كان التدريب العسكري مادة في التعليم الجامعي، وهي “مادة مرسبه” أي أنه لا مجال للتخرج من الجامعة دون إتمام هذا المعسكر أو الالتحاق بالخدمة العسكرية، وكان التدريب العسكري الجامعي يخضع لإدارة تسمى “إدارة التدريب الجامعي” والتي كان مقرها في مدينة دمشق حي كفر سوسة، و تشترك بحائط مع كلية الآداب، وبحائط آخر مع فرع المنطقة.
وتم تخصيص معسكرين لجامعة دمشق، وهي صحراء الضمير حيث مطار الضمير العسكري، ومعسكر الديماس أو معسكر ال “خمس نجوم”. إذا أنه حتى في هذه المعسكرات عمدت القيادة الحكيمة على زرع بذور الفتنة والطبقية ما بين الجامعات، فقد كنا نحن طلاب الكليات والمعاهد والمعاهد العليا والتي لا يتجاوز عدد سنين الدراسة فيها الأربع سنوات يتم إرسالنا إلى صحراء ضمير، بينما تم تخصيص الديماس لطلاب الطب بكل أنواعه والهندسة بكل أطيافها (فيما عدا الهندسة المعمارية وهندسة الزراعة جناحي المشاة والمدفعية).
أيام هذا المعسكر تمتد على امتداد العام الدراسي حيث كان يطلق عليه “التدريب الشتوي” وهو يوم واحد في الأسبوع على ما أذكر، حيث كان على الطالب الجامعي أن يرتدي بزته شبه العسكرية ذات اللون البيج الفاتح الذي يميل إلى الصفرة الرملية الصحراوية، كي يتم تمييزه عن “العسكري” المقاتل. كانت “حصة” التدريب العسكري كل يوم سبت قبل أن تتحول عطلة نهاية الأسبوع في سوريا إلى يومي الجمعة والسبت. فيما بعد، تم إلغاء التدريب الشتوي والاحتفاظ بالتدريب الصيفي، طرأ هذا التغيير عندما تسلم بشار الأسد رئاسة الجمهورية في إطار سياسة التطوير والتحديث عن طريق الأتمتة ونشر المعلوماتية.
لم نكن بطبيعة الحال نخضع لأي تدريب عسكري في العشرة أو الأحد عشر يوماً من عمر هذا المعسكر. الجري صباحاً خلف ضابط غير قادر على الجري هو النشاط الجسدي الوحيد الذي اعتدنا أن نمارسه، يتلو ذلك نشرة الأخبار التي يلقيها أحد الطلاب في إذاعة المعسكر، والتي تتحدث عن الاستنفار الإسرائيلي على الحدود السورية. وهنا أقتبس ما كان يقال حرفياً: “العدو الصهيوني يرفع مستوى جاهزيته، لدى حصوله على معلومات تفيد بتحشيد الجيش السوري لقواته” ثم يلي ذلك أخبار المقاومة، تليها أغاني فيروز وأولها “خبطة قدمكن”.
كان يتم تقسيم الطلاب إلى فرق وصفوف و مجموعات، بحيث لا يتجاوز عدد أفراد المجموعة الواحدة الثمانية، لكل مجموعة قائد. في كل يوم يتم اختيار مجموعة لتقوم بدور “السخرة” وهي المجموعة التي تركب الشاحنة العسكرية أو “التاترا” والتي كان ركوبها بحد ذاته مغامرة، حيث أن أطراف الشاحنة مخلخلة ولا يمكن الاتكاء إليها، فقد كان خطر السقوط بينما العسكري/ السائق “يشبح” بها أمراً وارداً وشديد الحدوث.
طعام الإفطار هو حمص وفول أو حلاوة ومربى، أما الغذاء فهو برغل وحمص أو رز مطبوخ في وعاء ضخم تم التعارف على ذكره بـ”القصعة”. أما الشاي فكان يتم غليه في قصعة أخرى، أو لربما هي نفس القصعة التي تستخدم للطبيخ. ومرة واحدة وكحد أقصى مرتين، كنا نتناول الدجاج المشوي، وقد درجت نكتة بين الطلاب حول حجم “الفروج” بأن الفروج قد خضع لدورة صاعقة قبل أن يتم طهيه، أو أن الفروج قد أتى من دمشق إلى الضمير “هرولة” كدلالة على صغر حجمه لذلك كنا نشير إلى تلك الوجبة بوليمة صيصان.
بالطبع، هناك دروس مثل التكتيك العسكري، والتي كان يؤكد فيها الضابط المدرس على أن التكتيك في المعركة هو الصمود، وبأن النظرية تنص بحسب قوله: “ضلك بمكانك وأركض ورا العدو، ومن ثم العدو بيهرب، ومن ثم إنت بتركض وراه” ويتابع سائلاً:
- يا ابني ليش بيهرب العدو؟
يعم الصمت، ثم يجيب على سؤاله قائلاً:
- لأنه عدو يا ابني
هذا اقتباس حرفي وليس نكتة أو سخرية، وقد حدث هذا خلال عرض تقديمي للضابط لدرس تكتيك عسكري أمام وفد من وزارة الدفاع. إذ كانت تزورنا بالطبع القيادات العسكرية والحزبية، كالعماد علي أصلان أو “الرفيق” سعيد بخيتان، وفي كل عام كان الخطباء عسكريين كانوا أو حزبيين مدنيين، يصرون ويؤكدون على أهميتنا -نحن الطلاب- التاريخية في زلزلة عرش إسرائيل، وأقتبس هنا أيضاً وللمرة الثانية ما قيل:
“أبنائي، إن إسرائيل ترتجف الآن بسببكم، إن زيكم العسكري قد أثار رعب طائرات الاستطلاع الصهيونية. قبيل انطلاقي إليكم من مقر الحزب في دمشق ، تداولت وسائل إعلام العدو أن دمشق تعلن النفير العام، وأن قوات استطلاع العدو قد رصدت آلافاً من الجنود بالزي العسكري يتجهون إلى مدينة ضمير”
في أحد الاحتفالات، وبينما كان أحد “الرفاق” يلقي خطاباً، وبعد أن نوه إلى أننا في معسكر الضمير أصبنا العدو الإسرائيلي بالارتباك، ضحك أحد أصدقائي بصوت سمعه الضابط الذي كان يقف خلفه تماماً وكان برتبة مقدم. هجم المقدم و أمسك بقبة قميص صديقي، وجره على الأرض، ثم بدأ يضربه بوحشية لم أرها من قبل، واجتمع الضباط في محاولة لتخليص صديقي، وعم الصمت المكان، إلى درجة أن الرفيق الذي كان يلقي خطبته توقف عن الكلام، وترجل عن المنصة.
تم استدعائي من قبل قيادة المعسكر التي كان يرأسها ضابط برتبة عميد، حيث أن أحد الضباط أخبره بأن والدي زميل قديم وأن الطالب المضروب هو أحد أصدقائي. وقد طلبوا مني أن أقنع صديقي بالتصالح مع الضابط وإلا فإن لجنة تحقيق وتأديب ستكون بانتظاره.
لم يرض صديقنا “الصلحة” فتم التحقيق معه ومع الضابط، وكانت النتيجة أن فصل الضابط من المعسكر، وتمت إعادته إلى قطعته العسكرية. وعلمنا لاحقاً أنه ضابط قد فرز مؤقتاً من الفرقة الرابعة إلى التدريب الجامعي بسبب النقص في عدد ضباط إدارة التدريب الجامعي.
أصابت ضباط المعسكر خيبة كبيرة نتيجة هذا الإجراء، فقد رآه بعض الضباط على أنه إهانة للرتبة العسكرية، وتقويض لمكانتها. لدرجة أن أحد الضباط وهو ينحدر من محافظة درعا، قضى على زجاجة عرق الريان وحده دون شريك، وسكر سكراً شديداً، فنادى على مجند مسكين، وربطه بسلاسل حديدية ربطها بمقبض باب المستودع الحديدي الضخم، وبدأ بضربه ورش الماء البارد عليه، وكانت الساعة حينها قد جاوزت الثانية عشر بعد منتصف الليل.
خرجت مع بعض الأصدقاء وتوجهنا إلى قائد الفرقة (أذكر كانت الفرقة الثالثة) وأخبرنا الضابط المناوب بأن زميله الضابط الآخر قد “سكر” وأنه على وشك أن يقتل المجند الفقير. وكان الضابط المناوب على أهبة الاستعداد للمغادرة لتهريب طلاب من المعسكر إلى منازلهم، إذ كان ثمن “التفييش” حينها خمسمائة ليرة سورية في كل ليلة، ويقوم الضابط نفسه بإعادتك في الصباح إلى المعسكر.
على كل، جاء الضابط المناوب، وحاول أن يهدئ من روع زميله، إلا أنه ما كان من زميله إلا أن بدأ بشتم البلاد وربها وقيادتها، ومما قاله حينها: “هذه البلاد حررها وحكمها العسكر، ولا يمكن أن يحكمها طبيب عيون”
كان هذا آخر يوم قمت به أنا وأصدقائي في جامعة دمشق، كلية الآداب قسم علم الاجتماع بزلزلة كيان إسرائيل، و آخر يوم رأيت فيه ذلك الضابط السكير الذي رفض أن يحكمه طبيب العيون.