجمعات والجيوب الفلسطينية المجاورة.

وبالإضافة إلى ذلك، تتناسب عملية الانسحاب الجزئي تماماً مع استراتيجية “التسويق التجاري القومي”، من حيث التخلي عن عبء اقتصادي / دفاعي مفرط وتركز موارد الأمن والتنمية في المناطق التي يمكن أن تحظى فيها عملية التهويد بشرعية إسرائيلية كاملة وحتى دولية، وبالتالي تؤتي ثمارها الاقتصادية أيضاً. كما تتيح خطوات أرييل شارون هذه لإسرائيل الاستمرار  في الاندماج والتكامل في الاقتصاد العالمي وتعجل في التنمية في المناطق المتهودة مع مواصلة استبعاد الفلسطينيين بالوسائل الجغرافية والاقتصادية والقانونية.

ومن المهم التأكيد على أن النماذج الشارونية الموضحة في الشكل 5 ليست خطية، بل قد تحدث في بعض الأحيان في وقت واحد، مثل أسهم متوازية تتقدم عبر الفضاء محل النزاع. ومن شأن مقاربة بسيطة أن ترى التاريخ بمنزلة سلسلة من العصور المتغيرة. وهكذا، على سبيل المثال، رأى الخطاب العام أن حقبة أوسلو تبشر بحقبة مدنية، والانتفاضة ترعى حقبة تجدد النزعة القومية. -من ناحية أخرى- تسعى مقاربة غرامشي المتبعة هنا إلى دراسة التاريخ بصفته سلسلة غير منتهية من النضالات الجماعية التي تخاض بالتوازي وفي وقت واحد لإقامة هيمنة قومية واقتصادية. وتبدو تحركات أريئيل شارون متسقة مع هذا الفهم الغرامشي، فهي، أي تحركاته وتصرفاته، تركز على ضرورة تغيير مشروع الهيمنة وأن يكون مرناً مع  الحفاظ على النواة الرئيسة لجهود التخطيط؛ أي تعزيز وتوطيد الحكم اليهودي للأرض من خلال التنمية الاقتصادية المستمرة والحفاظ على المكانة الرفيعة للنخبة الإسرائيلية.

ويلخص الشكل 5 الاستراتيجيات المكانية التي قادها كل من أرييه شارون وأريئيل شارون، مما يدل على الاستمرارية والاختلافات بينهما. وكما يتضح من الشكل، يتمثل الإنجاز الملحوظ لشارون الثاني في التعايش الناجح بين عمليتين تظهران غير متوافقتين بنيوياً: التحرير الاقتصادي والنزعة القومية الجغرافية. ويتحقق هذا الإنجاز بوضع حواجز وأشكال حصار من طبيعة جغرافية واقتصادية ودفاعية تمنع دخول الفلسطينيين بشكل كبير إلى عملية الخصخصة والعولمة ذات الربحية. لذلك، لا يزال تسويق الفضاء عملية مقتصرة على اليهود تقريباً. وهكذا قام أريئيل شارون بتحييد إمكانات الحرية والمساواة المترتبة على عملية التحرير التي بدأت في التسعينيات، وبدلاً من ذلك حوّلها لخدمة النظام الإثنوقراطي والوضع الاجتماعي الإثني الحالي (انظر أيضاً، Hasson and Abu-Asbeh, 2004).

وكما سبقت الإشارة، فإن أحد مبادئ التخطيط الرئيسة التي أرساها أرييه شارون وأريئيل شارون هو الفصل القسري وغير المتكافئ بين قطاعات السكان على أساس إثني -قومي وإثني– طبقي بالدرجة الأولى. وتتعلق إحدى النقاط البارزة في نقاشي هنا حول تأثير هذه التقنيات المكانية على النظام الذي تم إنشاؤه من خلال هذا الفضاء المنفصل على مدى العقود الستة الماضية. والحجة المركزية هنا تكمن في إنتاج عملية “فصل عنصري (أبارتيد) زاحف” بفضل الإثنوقراطية اليهودية في ظل التخطيط وإضفاء الطابع المؤسسي على الفضاء المنفصل؛ وهي ممارسة عميقة للغاية في بعض مناطق الضفة الغربية، بيد أنها “متصلبة” بطريقة أكثر ضبطاً وتحفظاً في معظم المناطق الأخرى داخل إسرائيل/ فلسطين/ مثل النقب و”المثلث” والجليل.

ولكن لماذا نطلق عليه “فصل عنصري/ أبارتيد”؟

لأنه لا يوجد مصطلحاً أفضل في معجم العلوم الاجتماعية لوصف الفضاء المكاني السياسي الذي يصنف ويربط سكانه، بحكم القانون وبحكم الأمر الواقع، وفقاً للهوية الإثنية العرقية. وسوف تتشكل بيئة وأوضاع النظام عندما يصبح هذا الفصل قانونياً ومؤسسياً من خلال القوانين والسياسات التي تحكم الهجرة، وخصخصة الأراضي، والقيود المفروضة على الحركة، والتمييز في أسواق الأراضي والإسكان، والاستبعاد من مراكز القوة (Blank, 2006). ومن ثم تصبح الآلية المكانية، المتضمنة في المذاهب التي قادها أرييه شارون وأريئيل شارون، أساس نظام الفصل الذي يسيطر ويحكم في إسرائيل/فلسطين.

ولماذا هو -في هذه الحالة- فصل عنصري زاحف؟

-أولاً، لأنه لم يكن هناك إعلان رسمي عن نظام الفصل العنصري، ولا يزال وضع عدم المساواة يُعتبر إجراءً “مؤقتاً” من الناحية القضائية والرسمية، خاصة فيما يتعلق بالمناطق الفلسطينية ومناطق البدو.

-ثانياً، هناك إجراءان متوازيان يميزان طبيعة خطة الفصل العنصري الزاحف عندما تعبر الخط الأخضر. إذ يؤدي تواصل أسرلة الأراضي الفلسطينية إلى خلق فضاء يهودي متسق يشمل الآن إسرائيل وما يقرب من نصف الضفة الغربية. ويرجع ذلك إلى فرض القانون الإسرائيلي في جميع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ومناطقها البلدية، والبنية التحتية للنقل والأمن التي تربط بشكل مباشر وحصري-من منظور محض يهودي- الأجزاء اليهودية من الضفة الغربية وإسرائيل ذاتها، وفي ذات الوقت ثمة عملية موازية أخرى تتمثل في استيراد أدوات سياسية تستخدمها إدارة الاحتلال في الضفة الغربية للسيطرة على الفلسطينيين داخل إسرائيل، وتشمل -من بين أمور عدة- القيود على التخطيط والبناء، وهدم المنازل، والقيود المفروضة على الحركة، والزواج، وحرية التعبير، والرفض المستمر للاعتراف بالعديد من القرى، لا سيما في منطقة بئر السبع.

 -ثالثاً، أصبحت السياسات التي تظهر السيطرة على الفلسطينيين داخل إسرائيل تشبه، وإن كانت دون تكرار، الآليات المستخدمة في الأراضي المحتلة. وتشمل هذه التدابير استخدام أنظمة ولوائح الطوارئ، والقيود المفروضة على الهجرة والزواج، واختراق العملاء السريين، والقيود على تحويل الأموال، ومراقبة أجهزة الأمن العام للمنظمات الديمقراطية، ومواصلة القيود التخطيطية والمكانية. صحيح أن العرب في إسرائيل يتمتعون بمزيد من الحرية المدنية والسياسية مقارنة بأقرانهم في المناطق، لكن حتى داخل الخط الأخضر تعمق التمييز ضدهم وازدادت عزلتهم واغترابهم عن الدولة الإسرائيلية. وفي هذه الحالة، يتم تضمين مأسسة الوضع الاجتماعي المنفصل الزاحف المتدرج بشكل متزايد على كلا جانبي الخط الأخضر، حيث لا يملك الفلسطينيون على كلا الجانبين سوى القليل من القوة لوقف هذه العملية البنيوية.

ولا بأس هنا من إعادة القول عن ارتباط سياسة التخطيط المكاني مباشرةً بعملية “الفصل العنصري الزاحف”. وتتعلق العديد من مساحات الهيمنة المخططة المفروضة على الفلسطينيين بالاستراتيجيات المكانية والتخطيطية للفصل غير المتكافئ التي نوقشت سابقاً (انظر أيضاً، Hanafi, 2009; Handel, 2007; Qumsiyeh, 2008). وبرز، في السنوات الأخيرة، حيز إثني- عرقي عنصري يذكرنا بنظام جنوب أفريقيا قبل العام 1994، وإن كان ذلك يحدث بظروف تاريخية وجغرافية وسياسية مختلفة.

وكما يتضح في الشكل 6، خلقت استراتيجية المبادئ التوجيهية جغرافية خاصة للمساحات المنفصلة في كل جانب من جوانب الحياة تقريباً على أساس الهُوية. ونلحظ ظهور ثلاث مجموعات رئيسة للهُوية المكانية: اليهود (في فضاء إسرائيل / فلسطين بأكمله)؛ الفلسطينيون في إسرائيل؛ والفلسطينيون في الأراضي المحتلة. وتنقسم كل مجموعة بدورها إلى مجموعات فرعية، مما يخلق 11 “فئة مغايرة ومنفصلة  من “الحقوق المدنية” تحت حكم النظام الإسرائيلي (لمزيد من التفاصيل، انظر، Yiftachel, 2006, 2009).

وبالمقارنة مع الوضع في جنوب أفريقيا، يمكننا الإشارة إلى ثلاثة أنواع من الأجناس “العرقية”، التي تحظر دولة إسرائيل الاختلاط بينها لجميع الأغراض العملية. تشكل المناطق اليهودية “المساحة البيضاء”، التي تشمل معظم المنطقة المحصورة من النهر إلى البحر، بما في ذلك النصف اليهودي من الضفة الغربية. هذه المساحة “سلسة” نسبياً وتسمح بحرية الحركة والاستثمار والاستحواذ في جميع أجزائها حيث يعيش اليهود في جيوب تتسم بالتراصف الطبقي والإثني، لكن حدودها قابلة للاختراق نسبياً لليهود الآخرين (باستثناء السكان الحريديين الذين يعيشون اختيارياً في مناطق منفصلة).

من ناحية أخرى، يعد الفضاء الفلسطيني “فضاءً خشنًا”، ويتكون من بقع منفصلة على هيئة جيوب معزولة؛ وينقسم إلى مجموعتين رئيسيتين: فضاء “ملون” وفضاء “أسود”. وتكون هذه الجيوب مقيدة بالقوة؛ علماً أن هذه القيود تكون غير مباشرة في إسرائيل داخل الخط الأخضر بسبب التشديد المكاني وضيق المساحة المتاحة لهم ومنع التنمية وعدم قدرة معظم المواطنين الفلسطينيين على حيازة الأراضي والاستيطان والاندماج في الفضاء اليهودي. أما في المناطق المحتلة، فتسيطر جيوب الفضاء “الأسود” المنعزل مباشرة، حيث تتم مراقبة حركة سكانه ومرورهم ويظل التخطيط والتنمية في حدوده الدنيا.

تنتشر الجيوب “الملونة”، حيث يعيش حوالي 1.2 مليون فلسطيني، على مساحة لا تتعدى 2% من الأرض التي تسيطر عليها إسرائيل (حوالي 3% من إسرائيل الفعلية)، بينما ينحشر حوالي ثلاثة ملايين فلسطيني في الجيوب “السوداء”، على مساحة تقدر بنحو 12% من المنطقة (المناطق أ/ A وب/ B). وبالمجمل؛ يعيش الفلسطينيون في حوالي 14% من الفضاء، رغم أنهم يشكلون ما يقرب من نصف سكان إسرائيل / فلسطين.

ليس هنا المقام المناسب لتفصيل الفروقات التي نشأت بين “الفئات” المختلفة من حيث الحقوق والفرص في المساحات “البيضاء”، و”الملونة” و”السوداء”. ويكفي ذكر العديد من المؤشرات التي تظهر بوضوح امتياز الفضاء اليهودي في جميع الجوانب؛ بدءً من الدخل، والتعليم، وجودة الحياة، والتنمية، ووصولاً إلى حقوق التخطيط والحماية من العنف والتدمير. (Adva Center for Social Equality, 2009; Azoulay and Ophir, 2008; Bimkom, 2008; Roy, 2007)، وسأكتفي بالتطرق لأمثلة في مجالين رئيسيين: الاقتصاد والتخطيط.

فمن الناحية الاقتصادية؛ كان متوسط دخل الفرد بين السكان اليهود في جميع أنحاء إسرائيل / فلسطين في العقد الماضي ضعف ما يكسبه المواطن الفلسطيني في إسرائيل، وما يعادل 12 ضعف دخل الفرد الفلسطيني في الأراضي المحتلة. أما من حيث التخطيط؛ فقد قامت سلطات التخطيط الإسرائيلية بين عامي 2000 و 2008، بتدمير 1626 منزلاً فلسطينياً في منطقة ج/ C (Bimkom, 2008)  ونحو نصف هذا العدد في البلدات الفلسطينية داخل إسرائيل، 604 منها في البلدات العربية في النقب وحدها (Negev Coexistence Forum, 2009). وخلال ذات المدة هدمت السلطات حوالي 70 مبنى يهودياً. علاوة على ذلك، تبرز في القطاع اليهودي، سياسة “التبييض”، حيث لم يتم هدم أكثر من 3 من 16 ألف مبنى غير مرخص في المناطق اليهودية شبه الريفية بين عامي 2000 و 2004، والباقي في طور الحصول على الموافقة والترخيص.

وبالتوازي مع ذلك، تم الاعتراف بحوالي 60 مستوطنة وتجمعاً أقيموا على التلال في الجليل وحوالي 50 “مزرعة عائلية” بنيت في النقب دون موافقة تخطيطية وبعد ذلك تم ربطها بمجموعات كاملة من البنية التحتية للتنمية والتطوير. وهذا الأمر يصح أيضاً في المناطق العربية حيث تم -بالفعل- “تبييض” مئات المنشآت والمباني المقامة دون ترخيص، ولكن إدراجها ودمجها في الخطة كان أبطأ وأكثر تعقيداً مما هو عليه الحال في المستوطنات اليهودية ودائما ما يحدث الأمر ضمن حدود مكانية قائمة بالفعل، وليس مستوطنة جديدة كما هو شائع في القطاع اليهودي (Gazit, 2000).

أخيراً، يعد تنظيم الشعب الفلسطيني في مساحات “رمادية” أحد التكتيكات الحكومية المشتركة الشائعة للحفاظ على الهرمية والامتيازات اليهودية. ويشير ذلك إلى الأماكن والعمليات الإنمائية والسكان التي تقع في نطاق محصور بين الشرعية القانونية والأمن والإدماج الكامل من جهة، والطرد والدمار والموت من جهة أخرى. ويقع معظم الفلسطينيين بين هذين القطبين، في حالة من “المؤقت الدائم”، “لم يتم الوصول إلى حل لها” منذ ستة عقود. لذلك تحول الدولة سكان تلك الفضاءات إلى أسرى وسجناء صراع يكافحون للحصول على مكاسب تضمن لهم الحقوق والحماية والقدرات التي تعتبر مسلمات في الفضاءات اليهودية “البيضاء”. ويلعب التخطيط المكاني دوراً مركزياً في بلورة وتجسيد هذه المنظومة المجتمعية المكانية، لأنها توفر الأدوات والتعريفات والمؤسسات لتصنيف المساحات والسكان باعتبارهم “رماديين”.

شكل رقم (6)  الفضاء اليهودي والجيوب الفلسطينية المنعزلة

ومن الأمثلة على ذلك عدم الاعتراف بالمستوطنات، وعدم استكمال الخطط، والحد من الحيز وتقليصه إلى حدوده الدنيا، وإصدار تصاريح هجرة وقوانين زواج مقيدة، والاستبعاد من التكامل والاندماج في مواطنة متساوية بسبب المخاوف الإثنية/ العرقية (مثل “الأمن”). وتخلق عملية الاندماج هذه من خلال الفصل تأسيساً تدريجياً وعنيفاً بشكل عام لتأسيس وجود مكاني-إثني -اجتماعي متصدع ومتعدد الطبقات (لمزيد من التفاصيل، انظر، Yiftachel, 2009).

بالطبع، هناك قوى فعالة أخرى تؤثر على الفضاء الإسرائيلي / الفلسطيني بعيداً عن سياسات التخطيط المكاني، مثل الاعتبارات الأمنية والمذاهب الدينية والأزمات المالية، بالإضافة إلى إرهاب الدولة والإرهاب الفلسطيني. ومن المهم أيضاً أن نتذكر أن الفلسطينيين ليسوا جماعة سلبية، بل يمثلون شرائح نشطة بلا كلل يعملون على إعادة صنع وتشكيل الفضاء المتنازع عليه باستخدامهم مجموعة متنوعة من التكتيكات المعارضة العنيفة والمدنية، ومن خلال تغذية الجدل غير المتكافئ الذي يؤدي إلى الفصل القسري. ومع ذلك، ليس هناك أدنى شك في أن الفضاء المهوّد، المفصول، والمجزأ والطبقي الذي تمت صياغته في مكاتب العمل وفي عقول الشارونين، لعب دوراً رئيسياً في النزاعات القومية والإثنية والطبقية المستمرة في هذا البلد.

ومن المهم أيضاً التثبت من هذه البيانات. إذ ليس كل فصل عنصري هو فصل سلبي، وفي بعض الأحيان لا يكون علامة على القمع والاضطهاد، بل استراتيجية تستخدمها مجموعات متميزة للحفاظ على هُويتها. علاوة على ذلك، لا تشهد الصورة الثابتة للفصل العنصري دائماً على أهميته. ومن أجل فهم الآثار والتداعيات السياسية والاجتماعية للجغرافيا المنفصلة، يجب دراسة وتحري ديناميكيات القوة التي تخلق هذا الفصل العنصري. على سبيل المثال، وضع الفصل المستقر -كما هو الحال- في إيرلندا الشمالية، أو بين أحياء المهاجرين الفقيرة والطبقة المتوسطة في برلين، ليس هو بحد ذاته فصلاً عنصرياً ناجماً عن توسع “الحصون” ضد الأحياء المعزولة المنفصلة -التي تشبه الغيتوات- بالقوة مثلما يحدث في الحيز الإسرائيلي / الفلسطيني (Marcuse, 1997). وما يجعل الوضع في إسرائيل / فلسطين متقلباً للغاية هو مستوى الفصل العنصري العالي بين المستوطنات والجيوب مع التوجه الأحادي للعملية. وهذا يشمل السيطرة اليهودية غير المتناسبة على موارد الأراضي والآليات التي تعيق العرب عن التقدم  واغتنام الفرص التنموية بشكل عام، ومن الفضاءات المُهوّدة بشكل خاص.

لذا، خلق تشكيل فضاء مستوحى من النماذج الشارونية أثراً عميقاً من الفصل العنصري، وعزل جيوب وأحياء الأقليات، وضبطها أمنياً، وعدم المساواة الاجتماعية، كما خلق معه نظام معقد من الحدود الهادفة إلى تعزيز مورفولوجيا المبادئ التوجيهية. وغني عن القول إن المسؤولية عن هذا النظام تتجاوز دور المهنيين المتخصصين في التخطيط، لأن الكثير من الحدود الاجتماعية تُصاغ في مجالات أخرى من المجتمع، مثل الأسواق وأماكن العمل والقوانين الضريبية والتعليم. ومع ذلك، يلعب هؤلاء المختصون دوراً مهماً في إنشاء واقع مادي قوي يخلق أطر وجود مديدة، لا يمكن الهروب منها ومن مواجهتها.

كلمة أخيرة: استنهاض الأخلاق المهنية؟

إن تشكيل الفضاء عملية لن تكتمل قط. لقد انقضى عصر الشارونين، ولكن العمليات المكانية التي أنشأتها استراتيجية مبادئهما التوجيهية انطبعت عميقاً في إسرائيل / فلسطين وستستمر في تشكيلها لأجيال. وقد مهّد القبول التام لاستراتيجية المبادئ التوجيهية، من قبل أغلبية المتخصصين في التخطيط المكاني في إسرائيل، مثل المخططين والجغرافيين والمحامين والمهندسين المعماريين، الطريق لفصل مثير للقلق بين النشاط المهني والأخلاق الاجتماعية / الأخلاقيات. وأسس أرييه شارون وأريئيل شارون، بصفتهما ممثلين للمنظومة برمتها، مقاربتهما في التخطيط بصياغة السياسات العامة “من أعلى”، مما يمثّل حالة “موضوعية” مزعومة تتجاوز القيم والأخلاق أو السياسة.

أنجز شارون الأول ذلك عن طريق استيراد وتطبيق نماذج غربية دولية لخلق فضاء قومي اشتراكي، وقام شارون الثاني بتحقيق ذلك باعتماد “الأمن” وعولمة التنمية كمحركات نهائية للتحول المكاني. وهكذا أسهمت هذه المقاربات في تكثيف استراتيجية المبادئ التوجيهية؛ ولا تزال تعمل حتى اليوم من خلال التعتيم المتعمد على أهميتها السياسية والأخلاقية المدمرة.

لا يتحدد نقاشي هنا بحجة أخلاقية فحسب؛ بل هو في أساسه حجة مهنية وسياسية بآن معاً.

لقد أسهم الفضاء الذي صاغه أرييه شارون وأريئيل شارون وبصورة كبيرة في تقويض إمكانات الرفاهية والتنمية للمجتمع الإسرائيلي.  فقد خلقت استراتيجية المبادئ التوجيهية فضاءً منفصلاً واستعمارياً وغير متساوٍ وغير قابل للحياة. وعلى الرغم من البدايات المهمة للتفكير والنقد التقدمي في السنوات الأخيرة، لا يزال جيلاً جديداً من المخططين، لا سيما العاملين في أجهزة السلطات العامة والشركات الخاصة، يواصل -بهدوء- اتباع خطى الشارونين والإسهام في عملية الفصل وعدم المساواة.

دون أي تغيير جذري في الإدراك والإصلاح التام للتخطيط الذي يشجع على المساواة والشفافية والعدالة، ليس مستبعداً الافتراض أن الأجيال المستقبلية ستواجه صراعات مستمرة حول مسألة الفضاء ذاتها.

ورغم كل ما سبق؛ فللتخطيط “جانب مشرق” أيضاً، يشمل تاريخاً طويلاً من التحول والتحسين الاجتماعي والمكاني المتقدم. ومن المؤكد إمكانية استعادة التخطيط مكانته العادلة المطلوبة وتحقيق تحسينٍ مكانيٍّ في روح مهنة وُلدت من الرغبة في خلق حيز عادل ومنظم ومتاح لكل قطاع من قطاعات المجتمع، مع الأفضلية للضعفاء والمهمشين. سيفتح مثل هذا التخطيط الأبواب والفرص لجميع السكان المقيمين وفقاً لمبادئ الديمقراطية من حيث الاحتياجات والعدالة التاريخية والإنصاف. وهذه التأملات ليست مجرد مفاهيم إيديولوجية أو أخلاقية فقط، بل هي أيضاً مبادئ سياسية تضمن  قدرة المجتمع على الانتقال من مرحلة الصراع إلى المصالحة ومن النظام الاستعماري إلى ما بعد الاستعمار. وبقدر ما يشكل التخطيط التمييزي الانفصالي وغير المتكافئ أساس النظام الإثنوقراطي، فيمكنه أيضا أن يحول “من الأسفل”  أي نظام قمعي بفتح فضاءاته والتوجه نحو مزيد من المساواة والعدالة في السكن والأرض والمشاركة.

يمكن للتحسينات أن تأتي بأشكال وأنماط مختلفة، حيث توجد نماذج متنوعة تشجع على المساواة والاعتراف واللامركزية والحكم الذاتي والتوزيع العادل. وأمام التخطيط الإسرائيلي الكثير ليتعلمه من حالات متنوعة أمثلة مثل إسبانيا وجنوب أفريقيا وكندا أو إيرلندة الشمالية، حيث تحولت العلاقات الإثنية المكانية القمعية إلى نظم تخطيط أكثر عدالة وإنصافاً، مسترشدة بالاعتراف والمساواة والاتفاق وتصحيح أخطاء وظلم الماضي. ولكن لكي يحدث ذلك، يجب أن ينتهي العمل باستراتيجية المبادئ التوجيهية وأن تتحول إلى عملية مكانية خالية من التوسع الإثني والسيطرة الاستعمارية والقمع المكاني.

ويلعب مجتمع المحترفين المكانيين الإسرائيليين دوراً خاصاً في هذا التغيير في الاتجاه. حتى مجموعة صغيرة منظمة يمكنها فتح حوار يوقظ الأغلبية النائمة بين المخططين ويوضح الآثار الناجمة عن السياسات الحالية. والمبادرات في هذا الاتجاه واضحة بالفعل، لا سيما عبر مجموعات المجتمع المدني، مثل بيمكوم و الاتحاد الإسرائيلي للدفاع القانوني عن البيئة والمركز العربي للتخطيط البديل، ومنظمة عدالة  ورابطة العدالة التوزيعية وقوس قزح الديمقراطية المزراحية. لكن لا يزال هناك طريق طويل أمام هذه المبادئ لاختراق التخطيط الرئيس وإنشاء الأراضي.

قد يكون من المناسب اختتام هذه الدراسة بكلمات الكاتبة الهندية أرونداتي روي، في تعليقها على دور الشهود المهنيين في طرد الفئات المهمشة من قراهم باسم “التخطيط”: “المشكلة هي أنه بمجرد أن تراها [حرب الدولة ضد الفئات الهامشية]، لا يمكنك تجاهلها. وبمجرد رؤيتك لها وبقاؤك هادئاً دون أن تتفوه ولو بكلمة واحدة فهذا يعد عملاً سياسياً بامتياز بذات أهمية التعبير العلني؛ لا براءة هنا… لا في الصمت ولا في التصريح العلني.. أنت المسؤول في كلتا الحالتين بطريقة أو بأخرى” (Roy, 2001:7).

….

المصدر: HAGAR Studies in Culture, Polity and Identities Vol.10 (1) 2010: 73-106

هوامش المترجم

*لا يستخدم يفتحئيل كلمة “العرق” بشكل منفرد في سياق تحليله (ونقده) للحالة الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين، ويتضح تأثير التنظيرات ذات النزعة المركزية الأوروبية على نظرته لمصطلح “العرق” بتركيزه على المقاربة الإثنية ethnicity بديلاً عن المقاربة العرقية race لاعتبار أن المعادل الدلالي للإثنية أكثر فائدة من المعادل الدلالي للعرق/ العرقية. وفي الحقيقة لا تصمد هذه المقاربة كثيراً عند تحرِّ ما قامت به إسرائيل من تأسيس تقنيات للتعامل مع الشرائح والفئات العرقية عبر تدابير وإجراءات إدارة فصل وتمييز واستبعاد، منذ أيام  “الخطة دالت” الصهيونية للعام 1948 لما أطلق عليه المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه إشكالية “تطهير فلسطين إثنياً”، وصولاً لسياسات الاحتلال المستمرة؛ علماً أن يفتحئيل يعود ويتدارك الأمر عندما يقارن التصنيف العرقي للمواطنة في فلسطين / إسرائيل بسياسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا: فاعتبر اليهود مواطنين “بيض”، والعرب في إسرائيل مواطنين “ملونين” (جزئياً)، وفلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967 يمثلون “السود”، لا يمتلكون أية حقوق سياسية.

غير أن استخدام مصطلح “الإثنية” في السياق الإسرائيلي يمثل إشكالية منهجية. ويبدو أن مصطلح إيلان بابيه “التطهير الإثني” الذي بات شائعاً الآن، والذي ظهر بالأساس للتعبير عن أحداث حرب البوسنة في تسعينيات القرن الماضي، والذي يستخدم الآن لوصف الاستيلاء الصهيوني على فلسطين، يؤسس لاعتبار اليهود والعرب الفلسطينيين مجموعات إثنية متجانسة رغم التباينات الإثنية/ العرقية الواضحة بينهم.

وينظر يفتحئيل إلى إسرائيل كدولة “إثنوقراطية ethnocracy” مفترضاً فيها التجانس الإثني أيضاً. ويغفل كلا التحليلين مقولة العرق في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي، على الرغم من إمكانية السجال بأن التصنيفات والفئات -وكلاهما جزء مركزي عند النظر في أسلوب الحكم والسيطرة الصهيونية على فلسطين- هي في ذات الوقت شرط سابق ونتيجة لنزع وتجريد الإنسان من صفته العرقية. علماً أن إسرائيل بحد ذاتها تحفل باختلافات “عرقية” داخلية ترقى إلى درجة تصنيفات “عرقية” بين اليهود أنفسهم -بين اليهود الأوروبيين الأشكناز البيض واليهود الشرقيين “المزراحيم” العرب السود وكذلك يهود الفلاشا، رغم أن الفصل العرقي العنصري بين اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين هو الذي يمكّن إسرائيل، في النهاية، من ضمان عيش المستوطنين اليهود في الأرض الفلسطينية المحتلة، وأيضاً اليهود الإسرائيليين الذين يعيشون في فلسطين المحتلة منذ العام 1948.

جدير بالذكر تخلي كثير من الباحثين الغربيين عقب الحرب العالمية الثانية، عن استخدام مصطلح “العرق” تقريباً بزعم عدم وجود تمايزات قائمة بين “العرق” و”الإثنية”، إضافة إلى ما ترتب من سوء استخدام لمفهوم “العرق” على يد النظام النازي. علماً أن التاريخ الاستعماري الأوروبي قبل الحقبة النازية (وحتى الفاشية) يحفل بالاستغلال السلبي لمفهوم العرق لتبرير الاستعباد والاستعمار والتمييز العنصري والتفوق “العرقي” لجماعة/ سلالة بشرية على أخرى، أسهم في ذلك، استخدام العرق في الأكاديميا العنصرية العلمية، لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، لتقديم مزاعم حول الفروق الجوهرية بين البشر على أساس العرق.

ويتمايز مصطلح “العرق” نموذجياً عن الإثنية لجهة التعارض بين الاختلافات الجسمانية والثقافية، ويفترض امتلاك التمايز “العرقي”، علاقة ما حيال” الاختلافات الجسدية” بين البشر (يشير العرق إلى تصنيفات تقوم على الخصائص الجسدية والجينية والبيولوجية المورفولوجية مثل لون البشرة، نوع الشعر، ملامح الوجه… إلخ؛ تحدد -افتراضاً- هُويات البشر. بينما يذهب معنى الإثنية إلى الهُوية الثقافية المشتركة لمجموعة معينة من الناس، قد تشمل اللغة والدين والتقاليد والتاريخ والعادات والموروث الثقافي المشترك… وترتبط جميعها بمنطقة جغرافية أو إقليم محدد أو بجذور تاريخية مشتركة؛ وهكذا تشكل الإثنية هُوية ثقافية دون النظر إلى السمات البيولوجية).

بيد أن هناك اتفاق عام ورفض للطرح القائل باحتواء الاختلافات “الجسدية” على أثر ثقافي ما، أو بوجود أهمية ثقافية واجتماعية في التباينات الجسدية تعطي العرق قدر ما من الأهمية. وكنتيجة لتراجع مكانة مصطلح “العرق” شعبياً وعلمياً؛ أسهم مصطلح الإثنية على جَسْر هذه الهُوّة، لذلك من الأهمية بمكان إدراك ماهية الإثنية وعما تتحدث وبذات الأهمية إدراك ما لا تقوله.

ولعل من الصواب إعادة الاعتبار -من الناحية الأكاديمية على الأقل– لمفهوم العرق بحيث يتيح لنا اقتران تصور إسرائيل كدولة استثناء، بتصورها أيضاً كدولة عرقية عنصرية، تستبعد عرقاً وتحتفي بآخر. ومن المفارقات هنا تحول الآخر، بمجرد تكوينه عرقياً، إلى تهديد يتطلب من احتوائه والسيطرة عليه. وتتحقق مهمة التجانس والاحتواء والسيطرة ليس فقط من خلال تقنيات حكومية مختلفة ومنظومات المواطنة وضوابط الحدود وتصنيفات التعداد السكاني الإحصائي، ولكن أيضاً باختراع التاريخ والتقاليد التي تبني ذاكرة الدولة والاحتفالات “القومية” والتصورات الثقافية، واستحضار أصول الماضي (في حالة إسرائيل، استحضار إسرءيل الكتابية).

ومن هنا استطاعت الصهيونية خلق دولة عرقية عنصرية بامتياز عبر تخيّل إسرائيل بوصفها “أوروبا البعيدة عن أوروبا”، علماً أن الصهيونية بحد ذاتها نشأت من بنات أفكار يهود أوروبا، ومعظمهم كانوا اشتراكيين علمانيين  قاموا، رغم إلحادهم، بحشد وتجييش الوعود الكتابية والدين اليهودي لإنشاء دولة عرقية بامتياز غايتها إنقاذ المجموعة الجينية اليهودية من الانحطاط الناتج عن العيش في الشتات. (لافتٌ للنظر هنا ألا يُعامل الفلسطينيون كما لو كانوا مجموعة عرقية، ولا كجماعة مماثلة لمجموعة عرقية، بل بوصفهم مجموعة عرقية محتقرة وشيطانية).

دفعت معاداة اليهود في أوروبا (تعرف بمعاداة السامية)  إلى “عرقنة” اليهود؛ أي بصفتهم “عرق” منفصل يمكن تبرير اضطهاده بمنطق وحجة بيولوجية؛ كسبيل لنزع الصفة الإنسانية عن معيشهم اليومي والبيولوجي. ويبدو أن البناء النظري لتقويم إسرائيل كدولة استثناء عرقية يعد أمراً منطقياً، بيد أنه ينبغي استخدامه بشكل نقدي وليس اعتباطي. إذ ثمة في معنى العرق عنصراً مركزياً لتحليل الحكم الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي للفلسطينيين. حيث يعتبر التعريف العرقي للسكان الأصليين السمة الرئيسة لمنظومة المراقبة في المناطق المستعمَرة حيث تكون هذه المناطق بمنزلة مختبر لتطوير واختبار تقنيات السيطرة المراقبة، باعتبارها من الخصائص المميزة للاستعمار والاستعمار الاستيطاني؛ وكلما كانت تقنيات المراقبة والسيطرة والتحكم (على سبيل المثال لا الحصر التعداد السكاني، وصنع الخرائط، والتنميط العرقي) ستثبت نجاحها في السيطرة على الشعب المستعمَر.

** يستخدم يفتحئيل مصطلح الغيتو بكامل حمولاته النفسية والثقافية والإيديولوجية في عملية إزاحة واضحة لتوصيف الجيوب الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحولت فعلاً ومجازاً وواقعاً إلى غيتوات حقيقية تعاني من حصار اجتماعي واقتصادي وتقييد للحريات وللحركة التنقل وإلزامية المرور عبر بوابات عسكرية نقاط تفتيش تنتشر مثل الفطر في أرجاء الضفة. وكلمة غيتو بحد ذاتها غامضة وغير معروفة المصدر، وإن كان هناك عدة فرضيات حول أصولها، لكل منها وجاهته على كل حال. ولكن المصادر التاريخية المختلفة تجمع على صلتها بيهود أوروبا، -وتحديداً- يهود مدينة البندقية في إيطاليا في القرن السادس عشر، حيث يرجح أن أصل الكلمة مشتق من الإيطالية borghetto بمعنى الحي الصغير، ويشير العام 1516 إلى السنة التي أجبر فيها اليهود على العيش في منطقة معزولة عن بقية سكان المدينة ( يقال أنهم وضعوا في منطقة قريبة من معمل سبك المعادن ghèto ومن هنا أتى اسم الحي).

ولفهم طبيعة الغيتو علينا التأمل في نظرة أوروبا المسيحية القروسطية إلى اليهود؛ وكيف أصبحت كلمة يهودي مرادفٌ للطمع المالي والجشع والربا. ونظراً لحاجة الأمراء والتجار المسيحيين الماسة للسيولة المالية بدأ ظهور اليهود كمرابين محترفين يعيشون على هامش المجتمع “المسيحي”، وهنا تظهر العلاقة المتناقضة بين كره المجتمع لليهود بحكم تمركز السيولة المالية بأيديهم وبين الحاجة لهم للاقتراض والاستدانة. وإذن ليس مفاجئاً ترويج هذه الصورة النمطية لليهودي؛ فتظهره شبحاً يتصيد الفلاحين والبسطاء بواسطة كلابه في غابات أوروبا، كما جعلوه يقطن في غابة “فونتين بلو” في فرنسا، و”الغابة السوداء” في ألمانيا، وغابة “وندسور” الإنجليزية. ويظهر، بين الحين والآخر، كشبح يسبب الموت للحيوانات والوباء والأمراض للناس الذين أطلقوا عليه أسماء متعددة مثل (يوتاديوس) بمعني قاتل الإله.

وتُوّجت شخصية اليهودي هذه في الأسطورة الإيطالية النمساوية عما يسمى بألفية الصقيع التي تطابق بين الضرر الناتج عن الصقيع واليهودي، فتحكي الأسطورة عن السبب الذي كان وراء ضمور صناعة النبيذ في المناطق الجنوبية من جبال الألب، والذي تم تفسيره بسبب الرياح الباردة التي استمرت لمدة ألف عام بسبب ظهور هذا الشبح اليهودي. فظهور اليهودي في أي مكان مثله مثل البرد القارس يقتل كل حي ولا يترك خلفه إلا الخراب والدمار. وفقاً لمبدأ “الشخصية الكريهة تترك وراءها ذكريات حية كريهة” (الشيء بالشيء يذكر، يقول الفلسطينيون في أحد أمثالهم التي ظهرت أثناء الانتداب البريطاني “البرد والإنكليز سبب كل علّة”).

وتعكس هذه الأساطير في رمزيتها، إلى جانب عشرات غيرها، كيان الجماعات اليهودية بوصفها جماعات وظيفية ” كما يصفهم عبد الوهاب المسيري”، يضاف لها التقليد الأوروبي بتحميلهم دوراً تخريبياً -من خلال الربا واحتكار السيولة النقدية- بحيث جعلت الذاكرة الشعبية لأمم القارة الأوروبية من هذه الجماعات شبحاً متوحشاً وموتاً بارداً وهي صورة يسهل توظيفها سياسياً مع كل تأويل بسيط من خلال إسقاطها على أحداث عادية وطبيعية بحد ذاتها. -وفي المقابل- حرصت الكنيسة على الترويج للدور الذي لعبه اليهود في مقتل يسوع المسيح وهو الإرث المتأصل بعمق في الوعي المسيحي، وحين يبصق أنطونيو على شايلوك في مسرحية شكسبير “تاجر البندقية” فهذا تأصيل لما ورد في إنجيل متى أنهم بصقوا على يسوع قبل أن يصلب. [27 فَأَخَذَ عَسْكَرُ الْوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الْكَتِيبَةِ،28 فَعَرَّوْهُ وَأَلْبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا،29 وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ!»30 وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا الْقَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ.31 وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ.] ( متّى : 27: 27-31).

كما أن الأساطير المعادية لليهود تطورت خلال الحروب الصليبية، فظهرت القصة التي تتحدث عن تسميم اليهود لمياه الآبار مما تسبب في تفشي وباء الطاعون بصورة متكررة، والقصص التي تتحدث عن “فرية الدم” المتمثلة في قتل اليهود للأطفال المسيحيين لصنع خبز الفطير في طقس ديني حيث يخلط الدم بعجين الفصح اليهودي “الماتزوت” ويقدم في احتفال خاص (يذكر أن هذه الفرية راجت كثيراً في ألمانيا ابتداءً من العام 1247 مما حدا بالبابا إينوسنت الرابع إلى نفيها في منشور بابوي نشر في السنة ذاتها رغم ما يعرف عنه من عدائه الشديد لليهود و للتعاليم التلمودية).

امتاز العهد الإقطاعي في أوروبا بمراكمة الثروة بيد النبلاء المنغلقين في قلاعهم وحصونهم حيث يعيشون بذخاً قلَّ مثيله، ويقيم قرب قصورهم العديد من التجار بما يشبه أسواق شبه دائمة أو موسمية ويدفعون الإتاوات لسادة القلاع مقابل حمايتهم، فبدأت تتشكل صورة وشخصية الدول “القومية” في أوروبا. ولعل البعض لم يعتد بعد فكرة “الأمة” حين صارت تعني الدولة القومية بحدودها الجمركية أو الطبيعية، وأصبحت مسائل الهوية من القضايا الخلافية الملحّة، فصارت اللغة جزء من الفخر القومي تميز أصحابها عن “الأغراب” و “الأجانب”، ولذلك كان من الضروري تحديد من هم “خارج الأمة ” وكان السبيل إلى ذلك يقضي بنفي وطرد الغرباء للحفاظ على النقاء الثقافي والقومي والديني، وتتعدد صور أولئك الغرباء وتنعكس في الأدب الأوروبي في تلك الفترة؛ مثل اليهود والمغاربة والأتراك وأصحاب البشرة السوداء الموسومين بالخطيئة.

كان لنابليون بونابرت الدور الأبرز في تحطيم جدران وبوابات الغيتو اليهودي في أوروبا؛ فإثر اجتياحه لأوروبا عمد إلى إلغاء العديد من القوانين التمييزية ضد اليهود  (أزال غيتو البندقية في العام 1797، كما أصدر في العام 1806 مرسوماً يدعو إلى اجتماع مجلس اليهود الفرنسيين “السنهدرين”  في مسعى منه إلى دمج اليهود في المجتمع الفرنسي وتأكيد حقوقهم وواجباتهم كمواطنين وبالتالي توحيد “الأمة الفرنسية” وإزالة الانقسامات الدينية والاجتماعية وتعزيز الولاء للدولة الفرنسية كوحدة سياسية جامعة للمقيمين على أرضها، فضلاً عن إمكانية الاستفادة الاقتصادية من ثروة اليهود ونشاطهم التجاري والمالي وشبكة علاقاتهم الواسعة في أوروبا  لدعمه وتمويل حروبه وحملاته العسكرية

…..

ملاحظات الكاتب

1 مقابلة شخصية، في إشارة إلى قضية تعرف باسم “فاتنة أبريك زبيدات وآخرين ضد سلطة الأراضي الإسرائيلية،” المحكمة العليا  80361/07.

2 . كان عطية واحد من  بين 124 شاهداً في اللجنة الخاصة التي عينتها الحكومة الإسرائيلية لـ “فحص وتوصية التنظيم المستقبلي لمستوطنة البدو في النقب” (Goldberg, 2008:1).

3 انظر، على سبيل المثال، هذه السلسلة من الدراسات التجريبية المستفيضة للتخطيط الإسرائيلي: Alfasi, 2006; Alterman, 2002; Carmon, 1998; E. Efrat, 1998; Z. Efrat, 2005; Gradus, 2003; Hasson, 1991, 2002; Hershkowitz, 2008; Kellerman, 1997; Tzfadia, 2009a; Shachar, 1998, 2000; Weizman, 2007; Yacobi, 2009; Yiftachel, 2006.

4 للاطلاع على التعاريف التفصيلية، انظر، Dictionary of Human Geography (2009)، Abercrombie et al. (2000)

5 تنص الفقرة 14 “أراضي الدولة” من الدستور المقترح على ما يلي:

(أ) تبقى أرض الدولة في حوزتها.

(ب) يتم الاستيلاء على الأراضي من قبل الدولة وفقاً للقانون.

(ج) لا يجوز نزع ملكية الأراضي إلا وفقاً للقانون، مع التعويض المناسب.

(د) ستفتح الدولة موارد أراضيها لمصلح جميع سكانها. وسيحترم توزيع الأراضي أسلوب حياة المجتمعات المتميزة. انظر http://www.huka.gov.il/wiki/index.php.

6 تم التوصل إلى هذا الرقم عن طريق حساب المناطق الخاضعة للسيطرة العربية على جانبي الخط الأخضر: المنطقتان أ / A وب/ B  في الأراضي المحتلة، ومنطقة البلديات العربية المحلية داخل إسرائيل. والمناطق التي يمنع فيها عرب إسرائيل من الإقامة هي المجالس الإقليمية، حيث تستخدم معظم المستوطنات لجان الفرز. حتى حكم قعدان، الذي قضت فيه المحكمة العليا بأن استبعاده كعربي من  “مجتمع محلي” غير قانوني، لم يغير الوضع بشكل كبير، بسبب زيادة سلطة لجان الفرز، كما لوحظ سابقاً.

7 بطبيعة الحال كلا النوعين غير قانوني بموجب القانون الدولي.

8 على سبيل المثال ، تعد نحال مستوطنة عسكرية تحولت إلى مجمع “حضري” لاحقاً وتُدرج في الخطط الإقليمية؛ يعين الجيش موظفين في “دفاع مدني” في المناطق الحدودية من بين المستوطنين؛ ولدى وزارة الدفاع هيئات تنسيق دائمة مع قادة المستوطنات ومجالس المناطق الإقليمية في مناطق الحدود والمستوطنين اليهود الجدد في مزارع النقب.  انظر، HAGAR Studies in Culture, Polity and Identities Vol.10 (1) 2010: 73-106

….

مصادر البحث

Abercrombie, N., Hill, S., and Turner, B. S. (2000). The Penguin Dictionary of Sociology (4th ed.). London: Penguin Books.

Adva Center for Social Equality. (2009). ―Israel: Social profile. ‖ http://www.adva.org

Alfasi, N. (2006). ―Planning policy? Between long-term planning and zoning amendments in the Israeli planning system. ‖ Environment and Planning A 38,3:553–568.

Alterman, R. (2002). Planning in the Face of Crisis: Land, Housing and Mass Immigration in Israel. London: Routledge.

Alterman, R., and Han, I. (2004). Protection of Open Spaces: What Can We Learn From Other Countries and Implement in Israel? Haifa: Shmuel Neeman Center, Technion (Hebrew).

Azoulay, A., and Ophir, A. (2008). This Regime Which is Not One: Occupation and Democracy from the Jordan to the Sea. Tel Aviv: Resling (Hebrew).

Bimkom. (2008). The Forbidden Zone: Israeli Planning Policy in the Palestinian Villages in Area C. Jerusalem: Bimkom. See also http://www.bimkom.org/publications.asp

Blank, Y. (2006). ―Community, space, subject: Theses of space and law. ‖ Haifa Law Review 2:19–61 (Hebrew).

Blomley, N. (2003). ―Law, property and the geography of violence: The frontier, the survey and the grid. ‖ Annals of the American Association of Geographers 93:121–141.

Carmon, N. (1998). Housing in Israel: The First Fifty Years. Haifa: Center for Urban and Regional Studies (Hebrew).

Efrat, E. (1998). Cities and Urbanization in Israel. Jerusalem: Carmel (Hebrew).

———. (2002). Geography of Occupation: Judea, Samaria, and the Gaza Strip. Jerusalem: Carmel (Hebrew).

Efrat, Z. (2005). ―The plan.‖ In Z. Efrat (Ed.), Border Disorder (pp. 111–132). Jerusalem: Bezalel (Hebrew). See also English version: http://apjp.org/archives/2006/7/16/the-plan-zvi-efrat.html

Fenster, T. (2002). ―Planning as control: Cultural and gendered manipulation and misuse of knowledge. ‖ Hagar–International Social Science Review 3,1:67–86.

Fischbach, M. (2003). Records of Dispossession. New York: Columbia University Press.

Flyvbjerg, B. (2000). ―Bringing power to planning research: One researcher‘s story. ‖ Paper presented at the Planning Research 2000 conference, London School of Economics and Political Science, March.

Gazit, S. (chair). (2000). Report of the Inter-Ministerial Committee for Examining Illegal Construction in Israel. Jerusalem: Government Printers (Hebrew).

Goldberg, E. (chair). (2008). Report of the Special Committee for the Regulation of Bedouin Settlement. Jerusalem: Ministry of Housing, Government Printers (Hebrew).

Gordon, N. (2008). Israel’s Occupation. Los Angeles: UC Press.

Gradus, Y. (1993). ―Beer Sheva: Capital of the Negev desert. ‖ In Y. Golani, S. Eldor and M. Garon (Eds.), Planning and Housing in Israel in the Wake of Rapid Changes (pp. 251–265). Jerusalem: Ministry of the Interior.

Gramsci, A. (1971). Selections from the Prison Notebooks. New York: International Publishers.

———. (2004). On Hegemony: Selections from the ―Prison Notebooks. ‖ Tel Aviv: Resling (Hebrew).

Hanafi, S. (2009). ―Spaciocide. ‖ Teoria Uvikoret [Theory and Critique] 27:190–221 (Hebrew with English abstract).

Handel, A. (2007). ―Control of space by means of space: Uncertainty as a control technology. ‖ Teoria Uvikoret (Theory and Criticism) 31:101–126 (Hebrew).

Hasson, S. (1991). ―From frontier to periphery. ‖ Eretz Yisrael 22:85–94 (Hebrew).

———. (2002). ―Without directed land regulation, Israel is likely to become a polarized product of suburbs, ghettos, and slums.‖ Karka 55:74–78 (Hebrew).

Hasson, S., and Abu-Asbeh, K. (Eds.). (2004). Jews and Arabs Facing a New Reality. Jerusalem: Floresheimer Institute for Policy Studies (Hebrew).

Hershkowitz, A. (2008). Spatial Planning in Israel: Politics Anchored in Earth. Haifa: Center for Urban and Regional Studies, Technion (Hebrew).

Huxley, M. (1994). ―Planning as a framework of power: Utilitarian reform, enlightenment logic and the control. ‖ In S. Ferber, C. Healy and C. McAuliffe (Eds.), Beasts in Suburbia: Reinterpreting Culture in Australian Suburbs (pp. 148–169). Melbourne: Melbourne University Press.

Kellerman, A. (1997). Society and Settlement: Jewish Land of Israel in the Twentieth Century. The Hague: Kluwers Academic.

Kedar, S. (2003). ―On the legal geography of ethnocratic settler states: Notes towards a research agenda. ‖ In J. Holder and C. Harrison (Eds.), Law and Geography: Current Legal Issues (pp. 401–442). Oxford: Oxford University Press.

Kedar, S., & Yiftachel, O. (2006). ―Land regime and social relations in Israel. ‖ In H. de Soto and F. Cheneval (Eds.), Realizing Property Rights: Swiss Human Rights Book (pp. 129–146). Zurich: Ruffer & Rub.

Khamaissi, R. (2003). ―Mechanisms of land control and Judaization of space in Israel. ‖ In M. Al-Hag and U. Ben Eliezer (Eds.), In the Name of Security (pp. 421–448). Haifa: University of Haifa Press (Hebrew).

King, A. (2002). ―Urbanism, colonialism and the world-economy. ‖ In G. Bridge and S. Watson (Eds.), Blackwell City Reader (pp. 524–541). Oxford: Blackwell.

Lefebvre, H. (2009). State, Space, World: Selected Essays (Eds.: N. Brenner and S. Elden). London: University of Minnesota Press.

Lustick, I. (1996). ―Hegemonic beliefs and territorial rights. ‖ International Journal of Intercultural Relations 20,3–4:478–492.

Marcuse, P. (1997). ―The ghetto of exclusion and the fortified enclave: New patterns in the United States. ‖ American Behavioral Scientist 41,3:311–326.

Masalha, N. (2000). Imperial Israel and the Palestinians: the Politics of Expansion. London: Pluto.

Mazor, A. (1997). ―Introduction. ‖ In A. Mazor (Ed.), Israel 2020: Master Plan for Israel of the 2000s. Haifa: Faculty of Architecture and Town Planning, Technion (Hebrew).

Negev Coexistence Forum. (2009). ―Fact database, ‖ http://www.dukium.org

Njoh, A. J. (2002). ―Development implications of colonial land and human settlement schemes in Cameroon. ‖ Habitat International 26:399–415.

———. (2007). Planning Power: Town Planning and Social Control in Colonial Africa. London: UCL Press.

Oren, A., and Regev, R. (2008). A Land in Khaki: Geographic Dimension of Defense in Israel. Jerusalem: Carmel (Hebrew).

Perera, N. (1998). Society and Space: Colonialism, Nationalism and Postcolonial Identity in Sri Lanka. Boulder: Westview Press.

———. (2002). ―Indigenizing the colonial city: Late 19th-century Colombo and its landscape.‖ Urban Studies 39,9:1703–1721.

Qumsiyeh, M. (2008). ―The next sixty years for Palestine. ‖ Israel-Palestine Journal 15,1–2:181–188.

Roy, A. (2001). Power Politics. New Delhi: South End Press.

Roy, S. (2007). Failing Peace: Gaza and the Israeli-Palestinian Conflict. London: Pluto.

Shachar, A. (1998). ―Reshaping the map of Israel: A new national planning doctrine. ‖ Annals of American Political and Social Sciences 555,1:209–218.

———. (2000). ―The state of four metropolises.‖ Pnim: A Journal of Culture, Society and Education 13:3–11 (Hebrew).

Sharon, A. (1951). ―Fundamentals of physical planning in Israel. ‖ In Physical Planning in Israel (pp. 5–11). Jerusalem: Government Press (Hebrew).

Shenhav, Y. (2003). ―Introduction. ‖ In Y. Shenhav (Ed.), Space, Land, Home (pp. 5–19). Jerusalem: Van Leer Institute (Hebrew).

Thomas, J. (2008). ―The role of minority planning in the search for the just city. ‖ Planning Theory 7:227–247.

Tzfadia, E. (2009a). ―Militarism and space in Israel. ‖ Israeli Sociology 10:337–361 (Hebrew, with English abstract).

———. (2009b). ―Settlement in Israel: A view of militarism. ‖ In A. Oren (Ed.), Defense Space: A New Look at the Use of Land Resources for Defense and the Military in Israel (pp. 45–59). Jerusalem: Van Leer Institute (Hebrew).

Tzfadia, E., and Yiftachel, O. (2004). ―State, space and capital: Immigrants and socio-spatial stratification. ‖ In D. Filc and U. Ram (Eds.), The Rule of Capital: Israeli Society in a Global Era (pp. 197–222). Jerusalem: Van Leer Institute (Hebrew).

Watson, V. (2006). ―Deep difference: Diversity, planning and ethnics. ‖ Planning Theory 5,1:31–50.

Weizman, E. (2006). ―The architecture of Ariel Sharon. ‖ Third Text 20,3–4:337–353.

———. (2007). Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation. London: Verso.

Wilson, E. (1991). The Sphinx in the City: Urban Life, the Control of Disorder, and Women. Berkeley: University of California Press.

Yacobi, H. (2009). The Arab-Jewish City: Spatio-Politics in a Mixed Community. London: Routledge.

Yiftachel, O. (1998). ―Planning and social control: Exploring the dark side. ‖ Journal of Planning Literature 12:395–406.

———. (2006). –Ethnocracy: Land, Politics and Identities in Israel/Palestine. Pennsylvania: Penn Press.

———. (2009). ―Creeping apartheid in Israel/Palestine. ‖ Middle East Report 253:7–37.

Yiftachel, O., and Tzfadia, E. (2008). ―Frontiphery: The development towns and Mizrahi space. ‖ Block: Architecture/City/Media/Theory 6:22–30 (Hebrew).

Ziv, N., and Shamir R. (2003). ―Build your home: Big and small politics in the struggle against land discrimination. ‖ In Y. Shenhav (Ed.), Space, Land, Home (pp. 84–112). Jerusalem: Van Leer Institute (Hebrew).

عن محمود الصباغ

كاتب ومترجم من فلسطين

شاهد أيضاً

العدوان على غزة: أجندة إسرائيل السياسية والأمنية

في صباح السابع من تشرين الأول 2023 شنت حركة حماس هجوماً مسلحاً على مواقع وبلدات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *