لا أعتقد أن زياد رحباني استمد حب الناس له لأنه ابن عاصي وفيروز، وبالتالي ابن المدرسة الرحبانية التي ساهمت في تفتح وعينا وصنع طريقتنا في الحياة – نحن الأجيال التي عايشت الزمن الرحباني إذا جاز القول-.
لا، وليس لأنه يعيدنا إلى تلك الأجواء الغنائية / الرومانسية التي انجدلت بها أحلام يقظتنا وحالاتنا العاطفية بكل أطيافها وتهويمات حبنا. وأيضا ليس لأنه يجيد صوغ التأملات الكبرى لشعراء كبار في قالب موسيقي فخم كمثل الموسيقى التي وضعها الرحابنة لقصيدة جبران ‘‘المحبة‘‘، أو القصيدة الوطنية / الإنسانية ‘‘زهرة المدائن‘‘. بل لأنه استطاع وبكفاءة عالية أن ينسلّ من هذا الإرث الضخم ويشق لنفسه طريقا مفارقة تماماً بالموسيقى وبالشعر سواء بسواء، لم يكن من السهل تقبله والانحياز إليه في أول الأمر، لكنه ثابر ووصل.
وحين غنّت فيروز في ‘‘البيال‘‘ ألبوم زياد الجديد ‘‘إي في أمل‘‘، وحين تغني فيروز من ‘‘شعر‘‘ زياد وألحانه لا تسافر أبداً إلى النجوم، بل تنبثق من الأرض.. تبحث.. تتجول أفقيا .. تنظر بعمق إلى مشاهد حياة تلتقط منها ‘‘التجربة‘‘ وحالاتها الانفعالية بواقعيتها من دون أدنى زخرفة أو تزويق أو تلبيس، فلغة زياد لا تغرف من بحر ولا تنحت في صخر، ومعجمه اللغوي هو لغة الناس المحكية المتداولة في مسامعنا فلا مجاز ولا خيال مجنح، هي لغة حركية، مفعمة بالأفعال لتصوير الحدث الخارجي أو الحكاية وارتداداتها الداخلية التي تتحول أحيانا إلى مونولوج ، وهي – في معظم الأحيان- حكاية أنثوية في نظرتها إلى الحياة بصورة عامة وفي سيولتها في الشارع والبيت والحانة والبوسطة، في العلاقات السريعة بين البشر، وحتى العلاقة بين المرأة والرجل فهي أيضا ‘‘رؤية أنثوية‘‘ في الزوايا التي يتناول من خلالها تلك العلاقة.
ونذكر على سبيل المثال: عايشة وحدا بلاك / وبلا حبك ياولد، هذه الطريقة في تناول العلاقة بين المرأة والرجل في ذبذباتها الشعورية وتموجاتها العاطفية وهي تعيش الحياة نجدها بقوة في ألبوم ‘‘إي في أمل‘‘، اسمع الأغنيات التالية: قال قايل، قصة زغيرة كثير، كبيرة المزحة هاي، في كل واحدة منها حكاية امرأة تفقد شيئاً ما، شيئا كان يشكل بؤرة حياتها وها هو الآن ينفصل عنها ويرحل بعيدا مخلفاً نكهة مختلفة وإيقاعاً جديداً تحاول التعايش معه، ما من وجود لمآسٍ تستدر الشفقة والدموع، أو تستدعي خصومة أزلية تصاحبها عقد نفسية. إنها تسرد حكايتها ببساطة وسيولة النثر.
ما يريد إيصاله هذا السرد المغنى ليس إلا حكايات تنثرها الحياة العادية لأشخاص جد عاديين وهامشيين، طيبين وخبثاء، عاطفيين وقساة، كاذبين وصادقين وهنا -تحديداً- مصدر الدهشة، ها هي امرأة تقول: إي في أمل / أوقات بيطلع من ملل / وأوقات بيرجع من شي حنين / لحظات تايخفف زعل‘‘. ومع الموسيقى الهادئة مع آلة البيانو وبمصاحبة ‘‘الساكسافون‘‘ تتابع المرأة حكايتها وهي تنظر إلى ‘‘الزهر للي متلّي الحقول، والقمح للي بيطلع بسهول، ورغم السنونو والشبابيك‘‘ إنها تقول له بلغة عاطفية لكنها محايدة وعادلة إذا جاز التعبير ‘‘في قدامي مكاتيب من سنين / زهقت ورد ومنتور وياسمين / حبيبي حبيبي / ما عاد يلمسني الحنين / في ماضي منيح بس مضى / صفّى بالريح بالفضى / وبيضل تذكار عن مشهد صار / في خبز في ملح في رضا / ويومية ليل وبعدو نهار / عمري قدّامي عم ينقضى / شوف القمح للي بيطلع بحقول / شوف المي للي بتنزل عاطول/ حبيبي إحساسي / هلقد معقول يزول/ ‘‘.
تنهي فيروز الجميلة أغنيتها الرائعة ‘‘إي في أمل‘‘ هذه ‘‘الحكاية العادية‘‘ ‘‘لامرأة عادية‘‘ برجاء يستنهض ‘‘الحب والمودة والمعزة‘‘ التي تختزنها مفردة ‘‘كرمالي‘‘ أن ينصفها حين يتحدث عنها للناس ‘‘شو بتخبّر أصحاب وزوار / عني إني محدودة وبغار / بس حبيبي كرمالي / بيناتنا منعرف شو صار‘‘ ، يصوغ زياد لوحاته ضمن قالبه الموسيقي الذي يجمع اللحن الشعبي الصرف كما في ‘‘ما شاورت حالي‘‘ ، أو ‘‘اللايت جاز‘‘ كما في ‘‘كل هالحكي‘‘، وعن أغنية ‘‘الأرض لكم‘‘ وهي القصيدة الوحيدة في الألبوم من شعر ‘‘جبران خليل جبران‘‘. فالكلام يذوب في اللحن وتصبح الأغنية ‘‘نشيداً إنسانياً‘‘ عن الحرية والمحبة والسلام ‘‘ الأرض لنا وأنت أخي / لماذا إذن تخاصمني / الأرض لكم وأنت أخي / لماذا إذن تخاصمني/ لماذا لماذا/ أنا لا أسمع وأنت لا ترى / وبنا حنين ليدرك أحدنا الآخر / فهذي يدي / هات يدك ‘‘.
ألبوم زياد ‘‘إي في أمل‘‘ يد تمتد بحنان لتلمس ‘‘جروح الحياة التي اندملت‘‘ والتي قد ‘‘تطلع من ملل أو ترجع من شي حنين ‘‘ لكنها أبدا لا تكون سببا في تعكير صفو الطيبة الكامنة والتسامح الممكن .. كم هو جميل ورائع أن نضبط إيقاع مشاعرنا وأحاسيسنا على إيقاع ألحان زياد التي بدورها تضبط وجهة الروح وحركة الجسد في ‘‘نثر الحياة المتقطع‘‘.