قراءة في مجموعة ركان حسين القصصية “بوابة المطر”
تكمن إشكالية القصة القصیرة بأنھا وفي سرعتها الھائلة في الذھاب إلى ھدفھا بأقصر الطرق فإنھا تؤسس لولادة السؤال الضخم الذي تحاول ان تفجره وبالتالي
فإن الناس اللذین يقرؤون لن یعودوا كما كانوا قبل القراءة .
في “بوابة المطر ” المجموعة القصصية الاولى لـ “راكان حسین ” یدخل بنا الكاتب ومن قصته الأولى ” بلا وطن” عاریاً تماما إلا من فكرته التي أطلقت العنان لمخیلته والتي كانت عصیة على فھمه ، وعلى محركات البحث ” XXX ” فالأحرف الثلاث، إنما كانت ھي من فجّر بوابة الأسئلة في مخیلة الكاتب .
بلا وطن تعني غیاب الحاویة الأساسیة للوجود بمعناه المعاش، المكان الذي یمكن أن یحوي كل ما یمكن أن یوجد ، المكان الذي یؤسس لكل البنى الوجودیة الأخرى امام ھذا السؤال وامام ھذا الغیاب الجغرافي للوطن كحامل للوجود الانساني ینشط دور الخیال في بناء وطن مواز ، في رسم تفاصيل جدیدة تستمد المعاش في إیقاعھا من التشابه مع الاخر ” الغجر او في العودة الى الوراء في التشابه مع ” النور” اللذین كانوا يحطّون الرحال في المزیریب بكل ما یحملونه من تمیز وغرابة “فالنَّوَر” الذین كانوا یأتون في مواسم معینة لیفردوا بساطتهم التي تلم الناس حولھا، وقصصھم الغریبة في معالجة الناس وتركیب الأسنان وتحویل الأواني القدیمة الى جدیدة ، وحتى تحویل النحاس إلى ذھب، إنما یقومون بذلك في عملیة إعادة خلق العالم بطریقة جدیدة .
إنھا المحاكاة التي تخلق الكينونة الجديدة والتي ستحاول عناصر أخرى صیاغتھا من جدید فتدخل المضافة عنصرا في رسم الصورة ، ھناك حیث كان یجلس الرجال یتحدثون في مضافاتھم بخبث عن جمال النساء وبقوة عن مكر الثعالب وجرأة الذئاب ، یتحدثون عن رجال امتلكوا القوة والمقدرة على مسح وجه النقود المعدنیه بأصابعھم .
إن ھذا التمازج الھائل في الصورة أسس لولادة الوطن الذي فرد جناحیه مابین “مغار حزور ” وطبریا ” مخزن الذاكرة الى المزیریب المنفي الذي ستولد منه
المنافي الجديدة والتي ستتحول الى المحرك القادر على اعادة دورة الحیاة من جدید في ھذا الرسم المتخیل للوطن یتكسر الزمن وتختلف القواعد ، ان الحامل الأساسي ھنا ھو السردیة التي تكسر الزمن فالعودة الى طبریا ، او الى مغار حزور ، واستعارة رموزها ، او حتى السیر في طرقاتها ، والذهاب مع ناسھا ومقاتلیھا ومن ثم العودة الى المزیریب أمر یؤمنه ذلك الجناح من الخیال . الذي یتكئ على السردیة بعیداً عن الحوار.
فالكحل لیس للجمال فقط. إنه في رمزيته في تحوله إلى رمز یمتلك طاقة غیر عادیه فتذهب بك جمالية السرد بعیدا لتحاول إيصال الفكرة لتؤسس من جدید ویغدو التصالح مع ھذه الفكرة قائما الى درجة تحول الولد الصغیر الذي كان یخشى أن یأخذه النَّوَر على حمار ھزیل ویصبغوا له شعره إلى رغبة في أن یحدث ذلك .
لقد تم بناء العالم ولقد تم بشكل أو بآخر التصالح معه . ھا ھنا رمز وھناك شارع ومقبره ، والكثیر من التفاصیل .
لكن قصة “الساعة ” تأخذك في منحى اخر ، فالساعة التي تعود ملكیتھا للمھندس النمساوي الذي مات منذ مئة عام ، تعیدنا إلى واقعیة مغایرة تماما .
فالقصة التي تمر بسهولة ویسر فیھا من البساطة ما یجعلھا قصة عادیه ، لكن عودة الساعة التي أخرجھا من جیبه لیضعھا امام صورة صاحبھا للدوران یجعل القصة تذھب بك بعیداً ، ھل دارت الساعة حقاً؟ ھل تحركت عقاربها من تلقاء نفسھا ؟ بعد مئة عام من التوقف !!!
نحن نعلم بأن الساعة لن تستطیع إصلاح نفسھا وبأن ساعة الصالون قد تحركت في رأسه فقط ، لكن لماذا تحركت العقارب ودارت الساعة ھناك أمام صورة صاحبھا أم أن المنفى الجدید ولّد مقاربة غیر مألوفة اعطى لھذا العالم الذي سعى راكان لخلقه والتماهي معه بعدا فلسفیّاً استمده من أن طبریا التي لم تكن لتكبر مثل باقي المدن وبأن “مغار حزور” حیث تقبع في الذاكرة لا تشیخ ، وبأن الزمن لازال معطلا ھناك عند الصورة الاولى لفجر الادراك وولادة الوعي.
إن ھذا التناقض یمكن الاتكاء علیه في بناء الدراما التي ستأخذ الحدث القصصي لیبحث في مفردات جدیدة تھرب فیه من واقعیة مرارة المنافي وقسوتھا الى سخریة الموقف أحیاناً “المقبرة” أو سخریة قدرية ” خلف ” ؟؟؟ ، لكنھا لا تلبث أن تقف بواقعیة ھائلة في قصة ” الطوفان “التي تعلن موقفا بكل الوضوح الذي تستطیعه ، لابد من العودة ، لابد من العودة ؟!
بوابة المطر المجموعة الاولى لراكان حسین تعلن ولادة كاتب مشغول بالوطن تحركه المنافي تطلق العنان لمخیلته في رسم ما یرید لكنھا تقف عاجزة أمام الإصرار العنید بأن كل ما یمكن لھا أن ترسمه یتكسّر عند حدود الرغبة في العودة الى الوطن .