تتفاعل هذه الأيام في أروقة السياسيين وفي وسائل الإعلام قضية منظومة الرادارات الإسرائيلية التي كشفت القناة 12 التلفزيونية الإسرائيلية، في 9 يونيو/ حزيران الماضي، أن الإسرائيليين نصبوها في دولة الإمارات والبحرين لمواجهة التهديدات الإيرانية لهذه الدول كما قالت القناة. وتكمن في هذه الواقعة الحقيقة عن مدى عجز العرب عن ضمان أمنهم الإقليمي، على الرغم من صفقات الأسلحة الضخمة التي يعقدونها بشكل متواصل مع الدول الغربية، والتي تزداد ضخامة كلما زادت إيران من قدراتها العسكرية.
فكلما ازدادت إيران قوةً، كلما شعر العرب بعجزهم وبحثوا عن طرقٍ يعتقدون أنها ستخلصهم من هذا العجز. لكنهم، وبدلاً من أن يبحثوا عن سبل بناء دولة مؤسسات قوية وحديثة تخصلهم منه، تراهم يستجيرون بالآخرين من أجل تطمينهم، وربما زيادة قوتهم التي عادة ما لا تكون مؤثرة وفاعلة، ولا تقلل من عجزهم. من هذا المنطلق سارع بعض المسؤولين العرب إلى لقاء الإسرائيليين في شرم الشيخ، في مارس/ آذار الماضي، وبعدها بأيام في النقب الفلسطينية المحتلة، بعدما بات الاتفاق النووي بين إيران والمجموعة الدولية قاب قوسين أو أدنى من الانجاز. وتحمل الاستجارة بدولة الاحتلال الإسرائيلي التي لم تتخلَّ يوماً عن عدوانيتها، دلالة على أن عجز العرب بات مضاعفاً، لكننا لا ندرك الدرجة التي وصل إليها، إلا حين نعلم أنهم يريدون منها أن تتوسط لهم لدى حليفهم التاريخي، أميركا.
ولا يقلق العرب من قرب التوصل إلى الاتفاق النووي وحده، ولا خطورة تحوُّل إيران إلى قوة نووية فحسب، بل يقلقون كذلك، مما يمكن أن يترتب عليه ويتبعه من اتفاقات أخرى، ليس أقلها إزالة الحرس الثوري الإيراني من القائمة الأميركية للمنظمات الإرهابية الأجنبية، والذي تطالب إيران به بإلحاح، في سياق المفاوضات التي تخوضها مع المجموعة الدولية. ويكمن خلف اللجوء إلى الإسرائيليين، بسبب هذا الملف، شعورٌ مفرطٌ باليأس وليس بالعجز وحده؛ إذ يعرفون مدى انعكاس تقوية موقف إيران الدولي على نشاط الفصائل التي تدعمها، وخصوصاً أذرعها في اليمن والعراق وسورية ولبنان. لذلك يرون أن تهديد استقرار دولهم الداخلي، والاستقرار الإقليمي، سيزداد حدة، وسيرون فيه تهديداً وجودياً لكياناتهم، خصوصاً في طور ابتعادهم عن واشطن، أو ربما نأيهم عنها، بسبب تقرُّبها من إيران. وقد زادت إيران في الفترة الأخيرة من العوامل التي تساهم في استفحال هذا القلق والشعور بالتهديد، حين استهدف الحوثيون أبو ظبي أثناء زيارة الرئيس الإسرائيلي لها، أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي. وكذلك استهدافهم مواقع آرامكو السعودية قرب جدة ومنشآت حيوية أخرى في الرياض، في مارس/ آذار الماضي. كما لم يمنع خَوض إيران مفاوضات الملف النووي مع الأميركيين من استهدافها مدينة أربيل بصواريخ بعيدة المدى، سقطت قرب القنصلية الأميركية، أواسط مارس/ آذار الماضي أيضاً، وهو يعد إشارة إلى شعور إيران بفائض قوةٍ وجرأة لم تلاقِ من يحدّ منهما.
وقد كان التسابق لعقد قمم ولقاءات عربية محمومة مع الإسرائيليين، لافتاً وسط هاجس النووي المخيم فكانت أولها قمة شرم الشيخ التي جمعت الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، وولي عهد أبو ظبي، محمد بن زايد، في 22 مارس/ آذار الماضي. وتبعها بعد أيام، في 28 من الشهر نفسه، لقاء جمع وزير خارجية العدو الإسرائيلي مع وزراء خارجية مصر والمغرب والإمارات والبحرين، في النقب، برعاية وزير الخارجية الأميركي. وعلى الرغم من عدم خروج اللقاءين بإعلان واضحٍ حول الهدف من وراء عقدهما، إلا أن الترجيحات، وحديث بعض المصادر، أفادت إنها تتمحور بمجملها حول كيفية المواجهة المشتركة للأخطار الإيرانية المتصاعدة، والتي تنتظر الاتفاق النووي ليعززها. ثم كانت الجملة التي ذكرتها التقارير وتوافقت عليها، وهي أن المجتمعين اتفقوا على “تشكيل تحالف مشترك لمواجهة التحديات في المنطقة”، وهو ما يؤكد على المساعي الجارية لإعادة إحياء الفكرة الأميركية التي ظهرت قبل سنوات لتشكيل تحالفٍ، أو “ناتو” عربي إسرائيلي، على غرار الناتو بين أوروبا وأميركا. ويبدو أن الظروف المحيطة، وحمى التطبيع مع الإسرائيليين أنضجت هذه الفكرة، وباتت خشبة خلاص العرب العاجزين من قلقهم وعجزهم تجاه إيران والتحديات التي يفرضها إمساكها بخيوط الإقليم المحيط بهم.
على الرغم من عدم الإعلان الصريح عن نية إقامة تحالف بين هذه الدول العربية والكيان الإسرائيلي، إلا أنه يمكن القول إن أميركا والكيان الإسرائيلي نجحا في مساعيهما، التي تعود إلى أكثر من ثلاثة عقود في التسويق لتصنيفهم إيران عدواً رئيسياً لدول المنطقة، وليس دولة الاحتلال. وقد ساعدتهما إيران في هذا المسعى، بنشاطاتها المعادية لهذه الدول، سواء عبر تنشيط النزعة الهجومية والعدوانية لأذرعها في عدد من الدول العربية، أو عبر قيامها مباشرة بضرب أهداف في دول أخرى، مثل العراق والسعودية.
لذلك، ربما لمست أميركا أن الوقت بات مناسباً لإعادة البحث في إقامة “ناتو عربي أو شرق أوسطي”، الذي طرح نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الخليج العربي، تيموثي ليندركنغ، فكرته في لقاء نشرته صحيفة ذا ناشيونال الإماراتية[i]، في سبتمبر/ أيلول 2018، وقال إن ما سماه “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، سيضم ثماني دول عربية لمواجهة “الأخطار التي تتربص بالخليج”. يومها لم يسمِّ ليندركنغ هذه الدول، غير أن زيارة لاحقة لوزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، شملت مصر والأردن ودول الخليج، في يناير/ كانون الثاني 2019، حددتها، وهدفت لتكريس الفكرة وضم دولة الاحتلال إليه. حينها استهجن العرب الفكرة، بسبب السعي لضم دولة الاحتلال لتحالف كهذا، إلا أن حمى التطبيع الأخيرة مع الإسرائيليين أزالت الاستهجان وجعلتهم يقبلونها، لكن جعلتها تجافي المنطق، بسبب ضم المغرب البعيدة عن الخطر الإيراني، إليها.
ولكن لماذا لا يتوافق العرب لصياغة استراتيجية مواجهة مشتركة فيما بينهم، بعيداً عن عدوهم التاريخي، الكيان الإسرائيلي، والتي لم يأتِ التطبيع معه بنفعٍ على المطبعين القديمين، مصر والأردن، فكيف سيأتي بنفع على المطبعين الجدد؟ كما لم يقلل من هواجسهم الأمنية أو يعطيهم التطمينات ليأمنوا جانبه هو، قبل أن يأمنوا جانب أعدائهم المستجدين؛ إذ لم ينتظر الإسرائيليون طويلاً بعد انفراط عقد اجتماع النقب، حتى استأنفوا عدوانهم وجرائهم بحق الشعب الفلسطيني.
لا يتوافق العرب ولا يصوغون استراتيجيات مشتركة، أو يضعون لأنفسهم أهدافاً، بسب العجز الحالي العائد إلى قصورٍ لدى كل قطرٍ على حدا في بناء الدولة الحديثة؛ دولة المواطنة والقانون والحقوق والكفاية، لتصبح دول قوية الأسس، تتصالح بدايةً مع مواطنيها، قبل أن تتصالح وتتحالف فيما بينها. وإذ ساهم استمرار أسباب العجز، وعدم التخلص من تلك الأسباب، في تكريسه، فإنه وصل إلى مرحلةٍ صار فيها مزمناً ووصلت معه دول عربية كثيرة إلى مرحلة الفشل والإشراف على الانهيار. وسيتطور هذا العجز ويأخذ حالة الديمومة، ما دامت القدرة على تشخيص أسبابه غائبة، ومادامت الإرادة بالتخلص من هذه الأسباب قاصرة، فتدخل التحديات بالتالي حالة الديمومة أيضاً، وتظهر لنا بأشكالٍ، ليس التحدي الإيراني سوى أقلها.
[i] https://www.thenationalnews.com/world/mena/exclusive-mesa-to-include-nine-countries-while-prioritising-iran-threat-1.774415